التدخّل الدولي الإنساني وإشكالية السيادة

التدخّل الدولي الإنساني وإشكالية السيادة
إعداد: العقيد الركن الياس أبو جودة
دكتوراه في العلوم السياسية - الجامعة اللبنانية. Master II في العلوم السياسية والاجتماعية من جامعة Sorbonne - Paris

مع ازدياد معاناة الأفراد وتعرّض حياتهم للخطر، بسبب النزاعات المسلّحة الداخلية والإقليمية، والجريمة المنظّمة، وانتشار الأسلحة الخفيفة وأسلحة الدمار الشامل، والأعمال الإرهابية، والتي ذهب ضحيتها ملايين الأشخاص، برزت المصاعب أمام المجتمع الدولي لتلبية متطلّبات البشرية وحاجاتها الضرورية.

فقد اصطدمت الحاجة إلى التدخّل الدولي لأسباب إنسانية بجميع مواثيق حقوق الإنسان الدولية والإقليمية وإعلاناتها وعهودها واتفاقياتها ومبادئها، وخصوصًا مبدأي السيادة وعدم التدخّل في شؤون الدول الداخلية المنصوص عليها في هذه المواثيق الدولية والإقليمية[1]. ويقصد بالتدخل الدولي الإنساني التدخّل غير المادي، والتدخّل الذي يستند إلى عمليات إنسانية من قبل منظمات دولية تتطلّب موافقة مسبقة ومشروطة من الدول المعنية، والتدخّل الإجباري لتأمين وصول المساعدات الإنسانية وتوزيعها من قبل الأمم المتحدة مصحوبة بوحدات عسكرية والتي لا تتطلّب موافقة الدول المعنية، والتدخّل الوقائي في إطار الديبلوماسية الوقائية التي تبنّتها الأمم المتحدة منذ العام 1992، والذي يتضمّن التدخّل الإنساني العسكري لحماية حقوق الأفراد.

إنطلاقًا من هذه المعطيات، تطرح عدة تساؤلات حول مفهوم السيادة المطلقة، عندما تكون حياة الإنسان في خطر. هل تشكّل سيادة الدول عائقًا أمام حماية حقوق الإنسان الأمنية والسياسية؟ وهل أن التدخّل الإنساني يطرح إشكالية قانونية وسياسية؟ وكيف يبرز الالتباس في مفهوم الأمن البشري؟ ويبقى السؤال مطروحًا حول الإطار القانوني لحقّ التدخَّل. فمن هي الجهة الدوليّة التي يحقّ لها التدخَّل؟ ومتى وأين وكيف تتدخَّل؟

للإجابة عن هذه التساؤلات، لا بد من الإشارة في هذه الدراسة إلى المراجع والمستندات القانونية الدولية والإقليمية التي يرتكز عليها مبدأ السيادة وعدم التدخّل، وإلى الاستثناءات في هذا المجال، بالإضافة إلى أطر تنظيم التدخّل الإنساني العسكري لمنع أي التباس في هذا المجال.

 

أولأً: الإطار القانوني لسيادة الدول والاستثناءات

ما أهم المواثيق والقرارات والمستندات الدولية والإقليمية، على صعيد القانون أو الفقه أو الاجتهاد الدولي، التي تقرّ بمبدأ السيادة المطلقة للدول من خلال حقّها بالتصرّف بحرّية تامة بشؤونها الداخلية والخارجية، وتحظّر كل تدخّل في شؤون الدول؟ يتصدّرميثاق الأمم المتحدة هذه المواثيق. لكنه ليس الوحيد في هذا المجال، فهناك أيضًا مواثيق المنظّمات الإقليمية، ومواقف اللجان القانونية الدولية، وموقف الاجتهاد الدولي المستند إلى أحكام محكمة العدل الدولية. ويلاحَظ أن مبدأ عدم التدخّل يلقى تأييدًا واضحًا في جميع هذه المستندات والمواقف. ولكن مع تطوّر حقوق الإنسان الأمنية والسياسية، وارتباطها بالسلم والأمن الدوليين، ونظرًا إلى السلطة الاستثنائية التي يتمتّع بها مجلس الأمن في هذا المضمار، فإنّ الحديث عن مفهوم السيادة الكلاسيكي لم يعد أمرًا واردًا، بعد أن طرأت تغيّرات على مهام الأمم المتحدة على صعيد حماية هذه الحقوق التي تقود إلى نوع جديد من التدخّل الذي يعرف بإسم التدخّل الإنساني، أو التدخّل دفاعًا عن الإنسانية[2].

 

1ـ ميثاق الأمم المتحدة وإعلانات الجمعية العامة للأمم المتحدة

أشارت الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، إلى أنّ من مبادئ الأمم المتحدة "عدم التدخّل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما"[3]. كما أبدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اهتمامًا كبيرًا بمبدأ عدم التدخّل، وندّدت بأعمال التدخّل التي تهدّد أسس السلام في العالم وتعكّر صفو العلاقات الدولية. وفي 21 كانون الأول / ديسمبر 1965، أصدرت الجمعية إعلانًا حول عدم جواز التدخّل في شؤون الدول الداخلية وحماية استقلالها وسيادتها. وأتبعته في 24 تشرين الأول / أكتوبر 1970 بإعلان آخر، أعمّ وأشمل، حول "مبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول، وفق ميثاق الأمم المتحدة". وتضمّن "الإعلان" سبعة مبادئ مهمة، أولها مبدأ امتناع الدول، في علاقاتها الدولية، عن اللجوء إلى التهديد بالقوة أو استعمالها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لكل دولة، أو بأي طريقة تتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة. وثانيها المبدأ الخاص بواجب عدم التدخّل في الشؤون التي تكون من صميم اختصاص الدولة الوطني. لقد حظّر إعلان العام 1970 كل تدخّل في الشؤون الداخلية والخارجية لأي دولة، واعتبر كل شكل من أشكال التدخّل السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي مخالفًا للقانون الدولي، وأكّد أن لكل دولة حقًا ثابتًا في اختيار النظام الذي يلائمها من دون أي تدخّل خارجي[4].

 

2- المواثيق الإقليمية

سنكتفي بإيراد ما تتضمّنه مواثيق جامعة الدول العربية ومنظّمة الدول الأميركية ومنظّمة الاتحاد الإفريقي.

أ-  ميثاق جامعة الدول العربية: تنصّ المادة الثامنة منه على أن "تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقًا من حقوق تلك الدول، وتتعهّد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها"[5].

ب- ميثاق منظّمة الاتحاد الإفريقي: تنصّ المادة الثالثة، في البندين الأول والثاني، على "المساواة في السيادة بين جميع الدول الأعضاء"، وعلى "عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء".

ج- ميثاق منظّمة الدول الأميركية: تنصّ المادة 15 منه على أنه " لا يحقّ لأي دولة أو مجموعة دول أن تتدخّل مباشرةً أو بصورة غير مباشرة، مهما يكن السبب، في الشؤون الداخلية لأي دولة"[6].

 

3- مواقف اللجان القانونية الدولية

سيتم الاقتصار على مواقف لجنتين: الأولى، هي لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، حيث ظهر مبدأ عدم مشروعية التدخّل في معظم المشاريع التي أعدّتها حول حقوق الدول وواجباتها أو حول قانون الجرائم الموجّهة ضد سلام البشرية وأمنها. فقد اعتبرت أنّ على كل دولة واجب الامتناع عن أي تدخّل في الشؤون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى، وعن إثارة الاضطرابات الداخلية في إقليم دولة أخرى. وصنّفت في خانة الجرائم ضد السلام، التدخّل في الشؤون الداخلية والخارجية لدولة ما، بواسطة ضغوط إقتصادية أو سياسية بهدف التأثير في قرارها أو الحصول منها على منافع معيّنة. أما اللجنة الثانية، فهي اللجنة القانونية التابعة لمنظّمة الدول الأميركية. ففي العام 1959، وضعت هذه اللجنة دراسة مسهبة تضمّنت قائمة مفصَّلة بالحالات التي تعدّ خرقًا لمبدأ عدم التدخّل في شؤون الدول الأعضاء الداخلية. ومن هذه الحالات:

- الأعمال التي تقوم بها دولة، مباشرة أو غير مباشرة، للاعتراض على تشكيل حكومة داخل دولة أخرى.

- أعمال الضغط التي تمارسها دولة لفرض إرادتها على دولة أخرى بقصد الإبقاء على أوضاع معيّنة فيها، أو فرض أمر واقع عليها، أو الحصول على مزايا وفوائد من أي نوع.

- الإعتراف غير المبرّر بحكومة معيّنة، خلافًا لقواعد التعامل المتعارف عليها في القانون الدولي العام. وهذه الدراسة وضعت للحدّ من صلاحية الولايات المتحدة الأميركية التي لم تتوقّف، منذ صدورمبدأ الرئيس الأميركي جيمس مونرو، في العام 1823، عن التدخّل في شؤون الدول الأميركية الداخلية والخارجية، ثم دول العالم قاطبة[7].

 

4- الإجتهاد الدولي

كان موقف الاجتهاد الدولي، المتمثَّل بأحكام محكمة العدل الدولية، من مسألة التدخّل غير المشروع، واضحًا وحاسمًا منذ 27 / 6 / 1986، أي منذ صدور الحكم المتعلّق بالأنشطة العسكرية وشبه العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة ضد دولة نيكاراغوا. فقد رفضت المحكمة، في هذا الحكم، الاعتراف للولايات المتحدة بأي حق في التدخّل في شؤون نيكاراغوا الداخلية والخارجية، مهما تكن الأسباب. وذكرت أن اختيار هذه الدولة لنظام ماركسي مختلف عن العقيدة السياسية الأميركية لا يمنح الولايات المتحدة حقًا في التدخّل في شؤونها، لأن التدخّل في هذه الحالة، ولهذا السبب، يتناقض مع المبدأ الدولي الذي يترك لكل دولة حريّة مطلقة في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وكانت الإدارة الأميركية، في معرض تبريرها للتدخّل في شؤون نيكاراغوا، قد ادّعت أنها تدخّلت، أولاً، لاستجابة طلب المساعدة المقدّم إليها من الفئات المعارضة في تلك الدولة، وثانيًا، للعمل بمبدأ حقّ الدفاع الجماعي المشروع الذي انتهكته نيكاراغوا، عندما قدّمت أسلحة إلى معارضين في بعض دول أميركا الوسطى، وهدّدت بذلك سلامة الأمن الجماعي الأميركي، وثالثًا، لإكراه نيكاراغوا على تنفيذ الالتزامات التي تعهّدتها أمام منظّمة الدول الأميركية ولم تف بها (مثل إقامة نظام ديمقراطي، وإجراء إنتخابات نزيهة، واعتماد نظام تعدّد الأحزاب). وقد رفضت المحكمة الادّعاءات الأميركية، وبيّنت أن تقديم الأسلحة إلى جماعات معارضة في دول أخرى لا يشكّل عدوانًا بالمعنى القانوني الوارد في الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، ولا يحقّق شروط الدفاع المشروع عن النفس، الوارد في المادة 51 من ذلك الميثاق، حيث أن من أهم هذه الشروط إخطار مجلس الأمن بوجود العدوان فور وقوعه، وتعرُّض الدولة لهجوم مسلّح على جانب من الخطورة. وأكّدت المحكمة أن الإخلال بالتزامات داخلية من قبل دولة لا يمنح الولايات المتحدة حق التدخّل في شؤون هذه الدولة من أجل إكراهها على تنفيذ الالتزامات، وأن النظام السياسي الداخلي لأي دولة، وما ينطوي عليه من انتخابات نيابية أو رئاسية وحرية إعلامية أو حزبية أو نقابية وما إلى ذلك، هو شأن داخلي محض لا يحق لأي دولة أو منظّمة دولية أن تتدخّل فيه[8].

إذا كان المبدأ العام في القانون الدولي والعلاقات الدولية يفرض على الدول والمنظّمات الدولية، التي أصبحت تتمتّع بالشخصية الدولية وتندرج ضمن أشخاص القانون الدولي، عدم التدخّل في شؤون الدول الداخلية، فهل من استثناءات لهذا المبدأ؟ وهل سبق لمجلس الأمن أن تدخّل في شؤون تعدّ من صميم سلطان الدول الداخلي؟

 

5- المعيار السياسي والأمني لتبرير مبدأ التدخّل

بعد أن أصبحت سيادة الدول عائقًا أمام حماية حقوق الإنسان الأمنية والسياسية، وتأمين حاجات البشرية الأساسية، كان لا بد للمجتمع الدولي من تخطّي حاجز مبدأ السيادة. وقد ازداد اهتمام منظّمة الأمم المتحدة بالمشكلات الداخلية لوحدات النظام الدولي، أي للدول، وتجلّى ذلك في:

- قيام المنظّمة بتنظيم الانتخابات العامة أو الإشراف عليها ومراقبتها في بعض الدول.

- إعلان حمايتها بعض الأقليات أو الجماعات المضطهدة.

- إنشاء مناطق آمنة يحظّر تخزين السلاح فيها أو استعماله.

- إشرافها على نزع السلاح أو إيقاف العمليات الحربية أو فرض الهدنة في الحروب الأهلية أو الحدودية.

- سعيها لضمان وصول المواد الغذائية والطبية والمساعدات الإنسانية من كل نوع إلى سكان المناطق المنكوبة أو المعرَّضة للصراعات الداخلية

- مساهمتها، بعد انتهاء الحروب الأهلية، في إعادة بناء هياكل الدولة، ومساعدة مؤسّساتها على النهوض من كبوتها[9]. وأخيرًا في إطار مكافحة الأعمال الإرهابية التي تهدّد الأمن العالمي.

إنطلاقًا من هذا الواقع، رأت دول أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة وخصوصًا دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة: "أن مسألة حقوق الإنسان والأمن البشري، هي مسألة دولية ولم تعد داخلية، ويشكّل انتهاكها تهديدًا للأمن والسلم الدوليين، ولم يعد مقبولاً للدول التذرّع والتخفَّي وراء مبدأ السيادة المطلقة، وأصبح هناك تحوّل في مفهوم السيادة، وليس هناك بعد اليوم سيادة مطلقة بل سيادة نسبية"[10].

وفي هذا السياق، أعلن الرئيس الفرنسي الراحل، فرنسوا ميتران، في أثناء اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في باريس في 30 أيار / مايو1989، "إن وجوب احترام مبدأ سيادة الدولة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، يتوقّف عندما يكون قسم من شعبها ضحية الاضطهاد، ويكون من الخطأ جدًا عدم تقديم المساعدة الإنسانية"[11]. وفي تحليله الأمن البشري، رأى وزير خارجية كندا السابق Liyod Axworthy أن حاجات البشر ومتطّلباتهم أهم بكثير من متطلّبات الدول وسيادتها. فمع جدال الديمقراطيّة في كل مستوياته ومضامينه (الأمن الغذائي، الأمن الصحي، الأمن البيئي)، والحفاظ على سلامة الأشخاص من التهديد العنيف، ينتقل الأمن البشري مباشرة من مسؤولية الدولة إلى مسؤولية المجتمع الدولي. كما أشار إلى علاقة الأمن البشري بالسلم والأمن الدوليين. فمن منظور الأمن البشري يمتدّ الاهتمام بسلامة الشعوب إلى ما وراء الحدود، مع ذلك فإن التركيز على سياسة أمنية أبعد من المواطنين يمكن أن يظهر على أنه نقلة جذرية، وهو امتداد منطقي لمقاربات السلم والأمن الدوليين الحالية. وينص ميثاق الأمم المتحدة على أن الأمن لا يمكن أن تحقّقه دولة منعزلة، وعبارة "السلم والأمن الدوليين" تعني أن أمن دولة ما يعتمد على أمن دولة أخرى.

ومفهوم الأمن البشري يبنى على هذا المنطق، أي أن أمن شعب في جزء من العالم يعتمد على أمن شعب في الجزء الآخر، وبناء نظام أمن عالمي آمن ومستقرّ يتم في الاتجاهين: من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى. وبالتالي، فإن أمن الدول وصيانة السلم والأمن الدوليين يجب أن يتمّ فعليًا على أساس الشعوب الآمنة، ويتطلّب تحقيقه أحيانًا تجاوز الحدود والحواجز القانونيّة للدولة القومية[12]. وفي هذا المضمار، ورد أيضًا في تقرير Axworthy، الحديث عن مفهوم جديد أكثر شمولية هو مفهوم الأمن البشري في مواجهة سيادة الدولة، إنطلاقًا من تأكيد يعتبر أن أمن الأفراد أصبح معيارًا جديدًا لقياس الأمن العالمي، كما أخذ يطبع بطابعه الخاص كل اندفاع في مجال العمل الدولي. وقد ناقش التقرير ممثّلو إحدى عشرة دولة تمثّل جميع المناطق الجغرافية. وينطلق التقرير من ملاحظتين مفارقتين: الأولى "إذا كانت العولمة مزوّدة بعدة مكاسب، فإنها تصطحب بمعاودة للجرائم، والاتجار غير الشرعي، والإرهاب، وانتشار الأمراض، والتراجع في البيئة الملائمة، فتحمّل معها تكذيبًا للفرضية القائلة بأن أمن الأفراد يتأتى من أمن الدولة". والملاحظة الثانية، مفادها أنه بقدر ما تصبح أدوات الحرب معقّدة يكون ضحاياها الأساسيون من المدنيين، وحالة كوسوفو هي المثل الأخير على هذا الأمر"[13]. وقد أثبتت الأمم المتحدة أن المشاكل والأزمات التي تعانيها البشرية، والمرتبطة بحقوق الإنسان، أدّت إلى تراجع مفهوم السيادة التقليدي، الذي لم يعد صالحًا لمواكبة المستجدات والمتغيّرات في عالم اليوم. وأدرك الأمين العام السابق، بطرس غالي، هذا الأمر جيدًا وعبّر عنه في تقريره المقدّم بعد اجتماع القمة لمجلس الأمن في 31 / 1 / 1992، بقوله: "إن احترام صميم سيادة الدولة وسلامتها هو أمر حاسم لتحقيق أي تقدّم دولي مشترك، على الرغم من أنّ زمن السيادة المطلقة الخالصة قد مضى. فالنظرية هنا لم تعد تنطبق على الواقع، ومهمّة قادة الدول اليوم هي تفهّم هذا الأمر وإيجاد توازن على الرغم من حاجات الحكم الداخلي ومتطلّبات عالم يزداد ترابطًا يومًا بعد يوم. فالتجارة والاتصالات والأمور البيئية تتعدّى الحدود الإدارية. ويَكمُن أحد متطلّبات حلول هذه المشكلات في التزام حقوق الإنسان". بدوره شدّد الأمين العام السابق، كوفي عنان، في تقاريره، على سبل معالجة الهموم الإنسانية المشتركة التي تجتاح العالم اليوم، وأشار إلى تأثيرها الواضح في تطوّرمفهوم السيادة[14].

وفي غياب أي مستند قانوني في القانون الدولي يبرّر شرعية التدخّل الإنساني، شكّلت القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، بمبادرة من فرنسا، رقم 43 / 131 في 8 كانون الأول / ديسمبر 1988، ورقم 45 / 100 في 14 كانون الأول / ديسمبر 1990، "حول حق المساعدة الإنسانية لضحايا الكوارث الطبيعية والأوضاع الطارئة"، بداية تحوّل في تجاوز مبدأ عدم التدخّل في شؤون الدول الداخلية، على الرغم من أنها تفترض موافقة حكومات الدول المعنية واحترام سيادتها[15]. وهذا التطوّر في حق الضحايا في المساعدة والعون الإنساني، وواجب الدول الاعتراف بدور المنظّمات الدوليّة الإنسانية غير الحكومية وتسهيل مهامها في هذا المجال، قد طرح تساؤلات حول القانون الإنساني الجديد الذي يفرض تدخلّاً لمساعدة المنكوبين والضحايا من دون أن يتنكّر للسيادة. فالأمر يقتضي وضع مدى قانوني جديد يربط على نحو وثيق شرعية التدخّل الإنساني ومبدأ استقلال الدولة الأساس وعدم خضوعها لإرادة خارجية[16].

لقد شكل القراران اللذان بادرت إليهما الأمم المتحدة الإطار القانوني للتدخّل الإنساني بموافقة مسبقة ومشروطة من الدول. وقد ترجم ذلك عملانيًا في العديد من الدول المنكوبة في آسيا وأفريقيا وغيرها جرّاء الزلازل والفيضانات، من خلال تقديم أعمال الإغاثة والمساعدة الإنسانية. وقد أفسح ذلك في المجال لاحقًا أمام صدور قرارات جديدة من مجلس الأمن ذات طابع إلزامي، شكّلت تطوّرًا في حق التدخّل الإنساني وسابقة خطيرة على تجاوز مبدأ السيادة، ينصّ على وجوب إيصال المساعدات الإنسانية من قبل المنظّمات الدوليّة وضرورة مواكبتها بقوة عسكرية، من دون الوقوف على موافقة الدولة المنكوبة. ومن القرارات التي سمحت بالتدخّل الإنساني، وألزمت الدول السماح للقوات الدوليّة بتأمين وصول المعونات الإنسانية إلى ضحايا النزاعات المسلّحة الداخلية والمضطهدين من السلطة الحاكمة، القرار 668 الصادر عن مجلس الأمن في 5 نيسان / أبريل 1991، الذي دان عملية قمع المدنيين في أنحاء كثيرة من العراق، بما فيها مناطق وجود الأكراد في شمال العراق، كما فرض على النظام العراقي وضع نهاية لعملية القمع من دون تأخير. وأصرّ على السلطات بوجوب السماح للمنظمات الإنسانية الدوليّة بالوصول إلى جميع المنكوبين الذين هم في حاجة إلى مساعدة في جميع أنحاء العراق، وسمح لقوة عسكرية مشتركة من الأميركيين والإنكليز والفرنسيين بالمساهمة في عمليات إيصال المعونات وإنقاذ الأكراد في حزيران / يونيو 1991 [17].

وتكرّرت قرارات مجلس الأمن التي تولي احترام حقوق الإنسان أهمية قصوى وأولوية، والمرتبطة بعمليات تدخّل إنساني عسكري لتأمين وصول المعونات الإنسانية وضمان أمن السكان. منها، على سبيل المثال، القرار رقم 794 في 3 كانون الأول / ديسمبر1992، المتعلّق بالصومال الذي أعطى قوة دوليّة أميركية قوامها 28870 عنصرًا، الضوء الأخضر لتدخّل فوري واستثنائي، لإيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة التي تعيش أزمة إنسانية، في ظلّ انهيار الدولة وتقاتل الفصائل المتناحرة في ما بينها. ومن ثم في الموزامبيق والبوسنة في العام 1993، بهدف مساعدة النازحين وحمايتهم، وجيورجيا (1993)، وآذربيجيان لمساعدة الأقلية الأرمينية في كاراباخ (1993)، وفي أنغولا في العامين 1993 - 1994، وفي ليبيريا (1993)[18]. أضف إلى ذلك في السودان، إذ بعد اندلاع القتال بين الميليشيات العربية الموالية للحكومة، والأفارقة السود في إقليم دارفور، والذي ذهب ضحيته عشرات الآلاف من المدنيين ونزوح نحو 130000 إلى الدول المجاورة، وتشرّد نحو 900000 شخص داخل السودان، أصدر مجلس الأمن عدة قرارات في هذا الشأن، بدءًا بالقرار 1547 (11 حزيران / يونيو 2004)، والقرار 1556 (30 تموز / يوليو 2004)، والقرار 1564 (18 أيلول / سبتمبر 2004)، والقرار 1574 (29 تشرين الثاني / نوفمبر 2004)، والقرار 1558 (10 آذار / مارس 2005)، والقرار 1588 (17 آذار / مارس 2005)، والقرار 1590 (24 آذار / مارس 2005)، والقرار 1591 (29 آذار / مارس 2005). هذه القرارات تجيز للاتحاد الأفريقي نشر قوة دولية للحماية، وقوة للشرطة، ومراقبين عسكريين، لضمان حماية المدنيين من الصراعات المسلّحة، وحماية موظفي المساعدة الإنسانية والأمم المتحدة. كما تدعو هذه القرارات جميع دول أطراف الصراع في دارفور إلى التعاون الكامل مع بعثة الاتحاد الأفريقي، والسماح للأمين العام بإنشاء لجنة تحقيق دولية لتحديد الأفراد في الميليشيات المتصارعة الذين ارتكبوا جرائم ضدّ الإنسانية وإحالتهم على المحكمة الجنائية الدوليّة[19]. أما في ما يتعلّق بقضية ليبيا، فقد صدر عن مجلس الامن القرار 1973 في 17 آذار / مارس 2011 الذي ينصّ على اتخاذ الاجراءات اللازمة لحماية المدنيين الليبيين من الهجمات التي يشنّها النظام لسحق الثوار. وفرض القرار منطقة حظر طيران فوق ليبيا، وهو ذهب إلى ما هو أبعد من حظر الطيران، ليدعو إلى توجيه ضربات إلى قوات القذافي التي تحاصر المدن التي يسيطر عليها الثوار[20].

في المقابل، لم تكن نتيجة جميع تدخّلات مجلس الأمن بحجم الآمال المعقودة. فقد فرض على أكراد العراق حظر من كل نوع، وأدّى ضعف السلطة المركزية في الشمال إلى شيوع عدم الاستقرار السياسي، واندلاع الصراعات الدامية بين الحزبين المتنافسين (الإتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني)، وانتهاك حقوق الإنسان من جانب الفريقين. ومثّل استمرار الحصار الاقتصادي على العراق إنتهاكًا فاضحًا لحقوق الشعب العراقي، وخرقًا للمعايير والمبادئ الدولية، فقد استخدم الدواء والغذاء أداة للضغط أو الابتزاز السياسي. ومن المفارقات المثيرة أن الولايات المتحدة لا تتوانى عن اتهام النظام العراقي بالإساءة إلى حقوق الأكراد، في حين أنها لم تعترض على توغّل تركيا في عمق الأراضي العراقية بحثًا عن قادة حزب العمال الكردستاني. وتدخّلت القوات الدولية في الصومال بقيادة الولايات المتحدة، بذريعة أن هدفها هو الدفاع عن حقوق الإنسان وإعادة الاستقرار إلى البلاد، إلا أن تصرّفاتها أفضت إلى انتهاك حقوق الإنسان. وأدّت هيمنة الولايات المتحدة على عملية التدخّل، إلى حدوث العديد من الانشقاقات والخلافات بين أجنحة القوات الدولية. وأسفر الصراع على قيادة هذه القوات بين واشنطن والأمم المتحدة إلى ظهور تضارب في الأهداف واستخفاف بأرواح الأبرياء وابتعاد عن المهمة الدولية التي برّرت التدخّل[21].

إن جميع هذه التدخّلات العسكريّة الإنسانية التي جرت تحت غطاء الشرعية الدوليّة لتأمين وصول حاجات الإنسان الأساسية، ورغما عن إرادة الدولة صاحبة السيادة على أراضيها المنكوبة، والتي تمت ضمن ظاهرة التدخّل الوقائي العسكري لحماية المدنيين، قد أثارت جدلاً بين الدول الأعضاء داخل منظّمة الأمم المتحدة. وتناول الجدل ظروف التدخّل العسكري الإنساني وكيفيته وزمانه وحدوده ودوافعه وأبعاده وقانونيّته. فأولوية حقوق الإنسان على سيادة الدولة شكّلت التباسًا، فكيف يبرز الالتباس في تطوّر حق التدخّل الإنساني؟

 

ثانيا: الالتباس في مفهوم التدخّل الإنساني العسكري

شهد التدخّل الوقائي نموًّا وتطوّرًا في سياق الديبلوماسية الوقائية التي تبنّتها الأمم المتحدة منذ العام 1992، بمبادرة من فرنسا والمنظّمات الدوليّة الإنسانية غير الحكومية، بهدف تحقيق أمن الأفراد. وقد بدأت ملامحه تترجم عملانيًا على أرض الواقع في حقبة الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي. حيث تم إنشاء جهاز إنذار مبكر يضمّ مؤسسات الأمم المتحدة، (لجنة حقوق الإنسان وبقية اللجان المنبثقة من المجلس الاقتصادي والاجتماعي وهيئة تقصّي الحقائق)، والمنظّمات العاملة في الحقل الإنساني والبيئي (الصليب الأحمر والهلال الأحمر الدولي، بالتعاون مع الهيئات الإقليمية والوطنية، ومنظمتا أطباء بلا حدود وأطباء العالم، منظّمة العفو الدوليّة، ومنظّمة السلام الأخضر). مهمة هذا الجهاز مراقبة تطوّر الأحداث والنزاعات، والإفادة مسبقًا عن الأخطار التي قد تهدّد البيئة، والكوارث الطبيعية، التطهير العرقي أو الأثني، تهجير السكان الكثيف، الجرائم ضد الإنسانية، الإبادة الجماعية، إنتشار الأوبئة والمجاعة، كما يعمل هذا الجهاز على اتخاذ التدابير الوقائية الملائمة المستعجلة كانتشار وقائي للقبّعات الزرق، التدخّل الديمقراطي الوقائي، التدخّل الوقائي لمحاربة الاتجار بالمخدّرات. وبعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2011، برز منحى جديد ألا وهو التدخّل الوقائي لمحاربة الإرهاب لتجنّب الأزمات الداخلية والدوليّة، ومعالجة المسائل الإنسانية المهدّدة للسلم والأمن الدوليين، والحدّ من الخسائر البشرية الناجمة عن المجازر والإبادة الجماعية والكوارث الطبيعية والإرهاب[22].

هذا المفهوم الجديد في العلاقات الدوليّة المعاصرة لـ "التدخّل الإنساني الوقائي"، الذي يجيز التحرّك المسبق واستخدام القوة العسكريّة لضمان أمن السكان، يعطي حقوق الإنسان الأولوية على الإجراءات الرادعة التي تكون من صميم سلطان الدولة الداخلي (كالسيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية). وقد أدّى إلى ردود فعل دوليّة متباينة ومتناقضة بين الدول المتطوّرة في المجتمع الغربي من جهة، وروسيا والصين ومجمل الدول النامية من جهة أخرى، تناولت شرعية التدخّل الدولي الإنساني وقانونيته وجدواه وتوقيت حصوله، ومن يتدخّل، وكيف؟

ثمة رأي يرى أن مدى انتهاك حقوق الإنسان هو الذي يفرض هذا التدخّل للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وتوخيًا لوضع حدّ لتعسّف الحكومة القائمة. في المقابل، تنطلق مواقف أخرى من مبدأ السيادة، وتحذّر من مغبّة الدوافع السياسيّة التي قد تحرّك مجلس الأمن الدولي للتدخّل في منطقة معيّنة من العالم. وترى أن التدخّل الوقائي العسكري قد استخدم كذريعة وأداة للتدخّل الشرعي من قبل الدول الكبرى وخصوصًا الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، من دون إيجاد حلول جدّية للمشاكل التي تواجهها الإنسانية[23]. ولا بدّ من ذكر بعض التدخّلات العسكريّة التي تمّت بإسم الحفاظ على حقوق الإنسان وأثارت التساؤل والشكوك بين دول الأطراف المتناقضة، وأهمها حروب كوسوفو، أفغانستان، العراق وليبيا.

 

1- حرب كوسوفو

لم تتوان الإدارة الأميركية، في عهد الرئيس كلينتون وبإسم التدخّل الإنساني، عن استخدام حلف شمال الأطلسي، الذي أعدّ أكثر من نصف مليون جندي، وأكثر الأسلحة تطوّرًا من مئات الطائرات المقاتلة الحديثة المزوّدة أجهزة تصويب دقيقة وقنابل ذكية، لشنّ حرب جوية مسبقة على يوغوسلافيا الجديدة في ربيع 1999، قبل صدور قرار مجلس الأمن، لإضفاء الشرعية الدوليّة على التدخّل في كوسوفو. وكان هذا التدخّل ردًّا على أعمال التطهير العرقي للأقلية الألبانية التي قام بها الصرب في إقليم كوسوفو داخل جمهورية صربيا. في المقابل، رأى بعض الدول أنّ التدخّل الإنساني العسكري قد أدى إلى زيادة الخسائر المدنيّة الضخمة من كلا الجانبين الألباني والصربي، متخطيًا محظورين كبيرين في السياسة الدوليّة، سيادة الدولة ومواثيق الأمم المتحدة. كما أن التدخّل حصل من أجل تحقيق أهداف استراتيجية في المنطقة. وقد قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت في 9 كانون الأول / ديسمبر 1998، "إنه لا يمكن انتظار إتخاذ القرار من مجلس الأمن للتدخّل. إنّ حلف شمال الأطلسي من شأنه أن يتمتّع بصلاحيات حفظ الأمن والسلم الدولي، ومواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، وذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة قدر الإمكان. ولكنّ حلف شمال الأطلسي لا يمكنه أن يكون رهينة اعتراض هذا البلد أو ذاك على عملياته. فقوّة الحلف هي في قدرته على التحرّك من تلقاء ذاته".

كما أن هذه الحرب، قد فتحت مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدوليّة، إذ إنها أعلنت بزوغ فجر نظام عالمي جديد. كانت الأهداف المباشرة للحملة الأطلسية تأمين حماية سكان كوسوفو والحدّ من الخسائر البشرية، لكن تبيّن من نتيجة الضربات الجوية المكثّفة، سقوط عدد كبير من الضحايا بين المدنيين، وتدمير البنية التحتية الاقتصاديّة والمنشآت الحيوية. كما اتضح لاحقًا أن الأرقام والمعطيات التي تم تسريبها للرأي العام، تبريرًا للحملة العسكريّة الأطلسية، كانت مضخَّمة جدًا. ففي حين أعلنت المحكمة الجزائية الدوليّة ليوغوسلافيا السابقة أن مجموع الضحايا من كلا الجانبين لم يتعدّ 2018 قتيلاً عشية الحرب، فإنّ هذه الأرقام تضاعفت مباشرةً قبل الحملة 50 مرة على لسان وزير الدفاع الأميركي، و250 مرة على لسان الناطق الرسمي بإسم وزارة الخارجية الأميركية. وهذا ما ردّده أيضًا المسؤولون في ألمانيا وبريطانيا، وتناقلته وسائل الإعلام المختلفة[24].

وقد أشارت روسيا والصين وغيرهما من الدول المعترضة على الحملة العسكرية، إلى أنّ الأهداف البعيدة لحلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة الاميركية تتجاوز هذه الحالة العرقية لتطال بلاد البلقان، التي تضمّ، إلى يوغوسلافيا السابقة، كلاً من ألبانيا ورومانيا وبلغاريا. بعبارة أخرى يهدف الحلف إلى تحطيم خطوط روسيا الحالية الدفاعية الأمامية المستهدفة في أمنها واقتصادها وربما في اتحادها الفيديرالي، هذا بالإضافة إلى تطويقها. وثمة محاولات حثيثة لإخضاع الجبل الأسود وإخراجه من دائرة الاتحاد مع صربيا، وضمّ ثلاث دول من أوروبا الشرقية إلى حلف شمال الأطلسي (تشيكيا، بولونيا، المجر). وتنتظر دول أخرى مثل بلغاريا ورومانيا دورها. كذلك، تهدف هذه الحملة إلى التأثير في مسار النظام العالمي لجهة إدارة الأزمات الدوليّة، وتوسيع مهام حلف شمال الأطلسي على مجمل الأراضي في أوروبا والشرق الأوسط، وتعزيز دوره أمنيًا وسياسيا على دور الأمم المتحدة ومنظّمة الأمن والتعاون الأوروبي المعلنة في العام 1996. وبالتالي، فإن ثمة تساؤلات من صربيا وروسيا حول الغرض من التدخّل الإنساني العسكري واستباحة المواثيق الدوليّة. إن كلفة حرب كوسوفو، التي قُدِّرت بمليارات الدولارات، كما أشارت الإدارة الأميركية، لم تكن فقط من أجل مسلمي كوسوفو، بل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة[25].

في المقابل، ثمة طروح مناقضة من الدول الأوروبية والأمم المتحدة. وفي هذا السياق، "إعترف الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان، بأن ما حصل في كوسوفو مخالف لمبادئ الأمم المتحدة وقراراتها، لكنه رأى أن أولوية حقّ التدخّل الإنساني تستوجب إعادة مراجعة بعض هذه المبادئ". وفي إعلان يصدر للمرة الأولى عن أمين عام للأمم المتحدة، يشير كوفي عنان إلى وجود مفهومين للسيادة حاليًا، ويضيف: "أظهرت لنا الإبادة في رواندا فظاعة نتائج عدم التحرّك، إذ ارتكبت مجازر جماعية. ولكنّ النزاع في كوسوفو طرح أسئلة مهمة أيضًا حول نتائج عمل قائم على التدخّل، ولكن من دون وفاق دولي ولا سلطة شرعية بيّنة". ولقد ألحّ الأمين العام على الحاجة إلى وضع تعريف جديد وأوسع من التعريفات السابقة للمصلحة الوطنية، بحيث يتاح المجال للدول أن تتّفق في مسعاها لإيجاد أهداف وقيم مشتركة"[26]. يستنتج أن حرب كوسوفو طرحت تساؤلات متباينة بين الدول حول جدوى التدخّل الإنساني العسكري، فهل كان للحملة العسكرية على أفغانستان أبعاد مماثلة؟

 

2- حرب أفغانستان

مرة جديدة يعود أمن الأفراد إلى دائرة الاهتمامات العالمية تحت وطأة الإرهاب. وخصوصًا بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2011، التي وقّعت في الولايات المتحدة الأميركية، وذهب ضحيّتها آلاف المواطنين، ووجهت فيها أصابع الاتهام إلى تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن ونظام طالبان. وانطلاقًا من مبدأ التعاون العالمي في التعامل مع ملف الإرهاب، تضافرت الجهود الدوليّة من منظّمات دولية وإقليمية وخصوصًا الأمم المتحدة، من أجل تغطية التدخّل العسكري وتشريعه لوضع حد للهجمات الإرهابية المهدّدة للأمن الإنساني والأمن والسلم الدوليين. فصدرت قرارات متعدّدة من مجلس الأمن، تجيز حقّ الولايات المتحدة في الدفاع عن النفس بسبب تعرّضها لاعتداء إرهابي. وأمّنت هذه القرارات الدوليّة الغطاء الشرعي للولايات المتحدة الأميركية لشن حربها على الإرهاب، ودعت دول العالم إلى الانضمام إليها في حربها العالمية، وإلا عدَّت داعمة للجماعات الإرهابية. وقد نجحت الولايات المتحدة في حشد التحالف الدولي لدعم حملتها العسكريّة ضد أفغانستان، وإطاحة نظام طالبان وتنظيم القاعدة وتعقّب أعضائه في معظم دول العالم. في المقابل، رأى بعض الخبراء الاقتصاديين في الدول النامية، أنه لا يمكن إخفاء الأبعاد الرئيسة للحرب الأميركية على أفغانستان تحت ستار مكافحة الإرهاب، والمتمثّلة بالهيمنة على مصادر النفط، نظرًا إلى أهمية موقع أفغانستان الجغرافي في قلب آسيا، التي لا تبعد سوى بضع مئات من الكيلومترات عن منابع النفط في الشرق الأوسط وبحر قزوين[27].

لقد شكّلت أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2011 منعطفًا جديدًا لمكافحة الإرهاب من حيث الوسائل المستخدمة والانعكاسات المباشرة لاستخدام هذه الوسائل. قبل هذا التاريخ كانت مكافحة الإرهاب تجري عن طريق الاتفاقيات الدوليّة، أما بعد هذا التاريخ فقد أخذت مكافحة الإرهاب شكل التدخّل العسكري المباشر من قبل الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها في هذا المجال. تم ذلك حينًا ضمن إطار الشرعية الدوليّة، كما جرى في أفغانستان وخارجها، وحينا آخر خارج إطار الشرعية الدوليّة، كما حصل في العراق. وهذا ما استدعى بعض الدول للمطالبة بالتزام قواعد القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني في محاربة الإرهاب. واعتبرت هذه الدول أنه إذا كان الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره أحد أخطر التهديدات التي تواجه الأمن العالمي، فلا يجوز، في المقابل تحت هذه الذريعة، إنتهاك حقوق الإنسان ومبادئه ومواثيقها وقواعد القانون الدولي الإنساني، كما يحصل في كوبا مع معتقلي غوانتنامو (ميليشيا حركة طالبان، وأعضاء تنظيم القاعدة). إضافةً إلى الإجراءات الاحترازية والمتشدّدة التي تتخذها الولايات المتحدة مع المواطنين الأجانب الذين يدخلون أراضيها[28].

 

3- حرب العراق

لقد شكّلت هذه الحرب منعطفًا جديدًا في السياسة الدوليّة لمكافحة الإرهاب، وكانت أحد أسباب الخلاف الدولي الرئيسة، وخصوصًا بين معظم دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين ومعظم الدول الناشئة والنامية من جهة، والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة ثانية، حول قانونيّة هذه الحرب وأبعادها الاستراتيجية، وأصول استخدام القوة العسكريّة وكيفية استخدامها للحفاظ على حقوق الإنسان، وعدم تخطّي مبدأ سيادة الدولة بصورة مطلقة. فقد سعت الإدارة الأميركية، مع المحافظين الجدد في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، إلى إعطاء التدخّل العسكري الإنساني مفهومًا جديدًا، يقوم على ضرورة توجيه ضربات عسكرية إستباقية لدولة ما، إذا وجدت أو لم توجد لديها النية والاحتمال بالقيام بأعمال إرهابية تجاه الطرف الآخر، من شأنها أن تهدّد أمن المواطنين حيث وجدوا على الكرة الأرضية. وهذه الحروب الاستباقية، التي ترافقت مع تطوّر حق التدخّل الإنساني، تخطّت إطار الشرعية الدوليّة، وشكّلت التباسًا في جدواها وأهدافها بين الدول المتنازعة[29].

وهذا ما حصل واقعيًا، إذ ادعت الولايات المتحدة أن العراق يفرض تهديدًا على أمنها والأمن العالمي. وهذا التهديد، حسب ما تزعم، خطير إلى حدّ يتطلّب توجيه ضربة عسكرية إستباقية لحمايتها والمجتمع الدولي على نطاق أوسع، وحجتها في ذلك أن العراق ما زال يمتلك أسلحة دمار شامل، وبإمكانه تزويد المنظّمات الإرهابية بها، وأن نظامه متواطئ مع تنظيم القاعدة المسؤولة عن تدمير رموز الولايات المتحدة الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة، إضافةً إلى عدم امتثاله للقرارات الدوليّة[30]. هذه الادعاءات كانت محطّ شكوك دولية، إذ أعلن الاتحاد الأوروبي في قمته الاستثنائية التي انعقدت في بروكسيل، "إن التضامن الأوروبي مع واشنطن لمحاربة الإرهاب، لا يعني إعطاء صك على بياض لأميركا للقيام بما يخدم مصالحها، كما أن غالبية الدول الأوروبية لن تنضم للتحالف الذي تدعو إليه الإدارة الأميركية للتصدّي للإرهاب من دون تحديد مسبق للعدو ومن دون معرفته المبنية على إثباتات"[31].

كما أشارت غالبية الدول النامية إلى أن استخدام القوة العسكريّة، واحتلال العراق خارج إطار الشرعية الدوليّة، كان من أجل أهداف أمنية وسياسية وإقتصادية. وهذه الخطوة كان لها آثار سلبية معاكسة على الوضع الإنساني والاجتماعي والاقتصادي في العراق والمنطقة والعالم، وعلى دور منظّمة الأمم المتحدة وصدقيتها في المستقبل للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وصلاحيتها بالسماح بالتدخّل الإنساني العسكري وفق ميثاقها، وأخيرًا على مبدأ سيادة الدول واستقلالها، ومبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني[32].

في هذا السياق، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، وكذلك مندوبو دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وغيرها، أن الحرب على العراق غير مشروعة لعدم انسجامها مع ميثاق الأمم المتحدة، لأن ما من قاعدة قانونيّة تبرّر هذا الهجوم. فالمادة 51 التي تجيز حال الدفاع عن النفس، ردًا على هجوم مسلّح، لا تنطبق على الوضع في العراق أسوة بالحالة في أفغانستان، لعدم وجود براهين وأدلّة دامغة تؤكّد علاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة وأحداث 11 أيلول / سبتمبر 2011، وإمكان تزويد هذا التنظيم بأسلحة دمار شامل. هذه الحرب أدّت إلى الفوضى في النظام الدولي، وليس إلى توفير الأمن والسلم الدوليين[33]. كما أن اللجوء إلى استخدام القوة العسكريّة، تحت عنوان التدخّل الديمقراطي لتحرير الشعب العراقي من استبداد النظام الديكتاتوري الحاكم وظلمه، يتنافى مع مبدأ سيادة الدول واستقلالها، ولم يؤدّ فعليًا إلى حماية حقوق الشعوب والحفاظ على أمنهم الشخصي والفردي. وتشير تقارير لجان حقوق الإنسان للمنظمات الدوليّة والإقليمية وغيرها من المنظّمات الدوليّة الإنسانية غير الحكومية، إلى انتهاك القوات الأميركية في العراق (في سجن أبو غريب) مجمل قواعد حقوق الإنسان التي نص عليها القانون الدولي العام والقوانين والإعلانات الدوليّة في هذا المجال، ناهيك من قواعد القانون الدولي الإنساني. فقد تم الاعتداء على الحياة والسلامة المدنيّة وخصوصًا معاملة المعتقلين بقساوة وتعذيبهم وأخذ الرهائن والاعتداء على الكرامة الشخصية وإصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات من دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة تكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة ومن دون توفير الشروط الصحيّة والرعاية الطبية. فقد تبيّن أن الماكينة العسكريّة الضخمة التي استخدمت في المعارك، أدّت إلى خسائر بشرية كبيرة في صفوف العسكريين والمدنيين الأبرياء، تعدّت مئات الألوف. هذا إضافة إلى تدمير البنية التحتية بكاملها (محطات توليد الكهرباء والمياه، الجسور، محطات الاتصال والإعلام...) وتقوم الإدارة الأميركية والبريطانية بالتعتيم على أرقام خسائر هذه الحرب البشرية والمادية[34].

لقد تساءلت معظم الدول عن دوافع الحرب الأميركية الرئيسة على العراق تحت ذريعة التدخّل العسكري الوقائي لمكافحة الإرهاب. ورأت أن أهداف الولايات المتحدة الاستراتيجية هي في تحقيق حلم الأمبراطورية الأميركية، من خلال إقامة النظام العالمي الجديد الأحادي القطب والسلطة والسياسة والقرار. وهذه الزعامة والسيادة على العالم اللتان تقومان على مبدأ القوة والتفرّد، تكتملان بعد إحكام السيطرة على النفط في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، مهما تكن الوسائل. فالعراق من أكبر مصادر إمدادات النفط واحتياطه، لذا فإنّ سيطرة الولايات المتحدة على حقول النفط في العراق يقود إلى تغيير موازين القوى الاقتصاديّة ويؤدّي إلى فتح مجالات الهيمنة الأميركية على أسواق النفط العالمية، إنتاجًا وتسويقًا وتسعيرًا وتوزيعًا. هذا إضافةً إلى توسيع دور حلف شمال الأطلسي الأمني، وتهميش دور منظّمة الأمم المتحدة والتحكّم فيها، لكي تكون المنظّمة أداة طيّعة بتصرّف الولايات المتحدة الأميركية وخدمة أهدافها ومصالحها[35].

 

4- حرب ليبيا

بعد الإطاحة بنظام الرئيس الليبي معمر القذافي الذي دام أربعة عقود، لا تختلف معظم الدول، التي ساهمت في هذه العملية العسكرية أو التي وافقت على قرار مجلس الأمن الذي شرّع التدخّل العسكري، في توصيف حالة الأوضاع الأمنية المتدهورة في ليبيا وانتشار ظاهرة الإرهاب من جراء الانفلات الأمني وانتشار السلاح وعدم قدرة الدولة على فرض سيطرتها المركزية على كامل ترابها الوطني[36].

وفي هذا السياق، صرّح فيتالي تشوركين مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة بأن النزاع في ليبيا في العام 2011 أصبح من أهم العوامل التي دفعت منطقة شمال أفريقيا نحو "الانزلاق لهاوية الإرهاب". وذكر تشوركين أن "الأحداث في ليبيا أصبحت من دون أي شك عاملاً قويًا دفع المنطقة نحو الإرهاب". وشدّد على أن الارهابيين في المنطقة مجهزَون جيدًا، مضيفًا أن تدفّق الأسلحة من ليبيا بعد الإطاحة بنظام معمّر القذافي قد ساهم في ذلك. واعتبر الدبلوماسي الروسي ان الأحداث الجارية في مالي بعد استيلاء المسلّحين عل شمال البلاد تثبت صحة هذه التوقعات. وأضاف أنه "نشأت بؤرة خطيرة للارهاب، لكنه لا يجوز أن نتجاهل أن الارهابيين لا يستقرّون في مكان ما، وبإمكانهم الانتقال إلى دول أخرى بعد الفرار من شمال مالي. وأخشى أن الصراع مع هذا التهديد الإرهابي سيكون طويلاً وجديًا"[37].

يستنتج مما ورد، أنّ خلاصة تجارب المجتمع الدولي، في حقل التدخّل الإنساني، لم تكن موفّقة. ففي بعض الحالات، ذهبت القوات الدولية في استخدام القوة ضد دولة معيّنة إلى أبعد مما تقتضيه الظروف وتتطلّبه الأوضاع، فأدى ذلك إلى سقوط الضحايا من المدنيين، على النحو الذي حدث في يوغوسلافيا. وفي حالات أخرى، عجزت قوات الأمم المتحدة عن القيام بالمهام الموكلة إليها، وفي طليعتها حماية حقوق الإنسان، كما حدث في البوسنة وإقليم كوسوفو وأفغانستان. وأدى تدخّل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في العراق، خارج إطار الشرعية الدولية، إلى إشكالية سياسية حول مشروعية هذا التدخّل وآلياته ومبرّراته وعمليات تنفيذه وأهدافه وأبعاده الاقتصادية. كما أن بعض الدول الكبرى المسيطرة على مجلس الأمن الدولي تؤيّد مبدأ التدخّل، لأنه يتيح لها فرصة تحقيق بعض المآرب أو المكاسب، من دون التعرّض لتهمة التدخّل في صميم السلطان الداخلي للآخرين. في المقابل، تعارض الدول الصغرى هذا التدخّل بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان كونه يحقّق أهداف الدول الكبرى الاستراتيجية على حساب سيادة الدول. وبالتالي، هذا الالتباس لا يزال حتى اليوم يطرح إشكالية قانونيّة وسياسية. كما أن الخلافات السياسية بين الولايات المتحدة والدول الأخرى لا تزال قائمة حول متى يمكن أن يحصل التدخّل الدولي الإنساني، من يتدخل وكيف؟ لئلا يستغلّ الأمن البشري أو حقوق الإنسان، لتحقيق أهداف سياسية[38].

على الرغم من الاختلافات الواضحة، نجد اهتمامًا دوليًا واسعًا بالأمن البشري، يعبّر عنه بتنظيم التدخّل الإنساني العسكري بما يتوافق، إلى حدّ ما، مع احترام مبدأ سيادة الدولة، وذلك من خلال وضع هذا التدخّل العسكري تحت أمرة منظّمة الأمم المتحدة وقيادتها، وأن يكون محدّدًا بمدة قصيرة، وعندما يكون هناك انتهاك كبير لحقوق الإنسان (إبادة جماعية، جرائم ضد الإنسانية، تطهير عرقي أو إثني)، وحين تعجز الدول القومية عن معالجة تلك المخاطر التي تواجهها الإنسانية. هذا بالإضافةً إلى إعطاء التدخّل غطاءً قانونيًا في إطار الشرعية الدوليّة. ويبدو هذا التوجّه، إلى حدّ ما، تلبية مشتركة لجميع مطالب الدول المتناقضة[39]. وفي إطار العمل على تكريس هذا الحق قانونيًا يطرح الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره للعام 2005 إصلاحات في هذا الشأن، وهذا يصبّ بصورة غير مباشرة في تحقيق مطالب الولايات المتحدة الأميركية. بحيث يقترح مطالبة مجلس الأمن باتخاذ قرار في شأن استخدام القوة يحدّد: "مبادئ لاستخدام القوة ويعبّر عن عزمه الاستهداء بها لدى تقريره ما إذا كان يأذن أو يصدر تفويضًا باستخدام القوة من عدمه. وينبغي أن تشمل تلك المبادئ إعادة تأكيد أحكام ميثاق الأمم المتحدة المتعلّقة باستخدام القوة، ومنها أحكام المادة 51، وإعادة تأكيد الدور المحوري لمجلس الأمن في مجال السلام والأمن، وإعادة تأكيد حق مجلس الأمن في استخدام القوة العسكريّة، وقائيًا، للمحافظة على السلام والأمن الدوليين، ولاسيما في حالات عمليات إبادة جماعية وتطهير إثني وجرائم أخرى مماثلة ضد الإنسانية؛ وضرورة النظر في مدى جسامة التهديد لدى التفكير في ما إذا كان يجب الإذن باستخدام القوة أو تأييد استخدام القوة أم لا ، وفي القصد من الإجراءات العسكريّة المقترحة، وما إذا كانت تتوافر وسائل غير القوة العسكريّة يمكن أن تحقّق نجاحًا مقبولاً في وقف التهديد، وما إذا كان الخيار العسكري مناسبًا مع التهديد الماثل، وما إذا كانت تتوافر فرصة معقولة للنجاح".

في هذا المضمار أيضًا، يقترح الأمين العام في مشروعه الإصلاحي قبول "مبدأ مسؤولية الحماية باعتباره أساسًا للإجراءات الجماعية لمناهضة الإبادة الجماعية والتطهير الإثني والجرائم ضد الإنسانية، والموافقة على العمل على أساس تلك المسؤولية، إعترافًا بأنها تقع في المقام الأول على عاتق كل دولة من الدول، وأنّ من واجب كل دولة حماية سكانها. ولكن إذا كانت السلطات الوطنية عازفة أو عاجزة عن حماية مواطنيها، فإنّ المسؤولية تنتقل إلى المجتمع الدولي لكي يستخدم الوسائل الديبلوماسية والإنسانية وغيرها للمساعدة في حماية السكان المدنيين. وإذا أشار ظاهر الأمر إلى عدم كفاية تلك الوسائل، كان على مجلس الأمن أن يقرّر بمقتضى الضرورة إتخاذ إجراءات بموجب الميثاق، منها إجراءات الإنفاذ إذا اقتضى الأمر"[40].

أمام هذه المعطيات، يستنتج أن الإشكالية القانونيّة والسياسيّة التي أثارها مبدأ حقّ التدخّل الإنساني لا تزال حتى اليوم في إطار المعالجة، وفي أولوية سلّم إهتمامات المجتمع الدولي، لجهة عدم توافق مبدأ التدخّل وتناقضه مع مبدأ سيادة الدولة وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، والتناقض في موقف الدول وتوجّه بعض الدول العظمى لاتخاذ التدخل ذريعة من أجل دوافع سياسية واستراتيجية، كما يحصل في الأزمة السورية. لذلك تعمل منظّمة الأمم المتحدة والمنظّمات الإقليمية والمجتمع المدني على تشريع حقّ التدخّل الانساني ووضع الأطر التنظيمية له بهدف ضمان أمن البشرية والحفاظ على حقوق الإنسان، لئلا يثير هذا التدخّل الشكوك والتساؤلات على المستوى الوطني والإقليمي والدولي.

وفي ظل هذا الواقع المستجد على الساحة الدولية، هل هناك من مبادرة عالمية لتطبيق المقاربة الكونية المعاصرة لمفاهيم الأمن العالمي؟ إن"الكوسموبوليتيين" أو الكونيين الليبراليين يريدون، بحسب التقليد الكانتي، تدويل نموذج دولة القانون، ويسعون وراء مبادئ سلام في إطار القانون والحق على مستوى العالم. تقوم الكوسموبوليتية على انتهاج سياسة نظام لا يميّز بين الأفراد. فالأفراد هم أساس الحقوق والواجبات المفترض احترامها. إن حقوق الإنسان أهم، في نظرها، من الدولة ومن سيادتها. ويجري تصوّر مجتمع مدني عالمي مؤلّف من أفراد، ومن مواطنين عالميين. وهي تدعو للمساواة بين الجميع وليس هناك إلا الشرطة الدولية التي هي مكلّفة بفرض احترام القانون.

 


[1]-    Mario Bettati, "Le Droit D’ingérence", Odile Jacob, Paris, 1996, p. 66-69.

 

[2]-    Rousseau, "Droit International Public", Tome IV, Sirey, Paris, 1980, p. 49.

 

[3]-    Voir La Charte des Nations Unies, Documents D’études, No 302, La Documentation Française, Paris, 2001, p. 3.

 

[4]-    M. Virally, "Panorama du Droit International Contemporain", R.C.A.D.I, Paris, Vol .183, 1983, p. 102.

 

[5]-     محمد المجذوب، "التنظيم الدولي"، الدار الجامعية، بيروت، 1998، ص 362.

 

[6]-     المرجع السابق، ص.317، ص.437.

 

[7]-     محمد المجذوب، "القانون الدولي العام"، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2003، ص. 315 – 319.

 

[8]-     محمد المجذوب، "القانون الدولي العام"، مرجع سبق ذكره، ص. 310 - 314.

 

[9]-    Charles Zorgbibe, "Le Droit D’ingérence’, P.U.F (que sais-je), Odile Jacob, Paris, 1994, p. 98.

 

[10]-   Mario Bettati, B. Kouchner, "Souveraineté et Non Ingérence", De Noël, Paris, 1997, p. 230.

 

[11]-   Boutros Ghali, "Les Limites de la Souveraineté", Le Monde, Paris, 14 Juin 1989.

 

[12]-   Liyod Axworthy, "Human Security changing world", Canada, 9 April 1999, p. 4- 6.

 

[13]-    ريمون حداد، "العلاقات الدوليّة"، دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى، 2000، ص. 586.

 

[14]-    محمد المجذوب، التنظيم الدولي، مرجع سبق ذكره، ص. 310.

 

[15]-   Bernard Kouchner, "Le Malheur des Autres", Edition Odile Jacob, Paris, 1991, p. 291.

 

[16]-   Mario.Bettati, "Le Droit D’ingérence", Op.cit., p. 9.

 

[17]-   Mario.Bettati, "Un Droit D’ingérence?", R.G.D.I.P, Paris, Tome 95, 1993, p. 663.

 

[18]-    راجع تقرير الأمين العام للأمم المتحدة للعام 1995، الأمم المتحدة، نيويورك، ص 54Ü56.

 

[19]-    راجع القرارات ذات الصلة بالسودان، 9/1/2006، متوافر على الموقع: www.un.org/ en/peacekeeping/.../ background.shtml

        الإنترنت، الدخول: 12/9/2007.

[20]-   Voir le Centre des Nouvelles des Nations, UN, la Résolution 1973 publiée au terme de la réunion tenue le 17 mars 2011 à l'égard de la situation en Libye.

 

[21]-    تقرير منظّمة العفو الدوليّة، جنيف، 1994، ص. 4-7.

 

[22]-   MarioBettati, «Le Droit D’ingérence», Op.cit., p. 254-260.

 

[23]-    عدنان السيد حسين، "نظرية العلاقات الدوليّة"، مطبعة سيكو، بيروت، 2003، ص 211.

 

[24]-    ريمون حداد، العلاقات الدوليّة، مرجع سبق ذكره، ص. 584 – 585.

 

[25]-    عدنان السيد حسين، "حرب كوسوفو في أبعادها الإقليمية والدوليّة"، الدفاع الوطني، اليرزة، العدد 29، تموز/يوليو 1999، ص. 5-13.

 

[26]-    ريمون حداد، "العلاقات الدوليّة"، مرجع سبق ذكره، ص. .586

 

[27]-    فريد هاليداي، "ساعتان هزتا العالم 11 أيلول/سبتمبر 2011، الأسباب والنتائج"، دار الساقي، بيروت، 2002، ص 10- 11.

 

[28]-    عصام سليمان، "الحرب على الإرهاب والقانون الدولي الإنساني"، الدفاع الوطني، اليرزة، العدد 52، نيسان/أبريل 2005، ص.19-25.

 

[29]-   Gidon Gotlied, "The Impact on International Law", Oxford University Press, London, Feb. 2004, p. 24-25.

 

[30]-    المعهد الدولي للدراسات لإستراتيجية في الولايات المتحدة، المستقبل العربي، بيروت، عدد 285، تشرين الأول/أوكتوبر 2002، ص. 195.

 

[31]-    غسان العزي، "المشهد الدولي غداة الحرب على العراق"، شؤون الشرق الأوسط، بيروت، 2003، ص. 125.

 

[32]-    عصام سليمان، "الحرب على الإرهاب والقانون الدولي الإنساني"، مرجع سبق ذكره، ص. 35.

 

[33]-    كوفي عنان، "عدم قانونيّة الحرب"، جريدة الحياة، لندن، 17/04/2004.

 

[34]-   Jacques Chirac, "Les Dégâts de la Guerre en Irak ", Le Monde Diplomatique, Paris, 25/8/2004.

 

[35]-    محمد حسنين هيكل، "الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق"، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الأهرام، 2003، ص 119.

 

[36]-    فاضل عبد اللطيف، "تداعيات الحرب في مالي على الأوضاع في ليبيا" 30/1/2013¡ -mostakbal.org/news/clicked/304501 libya-al

 

[37]-    تشوركين، "النزاع في ليبيا دفع المنطقة نحو الانزلاق لهاوية الإرهاب"، 29/1/2013 arabic.rt.com/news_all_news/news/606395/

 

[38]-    عدنان السيد حسين، "نظرية العلاقات الدولية"، مرجع سبق ذكره، ص. 210-212.

 

[39]-   Boutrous Ghali, "Les conditions de l'Intervention Humanitaire Militaire", Le Figaro, Paris, 22/05/2004.

 

[40]-    راجع تقرير الأمين العام ، في الدورة 59، نيويورك، آذار/مارس 2005، ص 82.

 

International humanitarian intervention and the problematic of sovereignty

 

With the increase of suffering and putting the lives of individuals in danger, due to regional and internal armed conflicts, organized crime and the proliferation of light weapons and weapons of mass destruction and the terrorist acts which resulted in the death of millions of people, the international community faced challenges to meet the necessary requirements and needs of humanity.
The need for international intervention in response to humanitarian causes collides with all international and regional human rights charters and all declarations, commitments and principles especially the principles of sovereignty and nonintervention in the internal affairs of other States which are stipulated in these regional and international charters.
Based on this information, many questions can be asked regarding the concept of absolute sovereignty when the lives of people can be in danger.
Can State sovereignty serve as a hurdle against protecting humanitarian, security and political rights? Does this humanitarian intervention pose a legal and political problematic? How does confusion emerge in the concept of human security? The question remains regarding the legal framework of the right to intervene. Which International body is entitled to intervene? When and how and where can this body intervene?
To answer all these questions we must point out in this study to the legal, international and regional references and documents which constitute the basis of the principle of sovereignty and nonintervention and to all exceptions in this regard in addition to the framework of organizing humanitarian and military interventions to avoid any confusion.

L’intervention humanitaire internationale et la problématique de la souveraineté

 

Avec l’augmentation de la souffrance et la mise de la vie de personnes en danger, en raison de conflits régionaux et intérieurs armés, la criminalité organisée et la prolifération des armes légères et des armes de destruction massive et les actes terroristes qui ont entraîné la mort de millions de personnes, la communauté internationale est face au défi de répondre aux exigences et aux besoins de l’humanité.
Une intervention internationale en réponse à des causes humanitaires en collision avec toutes les chartes internationales et régionales des droits humains et de toutes les déclarations, des engagements et principes en particulier les principes de souveraineté et de non-ingérence dans les affaires intérieures d’autres États qui sont stipulées dans ces chartes régionales et internationales, reste nécessaire.
Sur la base de cette information, de nombreuses questions peuvent être posées en ce qui concerne le concept de souveraineté absolue lorsque la vie des personnes peut être en danger.
La souveraineté de l’Etat peut constituer un obstacle contre la protection des droits humanitaires, sécuritaires et politiques? Est-ce que cette intervention humanitaire pose un problème juridique et politique? Comment la confusion émerge dans le concept de sécurité humaine? La question reste posée en ce qui concerne le cadre juridique du droit d’intervenir. Quel organisme international est habilité à intervenir? Quand, comment et où cela peut-il intervenir?
Pour répondre à toutes ces questions, nous devons souligner dans cette étude, les références et les documents qui constituent la base du principe de la souveraineté et de la non-intervention juridiques et toutes les exceptions à cet égard, en plus de le cadre de l’organisation humanitaire et militaire en vue d’éviter toute confusion.