رحلة في الإنسان

الانطواء على الذات
إعداد: غريس فرح

 

سمة المبدعين غالبًا ومرض نفسي أحيانًا
حتى وقت غير بعيد، كان الغموض لا يزال يكتنف معالم الشخصية الانطوائية. هذه الشخصية التي كثرت حولها النظريات، وحار الكثيرون في تفسيرها...

 

نظريات الستينيات
المعروف أن العالم النفساني السويسري كارل يونغ كان أوّل من تطرّق إلى أبعاد الشخصية الانطوائية، واعتبرها طاقة موجّهة إلى الداخل. أو بمعنى آخر طريقة للتعامل مع الحياة من خلال التركيز على الذات، بينما عرّف الانفتاح على أنه سلوك موجّه نحو النشاطات الخارجية. وعلى الرغم من تأييد بعض النظريات لهذا الرأي في حينه، أي في نهاية الستينيات من القرن الماضي، نرى أن علم النفس الحديث بات ينحو إلى توجّهات مختلفة في هذا الموضوع.
ما هي الشخصية الانطوائية، وما هو التحديد الحديث لمضمونها بالمقارنة مع الشخصية المنفتحة؟

 

اعتبارات خاطئة
في حين ارتكز يونغ في تحديد الشخصية الانطوائية على نظرية مستقاة من تجاربه وفرضياته الخاصة، نجد أن علم النفس الحديث بات يحدد مقاييس الشخصية بالاستناد إلى تصرّفات الأفراد في بيئات مختلفة. من هذا المنطلق، تمّ وضع الانطواء كما الانفتاح على لائحة أبعاد الشخصية التي تضم إضافة إليهما: العصاب، التناغم، القيم والأخلاق، الفكر والإبداع. مع ذلك، توجد نقطة التقاء بين نظرية يونغ والنظريات الحديثة، وهي أن طاقة الانطوائيين تزيد مع الاستبطان، وتضمحلّ أثناء التفاعل مع المحيط الخارجي. لكن هذا لا يعني أن كل شخصية منطوية هي بالضرورة استبطانية، وأن كل شخصية منفتحة هي بعيدة عن الاستبطان، بل أن ثمة تمازجًا أو تناغمًا بين هاتين الشخصيتين المتناقضتين بحسب التعريف الشائع. فجميع الدراسات التي أجريت في هذا المجال أشارت إلى أن معظم الناس يظهرون درجات متفاوتة من الانطواء والانفتاح. وقد يكون البعض من ذوي الأمزجة المتوازية التي تجمع الاثنين معًا.

 

بين الانطواء والنرجسيّة
إلى ذلك، توجد مغالطات أو اعتبارات خاطئة أشارت إليها مجلة العلوم الأميركية في إحدى دراساتها حول الشخصية الانطوائية، ومن أهمها: وضع الشخص الشديد الحساسيّة في مصاف الانطوائيين. وفي الواقع، فإنّ فرط الحساسيّة، بالإضافة إلى القلق الاجتماعي، أو الانفعال الزائد في بعض المواقف، هي بمجملها مؤشرات مرتبطة بالشخصية العصابية - النرجسيّة. وكما تؤكد الدراسات الحديثة، فإن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم انطوائيين لفرط حساسيتهم، هم في الواقع نرجسيون يختبئون تحت ستار الانطواء. وهؤلاء كما ثبت برغبون بلفت الأنظار في المجتمع، ويشعرون بالمهانة لأقل انتقاد يواجهونه. إلى ذلك، فهم يظهرون الكثير من الانزعاج والغضب في حال عدم إبداء الغير تقديرًا زائدًا لأي عمل يقومون به.
ومن المعتقدات الخاطئة أيضًا أن الاستمتاع بالنشاطات الفردية هو شكل من أشكال الانطواء المرضي. لكن الدراسات تبين أن الخلود إلى الذات أو الميل إلى العيش في عالم خاص، يعتبر مؤشرًا على شخصية تجمع بين الانطواء من جهة والفكر والإبداع من جهة ثانية. فهذه الشخصية تستمتع عمومًا بالكتابة والقراءة بالإضافة إلى النشاطات العلمية والفنية. والمعروف أن معظم المخترعين والفنانين والأدباء هم من أصحاب الشخصية المنطوية - المبدعة. في أي حال، على الرغم من ميل أصحاب هذه الشخصية إلى الوحدة، فهم يستمتعون أيضًا بلقاء الأحباء والأصدقاء المقربين. وهم يولون أهمية كبيرة للدقة في العمل والثقة في التعاطي مع الغير، وهذه الصفات تتبلور لديهم خلال مرحلتي المراهقة والبلوغ.

 

الخط الفاصل بين الانطواء والانفتاح
انطلاقًا مما سبق وأشرنا إليه، نرى أن الفرق الوحيد بين الانطواء والانفتاح هو مدى قدرة المعنيين على الاندماج بالمجتمع والاستمتاع بالنشاطات الخارجية. هذا بالإضافة إلى اعتماد الاتجاه السلبي أو الإيجابي في الحياة اليوميّة. وعلى الرغم من عدم جزم النظريات الحديثة لناحية الفصل بين خطوط الشخصيتين المشار إليهما، إلاّ أن المنفتحين يتحلّون بالإيجابية أكثر من الانطوائيين، من دون أن يعني ذلك أن الشخصية الانطوائية هي سلبية على الدوام. وهذا يعيدنا إلى الاعتقاد بصعوبة التفرقة بين الشخصيتين وخصوصًا في حال غياب اضطرابات مرضية واضحة في معالم الشخصية الانطوائية.

 

الاضطرابات ومسبّباتها
تتجلى اضطرابات الشخصية المنطوية من خلال عدّة أعراض أهمها: كبت المشاعر والحدّ من التفاعل الاجتماعي، الشعور بالنقص والقلق، وفرط الحساسيّة تجاه الانتقاد والرفض.
وفي الواقع، لم تتوصل الأبحاث حتى الآن إلى معلومات نهائية عن أسباب ظهور هذه الاضطرابات، مع العلم أن الجدل لا يزال قائمًا حول دور العوامل الوراثية والبيئية في تأجيجها. فهنالك من يعتقد أن الحرمان العاطفي خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة، قد يسهم إلى حد بعيد في تنمية الشخصية الانطوائية المضطربة. كما يوجد من يؤكد حتمية دور العامل الوراثي بمعزل عن التربية والبيئة.
في هذا السياق، فإن الدراسات التي أجراها العالم النفسساني الأميركي ديفيد روزنثال في المعهد الوطني للصحّة النفسيّة، باتت تؤكد أهمية أخذ العاملين معًا في عين الاعتبار لترابطهما خلال مراحل نمو الشخصية. إلى ذلك، أكدت هذه الدراسات أن البيئة لا تؤثر سلبًا إلاّ على الأفراد الذين يحملون خصائص وراثية تسهم في بروز الاضطرابات المشار إليها. لذلك ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن الأطفال والمراهقين يحملون معهم استعدادات وميولًا معيّنة تدفعهم إلى التفاعل مع محيطهم التربوي والاجتماعي بطرق مختلفة.

 

علاج اضطرابات الشخصية الانطوائية
إن معالجة الاضطرابات الناجمة عن العوامل المشار إليها، تتطلب دراسة شاملة لأحوال الأشخاص المعنيين الأسريّة، من أجل التعرّف إلى مسبّبات اضطراباتهم ومعالجتها. لكن العلاج النفسي يعتبر من أهم التقنيات المستخدمة في التعامل مع اضطرابات الشخصية الانطوائية. ويتركّز هذا العلاج على ما يأتي:
- تطوير المهارات الاجتماعية، وتحسين مقدرة الفرد على التكيّف واحترام الذات وتقديرها.
- تلطيف حدّة الخوف المرتبط بالصراعات اللاواعية.
- العلاج السلوكي والتعبيري، والتدريب على التخلّص من الحساسيّة في مختلف المواقف الاجتماعية.
- العلاج المعرفي من أجل تقليص الشعور بالنقص وإزالته.
كما يمكن إعطاء المعنيين الأدوية المضادة للقلق والاكتئاب.
بخلاصة المعلومات الواردة أعلاه، هناك فرق شاسع بين الانطواء كحالة طبيعية يختارها الفرد بملء إرادته من أجل الغوص في أعماق ذاته، وتفعيل أفكاره ومشاعره، وبين الانطواء القسري الناجم عن أمراض نفسيّة.
ويكفي التذكير أن ستين بالمئة من الانطوائيين ينتمون إلى مجموعة الموهوبين الذين عرفهم التاريخ على مرّ العصور.