العوافي يا وطن

البسترينة
إعداد: إلهام نصر تابت

منذ زمن ليس ببعيد كثيرًا، كان رأس السنة بالنسبة للصغار هو «عيد صباح الخير». فـ«صباح الخير» تتحول من تحية إلى عبارة سحرية في هذا اليوم. يقولها الصغار للكبار فتمتلئ أكفهم بالنقود: عشرات القروش، أرباع الليرات، وربما أنصافها إذا كان العم كريمًا وميسورًا، أو كبير العائلة. أما الليرة فـ«بسترينة إكسترا» ومحظوظ من ينالها. كانت «البسترينة» عيدية رأس السنة التي ينتظرها الصغار لتمتلئ جيوبهم بما يكفيهم لفترة طويلة، وربما إلى العيد المقبل.

تغيّر الزمن كثيرًا بين أيام طفولتنا وأيام أولادنا وأحفادنا، وكأنّ العالم قفز خلال بضعة عقود قرونًا إلى الأمام. يركض العالم ونلهث لمجاراة تطوّره. نتعب ونتعب وكل شيء يسبقنا، وكأنّنا نركض على رجل واحدة... يفاجئنا العلم كل يوم بعشرات الاكتشافات والابتكارات المدهشة، ونكتشف أنّنا نسير إلى الخلف بإصرار وسرعة. أولادنا في الخارج يسهمون في تطور العلوم والتكنولوجيا، ونحن هنا نواصل السير بوطننا إلى الوراء. إنّها أحجية التناقض: شعب ينجب عظماء يوردهم إلى كل أصقاع الأرض فيسهمون في تغيير مجتمعات نحو الأفضل، وفي الوقت عينه يفشل في تغيير من يمعنون في تدمير وطنه، أو كفّ أياديهم على الأقل.

نسير وأمامنا من احترفوا تدمير كل ما بناه من سبقهم. ننظر إلى الماضي فنجد رجالًا بنوا مؤسسات، ودولة. وننظر إلى حاضر جذوره في عقود خلت، فنكتشف أنّنا أمام مسيرة تدمير ممنهجة. والنتيجة: قطاعات تهوي بالجملة ويهوي معها الاقتصاد، مؤسسات عفنة بمعظمها، بنى تحتية مهترئة، بيئة مدمرة، عاصمة منكوبة... ماذا فعلتم بوطننا الذي كان سويسرا الشرق؟ ماذا فعلتم بأولادنا؟ بجنى أعمارنا؟ كيف انهار كل شيء؟ كيف ابتلعتم كل شيء؟ كيف بات أقل من خمسة في المئة يمتلكون أكثر من تسعين في المئة من ثروات لبنان؟ كيف نجحتم بجرّ الفقر إلى معظم بيوتنا ونحن شعب مشهود له بمقارعة الصعاب لكي يستمر في الحياة ويصنع لأولاده مستقبلًا أفضل؟ كيف تهاوت عملتنا إلى هذا الدرك المريع؟ كيف وكيف وكيف؟

قد يسهُل إلقاء اللوم على الخارج وتعداد الظروف الإقليمية والدولية لتبرير ما وصلنا إليه، لكن كل ما فعله الخارج مرّ بالجشع اللامحدود لمن هم في الداخل. ماذا تقولون للبنانيين مع مطلع السنة الجديدة؟ هل تنتظرون منا عبارة سنة خير وبركة لتتكرموا بالـ«بسترينة»؟ وما هي «البسترينة» التي ننتظرها منكم؟ حكومة؟ معجزة تنتشلنا من الهاوية؟ وعد بأنّ جنى أعمارنا لن يبقى في جيوب الجشعين الفاسدين؟ أم وعد بأنّنا لن نموت جوعًا؟

ولّى زمن «البسترينة». انقضى زمن إسكات المواطن بترقيعة هنا وتمويه هناك. اللبنانيون يريدون أملًا حقيقيًا، يريدون وطنًا، يريدون أولادًا يكبرون في بيوتهم، لا جيلًا هائمًا على وجهه في كل ناحية من الأرض. هل نطلب الكثير؟

صباح الخير يا وطني.

لا أريد «بسترينة».

أريدك أنت وطني الذي أستحقه، وسوف أظل أعمل لأجله.