البعد الأخلاقي في الإعلام المعاصر «أدلجة» الخبر والصورة

البعد الأخلاقي في الإعلام المعاصر «أدلجة» الخبر والصورة
إعداد: محمود حيدر
مدير مركز دلتا للصحافة والأبحاث, رئيس تحرير «مدارات غربية»

ماذا لو نظرنا إلى صناعة الصورة والصوت, والكلمة, على أنها من فعل الفاعل الإيديولوجي الذي يمضي ليمارس أفكاره وأهواءه, في حقوله المفتوحة على قابليات لا حصر لها؟...

إن نحن اتفقنا على كون الإيديولوجيا هي المفهوم الأكثر قابلية للتوظيف, فلن يكون الإعلام بحيِّزيه المرئي والمسموع, غير مقاربة تقنية للمفهوم. ونستطيع أن نمضي إلى ما هو أدنى إلى المطابقة, لنجد أن "الميديا" المعاصرة هي الجسم التكنولوجي الذي تتحرَّك الأيديولوجيا من خلاله. وما ينطبق على ثنائية الأيديولوجيا والإعلام يصح كذلك على ثنائية الأخلاق والإعلام، لكن هذه المرة في حقل التحيُّز ومجال الاختبار.
نرانا إذاً, بإزاء مثلث متصل ومتواصل ولا يقبل الإنفصال: الأيديولوجيا, الإعلام, الأخلاق. فعلى أرض هذا المثلث يمكن إجراء الأحكام على أخلاقية مجتمع الإعلام العالمي أو لا أخلاقيته في  مستهل القرن الواحد والعشرين.

يضع المفكر الفرنسي سيرج لاتوش الإعلام المعاصر كجزء من شبكة العولمة التكنو – اقتصادية والثقافية التي تجتاح العالم اليوم, وليبيَّن كم أن للعولمة التي يحملها جوعها الضاري لالتهام كل ما يضاعف الربح والتكاثر, من قدرة على زعزعة نظام القيم, ومن توليد هائل لأزمات أخلاقية على بنية المجتمع الدولي برمته. ومن هنا تبرز ضرورة وجود "قانون للسلوك الحسن" كما يقرّر لاتوش. وهو سلوك ينبغي أن يكون مؤسساً على أخلاق عالمية في الحد الأدنى, يتم تحديدها وتُفرض على هؤلاء العمالقة في سلوكهم في ما بينهم, وكذلك خصوصاً مع الآخرين, حيث يتم تعزيز الأخلاق الخاصة بالأعمال وحدها. لكن الجانب النظري لدى المفكر والناقد الفرنسي سوف يتخذ حيّزاً أكثر تحديداً حين يركِّز على السؤال حول ماهية الأخلاق. لكنه ينتبه إلى الطابع الفلسفي للسؤال فيقول: "وبما أني لست فيلسوفاً في الأساس, فلن نبحث في التعريفات المعقَّدة. ما يخصُّنا يتعلق بسؤال الخير والشر, لكن بالتأكيد هناك غايات أخرى للنشاط الإنساني غير الحق تستحق أن تُبرَّر قيمتها, مثل الحق والجميل, وأيضاً الشجاعة والشرف والتضحية بالنفس." ثم يضيف: "ولغياب الضوء الكاشف المحدَّد نتبنَّى كمعيار للخير ما نظنُّه المعيار الأولي في القاعدة الأخلاقية الكانطية (نسبة إلى الفيلسوف إيمانويل كانط): تصرّف كما لو أنك تستطيع أن تجعل من مبدأ فعِلِك قاعدة كونية". لذا يجب على المعيار الأخلاقي أن يخضع لهذا المعيار من الكونية(1).

ما الوجه الأخلاقي لمجتمع الإعلام في عالم القرن الواحد والعشرين؟ وكيف تظهر عمليات التوظيف الإعلامي بوصفها عمليات أيديولوجية غايتها تسهيل وتسديد سيرورات الهيمنة التي تمارسها الشركات العابرة لسيادات الدول والمجتمعات منذ الربع الأخير للقرن العشرين المنصرم؟
هذه الدراسة محاولة في اتجاه مقاربة الإعلام ونظام القيم, وبيان الفضاء الإجمالي الذي يمارسه المجتمع الإعلامي العالمي في تفكيك منظومات القيم وإعادة تركيبها.
كلنا يتأمل ويرغب أن يتلقى خطاباً ينبئه بخبر سعيد, أو بمشهد يبتعث في داخله جمال العالم من حولـه, أو بحكمة تمنحه الأمان وراحة البال وتنزع عن ناظريه غشاوة القنوط والضجر والتشاؤم؛ إلا أن واحدنا لا يلبث أن يرى العالم من حوله ممتلئاً بما لا أمل يرجى منه, أو بما لا رغبة له به. أفلا يتبدَّى الأمر وكأنه استغراق في التشاؤم؟ يبدو لنا أن المشهد العالمي – وبخاصة في ما يصوِّره لنا الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب في مستهل القرن الواحد والعشرين - يسوّغ مثل هذا النزوع إلى التشاؤم.
كأن الخطاب الإعلامي السياسي – كما يلاحظ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو -, بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذي تكتسب فيه السياسة طابعاً سليماً, هو أحد المواقع الذي تمارس فيه هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. يبدو الخطاب – في ظاهره – شيئاً بسيطاً, لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكراً وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والسلطة. وما المستغرب في ذلك ما دام الخطاب – ليس فحسب هو ما يُظهر أو يخفي الرغبة – وإنما أيضاً هو موضوع الرغبة. وما دام الخطاب – والتاريخ ما فتئ يعلمنا ذلك – ليس هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة وحسب, لكنه هو ما نصارع من أجله, وما نصارع به, وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها(2).

 

ما لا يُشك فيه أن التحولات التي عصفت مؤخراً بالنظام العالمي, تعطي الكلام على ماهية الخطاب والاتصال بعداً أكثر تعييناً وشمولاً. ولقد أثبت الإعلام بتقنياته الهائلة أنه دافع التحولات الكبرى في السياسة, والاقتصاد, والفكر, والفن, والثقافة، بل هو محورها ومحركها ومحرَّضُها. وعلى هذه الدلالة سيكون لـه ذاك "الجبروت" في تشكيل المعرفة, وتكوين الأفهام الإنسانية, أو على العكس في تدمير أنظمة القيم التي كانت مادة صراع وتنازع بين المحاور والأحلاف الدولية.
إن عالم ما بعد الحرب الباردة أو "عالم ما بعد الحداثة" - كما تقرَّر الفلسفة المعاصرة - هو الصورة المكثفة للتحولات التي عكستها مرآة الإعلام. لقد بدا هذا العالم عالماً ملتبساً, تحكمه فوضى لا حدود لها من المنافسات, والصراعات, من دون أن يستقر بعد على نظام دولي في رحلته الممتدّة باتجاه الألف الثالث الميلادي. فبقدر ما جاءنا الزمن الجديد بحقائق لا يجوز التنكر لها, بقدر ما بثَّ أوهاماً ينبغي التعامل معها بجدية استثنائية. وغالب الظن أن يظل هذا العالم رهينة الالتباس بين حقائقه وأوهامه ردحاً إضافياً من الزمن.
لكن عالم اليوم صار أشبه بفضاء مفتوح على احتمالات قاسية ومثيرة للهلع، تتداخل فيه قيم الماضي بقيم الحاضر, وكذلك بما ترنو إليه تحيُّزات المصالح الكبرى من قيم مفترضة في المستقبل. وضمن هذا الفضاء بالذات يحتل الإعلام المادة الأولى والرئيسة في التعبير عن فوضى العالم ولا يقينه.
وهنا مكمن القيم المأزومة, والعلامة التي تشير إلى اهتزاز البناء الأخلاقي العالمي وبؤسه.
لقد جُعل العالم بالإعلام قرية كونية متصلة. وهذا يعني أن حشداً من المفاهيم التي نظَّمت العلاقة بين المجتمعات البشرية باتت الآن ضمن دوائر الشك. لم يعد مفهوم السيادة القومية, مثلاً, هو نفسه اليوم, بعدما تحولت الدولة القومية المغلقة إلى دولة عالمية مفتوحة بفعل الأسواق المشتركة, والشركات المتعددة الجنسية, وثورة الاتصالات, والإعلام والمعلوماتية. كذلك الأمر بالنسبة إلى مفاهيم أخرى, كالعقلانية, والأخلاق, وحقوق الإنسان, والديمقراطية وحق الاختلاف الخ... فهذه مفاهيم وطرائق معرفة لم تعد على صفائها الاصطلاحي البدئي, وإنما غدت أدنى إلى محمولات ذهنية تتصف بالنسبية وتزخر بقابلية التأويل. لذا سنرى تلك المفاهيم (المحمولات) على صورةٍ مُكتَسِيةٍ شوائب جمة, فيما هي خاضعة في الوقت عينه لسيرورات المنافسة والصراع في سياق التوظيف بين قوى الضغط والتأثير والمصلحة.

كل شيء في العالم صار مفتوحاً على الأثير اللاَّمتناهي. ولسنا نجد ما يعصم الإنسان من الاستسلام لجاذبية "اللغة الفضائية" الآتية على صهوة ثورة الاتصالات, سوى انتمائه وتحصنه بممانعة حضارية وثقافية ودينية. غير أن هذا كله يتوقف على آليات صراع شديدة التعقيد, سيكون على الأقوياء والضعفاء خوض حرب لا هوادة فيها, تارة من أجل الهيمنة والاستحواذ بالنسبة إلى الأقوياء، وتارة من أجل الحفاظ على الهوية وحق امتلاك الحرية بالنسبة إلى الضعفاء.
لو أخذنا المعيار الغربي لمقاربة الإشكالية بين الإعلام والأخلاق, لتوافر لنا المثال الأكيد والواضح حيث يظهر أن الإعلام لم يعد في زمن ما بعد الحرب الباردة مجرد عامل من عوامل التغيير التي تساهم في قلب موازين القوى أو تثبيتها بين الدول, أو في داخل المجتمعات بالذات. لقد غدا العامل الرئيس الذي تتجلَّى فيه وبواسطته العوامل الأخرى الأمنية والاقتصادية والسياسية وسواها, ولقد تحوَّل من وجهٍ آخر إلى وعاء كلي تُختزل فيه أدوات الصراع والمنافسة والتحدي في صورة مدهشة.
وما دمنا نتحدث في إطار جدلية العلاقة بين الإعلام والأخلاق يبدو الكلام جائزاً على ما يمكن تسميته بـ "أيديولوجيا الصورة والصوت". هذه الأيديولوجيا التي شُكَّلت عناصرها عبر التلفزة, ثم تحولت إلى أداة سيطرة هائلة تستحوذ على العقول والأنفس. ثم تتجه, بما تتمتع به من جاذبية لتقبض على ناصية الأخلاق وتديرها كما يُدار الإعلان السلعي.

لقد استطاعت شبكة CNN الأميركية أن تحوز ثقة المشاهد العالمي قبل حربي الخليج الأولى والثانية وخلالهما وبعدهما. فكانت بذلك تتحوَّل إلى قوة هيمنة نفسية من خلال جعل مشاهديها أسرى جاذبية الصوت والصورة التي تبثها بسرعة هائلة, فلا تترك لأحدٍ أن يرجئ شغفه بمعرفة ما يحدث في أي نقطة من العالم وعبر أقمارها الخمسة, ومنظوماتها المؤلفة من شبكتين عالمية ومحلية, ومن مراسلين منتشرين في كل المناطق الساخنة في العالم. أحرزت الـ CNN صفة إمبريالية إعلامية بامتياز ما جعل الأوروبيين يخشون نجاحاً كهذا بما قد يجره من سيطرة مطلقة على سوق الإعلان, والتحكم بآليات توجيه الرأي العام.
والملاحظة التي يوردها عدد من الخبراء والمحللين في هذا الحقل هي أن المعلِّق الصحافي والمراسل صارا بالنسبة إلى المشاهد كمن يأتيه باليقين المفقود, بل ومصدر طمأنينة حتى بالنسبة إلى المشاهد الذي تدور الأحداث في بلاده هو بالذات إلى درجة أصبح الجالسون أمام الشاشات الصغيرة كرعايا ينظرون بخشوع وترهُّب إلى واعظٍ أخلاقي يعيَّن لهم ما هو الخير وما هو الشر.
والى هذا, فقد أمست التلفزة معادلاً تكنولوجياً للأيديولوجيات الصارمة التي تُظهر جاذبيتها وسحرها في صورة محمومة, وبدا بوضوح أن هذه القوة الساحرة والتي تستند إلى جماهير عريضة تتكاثر كلما تطور سلطانها المعنوي. ولو أشرنا إلى العقل الذي يديرها ويشرف على بثها لوجدتنا بإزاء ميكانيزم أيديولوجي لـه استراتيجياته السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والأخلاقية.

 

تقنيات الاستحواذ
كتمثيل لعمل هذا الجهاز الأيديولوجي لم يتورَّع أحد منتجي البرامج التلفزيونية في القناة الفرنسية الأولى TF1 عن البوح بطريقة إدارته للإنتاج, فقال: "كلما كان مستوانا متدنياً ومادياًَ كلما جلبنا عدداً أكبر من المشاهدين. هكذا هي الحال. فهل من اللازم أن نضطلع بدور الأذكياء ضد المشاهدين؟ هم على الأقل لا يفكرون, فلنتوقَّف نحن عن أداء دور الوعاظ"(3) .
على هذا التمثيل لتقنيات الفاعل الأيديولوجي, تستهل أخلاقيات الاستحواذ رحلتها من دون منازع مقتدر. كل شيء لدى الفاعل إيَّاه يجب أن يهبط إلى دنيا التسليع, وقيم السوق. وهو يوظِّف لهذه الغاية كل ما يشجع على القبول, والإذعان, والطواعية, وشغف الامتثال، الأمر الذي أدى إلى ظهور حالات دراماتيكية ذات آثار مدمرة في وقائعها ومعطياتها, ليس على بلدان الجنوب, وشعوب ما يسمى العالم الثالث فحسب, وإنما أيضاً وأساساً, على المجتمعات الغربية نفسها. وهذا ما لاحظه المفكر الفرنسي روجيه غارودي في بداية التسعينيات من القرن الماضي لمَّا بيّن أن فلسفة الإعلام في الغرب تنطوي على تحريض دائم وحاسم, من أجل تجنيد المشاهدين بالإغراء, ودعوة إلى الغوغائية, والى الخمول الدائر تجاه رأي عام تتلاعب به الدعاية, والإعلانات, وأدوات نقل الثقافة الجماهيرية. التلفزيون نفسه لا يقصّ حكاية التاريخ ولكنه يصنعها من خلال التلاعب بها. بمعنى أنه يستسلم إلى انحرافات السوق, والى تهديم كل روح نقادة, وكل فكر يشعر بالمسؤولية. وذلك بدءاً باستطلاعات الرأي العام التي لا تهدف إلى إعطاء صورة واقعية عنه, بل إلى التلاعب به، وعن طريق البلاهة الخانقة للألعاب والمسابقات المتلفزة التي تلوح بإغراء الحصول على المال بسهولة, وصولاً إلى الأخبار التي تخضعنا إلى تأمل كوارث العالم بغباء, مروراً بأفلام الصور المتحركة اليابانية, وهي كلها تنحو بانتهازيتها التجارية إلى جعل الجمهور كالأطفال, من دون تقديم ما يساعد على فهم نهاية الألف الثانية إلا بالجرعات التي تعالج الداء بالداء وبعد الحادية عشرة ليلاً (أي الأفلام الإباحية)(4) .

إن المرارة التي يتحدث فيها مثقفون غربيُّون عن واقع الإعلام في مجتمعاتهم مردها إلى شعورهم بأن الحضارة الغربية تنحو بسرعة مذهلة نحو الاضمحلال الأخلاقي.
حتى أن كثيرين منهم راحوا يصفون نهاية القرن العشرين بأنها عودة متجدِّدة لعصر فساد التاريخ وتدهوره, كما كان الأمر زمن انحطاط الرومان. وإن هذا التدهور الموسوم بهيمنة تقنية وعسكرية ساحقة لا تحمل أي مشروع إنساني قادر على إعطاء معنى للتاريخ وللحياة.
ربما كان الفرنسيون من أكثر الأوروبيين تحسساً من الآلة الإعلامية الأميركية التي حوَّلت عصر ما بعد الحداثة في الغرب إلى حقل اختبار للإجهاز على ما تبقَّى من ثقافة الأنوار, وتحطيم عقلانيتها, واستلاب بعدها الإنساني. فتحت تأثير التلفزيون الأميركي مثلاً, أصبح الإنتاج التلفزيوني المقرَّر تقديمه إلى العدد الأكبر من الناس, - أي إلى الأكثرية – هو المعيار الكلي, الكوني. ومعلوم أن أوروبا التي تعيش هستيريا الجلوس مدة طويلة أمام الشاشات الصغيرة هي أكثر المستهلكين للمسلسلات الأميركية, كونها أقل تكلفة من إنتاج المسلسلات المحلية. ولقد أخذت تنتشر في أرجاء العالم طريقة نسخ الأساليب اليسيرة للوصول إلى الجمهور الأكثر عدداً. وأخذت صورة هذا العالم المثالي تغدو أليفة في عيون الجماهير. فالرياضة أمست البديل عن الهوية الجماعية, ومفهوم الفوز – ومشاهد البطولة – باتت أكثر أهمية من مفهوم التسامح, واللاعنف, وأنسنة العلاقة بين الأفراد والجماعات.
حتى مؤلف كتاب "التسلية حتى الموت" "نيل بوستمان" راح يكشف عن تخطيط مسبق يمكث وراء إعداد أكثرية البرامج التلفزيونية في أميركا. فهي تُعدُّ من أجل جمهور شاب، وهي تالياً لا تخاطب إلا الجانب غير الناضج لدى البالغين. ولقد سبَّب هذا الخفض التدريجي للمستوى الثقافي في البرامج الكبرى الموجهة إلى أكثرية الجمهور, طفولة فعلية لديه ويسر التلاعب به.

النقد الفرنسي لما يجوز توصيفه بـ "الجيولوجيا الإعلامية" التي هزت نظام القيم العالمي, يبدو ضرورياً وإن كان غير حاسم، ذلك أن صورته تتأتَّى من منطقة معرفية ذات حساسية بالغة التعقيد من جانب الفرنسيين حيال النموذج الأميركي. فالنقد هنا ينطلق من مبدأ أخلاقي وإعادة الاعتبار للقيم, في وقت تستعر فيه حمى الاستهلاك ووحشية رأس المال على نحو لا يدع مجالاً للسجال الهادئ في الثقافة, والفلسفة, والفكر, وقضايا البيئة ومصير الإنسان. وحين دعا الرئيس الفرنسي الراحل "فرنسوا ميتران" العالم إلى وجوب تحييد الثقافة عن الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية, كان يقف يومها على أرضية قلق مقيم مؤداه الخوف من استشراء استخدام الثقافة والفكر كغطاء إيديولوجي للهيمنة وسيطرة القوة.
كان طبيعياً ألا تلقى دعوى التحييد قبولاً يذكر. ففرنسا كسواها من بلدان الغرب تستغرق في لعبة اللغة المتلفزة سواء كمنتجة أو كمتلقية لها. وما دامت هذه اللعبة هي جزء من لعبة أكبر, وأشد هولاً, وهي لعبة السوق, والاستهلاك, فستكون العودة عنها مسألة شاقة إن لم تكن مستحيلة. والواضح أن الجهات القلقة باتت تدرك قسوة ما هو واقع, إذ أن سوق المال العالمي لن يعود إلى حدود القومية القديمة, فالمال, وكذلك الأفكار, تجتاز الحدود بأسلوب وبسرعة لم نشهد نظيراً لهما من قبل. وهذا ما أطلق عليه اسم نمط المعلومات الجديدة الذي يشكِّل هجوماً ضد سلطات السيادة التي تتمتَّع بها الحكومات. ومتى أدركنا أن سوق المال والمنافسة المترتبة على شروط عمله هما الأساس في إنتاج نظام القيم, سيكون بمقدرونا رؤية الحجم الهائل للمأساة. وسيكون واقع الحال أكثر مرارة وأشد فظاعة حين نعلم أن اللعبة عالمية – كونية بامتياز. وأن اللعبة إياها تنتج معارف وقيماً وأفكاراً على مقاسها, وبما يخدم لهاثها الضاري في اتجاه الهيمنة.
إن الوجه المثير للجدل, في هذا المقام, هو تحول الإعلام بأحيازه المختلفة إلى قوة أيديولوجية ضارية تتولى بدورها تنظيم عمليات إقناع واسعة النطاق, وبما لا يمت إلى مصلحة الإنسان بشيء. فعلى سبيل المثال لقد جاء بيع أقنية التلفزيون في فرنسا إلى القطاع الخاص, وفقًا للنموذج الأميركي ليجعل "الحدث" سلعة تفصَّلُ على ذوق المستهلك. وأصبحت الأخبار والاستعراضات مسنداًَ للإعلانات التي تتحكم بتمويل البرامج وانتقاء مقدميها وفقًا لمؤشر نسبة الاستماع والمشاهدة.(5)

والأخطر في هذا الوجه, ما يجد ترجمته في دخول الإغواء الإيديولوجي عالم الحروب المدوية ليمنحها "المشروعية" إلى درجة لا يعود معها المشاهد يهتم بما تفعله الأسلحة المدمرة بالإنسان, بل إنه يركَّز اهتمامه على البراعة الفنية التي تؤدي بها هذه الأسلحة مهماتها بنجاح.
تعتبر شركة "جنرال الكتريك" مثلاً, من أهم موردي العتاد إلى الجيش الأميركي. ولقد صنعت قطع الغيار بكاملها تقريباً لمنظومات الأسلحة المتطورة التي استخدمتها الولايات المتحدة في حرب الخليج: صواريخ باتريوت وتوماهوك, والقاذفة الخفية ف 117 ستيلث, وقاذفة القنابل الإستراتيجية ب 52، وطائرة الردار أواكس وقمر التجسس نانستار الخ.
ومع ذلك كان مشاهدو التلفزيون الأميركيون بأكثريتهم يجهلون حقيقة كيف كان مذيعو شبكة NBC ينتشون وهم ينوِّهون بقدرات هذه الأسلحة المتطورة جداً في أثناء حرب الخليج, وكيف أنهم لم يخرجوا عن كونهم يمدحون الشركة التي تدفع لهم رواتبهم. إن هذه الظاهرة ليست خاصة بالولايات المتحدة, ففي فرنسا, أيضاً ترتبط شركة ماترا Matra التي تصنع الأسلحة بشركة هاشيت Hachette التي تسيطر على إذاعة أوروبا رقم 1 وعلى قناة التلفزيون الخامسة. وواقع الحال أن شبكة NBC تملكها شركة جنرال الكتريك وهي واحدة من ثلاث شبكات تلفزيونية كبرى هي C.B.S و ABC وستبدو المفارقة غريبة حين يشكو القيمون عليها من نتائج هذه الازدواجية التي تجمع بين شركات الإعلام وشركات إنتاج أسلحة الموت. وقد لخَّص موظف سابق في شبكة N.B.C هذه القضية بقوله: "إن مفهوم حرية الإعلام يصطدم بتناقض يصعب تجاوزه عندما يكون الأشخاص الذين يملكون أدوات الإعلام هم أنفسهم الذين يجب أن يقوم الإعلام بالتحقيق معهم كتجار حروب".(6)

 

ظهورات "الإمبريالية الناعمة"
بعض الذين وصفوا ثورة الاتصالات بأنها جعلت العالم المترامي قرية كونية صغيرة فاته، على الأرجح, أن هذا العالم المتحوَّل صار حقل تجارب جديداً لمنازعات, وحروب, ومكائد, وتصفية حسابات, هي أشد ضراوة مما عَرَفهُ الناس أيام الحرب الباردة وما قبلها. إنها حرب الصورة والصوت أو ما يسميه البريطانيون بـ "الإمبريالية الناعمة" تلك التي تعرج في الأثير اللامتناهي فتجتاز الحدود وتنكر العهود وتخرق سيادات الأمم والدول. كل هذا حصل في سياق شامل ومركّب من عمليات التحول التي أعقبت الحرب الباردة. ربما لهذا السبب يجري ما يُعرف في الغرب اليوم بـ "مجتمع الإعلام العالمي" على خط موازٍ مع "العولمة" حتى ليكاد يترسَّخ الاعتقاد من حقيقة التواطؤ المتبادل بين المفهومين الشائعين الآن بزخم لافت.(7)
ولئن قيل في العولمة من التعاريف ما يجعلها ظاهرة الظواهر التي تترجم علاقات قوى السيطرة في بداية الألف الثالث, فالذي يقال في الإعلام وثورته الجديدة يعادل وجه الظاهرة الآخر إن لم يؤلف حقيقة وجودها وتكوينها.
وإذن, بين "العولمة", - العولمة التكنو – اقتصادية على الخصوص - والإعلام, ثمة علاقة إنتاج متبادل ولقد صار أكيداً ما بلغته ثورة الاتصال من قدرة هائلة على غزو كل ما يتصل بميادين النشاط البشري الحديث, وعلى الأخص القطاعات الرئيسة للاقتصاد العالمي. فعن طريق أربعة مجالات تكنولوجية تتداخل بقوة في ما بينها هي الإعلام المنشور, والهاتف النقال, والتلفزة الفضائية, والإنترنت, أطلقت العولمة رهاناتها الاقتصادية.
وتحسب "الليبرالية الجديدة" أن سيطرتها على المال العالمي عبر نحو 200 شركة متعددة الجنسية لا تنأى عن سعيها للاستيلاء على المجتمع الإعلامي. ويدخل هذا الحسبان في المقاصد العليا لرهانات العولمة حيث يتحوَّل التوصيل الإعلامي بوسائطه المتنوعة إلى تقنيات عالية الدقة لإعادة إنتاج المعتقدات الليبرالية الكلاسيكية, ولا سيما منها عقيدتا حرية السوق (دعهم يعملون) والتبادل الحر (دعهم يمرون).

إن هاتين العقيدتين ستعودان مجدداً لتؤلفا المكوّن الإيديولوجي للتبادل الحر الذي نهضت عليه عولمة آخر القرن العشرين, وسيكون على "المجتمع الإعلامي العالمي" توظيف هذا المكوّن الإيديولوجي للعولمة الجديدة في إدارة الحروب الاقتصادية الباردة. وسيتم ذلك, إما من خلال تأهيل إكراهي لمجتمعات دول ذات سيادة, أو عبر تقنيات إقناع إغرائية – ودودة لا حصر لها.
إن ما يحصل اليوم هو تبدّل صريح في بعض وجوه عمليات الاستحواذ تختلف في مؤدياتها عما جرت العادة عليه في الأزمنة الاستعمارية التقليدية. فقد طرأ تطور جذري على آليات السيطرة السياسية والاقتصادية خلال الربع الأخير من القرن العشرين. وما عادت فلسفة القوة التي أخذت بها حركة الرأسمالية الصاعدة لتحقيق مطامحها فوق القومية هي نفسها بعد حصول هذا التطور. ودخلت وسائل الاتصال, وشبكات التحكم, والتوجيه من بعد, كعامل رئيس في استعمالات القوة. وبدا كما لو أن عمليات الهيمنة السياسية, والاقتصادية, والعسكرية, والثقافية, تتكثّف ضمن مساحة كبرى بعيداً من الاستفزاز المباشر, هي مساحة الإعلام.

شكلت نهاية الحرب الباردة 1989 - 1990 الانعطاف الفعلي في هذا المنحى, وقد أظهر واضعو الاستراتيجيات العليا في الولايات المتحدة الأميركية رغباتهم الملحوظة في السيطرة على شبكات الاتصال, والثروات الهائلة التي توفرها الصناعات "اللاّمادية" من علم, ومعرفة, وقدرة استثنائية على التحكم بالعقول واتجاهات الرأي العام في العالم. ويذكر جوزف ناي – وهو مسؤول سابق في البنتاغون وعميد معهد كينيدي في جامعة هارفرد – في مقال كتبه بالاشتراك مع وليم جونز ونشرته مجلة "الشؤون الخارجية" في عدد نيسان/ابريل 1996 كيف أنه سيكون من السهل على أميركا أن تسيطر سياسياً على العالم في المستقبل القريب, وذلك بفضل قدرتها التي لا تضاهى في إدماج النظم الإعلامية المعقدة. ويبيّن صاحبا وجهة النظر الأميركية هذه إلى أي مدى تخلَّعت فيه مفاهيم السيادة القومية تحت وطأة الاختراق الإعلامي عبر شبكات التلفزة الفضائية والإنترنت حيث لم يعد بإمكان الدول ذات السيادة التقليدية أن تحجب الغزو الثقافي والإعلامي عن فضاءاتها, الأمر الذي كانت توفره إجراءات سيادية تقليدية من مثل إغلاق بوابات الحدود الجغرافية في وجه عمليات الغزو الآتية من خارج, حتى أن عدداً من الخبراء الإنكليز راحوا يصفون هذه الظاهرة العالمية بـ "القوة الناعمة" التي تستطيع أن تحقق غاياتها الاستعمارية على نطاق واسع, من دون أن تخلق ردات الفعل الكلاسيكية الثورية من جانب الشعوب التي تتعرض كرامتها القومية للمهانة, وسيادتها للانتهاك, وأرضها للإحتلال.

 

سيطرة الفضاء اللاَّمتناهي
ترسًّخ اعتقاد بين واضعي استراتيجيات الإعلام مؤداه ضرورة أن يأخذ مسار الهيمنة عبر الفضاء مداه اللاَّمتناهي على نحو يلبي شغف السيطرة اللاَّمحدود للشركات المتعددة الجنسية ومراكز الهيمنة المالية والاقتصادية. وهم في ذلك يدعون إلى تجاهل مظاهر الهوية التقليدية للشعوب والمجتمعات, كالقومية, والانتماء العرقي, والدين, والجنس, والموقع الجغرافي. والأمر الجدير بالمعاينة هو أن هذه الاستراتيجيات كوَّنت مصدر إغراء لكبار رجال الأعمال الذين أصبحت الحدود القومية عائقاً أمام توسيع مصالحهم وحركة رأس المال الذي يملكون, ما جعلهم يمارسون ضغوطات هائلة على حكوماتهم للانخراط والانصياع في عمليات السوق المفتوحة التي لا تعرف حدوداً إقليمية, حيث الكون كله في هذه الأحوال خاضع لنظام رأس المال العالمي.
وعلى هذا النحو أظهر الإعلام الفضائي, بشقيه المرئي والمسموع، فعالية حقيقية لتغليب هذا المسار على حساب المصلحة القومية والسيادة الوطنية في حين بدا كما لو أن الصحافة المكتوبة وشبكة المراسلين التابعة لها, غير ذات أهمية في ظل الاستحواذ المخيف للإعلام الفضائي, وسرعة إيصال الصوت والصورة عند تغطية أي حدث في أي مكان من العالم. هذه الوضعية سوف يترجمها في كثير من المرارة الصحافي البريطاني المعروف روبرت فيسك عندما كان مراسلاً لجريدة "الأندبندنت" في أثناء حرب الخليج الأولى فكتب متسائلاً: "ماذا كان بوسعي قوله لجريدتي من العربية السعودية في أثناء الدقائق الأولى من الحرب, في حين كانت شبكة CNN قد نقلت من بغداد مباشرة لحظة بدء الحرب؟ وأذكر – والكلام لـ فيسك - أنني شعرت بإحساس قوي – كأنه ألم عضوي – عندما أدركت أن أيام الصحافة المكتوبة القديمة والجميلة قد انتهت... وحلت محل عملنا القديم متابعة التلفزيون مباشرة, مع العلم أن هذا يجعل الأنباء أكثر قبولاً بالتلاعب من أي وقت مضى...". ويعبّر عدد من الصحافيين الغربيين من الذين تابعوا تطورات حرب الخليج,عن شعورهم بالإحباط من جراء التحاق الصحافة المكتوبة بخداع الإعلام المتلفز, خصوصاً حين انبرت هذه الصحافة تنقل تقارير الشبكات الفضائية عن ظهر قلب من دون أن تتحقّق من صحتها وصدقيتها. وفي هذا المجال يتساءل الصحافي الفرنسي إيناسيو رامونيه Ignacio Ramonet مدير تحرير "لوموند ديبلوماتيك" عما يمكن عمله لمجابهة ألغاز "المطياف" من إخبار وإفساد؟ ويقول "من يستطيع أن يزعم بأنه يثق بعينيه؟ وبأن المظاهر, على الرغم من معجزات النقل المباشر تبقى خادعة ومكّارة؟ وبأن العقل الديمقراطي يبقى قائماً على الشك المنهجي, وعلى صمت التفكير, وعلى النقاش النقّاد؟ وبأنه في الجو المشحون بالشعبوية وبالغوغائية تستطيع صدمة المشاهد والصور أن تؤدي إلى تنازلات مرعبة, وإلى الانصراف عن الحقيقة؟".(8)

يتمركز السجال حول فلسفة الإعلام في أوروبا والولايات المتحدة, بصورة أساسية، على الجانب المتعلق بالأثر السلبي على السيادة القومية للدول – الأمم. وهو ما تشعر به أوروبا اليوم, في كثير من الحرج نتيجة الهيمنة الأميركية على عقول الأجيال الجديدة في مجتمعاتها والتي تستخدم منظومة وسائط إعلامية موجهة إلى أوروبا والعالم استطاعت من خلالها أن تشكل تياراً ثقافياً استهلاكياً جعل كثيرين من الخبراء الأوروبيين يتساءلون عما إذا كان عليهم أن يودّعوا هويتهم الثقافية. والألسني الأميركي نعوم تشومسكي يقول: "إن وظيفة المنظومة الإعلامية الأميركية هي أن تسلّي وتُلهي وتعلّم.. وكذلك أن ترسخ لدى الأفراد القيم, والمعتقدات, وقوانين السلوك, التي تجعلهم يندمجون في بنى المؤسسات داخل المجتمع الموسّع. وحتى يكون بالمستطاع القيام بهذا الدور, في عالم تتمركز فيه الثروات, وتشتد وتقوى فيه النزاعات بين مصالح الطبقات يجب القيام بدعاية منظمة".
لكن إذا كانت مشاعر الأوروبيين على هذا النحو من الحذر تجاه الاستحواذ الأميركي على الإعلام, فكيف سيكون عليه الحال في بلدان العالم الثالث؟
الأمر هنا يدعو إلى اليقين بأن هذا العالم يتعرَّض لحملة احتواء وهيمنة أشد وأقصى. وهي، هذه المرة، تتصل بغزو الوجدان, والثقافات, وحرف المجتمعات المتأخرة, وخصوصاً مجتمعات الجنوب عن قيم التحرر وإشعارها بلا جدوى التمسك بمبادئ السيادة والكرامة الوطنية. لقد لاحظ عدد من الخبراء الغربيين كيف تطورت ميزانيات الإعلام إلى درجة أصبحت توازي ميزانيات الدفاع لدى بعض البلدان.

وتقول الإحصائيات إنه منذ العام 1986 بلغ رقم أعمال اقتصاد الإعلام في الغرب والاتصالات مبلغ 1185 مليار دولار: منها 515 ملياراً  للولايات المتحدة و267 ملياراً للجماعة الأوروبية و253 ملياراً لليابان و150 ملياراً للآخرين جميعاً. إن استيعاب المعطيات المتعلقة بشركات الدعاية والإعلان – وهي الحامل الأول للإعلام – في هذه الأرقام يعزّز الاتجاه الواضح لسيطرة الشمال. وعلى هذا المستوى من تمركز المقدرات, يصبح من اليسير أن نفهم لماذا أصبح التساؤل عن التوازن بين الشمال والجنوب تساؤلاً تافهاً ومثيراً للسخرية.
والشك الوحيد الباقي ينصب على كيفية انتهاء المعارك المستميتة التي يخوضها بعض المجموعات الضخمة ضد بعضها.(9)
وعموماً فإن الديناميات المتّبعة لوسائل الاتصال والإعلام بعد الحرب الباردة آيلة إلى غاية واحدة لا مناص منها, وهي: تحرير حركة رأس المال من أي قيد, بما فيها القيود النابعة من مصلحة الأمم التي ما يزال رأس المال الوطني يؤلف ميكانيزم استقلالها وسيادتها.

 

الخبر الأميركي كمرجّح للغلبة
الوجه الأبرز في المثال الإعلامي الأميركي سيجري الإفصاح عنه حين تخوض مؤسسة الحرب الأميركية حروبها ونزاعاتها الدولية والإقليمية. يقول "ويليام رو" وهو أحد الذين عملوا في الخارجية الأميركية إنه بعد الهجمات الإرهابية التي تعرَّضت لها بلاده في 11 أيلول/سبتمبر أصبحت أنباء الحرب ضد الإرهاب تهيمن على وسائل الإعلام الأميركية على حساب القضايا المحلية والأجنبية الأخرى. وكرَّست الصحف الأميركية العديد من صفحاتها لنشر المعلومات المتوافرة, عن حياة المشتبه بهم من الخاطفين الذين نفَّذوا الهجمات وخلفيتهم. وبدأ الكتّاب الأميركيون يركّزون في
مقالاتهم وموضوعاتهم وكتبهم على المملكة العربية السعودية أكثر من أي يوم مضى لأنها الدولة التي منها معظم المشتبه بهم في الهجمات. ونشرت الصحف الأميركية تحليلات لكتاب أميركيين يوجّهون فيها اللوم للسعودية والدول الشرق أوسطية الأخرى لأنها – على حد زعمهم – وفَّرت البيئة الملائمة لولادة نشاط الإرهابيين. ويعزون ذلك إلى المناهج التعليمية في تلك البلدان وغياب الديمقراطية وحرية التعبير(10).  
إن ما يريده الكاتب الأميركي من ذلك هو التأكيد على انخراط الإعلام على الجملة في الحملة الحربية التي تقودها بلاده بقطع النظر عن صدق مبرراتها. وإلى هذا يشكل هذا النموذج الأميركي للإعلام صورة درامية عن تدهور الحالة العالمية وبؤسها.

وعن التناقض الصارخ بين نظامين من أنظمة القيم: بين نظام التوازن الذي ساد الحرب الباردة والتجريبية العالمية المحكومة بما يسمى نظام الفوضى. لقد رسم زبيغنيو بريجنسكي منذ ما يزيد على ثلث قرن صورة متوقعة لمستقبل العالم ما بعد الصناعي, فرأى "أن الأثر التراكمي للثورة التكنوترونية هو أثر متناقض. فمن جانب تبرز هذه الثورة بدايات مجتمع عالمي ومن جانب آخر تفتت الإنسانية وتنتزعها من مراسيها التقليدية. إن الثورة التكنوترونية تزيد من تنوُّع الظروف الإنسانية وألوانها. فهي توسع الهوة في الظروف المادية بين بني البشر حتى وهي تقلص قدرة الإنسان الذاتية على تحمّل هذا التباين".
والعالم الثالث برأي بريجنسكي هو ضحية الثورة التكنوترونية. وسواء نمت البلدان الأقل تطوراً بسرعة أو ببطء أو لم تنمُ أبداً, فإن معظمها على الأغلب لا مفر له من أن يستمر, وقد سيطرت عليه مشاعر قوية بالحرمان النفسي. ففي عالم متشابك إلكترونياً لن يكون التخلف المطلق أو النسبي محتملاً، خصوصاً عندما تبدأ البلاد الأكثر تقدماً بتخطِّي المرحلة الصناعية التي ما يزال على البلدان الأقل تطوراً أن تدخلها. وهكذا لم يعد الأمر أمر "ثورة لطموحات متصاعدة, فالعالم الثالث اليوم يواجه طيف الطموحات التي لا يمكن إشباعها"(11).

لقد أدَّى التطور اللامتكافئ في نظام عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى خلق سيرورات متناقضة لا يمكن أن تبعث في يوم من الأيام على الطمأنينة. ومن البدهي والحال هذه أن يجري إخضاع القيم والبنيات الأخلاقية في المجتمعات "العالمثالثية", وخصوصاً المجتمعات الأهلية فيها. فإن ذلك ما يسهِّل ديناميات سيطرة رأس المال المالي والإلكتروني والحربي. والحاصل هو أننا أمام أمر متناقض كل التناقض، بل ويتضاعف تناقضه كلما مرَّ وقت إضافي على بقاء عالم ما بعد الحداثة خلواً من أنظمة توازن في الغذاء والبيئة والاقتصاد والسياسة والأمن. وهذا التناقض هو أن عالم اليوم يصبح أكثر وحدة وأكثر تفتتاً في الوقت عينه. ففيما اتجهت أوروبا إلى التوحد الكامل عبر إلغاء الحدود القومية التقليدية, ونَحَت الولايات المتحدة الأميركية إلى تقديم نفسها كدولة عالمية,... وفيما يجعل نظام المعلومات والاتصال عبر الأقمار الصناعية والإنترنت العالم كله مشاركاً في مشاهدة ما يحصل ومعرفته حتى في الأحياء المغلقة والغيتوات الإسمنية, يبدو العالم متجهاً أكثر إلى مغادرة قيم الاستقرار والولاءات الأيديولوجية التقليدية.
إن الاحتقان الذي يعيشه عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم يخلو من اليقين والأمان الذي يوحِّده. وهذا بدهي ما دام التداخل العجيب قائماً بين أنظمة القيم وسيرورة رأس المال اللامتناهي. إن الصورة تبدو شبيهة جداً بما كتبه الكاتب الأميركي – من أصل ألماني – هرمان هيس في روايته ذئب البوادي واصفاً أحوال الغرب ما بعد الحرب العالمية الثانية, لقد رأى "أنه عندما يتداخل عصران, وثقافتان, وديانتان تتحوَّل الحياة البشرية إلى معاناة حقيقية, إلى جحيم. فهناك أوقات يحشر فيها جيل كامل في ذلك الطريق الواقع بين عصرين, وأسلوبين للحياة.
فيكون من نتيجة ذلك أن يفقد كل قدرته على فهم نفسه ويفتقد المعايير, والأمان, وبساطة الرضى".

هكذا بدا المشهد العالمي وهو يختتم الألف الثاني, وهكذا يبدو على نحو أشد وهو يمضي قدماً في رحاب الألفية الثالثة. ولن يكون له على الأرجح سوى المضي مسافات زائدة في تعميم الضلال الأعمى إلى أبعد حد مستطاع. فالتسابق نحو الاستحواذ والسيطرة هو سمة هذا المشهد اليوم, والى مدى غير منظور. والخطير في هذا المجال من التطوُّر هو اعتقاد مؤسسات القوة والهيمنة التي تديرها على الأخص الولايات المتحدة الأميركية بأنها في هذا إنما تصنع واجباً عالمياً أساسياً. وهو في اعتقادها واجب أخلاقي تمليه مصلحة الإنسانية بأجمعها الأمر الذي سيؤدي بها – وهو ما يوضع أمامنا بصورة يومية – إلى ممارسة أبشع الأفعال اللاأخلاقية وذلك باسم الحفاظ على الأمن الدولي والديمقراطية وحقوق الإنسان, منظوراً إليها بوصفها درجة عليا من الأخلاق.
يتحدَّث ميشيل شوسودوفسكي أستاذ الاقتصاد في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة أوتاوا(12) عن كيفية صنع المجاعة في بلدان العالم الثالث, فبيَّن كيف فرض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الحكومة الصومالية برنامج إصلاح بنيوي في بداية الثمانينيات. وكان من نتيجته أن تعرَّض للخطر الفظيع التوازن القائم بين القطاع "البدوي" من السكان والقطاع المستقر "الحضري" (...) وعندما بدأت عمليات إعادة "تنظيم" موازنة الحكومة الصومالية تحت إشراف المؤسسات الدولية – وهي مؤسسات تدار في معظمها بعقل أميركي أساساً – نتج عنها نهب منظم وتدمير للزراعة. فانهارت البنى التحتية وانخفضت النفقات المخصصة للزراعة بنسبة 85% بالمقارنة مع ما كانت عليه في أواسط السبعينيات.
وهكذا بسبب من فوائد القروض القاسية أصبح الصومال أسير نفسه لذلك سيطلق عليه لقب "قميص المجانين" وهو المعروف باسم الإصلاح البنيوي, لإجباره على سداد الفوائد. وما حدث بعد ذلك معروف: انهارت الدولة, واندلعت الحرب الأهلية وتفشت المجاعة.. وفي النهاية جاءت عملية "إعادة الأمل" التي ما نزال نشهد آثارها المدمِّرة إلى اليوم.
النموذج الصومالي يعكس ظاهرة دولية صارخة في طريقة تعاطي الشركات الكبرى مع الشعوب, الأمر الذي أنتج في غير بلد أفريقي وآسيوي مجاعات, وحروباً أهلية لم تنته إلى الآن.

وعلى ما يبدو فلسوف لن تكف مؤسسات التوجيه الأميركية عن إنتاج ثقافة تسويق الاستهلاك. فهي تذهب إلى ما يشكل صوغاً لاستراتيجيات فكرية تقدم الولايات المتحدة بوصفها معطى أرسلته السماء. ولعل البرنامج التعليمي الذي نظَّمه لمحطات التلفزيون الكبرى الزعيم الجمهوري في مجلس النواب نيوت غينغريتش في مطلع التسعينيات هو أحد الجهود الآيلة إلى "أسطرة" أميركا وسياساتها وأنماط حياتها. إنه يدعو لتناول التاريخ الأميركي بطريقة تمجيدية تستند إلى رموز جامدة لقيم دائمة. فعندما يعيش العالم في ما يسميه "ثقافة الومضة"، وفي عاصفة من المعلومات الهائلة المضطربة ينبري غينغريتش للإعلان عن أن هدف برامجه التعليمية المتلفزة هو غرس الذهن بقيم الأساطير القديمة, لكي يكون التاريخ الأميركي نقياً وصافياً, ومقبولاً, من الأجيال. وعلى أي حال فإن غينغريتش الذي يؤمن بالإيديولوجيا إيماناً راسخاً ويصفها بأنها "قنبلة في الرأس" هو كسواه من الإيديولوجيين الأميركيين في هذه الأيام, لا يجدون ما يعملون عليه سوى الذهاب بعيداً في الاستيلاء على العقل وبث أخلاق السيطرة والقوة على النطاق العالمي. وهذه إِواليات إعلامية توصيلية غايتها تعميم قناعات ثابتة لدى شعوب العالم, وبخاصة شعوب "العالم الثالث" برسالية القوة الأميركية وسموها.
لكن جيمس كورث أستاذ العلوم السياسية في الجامعات الأميركية, يقدم انطباعاً مخالفاً عمَّا تذهب إليه أخلاقيات التمجيد فيرى "أن الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة في الصراع الهائل بين المنظمات الكبرى ووسائل الإعلام العالمية والشركات المتعددة الجنسية, سيتوقَّف على نتيجة صراع آخر أكثر إيلاماً. ذلك لأن الفترة الأولى من تاريخ ما بعد العصر الحديث ستتضمَّن صراعاً موازياً, وحرباً أهلية داخل الولايات المتحدة بين المؤسسات المتعددة الثقافات والتسلية الجماهيرية من جانب, والثقافة القومية والتعليم الجماهيري من جانب آخر. ومنذ الآن – يضيف كورث – يبدو أن معسكر ما بعد العصر الحديث هو الذي سيسود, وإذا ما حدث ذلك فإن الولايات المتحدة بالمعنى التقليدي للشعب الأميركي وحكومة الولايات المتحدة, لن تكون هي الممثل, بل المتفرج – بل حتى المسرح – لعالم ما بعد العصر الحديث, وستصبح متلقياً للتاريخ لا صانعاً له...(13)"
إن مثل هذا المآل لدولة تمسك بناصية الإعلام وإنتاج أخلاق الاستهلاك لن يفضي, على الأغلب, إلا إلى المزيد من تفكيك العالم وأنظمة القيم فيه.

 

"أدلجة" الصورة والصوت
على النسق الإيديولوجي إياه لا ينفكّ منظّرو الفرادة الأميركية عن ابتعاث مروحة من الأفكار, لا يقصد منها سوى منح السيطرة مشروعية الاستمرار والتراكم لتأخذ صعيدها المعرفي والثقافي. ويتحدث معظم هؤلاء بلغة اليقين, ودائماً عبر آليات الإعلام, بهدف خلق اعتقادات في المجتمعات الدولية, وخصوصاً الأوروبية فضلاً عن "مجتمعات الأطراف" مؤادها التسليم بنمط الحياة الأميركية كقدر لا مناص منه. وها هو دانيال بيرتون أحد البارزين في قطاع الاتصالات يرى "أن الولايات المتحدة بصفتها رائداً في اقتصاد الشبكات سوف ترسم تطور هذا الاقتصاد. ذلك أنه ليس هناك أي دولة أخرى في العالم تملك المؤهلات اللازمة لتوجّه تطوره, فهناك وجود برمجي هائل, ومصنّعو مواد على مستوى دولي وصناعة ديناميكية ذات محتوى جيد, وقطاع اتصالات كامل الخصخصة. وقاعدة صلبة لرأسمال جسور, وسوق عمل مرن, ونظام جامعي لا نظير له".
يضيف بيرتون أننا في النهاية نتجه نحو عالم للشبكات يتكوَّن من مجتمعات إليكترونية تجارياً وثقافياً, عالم يعمل على تدعيم مكانة الولايات المتحدة كأمة من بين الأمم الأخرى, ولكنها في الوقت نفسه, وعلى النقيض من ذلك, أمة تعمل على تفكيك نظام الدولة – الأمة(14) .

يكشف هذا الكلام عن أحد الوجوه الأكثر عناية بالاهتمام في الخطاب الثقافي الأميركي وهو ذاك المتّصل بالرغبة في تخليع الرابطة القيمية التي نشأ عليها مبدأ الدولة – الأمة. تريد الطبقة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة أن تقيم عالماً يشبهها في الغرب وفي العالم أجمع, أي دولة عالمية سمّاها أحد الخبراء الأميركيين وهو جيمس كورث بـ"المؤسسة الأميركية", التي ذهبت ابتداء من نصف القرن المنصرم إلى جعل مصلحة الدول – الأمم, مثل بريطانيا, وفرنسا, وألمانيا, وإيطاليا, واليابان تتفق مع تجاوز مفهوم الدولة – الأمة, عن طريق العضوية في عدة منظمات دولية كالأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية, وحلف الأطلسي, والغات, وصندوق النقد الدولي, والبنك الدولي وسواها. وخلاصة القول إن الدولة الأميركية مثلها مثل تلك الدولة التي قامت في أوروبا واليابان, نفّذت مشاريع كبرى في الأبعاد الثقافية والأمنية والاقتصادية للحياة الاجتماعية. لكن على خلاف الدول – الأمم الأخرى, فإنها فعلت ذلك على نطاق قاري هائل الحجم حقاً. بل إنها حتى وهي تفعل ذلك كانت تنشئ أيضاً عالم ما بعد العالم الحديث, وبذلك مهّدت الطريق لزوالها كدولة - أمة.
كانت بداية التسعينيات ذروة ما وصلت إليه التجربة الأميركية لجهة نزع القيم التي تقوم عليها مبادئ الدولة – الأمة لتنتقل بعد ذلك إلى زمن الهيمنة على العالم؛ وهو زمن يتّسم بتخطي الإتكاء على جيوش تقليدية كبيرة, تقوم على التجنيد الإجباري الجماهيري وتوافر الدفاع القومي, وذلك باتجاه تشييد ما يسمى بـ"مجتمع ما بعد العصر الحديث" الذي يقوم أساساً على وجود الأسلحة النووية, التي توفر
الردع الموسع, والأحلاف الدولية الدائمة (مثل ما حدث مع الحلف الأطلسي) وعلى التكنولوجيا الراقية, والأسلحة الموجهة بدقة والأسلحة الشبح, ما يوفر القوة العسكرية لتحالفات دولية مؤقتة كاّلتي حصلت في حرب الخليج الثانية والتي حصلت على نحو مدوًّ في الحرب على يوغوسلافيا, وصولاً إلى المثال الأفغاني والذي عدّه كثيرون من الاستراتيجيين الغربيين مثالاً قابلاً للتكرار في غير منطقة من العالم(15). وبطبيعة الحال, فستأتي حرب غزو العراق العام 2003, لتمنح مساراً كهذا درجته القصوى في حقول التطبيق.

إن الوجه الإعلامي للتطور الأميركي شكل الآلية المتقدمة لظهور الإمبريالية المفتوحة. وكان بدهياً أن تؤدي الشبكة الإعلامية الهائلة مهمتها الكبرى باتجاه تفكيك أنظمة القيم في العالم. وإذا كانت مجتمعات الأطراف، أو ما يصطلح عليها بالدول النامية، آثرت خيار التلقي والامتثال عموماً للهيمنة الإعلامية والثقافية – الأميركية, فذلك ما لم يحصل على الإجمال في المجتمعات الغربية. فكان أن انفجرت في وجه الزحف الإعلامي الأميركي تيارات وازنة في المجتمع المدني الأوروبي, تطالب بضرورة الممانعة والمواجهة. حتى أن الحكومة الكندية استشعرت هذا الخطر وأعلنت على لسان السيدة شيلاكوبس النائبة السابقة لرئيس الوزراء ووزيرة المالية لعام 1997, وجوب مواجهة ما أسمته بـ "الإمبريالية الثقافية" وأكدت أنه إذا أصرّ الأميركيون على فرض هيمنتهم على المجتمع الثقافي العالمي باستخدام الأدوات المتاحة لهم, فإن عليهم أن يتوقعوا إجراءات مضادة(16) .
المسألة بالنسبة إلى المؤسسة السياسية الأميركية لا تتعلق بالأخلاقيات المجردة, وإنما أساساً وقبل أي شيء بملاءمة النشاط الإعلامي والثقافات المنتجة في سياقه, مع الدرجة التي بلغها تطور شبكات المصالح والنفوذ في العالم, لذا فإن الآليات الإعلامية تقصد بشكل منهجي ومعمق إعادة تشكيل الوعي الجماعي العالمي, وتكييفه على نحو يناسب حاجات الإمبريالية المفتوحة, فثورة التكنولوجيا الإعلامية كما يؤكد الكاتب الفرنسي إيناسيو رامونيه تتطلع لإحلال الحاسوب محل العقل البشري, وتتسارع هذه العقلنة العامة لأدوات الإنتاج بفعل التوسع الكبير في الشبكة الجديدة للاتصالات, وبذلك ينشط الإنتاج ويختفي بعض المواد وتتفجر موجة البطالة والعمل الموقت (...). أما في الميدان الاقتصادي فالسائد هو ظاهرة العولمة أي الارتباط المتزايد والوثيق بين اقتصادات بلدان متعددة, وتهم هذه العولمة أساساً القطاع المالي الذي يهيمن من بعيد على الأجواء الاقتصادية وتعمل الأسواق المالية طبقاً لقواعد وضعتها لنفسها
بنفسها, وباتت من الآن فصاعداً تفرض قوانينها الخاصة على الدول ذاتها, في حين على صعيد العلاقات الاجتماعية أحدثت ثورتا الإعلام والاقتصاد أزمة في مفهوم السلطة, فبعد أن كانت هذه حتى عهد قريب عمودية أبوية مهيمنة, باتت الآن تزداد أفقيةً وفق تركيب شبكي - بفضل تقنيات الاستقلال الإعلامي - وتوافقي. وفي ذلك تغيير جذري لهوية السلطة السياسية وممارساتها((17) .

لم تكن التكنولوجيا التي أنجبتها العقلانية الغربية في أي يوم بريئة من غاياتها السياسية, وكذلك لن تكون ثورة المعلومات التي اختتمت قرناً واستهلت قرناً آخر بريئة من داء التسييس.
وحين يذهب الإعلام المسيطر ليسوّغ ثورته المدهشة فلا يفعل هذا إلاّ لخدمة طبقة سياسية تتصدر عرش العولمة وشركاتها الكبرى.
وعلى امتداد هذه الملحمة الفظيعة للعولمة الجديدة تلقي إمبريالية الصورة والصوت بظلالها فوق عالم يترنح, وإنسان يواجه مصيره بعقلانية صارمة.

 

باتجاه إعلام مسدَّد بالأخلاق
لسنا نزعم أن بمقدور أي كان, جهة أو شخص, أو حتى دولة أن يؤسس لخطاب إعلامي أخلاقي من دون مشقة. الإشكالية بالطبع غير مستحيلة, لكن تفكيكها وإعادة تشكيلها على أسس جديدة يتطلب التعامل معها, والنظر إليها بوصفها إشكالية تتجاوز النطاق المحلي وحدود السيادات القومية, أي بوصفها إشكالية عالمية بامتياز. تتعلق أولاً وأساساً بضرورة تشييد نظام قيم عالمي جديد يقوم بطبيعته على توازن ما في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع الإنساني.
هل يمكن ذلك؟ لو قلنا بإمكان النظام العالمي المتوازن فلسوف نقع في تجريد ساذج؛ ذلك أن عالماً تضبطه معايير القوة وشهوة الاستحواذ, لا يمكن أن يُتأملَّ منه ما يحتويه وما لا طاقة له به.
إن الشرط البدئي لقيامة نظام قيم راسخ على النطاق العالمي, هو شرط يؤسسه توازن بين قوى المجتمع الدولي وأقطابه وعوالمه المتعددة. وحتى يصير هذا الشرط واقعياً فلا بد أن يسبق التوازن حدوث تحولات ضرورية في نسبة القوى الدولية, بما يؤدي إلى ضرب من ديمقراطية أممية أساسها الاعتراف بمبادئ العدالة والسيادة وحقوق الإنسان اعترافاً عملياً.
ولئن كان هذا الشرط طوباوياً وغير قابل للتحقق بالنظر إلى منطق وطبيعة التطور العالمي بعد الحرب الباردة, فإن الشرط نفسه قابل للنفاذ على نطاق المجتمعات المحلية.

في الغرب وصل النقاش إلى مراحل مهمة حول ضرورة إعادة بناء نظام جديد للقيم. أما عناصر هذا النقاش فتجري انطلاقاً من وجوب إجراء مصالحة بين الممارسة السياسية والممارسة الأخلاقية, واستطراداً بين الغاية والوسيلة بحيث لا يؤدي طغيان شعار المصلحة العامة للأمة على ضرورات الاجتهاد والاختلاف, وتعدد الأفهام في التعاطي, ومقولة المصلحة العليا, والأمن القومي, الخ. إذ غالباً ما يجري الاضطهاد باسم الديمقراطية ومن أجلها أو باسم الدفاع عن حقوق الإنسان ومصيره.
أما في بلادنا, وتحديداً في المجتمعات الشرقية والعربية والإسلامية, فالنقاش مع الآخر, الغربي – هو نقاش سلبي في أغلب الأحوال – لا يخلي المساحة الضرورية التي تكفي لتفعيل حوار الاختلاف والإبداع بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة.
بعد هذا نعتقد أن الأخلاق الفطرية التي توفرها الطبيعة البشرية المجردة, وبالتالي الأخلاق الدينية الأساسية التي تحكم الأفراد والقوانين المدنية التي تنتظم فيها المجتمعات, ستشكل أساساً لحفظ القيم في مجتمعاتنا, ومن ثم لتأليف نظام للقيم في كل ما يتصل بتدبير الشأن العام والعلاقات بين أفراد المجتمع.
إن هذا يقتضي منا, أن ندرس أخلاقنا السياسية والثقافية دراسة نقدية, يحكمها روح التسامح بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني. وفي هذا المعنى يمكن أن ينشأ الخطاب الذي طالما فقدناه, ذاك القائم على رحمانية العلاقة بين قوى المجتمع وأحيازه, واختلافاته وتنوعاته الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية. إنه الخطاب الحر، هذا الذي تكون الحرية فيه مفهومة على أنها التحرر من كل إكراه, أو قسوة تحول دون الإنسان وإيمانه أو دون فعله وما يود فعله. إن الخداع الإعلامي هو أخطر أنواع الخداع, لأنه يقلب الحقائق رأساً على عقب ثم يعود ليبثها من جديد كحقائق لا تقبل الشك ولا تجد فيها محلاً للسؤال.
الخطاب المخادع الذي ينتجه مجتمع الإعلام العالمي اليوم هو ما يصور للناس ما ليس لهم به منفعة, على أنه خير صافٍ لهم. وهو الذي ينبئ بأخبار لا قصد لها سوى جعل الناس يؤمنون بآلهة أرضيين من دون الله الواحد الأحد.

إن نقد العقلانية الاقتصادية, باعتبارها قلب العقلانية لا أكثر, يؤدي بدوره - كما يبيَّن سيرج لاتوش(18) – إلى بعث الاعتراف بما هو معقول. فالتحرر من إرهاب العقلي, لا يحرر الخطابة فحسب, بوصفها قاعدة السياسة والديمقراطية, وإنما يحرر أيضاً التعبير الشعري. ويعتبر الهزال مسؤولاً أيضاً وفقًا لـ "بيار تويليه" عن (التضجر الجواني الكبير) حيث تحطمت الحضارة الغربية. ذلك أن عملية إعادة بناء الأخلاق باتت ضرورة لأن القيم المؤسسة للاجتماع الإنساني في عالم القرن الجاري, تستنبت الوحشية والاستلاب في كل مكان من العالم.


(1)-Serge LATOUCHE ,"Les nouveaux maitres du monde", Le monde Diplomatique,  Manière de Voir, 28 Novembre 1995
(2)-ميشيل فوكو, نظام الخطاب, ترجمة محمد سبيلا, دار التنوير, بيروت, ص 10.
(3)-والتر ريستون, القضية والسيادة, مجلة الشؤون الخارجية, العدد 67, 1989.
(4)-روجيه غارودي, ثقافة اللامعنى, فصل من كتاب له بعنوان "الهدّامون". L'Archipel. Les Fossoyeurs 1992. Paris
(5)-المصدر نفسه.
(6)-مارتان لي Martin A.lee, التحالف العسكري الإعلامي, راجع كتاب "نظام التضليل العالمي", ترجمة غازي أبو عقل, دار المستقبل, دمشق ص 63
(7)-راجع مقالتنا "الفضائيات: سباق الفضائح", "النقاد" العدد 33, 27/11/2000.
(8)-إيناسيو رامونيه: ألغاز المطياف هذا الكائن الخرافي المهبطي, من كتاب: "نظام التضليل العالمي" مصدر سبق ذكره.
(9)-جاك دوكورنوا, خضوعاً لأوامر الشمال, لوموند ديبلوماتيك, أيار (مايو) 1991.
(10)-ويليام رو, الاختلاف بين وسائل الإعلام العربية والأميركية "الاتحاد" الظبيانية, 30/1/2002.
(11)-زبيغنيو بريجنسكي, بين عصرين, أميركا والعصر التكنوتروني, دار الطليعة, بيروت. ص 72.
(12)-ميشيل شوسودوفسكي, كيف تصنع المجاعة؟, لوموند ديبلوماتيك, شباط /فبراير 1992, العدد21.
(13)-جيمس كورث, ما تزال أميركا أمة؟, مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق, بيروت, ص 20.
(14)-Joseph S. Nye, Jr. and William A. Owens, "American Information Edge", Foreign Affairs, Issue 106, Spring 1996.
(15)-أنظر تعليقات الصحافة الأميركية في هذا الصدد, وهي تغطي ردات الفعل الداخلية على حرب أفغانستان في سياق التحول الأميركي العام بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر. وظهور مصطلحات جديدة كـ"الدول المارقة" و"محور الشر" و"الحرب على الإرهاب".
(16)-هربرت شيلر, الرعب الإعلامي من شؤون الرئاسة في واشنطن, لوموند ديبلوماتيك, الطبعة العربية – الشهرية – آب/أغسطس1997.
(17)-كريغ تيرنر ,"موظف كندي يلمّح بإمكانية محاربة هوليود تجارياً ," لوس أنجلس تايمز, 11 شباط/فبراير 1997.
(18)-سيرج لاتوش, مصدر سابق.

The moral dimension in contemporary information Subjugating the news and the images to ideologies

The researcher is displaying different suppositions concerning the issue of making the news and the images to get to conclude to a certain dualism based on ideology and information hence between morals and information and consider it as partiality. Consequently, the researcher finds out that contemporary information became a part of the globalization network which is capable of destabilizing the system of values and creating moral crisis. Then the researcher concludes from these facts to the necessity by creating “the law of good manners” to follow the steps of the French analyst Serge Latouche.
Thus, the study of the researcher is incorporated in the direction of the information approach and the system of values.
The researcher concludes that the discussion of this issue in western societies reached the point of putting forward the necessity to create a new system of values through the media based on political morals especially, since he considers that the issue of rebuilding the moral values became a necessity to face the spreading cruelty in contemporary society.

 

La dimension morale dans l’information moderne Soumettre la nouvelle et l’image à l’idéologie

Le chercheur expose les hypothèses de la création de la nouvelle et de l’image pour conclure qu’il existe une dualité entre l’idéologie et l’Information, et par la suite, entre la Morale et l’Information. Il met cette dualité dans le cadre de la partialité. C’est alors que le chercheur trouve que l’Information moderne est devenue une partie du réseau de la mondialisation qui jouit d’une grande capacité à déstabiliser le système des valeurs et engendrer des crises morales. Le chercheur propose la création d’ « une loi de bonne discipline » en suivant l’exemple du penseur français Serge Latus.
C’est alors que l’étude du chercheur s’inscrit dans le cadre de l’approche de l’Information, le système des valeurs, et l’établissement d’un espace global que la société informatique mondiale utilise pour dissocier les systèmes de valeurs ainsi que leur reconstruction.
Le chercheur remarque à la fin que ce sujet est arrivé au sein des sociétés occidentales au point d’étaler la nécessité d’établir un nouveau système de valeurs à travers les médias, et qui repose sur la Morale politique, le chercheur considère que la question de la reconstitution des Morales est devenue une nécessité pour affronter la barbarie répandue dans la société moderne.