- En
- Fr
- عربي
تربية وطفولة
مع تغيّر المجتمعات وتقدّمها وتطوّرها، تقدّم العلم كما تقدّمت المدرسة والتربية، وتغيّرت طرق التعليم والتدريس في مختلف المواد ومن بينها المواد الفنية. وفي السياق نفسه تطوّرت النظرة إلى رسومات الطفل من تقليدية تتفحّص مدى قدرته على نقل الواقع نقلًا حرفيًا، إلى نظرة تركّز على فن الطفل القائم على البحث والاختبار، ومساعدته على تعميق معارفه الفنّية والجمالية وتنمية دقّة الملاحظة لديه وتعميق مهاراته انطلاقًا من بيئته.
التربية الفنّية وأهدافها
التربية الفنّية جزءٌ من حقل التربية العامة ولها دورها في التربية الحديثة. فهي جزءٌ من كل يسعى لتكامل نمو الولد نمّوًا طبيعيًا يتفق وقدراته العقلية، الجسدية والاجتماعية. وهي المنطلق الذي يطلّ منه على عالمه الذاتي وطاقاته المبدعة بحرّية وطمأنينة. وهي تهدف إلى إعداد أفراد يمارسون عملية الإبداع والخلق بحرّية وعفوية في طفولتهم مما يسمح لهم بمتابعتها في ما بعد. والغاية من ذلك أن يعبرّوا عن شخصيتهم بانفعالاتها وعقدها واحتياجاتها، وأن يحقّقوا الانسجام الداخلي والتوازن في علاقتهم مع الآخرين، وأن ينمّوا طاقاتهم الذاتية.
لذلك فإن التربية الفنّية تتيح للتلاميذ فرصة التعبير عن أنفسهم بالممارسة العملية، مما يخلق فيهم حب العمل الفنّي واليدوي، وبذلك يكتسبون مهارات فنّية يستطيعون من خلالها تحسّس الجمال في مختلف صوره وألوانه وأشكاله، والتعبير عنه بمختلف الوسائل، والاتجاه إلى الاعتماد على النفس والجرأة والاستقلال والتفكير الفعّال.
كانت التربية الفنيّة تعتمد على جعل التلميذ يقوم بعمليات نقل بعض الرسومات وتقليدها. أما اليوم فقد أصبحت تعتمد على التعبير الحرّ الموجّه الذي يكشف عن مكبوتات الذات وما يخالجها، فهي بذلك تعتمد على الطرائق التربوية الحديثة المبنيّة على المنهجيّة العلميّة والبحث والتحقّق والتدقيق والاكتشاف والاختبار.
هذا المفهوم المعاصر انتشر إقليميًا بفضل الاتجاه إلى اعتماد التربية الشمولية، والتي تشكّل التربية الفنّية أحد أبعادها. إن الفن والتربية مترابطان، كلاهما يهتم بالإنسان وما يخالجه، ويعملان على تهذيب النفس وصقل الروح مع أنّ أهدافهما ليست متطابقة تمامًا.
أهمية الفن في التربية
إن ملاحظة الطفل منذ ولادته تعطينا دلالات واضحة عن فطرية النزوع إلى ممارسة الفن وعن أهمية التعبير عن ذاته، فهو يعبّر بالمناغاة عن النشوة والسعادة، ويردّد ما يسمعه من أصوات، وحين تنمو حاسة البصر لديه نراه ينجذب إلى الألوان الصاخبة كالأحمر. مع تطوّر نموّ الطفل تتطور هذه الرغبة عنده من بكاء وحركات وتعرّف إلى الأشياء (يلمسها ويراقبها) حتى يصل إلى اللعب والتعبير الحرّ. وكلما كانت عاطفته تنمو سليمة كلما كان تعبيره عن شعوره بالفرح والقلق والغضب كبيرًا، والرسم والتلوين هما وسيلتان من وسائل التعبير الأكثر غنىً ونبلًا. ففي الطفولة المبكرة يمارس الطفل مظاهر من التخطيط على الجدارن، فيرسم أنواعًا من الخطوط التعبيرية المختلفة، التي ما هي إلا تأكيد لارتباط فطري بين الفن والإنسان، يتم التعبير عنه بوسائل مختلفة. يرتبط العمل الفني بمدى قدرة الانسان على ترجمة أفكاره وأحاسيسه بواسطة الرموز، وهذا العمل نستطيع أن ندركه وأن نستمتع به ونتذوقه.
فعندما نسمع طفلًا يقول: «أنا لا أستطيع الرسم» نكون واثقين أنّ هناك تدخّلًا ما في حياته أدّى إلى عدم ثقته بنفسه، فلجأ إلى سلوك إنسحابي. وغالبًا ما يُنظر إلى رسم الطفل من الناحية الجماليّة من حيث الألوان والأشكال من دون الاهتمام بما يقصد الطفل من خلاله، لكن النمو الفنّي عند الطفل لا يقاس من الناحية الجمالية، إذ أنّ كل طفل يعبّر بطريقته الخاصة ويكون تعبيره إنعكاسًا لخبراته ونموّه الجسدي وتكوين شخصيته. وتعتبر رسوماته تعبيرًا عن أفكاره ومشاعره واهتماماته وتفاعله مع بيئته، فإذا كان محبطًا في مجالات الدراسة كالقراءة والحساب، يكون الفن بالنسبة إليه تنفيسًا عن هذه الإحباطات، وفي أكثر الأحيان نجد الطفل الصامت المنسحب أكثر حاجة للتعبير فنيًّا من غيره.
يعتبر الطفل الفن أحد مظاهر اللعب وهو يلجأ إليه كوسيلة طبيعية يمارسها في لعبه وتعكس نفسيّته ومظاهر طفولته، وتسهم في توازنه النفسي. ويستخدم علماء النفس والمعالجون النفسيون الفن كوسيلة لتشخيص حالة المريض ولعلاجه، لأنّه يكشف عن خبايا النفس والصراعات التي يعانيها الإنسان. ولكي تحقّق التربية الفنّية أهدافها لا بد من مراعاة مراحل نموّ الطفل وخصائصها وتأثيرها على تعبيره الفني، من هنا لا تهتم التربية الفنّية بتعليم الفن وقواعده ومراعاة النسب والمقاييس إلا في مرحلة متقدّمة من النمو، وحتى في هذه الحالة يظلّ التلميذ بحاجة إلى التعبير الحرّ. فالفن لغة يحاول الإنسان من خلاله أن يعبّر عن ذاته وما يحيطه، إذًا فهو نشاط يتجلّى في كيفيّة رؤية الأشياء وطريقة التعبير عنها بشكل مختلف، أما هدف التربية فهو بناء الإنسان عن طريق الفن وتنمية هذا الفرد على مستويات شتّى.
معنى النشاطات الفنية
إن أهمية الفن في البرامج المدرسيّة تعود إلى التطور في فلسفة التربية والأنظمة التعلــيميّـــة، حيث بدأ الناس يميّزون أهمية الاستعداد للتعلّم الذي لا يعتمد فقط على النمو العقلي، بل أيضًا على النمو الانفعالي، الاجتمــاعي، الجسدي والنفسي. إن التربية الحديثة بدأت تعير اهتمامًا لبعض القدرات، كالبحث والإستكشاف وحب الإستطلاع، وهذه العوامل يركّز عليها النشاط الفني الحالي. فلقد كانت التربية التقليدية تركّز على الجوانب المجرّدة فقط، أما الحديثة فتركّز على التعلّم باستخدام الحواس لتنمية العمليّات العقلية. يتم تعليم الانسان من خلال حواسه (النظر والسمع والشم واللمس والتذوّق)، وكلما زاد تركيزنا على الحواس عند الطفل كلما كانت لديه فرصة أكبر للتعلم. وفي كثير من الأحيان تهمل المدرسة أهمية الحواس الخمس، إلا أنّ إهتمامنا بالتربية الفنية يفسح المجال للكشف عن قدرات الطفل الكامنة، وتنمية الجوانب الروحية والمعنويّة الإبداعية لديه.
العلاج عن طريق الفن
يقوم العلاج عن طريق الفن على أساس التعبير أو التنفيس عن اللاوعي بما فيه من مشاعر تكشفها عملية التعبير الفني. يرتكز العلاج عن طريق الفن على مصدرين قويين هما الكلام والرسم (أو التشكيل) كأساس لاستخراج معانٍ مكبوتة، حيث أن التعبيرات الفنية تسمح للنفس بالكشف عن خباياها لاشعوريًا، فتخرج المعاني والرموز من غير إدراك المعبِّر. ويستند العلاج عن طريق الفن إلى منهج التحليل النفسي في فهم القلق ومشاعر الذنب والكبت والتوحّد، وغيرها من المشاعر المكبوتة، والتي يعبّر الولد عنها بصور أكثر مما يعبّر عنها في كلمات. وكل ولد سواء تدرّب فنيًا أم لم يتدرب، يملك طاقة كامنة لإسقاط صراعاته الداخليّة في صور بصريّة.
ولعل من أهم استخدامات العلاج عن طريق الفن، أنها تسمح بالتعبير المباشر عن الأحلام والخيالات، وبترجمتها وتجسيدها على هيئة صور. حيث أن الإسقاطات المصوّرة لتلك الأحلام والخيالات والمشاعر بإمكانها الهروب من الرقابة بيسر وسهولة لا تتاح بالنسبة نفسها للتعبير اللفظي. وقد أجمع معظم الباحثين على أن الأولاد عندما يعبّرون عن مشاعرهم بالرسم، يكونون أقل حذرًا وتحفّظًا وأكثر انسيابية وبوحًا في طرح هذه المشاعر عنهم، فيما لو عبّروا عنها لفظيًا. يضاف إلى ذلك أن النتيجة المستخلصة من خلال الرسوم والتعبيرات الفنية تكون أكثر ثباتًا، حيث لا تتأثر محتوياتها بالنسيان، كما أنه يصعب إنكارها. إن إستعمال الفن كعلاج أنتج ضجة علمية ولا يزال بعضها قائم حتى الآن في علم النفس العلاجي والفن والتربية عن طريق الفن على حد سواء. ومنذ الإندفاعة الأولى في الأربعينات بدأ متحمسو التربية الفنية في الولايات المتحدة بدراسة علم النفس وتوظيف خبراتهم الفنية، لإيمانهم العميق بأن الفن ليس مجرد فرشاة وقماش أو إزميل وحجر فقط، بل أفكار وأحاسيس عميقة لها صلتها المباشرة بالولد وخلفيّته الإجتماعية، ولمعرفتهم أن العمل الفني ليس مجرد صورة تخضع لقواعد فنية بحتة، بل أنها تحمل أيضًا رموزًا معيّنة تعبّر عن تجارب نفسية خفيّة لها علاقة مباشرة بشخصية الولد.
أفضل وسائل التعبير
في العلاج عن طريق الفن يكون الاتصال بين المعالج والولد اتصالًا رمزيًا، لذلك، ونتيجة لتمرس إختصاصيي العلاج عن طريق الفن على هذه الأنواع من التعبيرات الفنية، يمكنه التحليل واستخراج الرموز ومناقشتها مع الولد ومن ثم التوجه إلى طرق العلاج. يجدر بالإشارة أنه عن طريق العلاج بالفن تكون الفرصة متاحة لتشجيع استقلالية الولد من خلال إسهاماته المتزايدة في ترجمة مشاعره وإظهار إبداعاته الخاصة. كما أن الولد سوف يتخلص تدريجًا من اعتماده على المعالج ويستبدلها بفنه الخاص. والمعالج في العلاج عن طريق الفن، لا يفسر عادة الفن التلقائي للولد، ولكنه بدلًا من ذلك يشجعه على أن يكتشف مدلولاته ومعانيه حتى ولو لم يستطع في البداية ذلك إلا انه من الممكن بالنقاش ودراسة الظروف التي يتم فيها الرسم، مساعدته في الكشف عن معناها مما يساعده في التخلص من مشكلاته.
من هنا تتضح أهمية المضمون النفسي لفنون الأطفال والبالغين، حيث يمكن أن يكون الفن مدخلًا لتربية الطفل ونمو شخصيته وتكاملها وإكسابه التوازن النفسي عن طريق تحقيق ذاته وتفاعله مع البيئة تفاعلًا إيجابيًا. لذلك فإن العلاج عن طريق الفن لا يستعمل فقط في علاج الأولاد الذين يعانون مشاكل نفسيّة وفكريّة أو جسديّة، بل يأتي من ضمن برنامج إجتماعي تربوي. وتبرز هنا أهمية مادة التربية الفنية المعتمدة في المدارس، فحصّة التربية الفنية لا تهدف إلى دفع الولد إلى التعبير عن مشاكله وأحاسيسه بطريقة مباشرة فقط، ولا هي تجربة علمية أو نفسية، بل انها تهدف إلى تحفيز الإبداع لديه لدفعه بطريقة غير مباشرة إلى التعبير عن اللاوعي بكل مكنوناته.
إن المشاكل التي يعانيها الأولاد تختبئ في اللاوعي، وهنا يلعب الفن (الموسيقى والرقص وغيرها) دور الوسيط في إظهار المشاعر. عندما يرسم الولد تمر الأحاسيس في مخيلته وعبرها إلى ورقة الرسم، وهنا تأخذ الرسوم دور الكلام، ويأتي الناتج الفني للولد كتعبير عما يفكر فيه، فتظهر عندها معاناته ومشاكله وحتى فرحه. وبتعبير أوضح تقول الرسومات ما يعجز الولد عن التعبير عنه لفظيًا، لذلك يعتبر الفن التشكيلي علاجًا.
إن الطفل أغلى ما في الوجود وتربيته تقرر إلى حد ما نصيبه في هذه الحياة من نعيم وسعادة أو من بؤس وشقاء. ولتربية أفضل فإن الإحاطة بنموّه من الناحية النفسية، العاطفية، الإجتماعية، العقلية والجسدية، ومعرفة أهمية التربية الفنية واجب على كل المعنيين بتربيته.