دراسات وأبحاث

البرازيل عملاق اقتصادي من الإفلاس إلى «بلانو ريال»
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

تعتبر البرازيل اليوم من الدول الكبرى، وقد استطاعت خلال عقدين من الزمن الانتقال من دولة ترزح تحت وطأة التضخُّم والفقر والدين، إلى دولة ذات اقتصاد متطوِّر وصاعد، بحيث أصبحت تُعَدُّ من الدول العشر الأولى في العالم بمعايير قوة اقتصادها، ودخلها القومي، سواء أكان ذلك في الداخل، أم في علاقاتها الاقتصادية الدولية.
فكيف تمّ لهذه الدولة الانتقال بهذه السرعة من دولة متعثرة اقتصاديًا، إلى الصف الأول من الدول صاحبة الاقتصاد الأكثر ازدهارًا في العالم؟


الجغرافيا
تقع البرازيل في النصف الجنوبي من القارة الأميركية، وتشكل تقريبًا نصف مساحة أميركا الجنوبية، أي ما يوازي (8,511,965 كلم2). تمتدّ على القسم الشرقي لهذه القارة على مساحة طولها من الشمال إلى الجنوب نحو 4395 كلم، ومن الـشرق إلى الغــرب نحو 4319 كلم. تسعة أعشار هذه المساحة تقع بين خط الإستواء ومدار الجدي.
تحدّ البرازيل جميع دول أميركا الجنوبية ما عدا الإكوادور، وتشيلي، حدودها البرية حوالى 15,719 كلم، أما حدودها البحرية على المحيط الأطلسي فتبلغ مع تعرُّجاتها حوالى 9 آلاف كلم، وهي خامس أكبر دولة في العالم من حيث المساحة.
الأراضي البرازيلية بمعظمها صالحة للزراعة وغنية جدًا بالموارد الطبيعية والمعدنية.
تملك البرازيل أوسع غابة استوائـيــة في العالــم هي غابـة نهر الأمازون (ثاني أطول نهر في العالم بعــد نهر النيل)، وتشكّــل أكبر مولّــد ومخــزون للأوكسجين فـوق الكـرة الأرضية.
 

التاريخ
تمّ اكتشاف البرازيل العام 1500 على يدي البحار البرتغالي بيدرو الفاريز كابرال، بعد ذلك تدفّق البرتغاليون إلى البلاد الجديدة، وعملوا على إبعاد السكان الأصليين، واعتبارًا من العام 1550 بدأ البرتغاليون بإحضار العبيد من إفريقيا، وقد استمرّ هذا الأمر حتى العام 1888 عندما ألغي الرق.
شهدت هذه البلاد تنافسًا ما بين البرتغال وأسبانيا منذ اكتشافها، وصراعًا دمويًا انتهى بتوقيع معاهدة جعلت هذا القسم من قارة أميركا الجنوبية من نصيب البرتغال وهو ما عرف في ما بعد بالبرازيل، أما باقي القارة فكانت من نصيب إسبانيا.
استقلّت البرازيل عن البرتغال العام 1822 وأعلنت إمبراطورية، والعام 1889 تحوَّلت إلى جمهورية استمرّت حتى العام 1930 عندما أسقِطَت هذه الجمهورية بالقوة لتقوم الجمهورية الثانية التي استمرّت حتى مطلع الستينيات من القرن العشرين حين عانت اضطرابات سياسية. وعلى أثر ثورة غير دامية العام 1964 إستلم الجيش السلطة فيها. استمرّ هذا الأمر حتى منتصف الثمانينيات عندما أعيدت السلطة للمدنيين والنظام الديمقراطي، بعد أن هيّأت السلطة العسكرية البنية التحتية لإعمار البرازيل وجلب الاستثمارات الكبيرة، وأسست لبناء سياسي ديمقراطي حر. وبالفعل فقد استمرّ العمل بنظام الانتخاب وفق الدستور الجديد حتى اليوم.
تتألف البرازيل حاليًا من 26 ولاية اتحادية، وإقليم فدرالي، عاصمتها السياسية مدينة برازيليا.
البرازيل اليوم جمهورية فدرالية، ورئيسها يتمتّع بصلاحيات تشبه صلاحيات رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وهناك سلطة قضائية مستقلة ومحكمة عليا، كما أن هناك سلطة تشريعية على المستوى الفدرالي تتمثَّل بمجلسَي النواب والشيوخ، منتخبين مباشرة من الشعب، وتتمتّع كل ولاية بسلطتها التنفيذية، والتشريعية والقضائية الخاصة، كذلك البلديات التابعة لكل ولاية...

 

الموارد
تعتبر البرازيل من البلدان الغنية جدًا بمواردها الطبيعية والبشرية المختلفة، فهي تملك أراضي زراعية خصبة تنتج مختلف أنواع المزروعات والفواكه مستفيدة من ثروتها المائية الضخمة (فيها أكثر من ألف نهر). كذلك تمتلك ثروة حرجية هائلة تتمثَّل بغابات الأمازون وأشجارها المختلفة والمتنوعة والمفيدة في الصناعات والمنتجات الطبية والغذائية. أما باطن الأرض فيحتوي كميات كبيرة من خام الحديد والبوكسيت والنحاس والفضة والذهب واليورانيوم ما جعلها من الدول الأولى في العالم في إنتاج هذه المعادن وتصنيعها، وبخاصة خام الحديد حيث يوجد في بعض الأماكن على شكل تلال بارزة ولا يحتاج إلى عمل المناجم. بالإضافة إلى هذا كله ثمة ثروة بترولية وغازية مهمة في البرازيل وخصوصًا في البحر المقابل لشواطئها، ويقدَّر بمليارات الأمتار المكعبة، ما يجعلها تستورد قسمًا ضئيلاً فقط لاستهلاكها المحلي.
وفي البرازيل ثروة حيوانية ضخمة تساعدها في زيادة حجم صادراتها من اللحوم والمعلبات والأسماك.

 

السكان
يعتبر السكان في البرازيل من أهم الموارد التي أسهمت في تطوُّر البلاد في المجالات المختلفة، ذلك أن هؤلاء السكان ينتمون إلى أمم وأعراق مختلفة تجمعوا خلال الخمسماية عام المنصرمة من أوروبا وآسيا وإفريقيا، بالإضافة إلى سكانها الأصليين.
يقترب عدد سكان البرازيل اليوم من 200 مليون نسمة وتعتبر الدولة الخامسة في العالم بالنسبة إلى عدد السكان، وهؤلاء ينتمون إلى أصول: إيطالية (15%)- إسبانية (8%)- ألمانية (6%)- عربية (7% من ضمنهم 8 ملايين لبناني).
كذلك هناك نسبة كبيرة من اليابانيين والبولنديين والهولنديين والصينيين والكوريين وهذا بالإضافة إلى سكانها الأصليين والأفارقة وسلالاتهم. ومن اللافت أن هناك أكثر من 100 مليون برازيلي هم من الطاقة العاملة النشطة في ميادين الاقتصاد البرازيلي الزراعي- الصناعي- التجاري والخدماتي.
 

الاقتصاد البرازيلي
تعتبر البرازيل اليوم في طليعة دول «البريك» (BRIC) (البرازيل، وروسيا، والهند والصين) أي الدول ذات الإمكانات الاقتصادية الكبيرة، والسياسات الخارجية النامية المنفتحة على العالم والاقتصاد الحرّ، وخصوصًا الدول النامية. وهي تقيم كذلك التحالفات الاقتصادية مع الدول المتقدمة، فهي عضو في منظمة التجارة العالمية، والـ G20، كما أنها عضو في مختلف المؤتمرات والاتفاقات المتعلقة بالبيئة، والمعاهدات الدولية المختلفة.
يقوم الاقتصاد البرازيلي اليوم على:
 

• القطاع الزراعي:
البرازيل عملاق زراعي، فهي الدولة الأولى في إنتاج البن والحوامض والكاكاو، ومن الدول الأولى في إنتاج السكر والقطن والصويا والقمح، وصناعة النبيذ، وتصدير الخضار والثمار واللحوم والأسماك. ويمتاز قطاعها الزراعي بمشاريع التصنيع الزراعي واستغلال الأراضي الواسعة لديها في الاستثمار في هذا القطاع، الذي يعتبر أحد أعمدة تجارتها مع الخارج.
 

• القطاع الصناعي:
يشكل بناء وسائل الملاحة، من الزوارق واليخوت الفخمة إلى ناقلات النفط (سعة 300 ألف طن)، والطائرات المختلفة الأحجام، كذلك المعدات الضخمة والثقيلة والقاطرات، أحد أهم ركائز الصناعات البرازيلية الثقيلة، كذلك صناعة السيارات بأحجامها المختلفة، وأنظمة الرادارات والكاشفات عن بعد. كذلك فالبرازيل تصنع عتاد المعلوماتية وبرمجتها للقطاع المصرفي والإلكترونيات والألعاب والأخشاب والأثاث والأدوات المنزلية، والمنتوجات البتروكيماوية والأحذية والورق، وأجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية. وتعتبر هذه المصنوعات من أهم الركائز في صادراتها وتجارتها الخارجية.
 

• القطاع التجاري:
التجارة البرازيلية هي الأكبر في أميركا اللاتينية وهي في تطور مستمر بعد نهوضها من كبوتها الاقتصادية منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، وبعد اعتمادها سياسة اقتصادية ونقدية أتاحت لها إنقاذ عملتها وسداد ديونها .

 

السياسة الاقتصادية
قامت على مبدأ خصخصة الكثير من مؤسساتها العامة والخاصة لدول ومؤسسات مالية دائنة لها، فقد باعت أسهمًا كثيرة من شركاتها لهذه الدول وجعلتها شريكًا معها في إعادة تفعيل عمل هذه المؤسسات وزيادة إنتاجها، كما أنها سمحت للاستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال بالتدفق للعمل في المجالات الصناعية والزراعية والمناجم واستخراج النفط والذهب واستغلال الغابات وغيرها من مجالات الإنتاج، وذلك بعد أن استطاعت اعتبارًا من العام 1995 أن تحدّ من حجم التضخم وتوقف تدهور «عملتها» القديمة «الكروزيرو»، بواسطة خطة مبتكرة تعرف باسم «بلانو ريال» (Plano Real). إستطاعت من خلال هذه الخطة تثبيت الأسعار والأجور ووقف التدهور والتضخم، ومن ثم ألغت عملتها القديمة واعتمدت عملة جديدة هي «الريال» الموازية في قيمتها الدولار الأميركي، وبذلك استطاعت استقطاب الكثير من الشركات العالمية ورؤوس الأموال للاستثمار في المجالات المختلفة، لوفرة المواد الخام ورخص اليد العاملة ولكثرة الأسواق والاستهلاك سواء المحلي أو الإقليمي على مستوى القارة أو على مستوى العالم، وهي لم تتأثر كثيراً بالأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة نهاية 2008.
تمتاز البرازيل بكونها بلاد جذب سياحي مهم جدًا إذ يزورها أكثر من 5 ملايين سائح سنويًا خصوصًا بمناسبة الاحتفال «بالكرنفال» السنوي المشهور على مستوى العالم في «ريو دو جانيرو». كذلك فإن البرازيل مشهورة في لعبة كرة القدم، إذ أنها الأولى فيها في العالم وفازت بكأس العالم 5 مرات وهي ستكون مضيفة كأس العالم القادم العام 2014. وهذا بدوره يفتح الباب لازدياد انتعاش اقتصادها وإنتاجها وزيادة مواردها المالية وتخفيض البطالة، وازدهار قطاعاتها الاقتصادية المختلفة.

 

قوة صاعدة
البرازيل قوة صاعدة في عالم اليوم، ويمتاز اقتصادها بالنمو السريع، وكما يتوقع رئيسها السابق داسيلفا فإنها ستصبح خامس اقتصاد في العالم، وقبل إقامة الألعاب الأولمبية فيها العام 2016 إذا ما توافرت الإرادة، وهي تسعى لذلك بخطى حثيثة. كما أنها تسعى لأن تصبح، عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي بصفتها الدولة الأكبر والأقوى في أميركا الجنوبية، وإحدى الدول العظمى القادمة. وتسعى البرازيل إلى تثبيت دورها وأهميتها العالمية من خلال القيام بوساطات لحل بعض الأزمات والمشاكل المزمنة في العالم كقضية فلسطين والملف النووي الإيراني، وتضطلع بدور الوسيط لتقريب وجهات النظر المختلفة، فهي حليف قوي ولكن مستقل للدول الغربية وتحاول أن تكون لها شخصيتها المميزة عن الآخرين، وهي تملك مقومات ذلك...
 

المراجع:
• البرازيل: ملخص تاريخي- وزارة العلاقات الخارجية سفارة البرازيل في لبنان العام 2001.
• www.cia-factbook-Brazil.
• www.wikipedia-Brazil.

 

الهوامش:
• البريك: BRIC هي الأحرف الأولى من أسماء الدول الآتية: China- Inde- Russia- Brazil وهي الدول التي نهضت اقتصاديًا منذ مطلع القرن الحالي وبرزت بقوة على مسرح الإقتصاد العالمي المتقدّم.
• بلانو ريال (Plano Real): هو المخطط الذي ابتدعه الرئيس البرازيلي هنريكي كاردوسو العام 1995 لإنقاذ النقد البرازيلي (الكروزيرو) ووقف التضخم وذلك باختراع عملة وهمية (وحدة نقد ثابتة مقابل الدولار) وتسعير السلع والأجور والرواتب والضرائب على أساسها مهما تغيرت كمية الكروزيرو التي تساويها، وذلك لخلق الثقة في نفوس البرازيليين والعالم بالعملة الوطنية.
وبعد عدة شهور من التعامل بهذه الوحدة النقدية المسماة (ريال) والوهمية، عمد إلى اعتمادها رسميًا، وطباعتها بعد أن ترسخت في عقول الناس كعملة ثابتة، وذات قيمة محترمة.
وبذلك استطاع جذب رؤوس الأموال من الخارج للاستثمار في مختلف القطاعات المنتجة في البرازيل وهي كثيرة، وهكذا أنقذ الاقتصاد البرازيلي وأنعشه ليوصله إلى مستوى متقدّم.