وجهة نظر

البحر..
إعداد: جورج علم

 ومراكب القهر والغضب الساطع

تواعدا، ودخلا معًا مكتب القنصليّة، هي نالت التأشيرة،هو رفض طلبه، وهكذا تبدّلت المواعيد، وتبدّدت الأحلام...
تتغيّر مواعيد الشرق الأوسط في الزمن القاني، وتتبدل. ثورات متعددة الأهداف، والأحجام، وليس كلّ من سار على الدرب وصل، خصوصًا إذا كان الطريق مفخخًا، أو إذا طال الانتظار أمام الضوء الأحمر من دون بريق أمل، أو بارقة رجاء.
أما الأجندات المتزاحمة، فكثيرًا ما تبدّدها رياح التطورات، فلا الموعد الواعد صادق، ولا الغد الطالع مشرق، فيما الألوف المتزاحمة من الشعوب المنكوبة تتدافع عند
شاطىء معتم تضربه الأنواء العاتيّة.
يقول الأديب والروائي رئيف خوري «إبحث دائمًا عن الوجه الآخر»، والوجه الآخر لا يقتصر هنا على الدماثة الدبلوماسيّة، بل على المعاناة الإنسانية المستلقية عند أبواب القنصليات، طلبًا للتأشيرة، للإذن بالمغادرة، للفرار من واقع مزرٍ إلى آخر مجهول. «عالم القنصليّة» ربما تحوّل هذه الأيام،
ووسط هذه الظروف، إلى عالم الهروب إلى الأمام، نشاطه جزء من معاناة الربيع العربي التي تسطّر مجلّدات متعددة الروايات والفصول، أبطالها عيون جاحظة، وبطون خاوية، وأهدافها تراوح ما بين نسمة حياة، ونسمة كرامة،
وسط إحباط متراكم، ووهم متفاقم يلوّنه
سراب مبلل بشآبيب الحزن والقنوط.


تشويق.. وتسويق
في يوم مضى وليس ببعيد، أطلّت المذيعة الحسناء من وراء الشاشة تملي على المشاهدين كيفية الحصول على «فيزا» من قنصليّة دولة مرموقة، وسرعان ما لجأت إلى شريط مصوّر يتضمن عرضًا للمراحل الواجب اتباعها، كأن يتقدّم صاحب الشأن، بطلب عبر البريد الإلكتروني بعد إنجاز كامل الإجراءات القانونيّة، والمصرفيّة، والإداريّة. وكيف يفترض بمن يقبل طلبه، أن يتقدّم في الموعد الذي يحدد له، نحو صالون القنصلية بهدوء وطول بال، مجرّدًا من كل شيء، إلاّ من ثيابه، وكيف يفترض به الجلوس إلى المقعد بانتطار المناداة عليه بالإسم لمقابلة الموظّف القنصلي، وعند الامتحان يكرم المرء أو...
ربما اعتمدت القنصليّة هذا الفيلم الترويجي للتخفيف من معاناة الراغبين بالسفر، أو لمضاعفة العدد، وحضّ المترددين على الإقدام، أو لاعتماد الشفافية في المعاملة، ووضع حدّ لدابر الفوضى، وقطع الطريق أمام السماسرة ومعقّبي المعاملات، لكن أيًّا تكن الدوافع، فإن الجهة المعنيّة، هي تلك التي عندها ما تملكه، ويؤهلها للتقدم إلى أبواب القنصليّة، لكن ماذا عن أولئك الذين لا يملكون شيئًا سوى العراء؟!.

 

تصنيفات دوليّة
لقد تصدّت بعض المنظمات الدوليّة المتخصصة لظاهرة النزوح، من منطلق البحث عن حلول ومخارج. وفي التفاصيل المتداولة أنها، وفي معرض اهتمامها بتسجيل أسماء الهاربين من ساحات الموت، تبيّن لها كم أن حجم المعاناة كبير، وقد انكبت في المراحل الأولى على وضع جداول بالتصنيفات بين من يحمل أوراقًا ثبوتيّة، وبين من تخلّص منها عمدًا في محاولة منه للحصول على صفة «لاجىء»، وبين من فقد - بنتيجة القصف - كلّ ما يملك من مال، ومنزل، وثياب، ولم يعد لديه من متكىء يسند إليه رأسه.
وخلال شهر أيلول من العام الماضي، وإبان انعقاد اجتماعات الدورة العادية للجمعيّة العامة للأمم المتحدة، جرت دراسة الإمكانات المطلوبة للسيطرة ولو نسبيًّا على ظاهرة النزوح، وتوصّل الخبراء المجتمعون إلى استنتاجات منها:
أولاً: إن المبالغ المطلوبة، تفوق بكثير الأموال المرصودة لدى الدوائر المختصّة، ولا بدّ من عمل مكثّف لدى الدول المانحة، وحضّها على الوفاء بالتزاماتها المالية، لمواجهة المتطلبات، والحدّ نسبيًّا من المعاناة الإنسانيّة.
ثانيًا: إن التقاعس الدولي عن الاهتمام بالقدر الكافي والمطلوب بأوضاع النازحين قد شرّع الأبواب أمام المحاذير الكبرى. وللتدقيق أكثر فقد صنّف الخبراء الدوليّون تلك المحاذير بالآتي:
- خطر التغيير الديموغرافي الذي قد تواجهه الدول المنتفضة، وتلك المضيفة على السواء.
- تهديد الأمن الاقتصادي والاجتماعي، والسلم الأهلي في الدول المضيفة، خصوصًا تلك التي تعاني بسبب البطالة، أو هشاشة الإقتصاد، ومديونيتها العامة مرتفعة.
- إباحة الهجرة غير الشرعيّة نحو الدول المتمكّنة، والقادرة على الاستيعاب.
- التحسّب للمخاطر المترتبة، مع تزايد عدد مراكب المهمشين المنطلقة من سواحل الشرق الأوسط، وأفريقيا، باتجاه سواحل أوروبا.

 

عالم مختلف
عندما قرر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون التصدّي لهذه الظاهرة، بادر إلى وضعها في سلّم أولوياته في كل المؤتمرات الإقليميّة والدوليّة التي شارك في أعمالها، وقد فنّد المشكلة، انطلاقًا من عنوان عريض «أبعد من النزوح»، مستخدمًا لأول مرّة تعبير «التغيير الديموغرافي» الذي يواجه الدول التي تصدّر النزوح، وتلك التي تستضيفه، محذّرًا المجتمع الدولي من عواقب خطيرة إن لم يقدم في الوقت المناسب على الإمساك بزمام الأمور كما يجب.
واستنادًا إلى المقاربات الدوليّة المعممة على هذا الصعيد، فإنّ المجتمعات المنتفضة قد لا تحافظ على وحدة الأرض والشعب والمؤسسات، بل قد تقبل بأي مخرج عندما يحين زمن الحلول والتسويات، خصوصًا وأن المتوافر منها، والظاهر للعيان في بعض الدول، يراوح ما بين الفدراليات، والأقاليم، والكنتونات، والدويلات القائمة على اعتبارات مذهبيّة، او ثقافيّة، أو فئويّة، وعندها سينشأ وضع مختلف مغاير تمامًا للماضي بتحدياته، وتشابك أولوياته. ولن تكون الدول المضيفة أفضل حالاً، هناك مجتمعات وافدة تسعى إلى الاستقرار والاستمرار على حساب المجتمعات المقيمة، وهذا ما قد يهدد الاستقرار الأمني، والاقتصادي، والاجتماعي، ويبيح الفوضى المخلّة بالانتظام العام.

 

تداعيات ومعالجات
خلافًا لكل التوقعات، لم يفاجأ الغرب بظاهرة المراكب الهائمة فوق مياه المتوسط. بعثاته الدبلوماسيّة منتشرة في غالبية عواصم دول المنطقة، أجهزته الاستقصائيّة أيضًا، ومؤسسات الأبحاث والدراسات عنده ناشطة ومتطوّرة، ويبني على تقاريرها الكثير، إلاّ أن الأولويات كانت مختلفة، تبدأ بحماية مصالحه، ووسائل تعزيزها وتطويرها في الدول المنتفضة، وكيفيّة استغلال «الخواصر الرخوة» فيها بما يتيح المجال أمامه، للتعاون مع القوى المحليّة التي تسيطر على منابع النفط وتبيعه بأبخس الأسعار، أو التي تمتهن تجارة الأسلحة، وإمكانات التعاون معها، لإيجاد أسواق جديدة بالعملة الصعبة، والتسديد الفوري.
لقد اختبر الغرب عن كثب، وفي مرحلة من المراحل بأن الاستثمار في المعاناة، من دون ضوابط، ومن دون أفق، لن يعفيه من التداعيات. إمداد العناصر المتطرفين بالسلاح والخبرات أسهم في تفشّي ظاهرة الإرهاب، وحصولهم على تأشيرات مزدوجة الغرض ذهابًا وإيابًا فاقم الأخطار المترتبة، خصوصًا بعدما تبيّن أن بعض القنصليات تديرها شبكات استخبارات، أكثر مما تديرها معايير أخلاقيّة، وقوانين، وبروتوكولات.

 

مغامرات بالجملة
أمام هذا الواقع، تفاقمت المغامرات بالجملة؛ الأولى، تسهيل تدفق السلاح والمسلّحين، والشباب المتحمس من الغرب إلى ساحات المواجهات والانتفاضات في الشرق الأوسط، للمساهمة في تنفيذ المشاريع المخطط لها، والمحسوبة بدقّة، منذ أن وضع شعار «الشرق الأوسط الجديد» قيد التداول. وتتمحور المغامرة الثانية حول ردّ الفعل العكسي، عندما انتفض الغرب لمنع أبنائه من العودة إلى المناطق التي انطلقوا منها حرصًا على أمنه القومي، وسلمه الأهلي. لقد وصفهم بالقنابل الموقوتة القابلة للانفجار في أي لحظة يريدها المخططون المتطرفون أن تنفجر. وتقضي الثالثة بمصادرة البحر، والتصدي لقوافل المراكب التي تقل ألوفًا مؤلفة من القنابل البشريّة الموقوتة، قنابل محشوة بالغضب، والإحباط، والفقر، والجوع، والحرمان، والميل إلى الانتقام...

 

كتاب الشرق الأوسط الجديد
عندما يفتح قادة العالم المتحضر كتاب الشرق الأوسط الجديد، لن يجدوا بين دفتيه مختارات من جبران «النبي»، ولا روائع من «لبنان إن حكى»، ولا خمائل من نفائس الموشحات الأندلسيّة، بل ثقافة متوحشة ساديّة عنيفة بأساليبها، مقززة بهمجيتها. لقد أسهم بعضهم بشكل مباشر، أو غير مباشر بهذا الانقلاب العنيف غير المبرر على القيم والشيم والحضارات والثقافات. إنقلاب بدأ تحت شعار تغيير الأنظمة، ليتمدد ويأخذ بطريقه الدول، والكيانات، والحدود، والسيادات، ويستفحل في ما بعد لتدمير الحضارات بشكل ممنهج. يعرف المخططون والمنفذون أي شرق أوسط جديد يصنعون، لكن ما لا يعرفونه أن ضوابط القنصليّة، وشروط التأشيرة قد أصبحت لزوم ما لا يلزم لعشرات الملايين من الهاربين من ساحات الذل والقهر. وإن البحر المنفتح على الثقافات والحضارات منفتح أيضًا أمام قوافل الغضب الساطع!.