رحلة في الإنسان

البكاء ضروري للصحـة فلماذا يحــــــــــرم منه الرجال؟
إعداد: غريس فرح

عندما نبكي تمتزج الدموع بأحاسيس دفينة يصعب التعبير عنها بالكلمات لتشابك دوافعها. وهذه الأحاسيس تتدفَّق مع العبرات المسكوبة إلى خارج الذات، لتؤمِّن الراحة والهدوء، وتُبعِد عن أصحابها عواقب الكبت، وما يُلحقه بالنفس من أضرار.
النساء كما هو معروف، بارعات في هذا النوع من التعبير، لكن ماذا عن الرجال؟ إنهم لا يبكون إلا نادرًا. هل لأن البكاء معيبٌ بحق الرجولة، أم لأن الطبيعة لم تُنصفهم بما فيه الكفاية؟

 

آلية بيولوجية
البكاء كما يؤكِّد العلم، آلية بيولوجية زوّدتنا الطبيعة إيّاها من أجل تفريغ احتقاناتنا الداخلية، الأمر الذي يُجنّبنا الكثير من الأمراض النفسية والعضوية. اما بالنسبة إلى الفروقات المتعلِّقة بمعدَّل انهمار الدموع بين الجنسين، فذلك عائد إلى عاملين أساسيين: الأول اجتماعي - تربوي، والثاني محض بيولوجي.

 

عيب على الرجل أن يبكي؟!
إذا ما أخذنا بالاعتبار العامل الأول، نجد أنه مرتبط بالمفهوم البدائي للرجولة، أي المفهوم الذي يكرّس السيادة الذكورية في المواقف جميعها، ويعيب بالتالي على الرجل إظهار مشاعره باعتباره الأقوى، والملاذ الذي تلجأ إليه المرأة في الأزمات.
على هذا الأساس، ترسَّخت العبارة التي طالما راودت مسامع الشبان في الأوقات الصعبة: «عيب على الرجل أن يبكي». وهكذا اعتاد الرجال على التقوقع وكبت الأحزان، علمًا أن هذه الأحزان قد تكون من النوع الذي لا يذيبه سوى الدموع.
من جهة ثانية، يُشير الإختصاصيون إلى أهمية العامل البيولوجي في تفعيل مقدرة الرجل على كبت مشاعره. وهذا العامل متمثِّل بهرمون البرولاكتين الذي يفرزه الجسم بكثرة في المواقف المثيرة لمشاعر الفرح والحزن على حد سواء. والمعروف أن هذا الهرمون موجود في جسم الرجل بنسبة أقل بكثير من تلك الموجودة في جسم المرأة. ولهذا السبب يتمكَّن الرجال، من ضبط مشاعرهم في معظم الأحيان، بينما تنفجر النساء عمومًا بالبكاء لأتفه الأسباب.
الرجال إذن يبكون بصمت. يكبتون الدموع، يتألّمون ويحزنون. ومنهم من يلجأ إلى المهدئات لتسكين آلامه، بينما يعتاد الآخرون أحيانًا على احتساء كأس من الخمر من أجل التغلُّب على معاناتهم.

 

الكبت يتسبَّب بالمرض
على كلٍّ، يؤكِّد الباحثون أن دموع النساء تساعدهن على محاربة الكثير من الأمراض، هذا إذا ما انسكبت بنسب معتدلة، ولدوافع إيجابية، وإلا فقد تكون مؤشرًا على وجود اضطرابات نفسية.
وبالعودة إلى دور الدموع في التصدِّي للامراض، ثمَّة إثباتات طبيَّة على أن الحزن المكبوت يتسبَّب بعدة أمراض في مقدَّمها تقرُّح المعدة والإمعاء، إضافة إلى أمراض القلب والشرايين والأمراض العصبية والنفسية.
وهنا لا بد من الإستشهاد برأي أحد الأطباء النفسيين القائل: «إن الدموع التي لا تجد لها منفذًا من العيون، تجعل الأحشاء تبكي».
العام 1985، عُقِدَ في الولايات المتحدة الأميركية مؤتمر تحت شعار: «إبك ...تَعِشْ أكثر». وكانت توصيات هذا المؤتمر قد أشارت إلى النواحي الإيجابية للدموع باعتبارها المتنفَّس الطبيعي للإنفعالات الداخلية. كذلك طلبت من الرجال التخلِّي عن التقاليد والفوارق بين الجنسين، وعدم الخجل من الاسترسال في البكاء عند الحاجة.
 

كيف يعمل البكاء على تحسين الصحة؟
البكاء كما تؤكد الدراسات آلية بيولوجية مهمتها إفراز الترسبات الضارة عبر الدموع. والمعروف أن هذه الترسُّبات تتسبَّب بها هرمونات الشدَّة، ومنها هرمون الكورتيزول الضار والمرافق لمؤثرات الضغوط.
والمعروف أيضًا أن البكاء مسكِّن ومهدِّىء طبيعي في المحن. وهذا يعود إلى عدة عوامل منها أن الدماغ يفرز في أثناء البكاء مادة مسكِّنة للألم، ومهدِّئة للأعصاب.
إلى ذلك، فإن نوبة البكاء الحادَّة تسرِّع ضربات القلب وتقلِّص عضلات الصدر والرئتين. وعندما تنتهي هذه النوبة، ويستعيد القلب نبضه الطبيعي، تستريح العضلات، وتحدث شعورًا مفاجئاً بالراحة، ووضوحًا في رؤية تفاصيل المشاكل المسبِّبَة للحزن، الأمر الذي يقود إلى التأقلم معها بشكل تدريجي.
ولا ينسى الإختصاصيون أن البكاء يجلو العينين، وينظِّفهما من الأجسام الضارَّة، والسموم التي تخرج مع الدموع.
البكاء إذن ليس مجرَّد مياه مالحة تخرج من العينين. إنه عملية كيميائية بالغة التعقيد، الهدف منها إحداث تواصل بين الذات والمحيط الخارجي. وإذا ما شئنا التعمُّق أكثر في هذه الآلية يكفي اعتبارها نقطة البداية في تاريخ مطلق إنسان يخرج من دفء الرحم ليواجه قساوة الحياة.