ملف العدد

التدخل الأول ومغاوير البحر

 

رجال تزوّدوا ما يكفي لمواجهة جبال من الصعوبات
مرّة أخرى، يدفع الجيش ضريبة الدم الباهظة... خرجوا حاملين «الزوّادة»، وفيها من خير تراب الوطن وشرف السلاح وقوة العزيمة، ما يكفي لمواجهة جبال من الصعوبات.. هيّأوا العدّة وهبّوا إلى الميدان أباة لا يرضون الهوان. تسلّحوا بالعزيمة والشجاعة فاستحقوا بجدارة وسام الفخر والاعتزاز. إنّهم أبطال جيش بلادي، أصحاب القلوب الممتلئة بالعنفوان، والعقيدة القويمة والإرادة القوية. يشهد لصلابتهم الوعر والثلج والبحر، فقد تشرّبوا البطولة من ثديي أمّهاتهم، ومن أجدادٍ صنعوا الحضارات.


فجر جديد عند مغاوير البحر
ها هي خيوط الشمس قد أسدلت الستار عن سواد ليال تفجّعت بالظلم والخوف لتعلن مجيء يوم جديد. ومع بزوغ الفجر، بدأ مشوارنا إلى طرابلس التي كان الجيش يواصل عملياته فيها لتنظيفها من فلول الإرهابيين عقب معركة شرسة سطّر العسكريون خلالها بطولات. كسّر الجيش أنياب الإرهاب بقبضة من حديد، ومرّة جديدة، دافع نسوره عن الأمانة وهم الذين أقسموا على حماية الوطن وبذل الغالي والرخيص في سبيله تحت شعار «شرف، تضحية وفاء».
في طريقي إلى طرابلس، كنت متعطّشة للقاء أولئك الشجعان الذين عشقوا تراب لبنان وتوّج شموخ العز والكرامة هاماتهم.
وصلنا بعد ساعة ونيّف من الانطلاق، القهوة كانت جاهزة لدى مغاوير البحر. حكاية نصرهم باللحم الحي.
تحت أشعة الشمس التي تملأ الأرجاء بالحيوية والنشاط، قررنا الجلوس حيث استقبلنا ملازم أوّل من الفوج، في عينيه بريق العزم وعلى محياه تبدو ملامح الفخر والاعتزاز، والأمل.

 

«نحن نعشق السلام... لكننا لا نخاف الحرب»
يروي لنا الضابط فصلاً ممّا حصل: «كانت المهمة الأساسية الوصول إلى مسجد آل عبدالله بن سعود في التبانة وإلقاء القبض على المجموعات الإرهابية المتحصّنة في الداخل وجمع ما يملكونه من أعتدة عسكرية ومتفجرات عبر اتباع مسلك ثكنة القبة شارع سوريا، مرورًا بشارعي برغشة والحراس».
ويتابع: كثافة السكان في طرابلس وكثرة الزواريب بين المباني الضيّقة الملتصقة بعضها ببعض صعّبت المهمة علينا. كانت دشم الإرهابيين محصّنة، والألغام التي زرعوها تنتشر داخل المباني وعلى رأس كل شارع. اتخذوا من المدنيين العزل دروعًا بشرية، ومنذ اندلاع المعركة، كان هاجسنا الأكبر حماية الأهالي وتأمين ملاذ آمن لهم خارج الأحياء التي تدور فيها الاشتباكات.
«نحن نعشق السلام، لكننا لا نخاف الحرب فمتى دعتنا لبيّنا النداء، كي لا يدنّس أي غاصب أو معتدٍ أرض الكرامة»، كلمات قالها الملازم أوّل بتصميم وثقة، ليخبرنا بعدها أنّ الخبرة التي اكتسبها الجيش في معركة نهر البارد مكّنته من توقّع كيفية تحرّك الإرهابيين. لكن في طرابلس تمّ إدخال ملاّلات للجيش إلى الشوارع تحت نيران الإرهابيين الكثيفة، وفي أي لحظة كان ممكنًا أن تنفجر ملالة وتودي بالكثير من الشهداء، مع ذلك تقدمنا بثبات وما قمنا به عمل بطولي لا يقوم به أي جيش في العالم... على الرغم من كلّ العوائق والصعوبات التي كنّا نواجهها تابعنا التقدم، فالمعركة كانت معركة «قاتل أو مقتول».

 

فنّ إدارة المعارك
عقارب الساعة لم تعد مهمّة ولا نسمات الهواء الباردة التي تتلاعب بشعري نجحت في تشتيت تركيزي، فحماسة الملازم أوّل، جعلتنا نعيش أجواء المعركة.
لم يسقط لفوجنا أي شهيد، إنّما أُصيب البعض إصابات طفيفة لم تحل دون متابعتهم القتال. ويضيف أنّ الفوج يجيد فنّ إدارة المعارك، ويتميّز بدرجة عالية من الاحتراف، والكفاءة، والقوة ورباطة الجأش.
دعسات أقدام تشتت تركيزي، ألتفت إلى الوراء، فألمحه مقبلاً بخطوات ثابتة، إنّه ملازم أول آخر من الفوج، بطل آخر من أرز بلادي، وشاهد آخر على شراسة المعركة، أقف إجلالاً لانتصاره، أُحييه وأنا امتلىء بالفخر، أهنئه بالسلامة فالمعركة تركت أثرًا في قدمه اليسرى.
«المعركة لم تكن بالسهلة لكنّها تكلّلت بالنجاح خلال وقت قصير وقد سيطر الجيش على مخازن أسلحة في التبانة وبحنين والمنية ودخلنا إلى أماكن لم يصل إليها الجيش ولا الدولة من قبل. المواطنون كانوا داعمين لنا فقد تبيّن لجميع اللبنانيين أنهم مدرجون في بنك أهداف الإرهاب، وأنّ «الآخر» أيًا يكن انتماؤه، مُباح دمه ومستباحة حياته».
نسأله: ما الذي يؤرقكم أكثر الآن، فيقول: نخشى أن يعمد الإرهابيون إلى زرع عبوات متفجّرة في المناطق اللبنانية وقرب ثكنات الجيش، وإلى استهدافه بعمليات انتحارية وإطلاق شرارة الفتنة، لكننا واعون للخطر ونحن له بالمرصاد.

 

هدف، فاحتفال فهدف آخر...
ويتابع كلامه قائلاً: العدو لم يكن مجموعة واحدة بل مجموعات مختلفة تنتشر على جميع الجهات وتطوّق تحرّكاتنا، لكنّنا مع ذلك حسمنا المعركة... ترتسم ابتسامة على وجهه، ويخبرنا: كنا نحتفل لبضع ثوانٍ عند إصابة هدف ثمّ نحدّد هدفًا آخر.
كان للمعاون أوّل حصّة في اللقاء، تحدّث بكثير من الحزن والأسى عن رفاق سلاح له من لواء المشاة الثاني عشر سقطوا شهداء في شارع حربا (منطقة التبانة )، غير أنّ استشهادهم زاده قوّة وعزمًا وشراسة. لكن من قاتل بشجاعة في المعركة ولم يرهبه خطر، وقف صامتًا أمام عائلات الرفاق الشهداء. فالصمت هو خير مواساة للعائلة والكلمات تعجز عن التعبير في هذا الموقف المهيب.
ختام اللقاء كان مع جندي أعطته المعركة المزيد من الايمان بأنّ لبنان هو وطن نهائي لجميع أبنائه بمختلف طوائفهم. الجندي يدعو رفاق سلاحه لأن يظلوا على أهبّة الاستعداد للدفاع عن أرض الوطن مهما كانت الأثمان باهظة. وختامًا يقول: للشهداء المجد، ولعائلاتهم الصبر والسلوان، ووعدنا لهم بمتابعة مسيرة النضال تحت جناح المؤسسة العسكرية.
المحطّة الثانية مع الأبطال كانت مع فوج التدخّل الأوّل. وقد أخذ فوج المغاوير على عاتقه مهمّة إيصالنا إلى قيادة الفوج التي تقع على بعد نحو ربع ساعة.
خلال انتقالنا إلى نقطة اللقاء الثانية، تستوقفنا مجموعة من الأولاد لتلقي التحية على مغاوير البحر، يتجوّل نظرنا مع الناس في الشوارع حيث الحياة تستعيد ايقاعها الطبيعي. ضجيج حافلات وازدحام سيارات، ومواطنون يسعون إلى رزقهم.

 

التدخل الأول: السرعة الحاسمة
ها قد وصلنا إلى قيادة التدخل الأوّل الذي ساهمت سواعد شجعانه بتحرير طرابلس، مدينة العيش المشترك، من قبضة الإرهاب. رائحة الشهادة والاستبسال بشرف التي تعبق في جنبات مقرّ الفوج تتغلغل إلى روحي لتوقظ في داخلي الرغبة بالنضال إلى جانب رفاقي بالسلاح.
سرعة تدخّل فوج التدخل الأوّل حسمت المعركة داخل طرابلس، التي كانت تعرف بـ«دولة المطلوبين، كان رهان الإرهابيين جعلها مربعًا أمنيًا يفرضون عليه واقعًا جديدًا، إلاّ أنّ قواتنا فاجأت المجموعات الإرهابية وردّت بقسوة على اعتداءاتها وأوقعت العديد من القتلى والجرحى في صفوف التكفيريين، بهذه الكلمات استهلّ مقدّم من الفوج حديثه عن معركة طرابلس.
ويوضح المقدّم أنّ القطاع الذي كان يتولاه الفوج يمتدّ في منطقة الزاهرية والأسواق القديمة بالإضافة إلى خط تماس مع باب التبانة، كاشفًا أنّ الصعوبة كانت تأمين الحماية لأهالي طرابلس المحتجزين داخل المباني التي اتخذها الإرهابيون ساحة للقتال، والمحافظة على الأبنية في المنطقة الأثرية، وتجنّب إصابتها بالأضرار قدر الامكان.
بكثير من الثقة، يُشيد المقدّم باحتراف الفوج ومهارته وتميّزه بمستوى عالٍ من القدرات القتالية والتكتيك العسكري. ويضيف: «يللي عملو فوج التدخل الأول عمل جبّار بطولي...». رنين الهاتف يستوقف حوارنا، فأغتنم الفرصة لأشبع ظمأي قبل أن نعاود الحديث. ويقول المقدّم: يكمن الخطر حاليًا بأن تكون ثمة خلايا نائمة في طرابلس تستيقظ لتعيد ظلام الإرهاب إلى المنطقة، فنحن كسبنا جولة في حربنا على الإرهاب، وقد تكون هناك معارك أخرى. لذلك نحن دومًا في جهوزية عالية.
وفي كلمة أخيرة يعرب عن إيمانه الراسخ بأنّ الشهادة هي قيمة القيم، هي عزّ وشموخ وكبرياء، وتجسيد للشرف، لا يعلوه شيء في مراتب التضحية والفداء...

 

العسكري يكتشف قدراته في الميدان
ها قد حلّ الظهر بشمس تشرين الدافئة التي تداعب نسيم طرابلس العليل. جولة في حرم فوج التدخل برفقة العناصر التي شاركت في اشتباكات طرابلس بدت أكثر من مناسبة. هناك يروي رقيب أول من سرية التدخل المؤللة الثالثة وقائع اللحظة الأكثر حراجة في المعركة: وقعنا في كمين وأُصيب ضابط السرية، سارعت لإبعاده عن النيران في تلك اللحظة بدا الموت محتّمًا لكننا نجونا...
وإذ أعرب عن ثقته التامة بقدرة المؤسسة العسكرية، أوضح أنّ التدريبات متواصلة ومكثفة ليكونوا دائمًا على جهوزية تامة متى دقّ ناقوس الخطر، «فالرياحة»، بحسب قوله، تؤدي إلى الخمول.
في سرية المدرعات نلتقي مجنّدًا كانت معركة طرابلس أوّل معركة يخوضها، وفيها «تعمّد» مقاتلًا حقيقيًا. يقول: المعركة كانت قاسية مع كثافة نيران معادية، كنا ندرس خطواتنا بحذر وننسّق تحركاتنا مع آمر السرية قبل أن نتقدّم. دخلنا كحضيرة في شارع ضيّق في طرابلس، أصابتني رصاصة في وجهي إلا أنني تابعت القتال إلى أن انهارت قواي، فتمّ إخراجي من المعركة. طلبت بإلحاح من آمر السرية إعادتي إلى أرض المعركة، بعد أن تلقّيت الاسعافات الضرورية، غير أنّه رفض». وباندفاع يكمل المجنّد: «يكتشف العسكري قدراته في الميدان، فيشعر بقوّة هائلة في تلك اللحظة، فلا خوف يهزّه ولا تردّد يهدّده». نبرته القوية قاطعتها غصّة فدمعة حبسها بين رموشه، «وجه أمي لم يفارقني خلال المعركة، فأنا أدرك مدى صعوبة أن تتحمّل خسارتي...».

 

حكاية مجد تُروى واستقلال يُنشد
عقارب الساعة تنذرنا بانتهاء اللقاء مع عناصر الفوج. بحسرة أغادر على أمل لقاء آخر مع حماة الوطن، هم الذين جابهوا الإرهاب وعلى أكتافهم أثقال دولة ركائزها مهدّدة، فأعطوا للبطولة معنى جديدًا. وما بين فوهة بنادقهم وعين الإرهاب، حكاية مجد تُروى واستقلال يُنشد.