نحن والقانون

البيّنة الشخصية أو شهــادة الشهــود، أنواعها وشروطها وقيمتها في المواد المدنية

أنواعها وشروطها وقيمتها في الموتد المدنية

من المعلوم أنه لا يكفي أن يكون الإنسان على حق ليربح دعواه, بل عليه أن يُثبت هذا الحق, إذ لا قيمة للحق إن بقي مجرّداً عن كل ما يُثبت وجوده. والإثبات هو إقامة الدليل أمام القضاء, وفقاً للشروط المنصوص عنها قانوناً, على واقعة مادية أو عمل قانوني, يُسنَد الى أيّ منهما طلب أو دفع أو دفاع.
من بـين وسائل الإثبات القانونية, تبرز شهادة الشهود, أو ما يُعرف بـالبيّنة الشخصية, وهي من الوسـائل الصادرة عن غير المتداعين, ومـفادها أن يُثبت المتقاضي إدعاءه أو دفاعـه, بإفادة أشخاص يُسميهم, ويدعوهم الى المحكمة لأداء شهاداتهم, في النزاع العالق أمامها, على وقائع غريبة عنهم, وغير متعلّقة بهم شخصياً, ولكن الصدفة شاءت أن يتواجـدوا في مكان أو زمان حصولها.
عالج المشترع اللبناني أحكام شهادة الشهود, في ما يختص بالنزاعات المدنية, في الفصل الخامس من الباب الثالـث من الكـتاب الأول من قانـون أصـول المحاكـمات المدنية.
نستـعرض في ما يلي أبـرز أحـكام شهادة الشهود, لناحية أنواعها, شروط سـماعها, وسلطة القاضي في تقـرير جـدوى سماعها وتقدير قيمتها.

الدعوة للشهادة

قبل البدء بمعالجة هذا الموضوع, لا بد من التوضيح بأن دعوة أحد الأشخاص لأداء الشهادة أمام المحكمة يمكن أن تتم, إما بناءً على طلب أحد فرقاء الدعوى, أو بناءً على قرار المحكمة.
فإذا أراد أحد الخصوم دعوة شخص أو أكثر لأداء الشهادة, فعليه أن يطلب ذلك من المحكمة الناظرة في النزاع, مُسمياً إياهم ومبيّناً عناوينهم, شرط ألا يتجاوز عددهم الخمسة عن الواقعة الواحدة, إلا إذا أجازت له المحكمة ذلك.
أما إذا لم يتقدّم الخصوم بطلب من هذا القبيل, ورأت المحكمة أن سماع الشهود من شأنه أن يفيد في جلاء الحقيقة, فيمكنها أن تقرر, من تلقاء نفسها, دعوتهم للشهادة والإستماع إليهم.
ومن شروط الدعوة الى الشهادة, أن تصل الى الشاهد قبل الموعد المعيّن لحضوره بثلاثة أيام على الأقل, إلا إذا قررت المحكمة تقصير المهلة. علماً أن تخلّف الشاهد عن الحضور في الموعد المحدد, من شأنه أن يعرضه للحكم عليه بغرامة نقدية, وبدفع النفقات الناشئة عن عدم حضوره؛ وللمحكمة أن تدعوه ثانية؛ فإذا بقي مصراً على عدم الحضور, يُحكم عليه بغرامة ثانية, تتراوح بين قيمة الغرامة الأولى وضعفيها. ويحق للمحكمة أن تأمر بإحضاره قسراً بواسطة القوة المسلحة. أما إذا كان الشاهد قائماً بخدمة فعلية في الجيش, فيُطلب إحضاره بواسطة السلطات المعنية المختصة.
ويجوز للمحكمة أن ترجع عن الحكم القاضي بالغرامة, إذا ما أبدى الشاهد المتخلّف عن الحضور عذراً حرياً بالقبول, فتمنحه عندئذ مهلة جديدة للحضور, أو تقرر الإنابة أو الإنتقال لسماع شهادته, أو قد تعدل نهائياً عن سماع هذه الشهادة.
من جهة أخرى, يُحكم أيضاً على الشاهد بالغرامة إذا حضر وامتنع بغير مبرر قانوني عن أداء اليمين القانونية وعن الإجابة, إلا إذا تنازل الخصم الذي سمّاه عن سماع شهادته؛ فالواقع أنه يتوجب على الشاهد, وقبل أداء الشهادة, أن يحلف اليمين على أنـه يشهد بالحـق كلـه, ولا يشهد بسواه, وإلا كانت شهادته باطلة (باستـثناء حالات سمـاع الشاهد على سـبيل الإستئناس, كما سنبيّن في ما يلي).

أنواع الشهادة

الشهادة إما أن تكون مباشرة, أو غير مباشرة, أو مبنية على الخبر الشائع.
● الشهادة المباشرة:
وهي تلك التي تصدر عن شخص رأى أو سمع بنفسه الواقعة المُراد إثباتها, بمعنى أن يشهد بما اتصل بحواسه مباشرة.
● الشهادة غير المباشرة:
وهي تلك التي تصدر عن شخص لم يسمع ولم يرَ بنفسه الواقعة المُراد إثباتها, إنما عَلِمَ بها عن طريق شخص آخر سمعها أو رآها بنفسه.
وهذه الشهادة جائزة ومقبولة قانوناً, كالشهادة المباشرة, وخاضعة لتقدير محكمة الأساس.
● الشهادة المبنية على الخبر الشائع:
ما يقرّب هذه الشهادة من الشهادة غير المباشرة, أنها تصدر عن شخص لم يسمع ولم يرَ بنفسه الواقعة التي يشهد عليها؛ ولكن ما يميزها عنها, أن الشاهد فيها يستمد معلوماته, حول الواقعة المراد إثباتها, من الخبر الشائع في الجمهور, وليس من شخص محدد سمعها أو رآها. لذلك, فهي تفتقر عادة الى الدقة, نظراً لتناقلها من شخص الى آخر؛ وبالتالي, لا يتحمل الشاهد أية مسؤولية شخصية عما يشهد به.
لا تجوز هذه الشهادة إلا في الأحوال التي ينص عليها القانون.

شروط سماع الشهادة

يخضع سماع الشهادة لشروط عدة, نعرض لها تباعاً وذلك في ما يتعلق بالأشخاص الذين تقبل شهادتهم, وبالحالات التي تجوز الاستعانة فيها بشهادة الشهود. تضاف الى ذلك شروط خاصة بالنسبة الى حالة الإستعانة بشهادة الشهود في موضوع لم يُعرض بعد على القضاء.
● الأشخاص الذين تُقبل شهادتهم:
المبدأ أن كل شخص تتوفر لديه معلومات حول الوقائع المتنازع عليها, يمكن الإستماع إليه كشاهد, بدون تمييز بين الذكر والأنثى, أو بين الوطني والأجنبي.
إلا أنه يشترط في هذا الشخص, أولاً أن يكون متمتعاً بالأهلية القانونية لأداء الشهادة, وثانياً أن لا تكون له مصلحة مع أحد الخصوم, وثالثاً أن لا يكون مُلزماً بسرّ المهنة أو الوظيفة أو بأسرار الزوجية.
­ الأهلية للشهادة:
ينص القانون على أنه لا يكون أهلاً للشهادة:
­ من لم يكمل الخامسة عشرة من عمره.
­ من لم يكن سليم الإدراك (كالمجنون والسكران... إلخ).
­ من صدرت عليه أحكام جزائية تُسقط عنه أهلية الشهادة.
بمعنى آخر, يُشترط لقبول الشهادة أن يكون الشاهد قد بلغ الخامسة عشرة من عمره, وأن يكون سليم الإدراك, وغير محكوم عليه جزائياً بموجب حكم يُسقط عنه أهلية الشهادة, إذ من البديهي أن يكون الشاهد ممن يفقهون معنى الكلام, ويمكن الوثوق بهم والركون الى أقوالهم.
­ عدم وجود مصلحة للشاهد مع أحد الخصوم:
إذا كانت للشاهد مصلحة مع أحد الخصوم, امتنع عليه الإدلاء بالشهادة. وبالفعل, ينص القانون على أن لا تُقبل الشهادة بين الأصول (الآباء والأمهات والجدود والجدّات مهما علوا) والفروع (الأولاد مهما سفلوا), ولا بين الزوجين, ولو بعد انحلال عقد الزواج بينهما. كذلك لا تُقبل, تجاه السيّد, شهادة الخدم الملازمين لشخصه, ما داموا في خدمته, ولا شهادة الشركاء في ما يختص بالشركة, ولا شهادة الكفيل في ما يختص بالمكفول (بموجب عقد كفالة).
إن سبب عدم قبول الشهادة في الحالات المذكورة أعلاه هو وجود مصلحة خاصة أو عاطفة مُعينة بين الشاهد والشخص الذي تجري الشهادة لصالحه, الأمر الذي يُخشى معه عدم استطاعة الشاهد الإدلاء بأقواله بتجرد واستقامة وبغير ميل.
إشارة الى أنه, وخروجاً على الأحكام المذكورة آنفاً حول اشتراط الأهلية للشهادة, وعدم وجود المصلحة بين الشاهد وأحد الخصوم, يمكن للقاضي, وعلى سبيل الإستئناس ليس إلا (أي على سبيل المعلومات فقط), أن يستمع الى شهادة مُنعدم الأهلية (كفاقد الإدراك أو المحكوم عليه جزائياً) أو أحد ممن لهم مصلحة مع الخصم. ويتم ذلك من دون تحليف الشاهد اليمين القانونية, خلافاً لما هي الحال في الأحوال العادية. ويبقى مضمون هذه الأقوال خاضعاً لتقدير المحكمة.
­ عدم إلتزام الشاهد بسرّ الوظيفة أو المهنة أو بأسرار الزوجية:
يمنع القانون على من كان خاضعاً لسر الوظيفة أو المهنة أو الزوجية أن يُدلي بشهادته أمام المحكمة.
فبالنسبة لموظفي القطاع العام, ىُمنع عليهم, حتى بعد تركهم الوظيفة (كحالة التقاعد مثلاً أو الإستقالة أو الإقالة... الخ), أن يشهدوا على ما علموا به أثناء قيامهم بوظيفتهم, من أمور لم تكن معدة لإطلاع الجمهور عليها, إلا إذا أذنت لهم السلطة العامة بالشهادة, بناءً على طلب المحكمة أو أحد الخصوم, ويُعطى إذن السلطة للوزير من مجلس الوزراء, وللموظفين من الوزير المختص.
كذلك الأمر بالنسبة الى المحامين والوكلاء والأطباء وغيرهم ممن يلتزمون بسر المهنة, إذ لا يجوز لهم أن يفشوا, ولو بعد انتهاء خدمتهم أو زوال صفتهم, ما علموا به عن طرق مهنتهم أو صنعتهم, من وقائع أو معلومات, إلا في حال كان ذكرها لهم مُفصحاً عن قصد ارتكاب جناية أو جنحة. ففي هذه الحالة الأخيرة, تتغلب مصلحة المجتمع على أي اعتبار آخر.
إلا أن القانون يُلزم هؤلاء الأشخاص الملتزمين بسر الهنة بأن يؤدوا الشهادة على تلك الواقعة أو المعلومة إذا طلب منهم ذلك من أسرّها إليهم, شرط عدم الإخلال بالقوانين الخاصة بهم.
وأخيراً, بالنسبة الى الأزواج, ينص القانون على أنه لا يجوز لأحد الزوجين, ولو بعد انفصالهما, أن يفشي, بدون رضى الآخر, ما أبلغه إليه أثناء الزوجية, إلا في حالة رفع الدعوى من أحدهما على الآخر, أو إقامة دعوى على أحدهما بسبب جناية أو جنحة وقعت منه على الآخر.
● حالات جواز الإستعانة بالشهادة:
الأصل أن الإثبات يتم بالكتابة, أي بـالبيّنة الخطية (سند رسمي أو عادي... إلخ). إلا أن القانون يُجيز الإستعانة, في الإثبات, بشهادة الشهود, أو ما يعرف بـالبيّنة الشخصية, في حالات معينة وضمن شروط ينص عليها.
­ مبدأ الإثبات الخطي وعدم جواز الإستعانة بشهادة الشهود:
لا تُقبل شهادة الشهود لإثبات العقود وغيرها من التصرفات القانونية (كالإيفاء مثلاً), التي تتجاوز قيمتها خمسماية ألف ل.ل., أو التي لا قيمة معينة لها. بمعنى آخر, لا تُقبل شهادة الشهود إلا لإثبات التصرفات القانونية التي لا تتجاوز قيمتها خمسماية ألف ل.ل.
مع الإشارة الى أن الحق يُقدّر باعتبار قيمته في الوقت والمكان اللذين تم فيهما التصرّف القانوني.
كذلك لا تُقبل شهادة الشهود لإثبات ما يُخالف أو يجاوز ما يشتمل عليه سند خطي, مهما كانت قيمة المُنازع فيه, أي حتى ولو لم تتجاوز خمسماية ألف ل.ل.
إلا أن هذه الأحكام (لناحية عدم قبول الشهادة) لا تتعلق بالانتظام العام, ويجوز بالتالي للخصوم أن يعدلوا عن التمسّك بها صراحة أو ضُمناً؛ ولكن رغم ذلك, تبقى سارية ومُلزمة للقاضي, طالما أن الخصوم لم يتنازلوا عن التمسك بها (صراحة أو ضمناً).
أما العبرة في قبول الشهادة, فهي لقيمة الحق المنازع فيه, وليس لقيمة الطلب المُقدم الى المحكمة. ولهذا, لا يجوز الإستعانة بشهادة الشهود, ولو لم تزد قيمة الطلب على خمسماية ألف ل.ل., في أي من الحالتين الآتيتين:
­ إذا كان المطلوب هو الباقي أو هو جزء من حق متنازع عليه, تزيد قيمته على خمسماية ألف ل.ل., وغير ثابت بسند خطي.
­ إذا جزّأ الخصم طلبه أو تنازل عن جزء من حقه, بعد أن طالب به كاملاً, ليجعل قيمة الطلب لا تتجاوز خمسماية ألف ل.ل.
مع الإشارة الى أنه في حال كانت زيادة القيمة على خمسماية ألف ل.ل. ناتجة عن ضمّ الفوائد والملحقات الى الأصل, كان الإثبات بالشهادة مقبولاً.
أما في حال اشتمل الإدعاء على طلبات متعددة ناشئة عن مصادر متعددة, جاز الإثبات بشهادة الشهود في كل طلب لا تزيد قيمته على خمسماية ألف ل.ل., ولو كانت هذه الطلبات في مجموعها تزيد على هذه القيمة, أو كانت ناشئة عن علاقات بين الخصوم أنفسهم, أو تصرفات من طبيعة واحدة؛ ذلك أنه لا يمكن لوسيلة الإثبات المقبولة قانوناً أن تتبدل إذا ما جمع المدعي طلباته في دعوى واحدة, بدل أن يقيم في كل منها (أي طلباته) دعوى مستقلة.
­ الإستثناءات لمبدأ الإثبات الخطي:
خروجاً على المبدأ العام الآنف الذكر, يُجيز القانون الإستعانة بشهادة الشهود, مهما كانت قيمة المنازع فيه, في المواد والحالات الآتية:
* المواد التجارية:
نظراً لكون المعاملات التجارية تقوم على السرعة والإئتمان (الثقة), قرر المشترع تخصيصها بقواعد خاصة, مُتمايزة عن قواعد القانون المدني, وأبرزها قاعدة حرية الإثبات, القائمة على إمكانية الإستعانة بجميع وسائل الإثبات, ومن بينها شهادة الشهود, مهما بلغت قيمة التصرّف المراد إثباته.
فالواقع أن أغلب الصفقات التجارية تتم هاتفياً أو برقياً... إلخ وبالتالي, لا يُعقل أن يُفرض فيها الإثبات الخطي, إذ من شأنه أن يعرقل سير الحركة التجارية.
ولكن لا بد من التمييز بين الإثبات الحاصل بوجه التاجر, والإثبات الحاصل بوجه غير التاجر, ذلك أن مبدأ الإثبات الحرّ ينطبق على الأوّل (أي الإثبات ضد التاجر), وليس على الثاني (أي الإثبات ضدّ غير التاجر), حيث يخضع الإثبات للقواعد العامة (أي تلك المذكورة في الفقرة السابقة: مبدأ الإثبات الخطي).
مع الإشارة الى أن مبدأ الإثبات الحر في المواد التجارية يحتمل بعض الإستثناءات في حالات خاصة, كما هو الأمر بالنسبة للسندات التجارية وبعض العقود التجارية, حيث يُعمل بمبدأ الإثبات الخطي.