تربية وتعليم

البكالوريا الدولية
إعداد: ريما سليم ضوميط

شهادة لا تراعي الهويّة الوطنية أم جسر عبور إلى مزيد من المهارات؟

 

بعد مضي أشهرٍ على إقرار مجلس النوّاب معادلة شهادة البكالوريا الدولية (IB) بشهادة البكالوريا اللبنانية للتلامذة اللبنانيين، عادت مسألة الشهادة الدوليّة إلى التداول في أوساط الطلّاب الّذين تقدّموا لامتحانات المرحلة الثانوية، بعد أن أرهق البعض منهم عبء المواد المكثّفة المطلوبة للامتحان. وإذ وجد هؤلاء في قرار مجلس النواب فرصة للتفلّت من أعباء الشهادة الرسميّة وما يرافقها من ضغوطات نفسيّة، فإن البعض الآخر اعتبر الشهادة الدوليّة غير منسجمة مع أسس المنهج اللبناني ومقوّماته، مؤكّدًا اختياره المنهج الوطني «على علّاته» مفضّلًا زؤان بلاده على قمح الغريب. ولا يختلف وضع العاملين في الحقل التربوي عن وضع الطلّاب لجهة التضارب في الآراء، حيث يرى البعض أن البكالوريا الدولية شهادة مستوردة تُفقد المتعلّم هويّته الوطنيّة، في حين يؤكّد مؤيّدو هذا المنهج أهميّته في تنمية المهارات النقدية والبحثيّة للمتعلّم وفي بناء جسر بين المدرسة والجامعة.

 

هواجس وتحديّات
تشير رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء بالتكليف الدكتورة ندى عويجان إلى أن برنامج البكالوريا الدوليّة أثبت في كثير من الدول أنّه يسهم في بناء شخصيّة المتعلّم وتوسيع آفاقه ومهاراته، غير أنّه في الوقت نفسه لا يتطابق لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون وأسس التقييم مع المنهج اللبناني، مؤكّدة أن المعادلة بينهما في الوقت الراهن تتعارض مع أهداف التعليم في لبنان. وتوضح أن هناك معوّقات تربوية وهواجس وطنية، وانعكاسات اجتماعية-اقتصادية تعترض هذه المعادلة، وذلك بحسب دراسة أجرتها الهيئة الأكاديميّة المشتركة في المركز التربوي للبحوث والإنماء.

 

تهديد للانتماء الوطني
أولًا، على الصعيد الوطني، تركّز المناهج اللبنانية على الهويّة اللّبنانيّة وفرادتها وعلى قضيّة المواطنة والهويّة الوطنيّة والانتماء العربيّ، في حين أنّ برنامج البكالوريا الدولية يركّز على المواطن العالميّ. وعلى الرّغم من أهمّيّة العولمة، فهناك عدّة تساؤلات تُطرح حول مدى تأثير هذا البرنامج على الانتماء الوطنيّ ومفهوم المواطنة بشكل خاص والانتماء العربي بشكل عام.

 

فوارق أساسية في المواد التعليميّة
أمّا بالنسبة إلى المواد التعليميّة، فهناك فوارق أساسيّة بين المنهجين. فبينما يعتمد المنهج اللّبناني إلزاميّة دراسة تسع موادٍ إلى إثنتي عشر مادّة في كلّ سنة بحسب فروع الشهادة الثانوية، فإن برنامج البكالوريا الدّولية يقوم على ست مواد فقط. كما أن مادتي التاريخ والتربية تدرّسان بطريقة مختلفة، فالأبحاث المدرجة في مادة التربية تتناول القيم العالمية فقط، ما يعني أن الطالب لن يزوّد المفاهيم والقيم الوطنية الغائبة عن البرنامج. كذلك، فإن تاريخ لبنان غائب عن منهج البكالوريا الدوليّة، وعن مواضيع البحث التي يختارها المتعلّم، ولهذا الأمر محاذير كثيرة، إذ أن الأبحاث تخضع لمعايير المصدر المستقاة منه ويمكن أن تؤدّي إلى خلق أفكار وقناعات مختلفة أو مخالفة لمبادئنا وقناعاتنا الوطنية، لا سيّما في ما خص موقفنا من العدو الاسرائيلي.
أمّا على صعيد اللغة العربية، فإن برنامج البكالوريا الدوليّة يفتقر إلى معايير اللّغة المعتمدة في المنهج اللبناني لجهة دراسة النّصوص أو التّحليل، أو تقنيّات الصّرف والنّحو.

 

عدم تكافؤ الفرص
على صعيدٍ آخر، تقول الدكتورة عويجان، يفترض أن تؤمّن المناهج التعليميّة فرص تعليم متساوية لجميع التلامذة، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه في معادلة الشهادتين الوطنية والعالميّة. فالأخيرة قد لا تكون متاحة لجميع الطبقات الاجتماعيّة نظرًا لكلفتها الماديّة العالية، وقد لا يستفيد منها تلامذة المدارس الرسميّة، ممّا يشكّل انتهاكًا لمبادىء العدالة والديمقراطية وتكافؤ الفرص.

 

تعديل المنهج اللبناني
تضيف رئيسة مركز البحوث والإنماء أن البرنامج التعليمي يسهم بشكلٍ كبير في بناء شخصيّة المتعلّم، فإذا اعتمد على سمات المتعلّم العالمي، سوف ندخل في سياسة اللا انتماء، فهل هذا ما نريده لأولادنا؟ من هنا فإننا نعارض مبدأ استيراد الشهادات من الخارج، ونفضّل أن نحتفظ بمنهجنا الوطني على أن نقوم بإدخال برامج رديفة نعمل عليها حاليًا في المركز التربوي، وهي تتضمّن التكنولوجيا والفنون وغيرها من المواضيع التي تسهم في تنمّية مهارات المتعلّم وتمنحه الفرصة التي يستحقّها للتأقلم مع التوجّه العالمي من دون أن يخسر انتماءه الوطني.
 

ما هي البكالوريا الدوليّة؟
انطلق منهج دبلوم البكالوريا الدولية من إنكلترا في العام 1968 ليغطّي السنتين الأخيرتين من المرحلة الثانوية، وهو مطبق في أكثر من ثلاثة آلاف مدرسة في العالم. يمنح هذا البرنامج الطالب الشهادة لدى نجاحه في امتحانات رسمية تجريها منظمة البكالوريا الدولية، في وقت واحد: في أيار لمدارس نصف الكرة الشمالي، وفي تشرين الثاني لمدارس نصف الكرة الجنوبي. أمّا مقاييس التصحيح المعتمدة فهي نفسها في المدارس كلّها.
يجيز الدبلوم لحامله التقدم بطلب الانتساب إلى الجامعات العالميّة مثل السوربون وأوكسفورد وكامبريدج وغيرها. ومن الأسباب التي أدّت إلى إقرار معادلته بشهادة البكالوريا اللبنانية في مجلس النوّاب أنه شهادة ممنوحة من منظمة دولية ولا تتبع لأي بلد ومعتمدة في أكثر من 120 دولة، في حين أن مضمون المنهج المعتمد في هذه الشهادة يساعد في بناء هوية ثقافية متنوعة تحترم القيم الإنسانية العالمية من جهة وخصوصية كل بلد ومصالحه من جهة ثانية، ولا يتعارض مع أهداف التعليم في لبنان.

 

مرونة وشموليّة
ميزة المنهج، بحسب الباحث التربوي، الدكتور رؤوف الغصيني، أنّه يتصف بالشمولية والتوازن والعمق. فمن حيث الشموليّة، يتضمّن البرنامج ست مجموعات تشمل حقول المعرفة الكبرى، ويُلزَم الطالب دراسة مادّة على الأقل من كلٍّ منها: اللّغات (مجموعتان)، العلوم الاجتماعية والإنسانية، العلوم الاختبارية والطبيعية، الرياضيات، والفنون. كما يشمل مقررًا خاصًا باسم «نظرية المعرفة» لتأمين الترابط بين المعارف المتنوعة التي يكتسبها الطلاب في أثناء الدراسة. ويضيف الدكتور الغصيني أن المنهج يتميّز بالقدرة على التوفيق بين الإلزام والاختيار في التعليم، فهو من جهة يلزم الطلاب بدراسة حقول المعرفة الكبرى المذكورة أعلاه، ومن جهة أخرى يفسح لهم المجال في اختيار المادة التي يرغبون في دراستها في كل حقل. وقد يقع اختيار الطالب على مزيج من المواد العلمية والاجتماعية بخلاف المناهج اللبنانية التي تقصر الاختيار على الشُعب بأكملها وتلزم الطالب بالمحتويات كلها، وهذا ما يسميه الغصيني «نظرية السكك التربوية».
المنهج متوازن أيضًا، كما يقول الغصيني، لكونه يوازن بين الحقول الستّة من دون تثقيل أحدها، إلّا إذا شاء الطالب أن يتجه نحو اختصاص معيّن علمي أو لغوي أو إنساني. والمنهج يوفّر التعمّق إذ يدفع الطالب نحو دراسة ثلاث مواد أو أربع على المستوى المتقدم، ما يبني جسرًا مع المرحلة الجامعية. كما أن المقالة البحثية المطوّلة الملزمة لكل طالب تضمن التعمّق في أحد المواضيع وتنمي مهارات البحث والتحليل والتأليف. ويشتمل المنهج أيضًا على مادة معروفة بعنوان مختصر CAS مشتق من العنوان الكامل: Creativity - Action - Service أي إبداع، عمل وخدمة اجتماعية، والهدف منها تنمية الطاقات الإبداعية عبر أنشطة موسيقية ومسرحية ورياضية وكشفية وتنمية التزام خدمة المجتمع.
تضع منظمة البكالوريا الدولية مخططات الدروس مرفقة بأدلة المعلمين وأساليب التعليم وأنواع أسئلة الامتحانات إلى جانب المحتوى الذي لا يختلف كثيرًا عن محتوى المنهج اللبناني، والفرق يكمن في الأساليب بصورة خاصة.

 

خوف غير مبرّر!
في ردّه على المخاوف المطروحة في شأن منهج البكالوريا الدوليّة، يؤكّد الدكتور الغصيني أن لا خوف على اللغة العربية أو غيرها من المواد التعليميّة في برنامج البكالوريا الدولية. فالبرنامج يفرض على التلميذ اختيار لغتين أساسيتين ومن الممكن إلزامه باللغة العربية كواحدة منهما. كذلك، فإن البرنامج الدولي لديه من المرونة ما يكفي للإجازة للمدارس والحكومات اقتراح برامج أو مواد معينة ضمن الإطار العام للمنهج بالتنسيق مع المنظمة الدولية، ما يتيح إضافة مادة التاريخ اللبناني للطلاب اللبنانيين.
من جهة أخرى، يرى الدكتور الغصيني أن ما يثار حول التأثير السلبي على هويّة الطالب وانتمائه الوطني هو غير منطقي، فالطالب الذي اجتاز المرحلة المتوسطة يفترض أن يكون قد نال حصّته من التنشئة الوطنية، وقد كوّن قناعاته الوطنية بحيث أن مسألة انتمائه الوطني تصبح من القيم الثابتة التي لا تتزعزع، وبالتالي فإن التركيز على القيم الإنسانية العالمية في البكالوريا الدولية لا يلغي ما سبق وأن غرس في نفوس الطلاب من مشاعر وطنية وأنّما يعزّزها ويغنيها.

 

استيراد أم إعادة بناء؟
فيما تتأرجح آراء التربويين ما بين مؤيّدٍ ومعارض للبرنامج الدولي، يقف الأهل والتلامذة في حيرة حول ما يختارون، وإذ يختار البعض التخلّي عن المنهج الوطني الذي لم يعد يتماشى مع لغة العصر لمصلحة برنامج مستورد يحاكي تطلعات الطلّاب ويساهم في بناء شخصيتهم، فإن البعض الآخر ما زال يراهن على إمكان إعادة بناء برامجنا الوطنيّة وتفصيل منهج على قياس مبادئنا وحاجاتنا الوطنية، فعسى ألّا يطول الانتظار...