من واقع الحياة

البكماء
إعداد: العميد الركن اميل منذر

تزوّجا وعاشا في قريتنا الجبلية سعيدين ميسوري الحال تحت سقف اكبر واجمل منزل في القرية؛ لكن سعادتهما بدأت تتلاشى وتتحول إلى قلق بعدما مضى على زواجهما أكثر من خمس سنوات ولم يرزقا بولد يملأ حياتهما وينشغلان به.

- هوّني الأمر عليك واصبري قليلاً بعد، قال فارس لزوجته، ثم أضاف: آصبح الطب اليوم يصنع المعجزات ولا بدّ أن ينجح الأمر أخيراً.

صبرت هيفاء طويلاً وهي تتأرجح بين وعود الاطباء وانتظار استجابة السماء لصلواتها وتضرعاتها التي دأبت عليها كل صباح ومساء. وبعدما تقدمت بها السنون وفقدت كل صبر وامل، وبعدما كرهت أحاديث النساء وأدعيتهنّ الجارحة لها والتي كانت تذكرها بأنها امرأة عاقر، سجدت على ركبتيها ورفعت يديها إلى العلاء: «يا رب. في ما مضى كنت أطلب ان ترزقني بصبي ولم تستجب طلبي. الآن اتوسّل إليك أن تمنحني بنتاً. أجل بنت. اقبل بها ولو خرساء لا تستطيع ان تناديني يا ماما. اريدها لأحملها على يدي. لأضمها إلى صدري، لأحبها. أريدها لأشعر بأني أم مثل كل الأمهات». وما لفظت هيفاء كلماتها الأخيرة حتى أجهشت بالبكاء وحنت رأسها كزهرة قصفت الريح ساقها.

وكان ان سمع الرب للمرأة فحملت وولدت بنتاً جميلة راحت تكبر ومعها يكبر قلق ابويها؛ فالطفلة سارة بكماء لا تتكلم.

حملاها إلى أكثر من طبيب ولكن يا للأسف! عاهة الطفلة لا علاج لها ولا شفاء منها.

- هذا نصيبنا يا هيفاء، علينا أن نرضى به، قال فارس ثم أردف مطأطأ الرأس حزيناً: أليس هذا طلبك؟ لقد استجاب الله لك فاقبلي بما رزقك به.

- لماذا لم يستجب عندما طلبت ان يمنحني صبياً؟ قالت أم سارة صارخة غاضبة. لماذا لم يسمع لي عندما رجوته ان يمن عليّ بصبي سليم البنية وسمع حينما قبلت ببنت بكماء؟ لعله كان آنذاك فاقداً سمعه ثم عاد ليسمع من جديد!

- خافي الله يا امرأة. ما هذا الكلام الذي تتفوّهين به!؟

- لا أريد ان أخافه، ولم اعد اخافه. ماذا سيصنع بي اكثر مما صنع؟ يا ليته يميتني لأرتاح مما انا فيه.

- الرب عادل في ما يعطي ولا يعطي. ربما كنا لا نستحق اكثر مما اعطانا إياه وقسمه لنا.

- الرب عادل!؟ الرب عادل!؟ ردّدت هيفاء راسمة على شفتيها ابتسامة ساخرة، ثم راحت تضحك وتقهقه قهقهات مجنونة. وما لبثت أن كفّت عن الضحك لتقطب حاجبيها وتصرخ: أعادل هو وقد رزق جارتنا أم كريم اربعة صبيان وقريبتنا أم عفيف ثلاثة وحرمنا نحن صبياً واحداً ليرزقنا ببنت!؟ وأي بنت؟ بكماء لا تتكلم. هل هذا ما تسميه عدلاً؟ ليحيَ العدل. ليحيَ العدل. ثم نظرت إلى طفلتها الراقدة في حضنها: «وانت أيتها المصيبة، إليك عني». قالت هيفاء ذلك وهي ترفع الطفلة وتلقي بها على السرير. ثم تابعت وهي تنهض وتخرج من الغرفة: لماذا أتيت إلى هذه الدنيا؟ ألتتعذبي وتعذّبينني؟.

ومضت بضعة أشهر وحملت هيفاء من جديد وولدت صبيين توأمين سليمي البنية ففرحت وزوجها بهما فرحاً عظيماً ورجت الله أن يسامحها على ما خطئت به إليه بقلبها ولسانها، ومع ذلك بقي الحزن يستدر دموعها كلما رأت سارة الصغيرة تلعب مع اخويها ولا تستطيع أن تكلمهما إلا بالاشارات.

ومرّت السنون كما يمر الفرح في قلب اليتيم، وأصبحت سارة صبية حسناء لا فتاة في القرية والجوار تضاهيها جمالاً أو تقاربها رقة. وتزوج شقيقاها وسكنا في بيروت وكوّنا عائلتين صغيرتين، أما سارة فبقيت في القرية تعتني بوالديها العجوزين قانعة راضية، لا تنطق بكلمة تذمر واحدة ولا تفارق البسمة ثغرها وشفتيها.

شاخ والدها ولزم الفراش، ومرضت والدتها وضعفت همتها وثقلت حركتها؛ لكن ما كان يضنيها اكثر من المرض ذاك الحزن الصامت القابع في أعماق قلبها الذي راح يذوب حسرة على ابنتها وشوقاً إلى ولديها اللذين لا يزوران القرية إلا في المناسبات الكبيرة.

وعندما عصف الشوق بقلب الام يوماً إلى ولديها واحفادها، نزلت إلى بيروت لرؤيتهم. وما أطل صباح اليوم التالي حتى عادت إلى بيتها الجبلي حزينة الفؤاد دامعة العينين تجرّ قدميها جراً كالجندي المهزوم.

جلست على حافة سرير زوجها مقطبة الجبين والشفتين، وجلست سارة ملتصقة بها قلقة لقلقها تحتجز يد أمها النحيلة بين يديها الطريتين وتسألها بعينيها الحزينتين مئة سؤال وسؤال.

- ما بالك حزينة يا أم عصام!؟ سأل فارس زوجته مضطرباً. لماذا عدت بهذه الحال وبهذه السرعة!؟ هل هناك ما يشغل البال - لا سمح الله -؟

- لا، لا.

- ما الأمر إذاً؟ طمئنيني ارجوك.

- لا شيء.

- أريحي قلبي وقولي ما بك. انك تخيفينني حقاً.

- العجائز مثلنا لا تليق بهم إلا بيوتهم يحتبسون فيها حتى يموتوا فيها. أجابت هيفاء بحزن. ثم رفعت بصرها الى زوجها الناظر اليها بعينين متسعتين ذهولاً، وأضافت: إبننا عصام، لم اشعر في بيته بأنني موضع ترحيب من زوجته؛ وزوجة هشام لم تكلمني لأكثر من دقيقتين سألتني في خلالهما عن الطقس في الضيعة وعما إذا كانت الحفر قد سوّيت في الطريق المؤدي اليها. هكذا قالت هيفاء وابتسمت ثم تدحرجت دمعتان بين تجاعيد وجهها، فوجم فارس وبكت سارة لبكاء أمها.

ومرت سنتان من الزمن، ومات فارس في يوم اشتدّت فيه العاصفة وغطى الثلج تلال القرية وحقولها، فحضر ولداه وزوجتاهما الجنازة ثم غادروا مساء إلى بيروت، ولم يبق في المنزل سوى عجوز تغالب المرض على فراش المعاناة وصبية تطهو وتغسل وتنظف وتحافظ على النار مشتعلة وتقدّم لأمها الدواء بانتظام وتطعمها بيدها وتأوي إلى فراشها بعدما تغفو امها، وتنام مغمضة العينين متنبهة الذهن لتنهض وتحضر إلى سرير تلك الام اذا كلما نادتها لتأتي لها بكوب ماء أو تدثرها بالغطاء جيداً كلما شعرت بالبرد.

وبعدما كثرت طلباتها ذات ليلة واشتدت وطأة الألم عليها وهي جالسة في سريرها وابنتها ساهرة إلى جانبها، أخذت دموع هيفاء تتقطّر من عينيها الغائرتين في وجهها وتسيل حتى شفتيها المرتعشتين. وضعت سارة راحتيها على كتفي امها تهزها برفق وتسألها بعينيها عما بها.

- أنا المذنبة يا سارة. أنا من جنى عليك يا ابنتي. قبل ان تولدي طلبت من الله أن يرزقني بصبي فما استجاب طلبي. رجوته أن يعطيني بنتاً ولو بكماء فأعطاني إياك. لكن الله عاد ورزقني بأخويك. ولكن أين هما الآن؟ إنهما لا يسألان عني. لا يزورانني. اما انت ايتها الحبيبة المسكينة فإنك تقاسين من اجلي، تتعذبين بسببي أنا التي ما اردتك وتمنيت لو لم تولدي.

ساعتئذٍ لم تعد العجوز قادرة على تمالك نفسها فأجهشت بالبكاء وراحت تضرب ركبتيها براحتيها نادبة حالها وحظ ابنتها من حياتها.

التاعت سارة للوعة امها وارادت ان تخفف عنها لكنها لم تستطع أن تعبّر لها بالاشارات. فتحت فمها. حركت شفتيها فإذا بهما تطيعانها: «أمي. إرحمي نفسك ارجوك. إن ما أردته لم يكن ليحدث لو لم يرده الله لي ولك».

- سارة! سارة! أنتِ تتكلمين يا سارة. هتفت الام وفتحت ذراعيها تضم بهما ابنتها غير مصدّقة ما سمعت.

- أجل يا أمي، أجل. أنا اتكلم. أنا اتكلم يا امي. قالت سارة وهي تتلمّس شفتيها بأصابعها المرتجفة، ثم راحت تقفز من الفرح في مكانها: «انا أتكلم يا امي».

رفعت الام يديها وقلبها وبصرها إلى العلاء: «شكراً لك يا ربّ. سامح خطيئتي يا الله. لقد أظهرت لي انك عادل وقادر على كل شيء. الآن أستطيع ان اموت وقلبي مطمئن».

وانكبت سارة على صدر امها باكية من الفرح، وضمّت الام رأس ابنتها تعفّر به وجهها وشفتيها وتغسله بدموعها.