محطة

الانضباط
إعداد: العقيد الركن نزيه بقاعي

ركيزة بناء الجيوش ودعامة مجتمعاتها
 

يشكّل الانضباط العسكري ركيزة ثابتة من ركائز الجيوش، القديمة منها والمعاصرة، وهو بالنسبة إليها بمنزلة الروح للجسد. فلا يمكن أن يؤسّس جيش مهما كبر حجمه أو صغر، من دون أن يكون الانضباط قاعدة من قواعده وبندًا في عقيدته، وسلوكًا واضحًا في مختلف نشاطاته.

 

لا يمكن أن تنجح حرب أو تكسب معركة من دون انضباط عام على جميع المستويات والمراحل. فالانضباط يشمل القادة والمرؤوسين، وينبغي أن يسود في مراحل التّحضير والإعداد للحرب المتمثلة بالتدريب والتعليم وترسيخ المبادئ والمفاهيم وفي مراحل التخطيط ويتجسد بالتزام التوجيهات والإرشادات، وكذلك في مراحل التنفيذ إذ يظهر جليًّا في تطبيق القوانين والتزام القواعد واحترام المبادئ والقيم.

 

مظاهر الانضباط وأهمّيته
إنّ لمظاهر الانضباط العسكري دلائل متعددة على المستويين الفردي والجماعي، يظهر ذلك في اللباس والنظافة والهندام، والجدية والاهتمام، وفي أداء العمل والالتزام، والابتعاد عن الفوضى وتطبيق النظام، وتنفيذ الأوامر وأداء الطاعة والاحترام. وتتوقف كفاءة الجيوش وقدرتها بشكل واضح على مستوى الانضباط الذي تتمتع به، فالجيوش المنضبطة تتميّز بالروح المعنوية العالية، وبالعمل بروح الفريق، فضلًا عن التفاني والتضحية، وإطاعة الأوامر ونجاح القيادة. ويعتبر الانضباط عاملًا أساسيًّا في حماية الوحدة العسكرية وسلامة أفرادها ومنشآتها وأمنهم.
إنّ الشواهد التاريخية على أهمية الانضباط في حماية الجنود متعددة ومتنوعة، وهي دليل قاطع كذلك على دور الانضباط في تحقيق النصر على الأعداء. ونستحضر في هذا السياق حادثة حصلت خلال الحرب العالمية الثانية، إذ استولت مجموعة من قوات الحلفاء على دبابة ألمانية وأسرت طاقمها. قرر قائد هذه المجموعة أن يأخذ الدبابة ويدخل بها إلى إحدى مقرات الجيش الألماني. وللتمويه ترك آمر الدبابة الألماني على متنها في حين اختبأت مجموعة من قوات الحلفاء داخلها. وعند دخول الدبابة إلى المقر، مرّ ضابط ألماني أمامها، فلفت انتباهه أنّ آمر الدبابة لم يؤدِّ له التحية، عندها ارتاب بأنّ شيئًا قد حصل، فأعطى أوامره لتطويقها وتفتشيها، وتمّ القبض على من كان في داخلها.

 

كيف نحقق الانضباط؟
يتطلّب الانضباط الفعلي تحضيرًا مسبقًا وتدريبًا مركّزًا وتمرّسًا طويلًا ومراقبة مشددة، ويمكن تحقيقه بالتوجيهات والأوامر والإجراءات، غير أنّ أنجح أنواعه هو الانضباط النابع عن قناعة راسخة، وإيمان ثابت وفهم واضح لمبادئ المؤسسة العسكرية وأهدافها، وهذا ما يتطلّب مجهودًا كبيرًا وخصوصًا في مراحل إعداد المنتسبين إلى الأجهزة العسكرية وتدريبهم. فأولى بوادر تهيئة الفرد للانتقال من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية هي الانضباط الذي يعطي المنتسب طابعًا جديدًا واضحًا من خلال وقفته ونظراته وكلامه وطريقة استماعه، وما يتبع ذلك من تحسّن في أدائه وتصرفاته، وتغيّرًا في شخصيته التي تميل إلى الاعتماد على الذات، ناهيك عن الجرأة والشجاعة وحب الآخرين والتزام الأنظمة والقوانين، والتفاني في تنفيذ المهمّات مهما بلغت صعوبتها.
وهنا لابد من التّشديد على أنّ فائض المعنويات الذي يمكن أن يتمتع به أفراد المؤسسة العسكرية، وهو عامل ضروري، قد يدفع بالبعض إلى القيام بتجاوزات خلال أداء المهمة أو خارجها. هذه التجاوزات تسيء إلى الآخرين وإلى المؤسسة العسكرية بحد ذاتها، وفي حال حصولها لا بد من اتخاذ إجراءات تحدد المسؤوليات ليبقى الانضباط في قلب العسكريين وفكرهم، وفي زمن السلم كما في زمن الحرب.

 

أبعد من المظاهر
قد يرى البعض بأنّ الانضباط هو مظهر خارجي أو تقليد عسكري، غير أنّ الأمر أعمق من ذلك، فالانضباط العسكري هو علم وثقافة وقواعد ومبادئ وأخلاق وقيم، يتلقّاها العسكري ويتدرب عليها، لتصبح راسخة في شخصيته يتصرف بموجبها تلقائيًا وينقلها إلى بيئته وأهله، وينشرها في مجتمعه، فهي تربية قائمة على الاحترام والتقدير والتزام المبادئ والأصول.
توضع قواعد الانضباط الحديث وفق صياغة خاصة، قائمة على مراعاة واحترامها المبادئ العامة والأنظمة السّائدة، وتشمل الجوانب القانونية والدستورية، كما تراعي النواحي الإنسانية والاجتماعية. وقد تم وضع قواعد الاشتباك خلال الحروب والمعارك بهدف ضبط آلة القتل، والتقليل قدر الإمكان من حجم الدمار والخسائر.
أدّى التقارب والتعاون بين الأجهزة العسكرية والقطاعات المدنية إلى بلورة حقيقة الانضباط أمام الرأي العام، وقد كانت تجربة الخدمة العسكرية الإلزامية أكبر برهان على فاعلية الانضباط وانعكاسه الإيجابي على العناصر التي خضعت له، ورغم بعض السّلبيّات، فقد أثمر زرع الانضباط في نفوس المجندين وعيًا ونضوجًا واحترامًا للحقوق والواجبات.
إنّ العسكري الذي نشأ على النظام وتمرّس في الانضباط والتزام الأنظمة والقوانين وحماية الحرّيّات وصون الحقوق، سوف يكون مواطنًا صالحًا ومثالًا يحتذى في محيطه. والمجتمع الذي ينشأ أبناؤه على حبّ الوطن والتضحية من أجله، لهو بحق مجتمع مترابط متماسك، آمن من أعدائه، واثق من ثباته وبقائه.