حقوق وواجبات

التظاهر حق... لكن ماذا عن الصغار؟
إعداد: ريما سليم ضومط

من المظاهر اللافتة في الحراك المدني الذي يشهده لبنان منذ السابع عشر من تشرين الأول، مشاركة تلامذة المدارس بكثافةٍ في التظاهرات والاعتصامات. وقد كان لخروج الطلاب إلى الشارع ردود فعل مختلفة، منها ما شجع هذه الخطوة مؤكدًا حق الطلاب في إبداء رأيهم تجاه القضايا التي تؤثر في مستقبلهم، ومنها ما شجبها معتبرًا أنّ الطلاب مكانهم على مقاعد الدراسة وليس في ساحة التظاهرات، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالتلامذة الذين ما زالوا صغارًا.

 

في السادس من تشرين الثاني، تمّت دعوة الطلاب للمشاركة في الحراك المدني، فخرج في صباح اليوم التالي الآلاف منهم إلى الشوارع، ومن بينهم تلامذة في المرحلة الأساسية. وفيما نفّذ البعض اعتصامات احتجاجية أمام مدارسهم، شارك البعض الآخر في مسيرات وتظاهرات أمام عدد من المؤسسات الرسمية والخاصة.

 

الأهل والمدارس والمسؤولية...
قوبلت الانتفاضة الطالبية، بمواقف متباينة من قبل إدارات المدارس والأهالي على حدٍّ سواء. في إحدى المدارس الرسمية في جونيه، طلب متظاهرون من مدير المدرسة السماح للطلاب بالمشاركة معهم. وبعد مشاورات أجراها مع لجنة الأهل والمعلمين سمح لتلامذته بالالتحاق بالمتظاهرين.
في مدرسة رسمية أخرى في المنطقة نفسها، فوجئت الناظرة في الملعب بالتلامذة ينتهزون فرصة فتح البوابة الرئيسية ليدخل أحد الباصات، ويندفعون إلى الخارج وهم يهزجون ويطلقون الصيحات والهتافات. كان الموقف مربكًا فالتلامذة صغار وسلامتهم هي من مسؤولية المدرسة. عملت المعلمات على استدراك الموقف مع الناظرة لاستعادة التلامذة الذين راحوا يفاوضون: «ندخل إلى الصفوف شرط أن لا نتعلّم...».
في رواية أخرى، يؤكد مدير مدرسة خاصة في بيروت، أنّه سمح لطلابه بالمشاركة في الاعتصامات بناءً على رغبة عددٍ كبير من الأهالي الذين طالبوا بوقف الدروس والسماح للتلامذة بالنزول إلى الشارع.
ويضيف: المشكلة أنّنا حين سمحنا للتلامذة بالمشاركة في التظاهرات، تلقينا عددًا هائلًا من الشكاوى من قبل قسمٍ آخر من الأهالي الذين احتجوا على إيقاف الدروس معتبرين أنّ مكان التلامذة في الصف وليس في الشارع. عندئذٍ، اتخذنا القرار بمتابعة الدروس بشكلٍ عادي بمن حضر من التلامذة، ومنعنا خروج الطلاب من المدرسة للمشاركة في الاعتصامات.

 

حل معقول
في مدارس أخرى، اعتمدت الإدارة صيغة معتدلة، إذ سمحت للطلاب بإبداء آرائهم والتعبير عن مخاوفهم من دون أن تسمح لهم بترك مقاعد الدراسة. في هذا الإطار، يروي مدير إحدى المدارس تجربته مع تلامذته: سعينا إلى حلٍّ يرضي التلامذة من دون أن يعيق عملية التعليم، فدعونا الأهل إلى لقاء مع الطلاب والطاقم التعليمي في باحة المدرسة. خلال هذا اللقاء، أفسحنا في المجال أمام التلامذة للتعبير عن مخاوفهم وقلقهم ورؤيتهم لمستقبلهم في وطنهم، ثم عقدنا جلسة نقاشٍ حول كيفية تحقيق تغيير حقيقي شارك فيها الطلاب والأهل والأساتذة، وعاد في ختامها الطلاب إلى صفوفهم.

 

ماذا يقول الطلاب؟
ما لم يقله مدراء المدارس، سمعناه من بعض الطلّاب لدى سؤالهم عن سبب نزولهم إلى الشارع.
تؤكد ليا (الصف الثامن) أنّ معلمة اللغة العربية في مدرستها تحثّ التلامذة للضغط على الإدارة بهدف تنظيم مسيرات احتجاجية للمشاركة في الحراك المدني، «لأنّ هذا ما يجب أن يفعله كل طالب لا يريد أن يهاجر وطنه بسبب عدم وجود فرص عملٍ بعد التخرّج» بحسب كلام المعلمة. أما رواد (الصف الثانوي الأول) فيقول: «تأثرت كثيرًا بما شاهدته على شاشة التلفزيون، فقد كان الطلاب في الشارع يعبّرون عن آرائهم ومواقفهم بكل جرأة وثقة، وقد منحهم المراسلون الإعلاميون فرصة إيصال صوتهم إلى المسؤولين في السلطة، وهو أمر غير متاح للطلاب في العادة».
من جهتها، توضح كلارا (الصف التاسع) أنّها لم تكن في البداية مهتمة بفكرة النزول إلى الشارع، غير أنّها شعرت بالحماسة حين شاهدت صور رفاقها على «الإنستغرام» وهم يشاركون في الاعتصامات. كذلك، فهي تعتبر أنّ الحراك خلق جوًّا إيجابيًا يتواصل فيه الطلاب عبر مجموعاتٍ على «الواتساب» ويلتقون في الساحات للتعبير عن آرائهم ومواقفهم تجاه ما يحصل في وطنهم.
في إطارٍ مماثل، يُجمع أحمد وبيا (الصف الثانوي الثاني) أنّ المشاركة الشعبية الكثيفة في الحراك المدني حرّكت فيهما المشاعر الوطنيّة، ودفعتهما للنزول إلى الشارع.
من جهة أخرى، تشير حياة (الصف التاسع) إلى التنمّر الذي تعرضت له بسبب رفضها النزول إلى الشارع، وتوضح بالقول: «لست من المهتمين بالسياسة، كما أنّني لم أكوّن بعد قناعاتي الخاصة تجاه ما يجري في الشارع، لذلك لم أُبدِ رغبة في مرافقة زملائي إلى الاعتصامات أو التظاهرات. لكن المشكلة أنّهم لم يفهموا موقفي، إذ اعتبروا أنّني لا أملك الحس الوطني، واتهموني بالخيانة الوطنية، وصاروا يتوجهون إلي بكلماتٍ مسيئة وجارحة!».

 

رأي اختصاصي
بين موقف الأهالي المنقسمين وفق توجهاتهم الشخصية وميولهم السياسية، وموقف المدارس التي آثر قسم كبير منها التنصّل من مسؤوليته تجاه التلامذة، ورمي الكرة في ملعب الأهل، وموقف التلامذة الخاضع لضغوطات الأصدقاء والمربّين ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، يُطرَح سؤال بديهي حول مدى صحّة مشاركة تلامذة المدارس في التظاهرات والاعتصامات.
يشيـر الاختصاصي في علم النفس العيادي الدكتور نبيل الخوري إلى أنّ التظاهر كما هو متعارف عليه حقٌّ مشروعٌ لجميع المواطنيـن ليعبّروا عن رأيهم تجاه مشروعٍ ما أو موضوع ما يتصل بالمصلحة العامة. لكنّه يوضح في الوقت نفسـه أنّ المتظاهريـن يجب أن يتّصفوا بالنضـج الفكـري والثقافة واتساع الأفق، كي يتمكّنوا من إيصال الرسالة التي يهـدف إليها التظاهر. ومن هنا، فإنّ التلميذ الذي ما زال في سن الطـفـولة أو المراهقة لا يتمتع لا بالخلفيـة الثقافيـة المطلوبة ولا بالطاقات التحليليـة أو القـوة الإدراكية، إذ إنّ ثقافتـه مبتورة وإدراكه لم يكتمل بعد، وبالتـالي فإنّ مشاركتــه في أي تظاهرة لا تعدو كونها مشاركة في فولكلور جماعي لا يعرف أين يصل من خلاله. لذلك، فإنّ إطلاق الأطفال والمراهقيـن في ساحات التظاهـر قد لا يعني أكثر من يوم عطلـة بالنسبة إلى غالبيتهم.
وبالنسبة إلى القلّة منهم التي تنادي بمطالب قد تفهم فحواها وقد لا تفهمه، فإنّ مشاركتهـم لا تعدو كونها مشاركة في مهرجـانٍ جماعي خلّاب يخرجون فيه عن المألوف والروتين المدرسي اليومي، وقد يشكّل أيضًا فرصــة وحافزًا لإثبات وجودهـم، حيـث تقدّم لهم الساحات منبرًا يعرضون من خلاله وجهة نظرهم التي غالبًا ما تكون غوغائية وفوضوية.

 

مشكلة جديدة
وهنا تُطرح مشكلة جديدة، إذ من الممكن أن يعتاد التلامذة الأسلوب الفوضوي، فيما المطلوب منهم في المرحلة الدراسية الانضباط التام، والتزام المناقبية العلمية من خلال التقيّد بالدوام المدرسي، والقيام بالواجبات والنشاطات المدرسية التي تؤدي إلى نجاحهم في الامتحانات الدراسية. وبحسب اعتقاده، فإنّ هذا ما حفّز عددًا كبيرًا من رجال الدين ومن المراجع التي تُعنى بشؤون التربية على ما فُهم منه وكأنّه تحييد للطلاب عن التحرّك.
من جهة أخرى، يُبدي الدكتور الخوري أسفه تجاه موقف بعض الأهالي الذين يؤكدون أنّهم يفضّلون أن يخسر ولدهم عامًا دراسيًّا على أن يخسر حياته كلّها. وهو يسأل هؤلاء بدوره: من قال إنّ الطالب سيخسر مستقبله في حال التزامه دروسه بطريقةٍ منتظمة وسليمة؟ أوليس الأصح أنّ مستقبله محكوم بنجاحه الأكاديمي وما يكتسبه من كفاءات وثقافة وإدراك؟ أم أنّكم تفضّلون ما يكتسبه التلميذ في الشارع من خروجٍ عن الانضباط والتفوّه بكلماتٍ نابية بحق الإدارات والمدارس أو الوزارات أو حتى مراجع سياسية؟ هذه أمور من غير المستحب أن نسمح بإدخالها إلى وعي الشباب والمراهقين تحديدًا.

 

دور أساسي
وعن دور المدارس في توجيه الطلاب، يوضح الدكتور الخوري أنّ للمدارس أيضًا إيديولوجيات فكرية وسياسية معينة، فمن البديهي إذًا أن يعمل البعض منها على توجيه الطلاب في إطار هذه الأفكار والإيديولوجيات. ويضيف أنّ دور المدارس أساسي في هذه المرحلة، لذا يجب على إداراتها وضع مصلحة الطلاب فوق الاعتبارات الشخصية، وبالتالي حثّ تلامذتها على التزام دروسهم وواجباتهم المدرسية، لأنّ هذا بالضبط ما يفرضه الواجب الوطني خلال المرحلة العمرية التي يعيشونها.

 

الوقوع في فخ الانفعالات
وعن الطلاب الذين تعرضوا للتنمّر بسبب عدم رغبتهم في المشاركة في الاعتصامات، يقول الدكتور الخوري: التنمّر أصلًا موجود في المدارس، والحراك أضاف موضوعًا جديدًا وذريعةً إضافية للأشخاص المسيئين. فمن كان في السابق يُطلق على رفيقه الناجح تسميات جارحة، هو نفسه الذي يتهم من يخالفه الرأي اليوم بالخائن للوطن والقضية. وهو في الأساس لا يملك وعيًا أو إدراكًا كافيًا عن القضية التي يتحدث عنها. هنا يبرز دور المدرسة للتدخل وحماية راغبي العلم من راغبي الإساءة إليهم.
أما عن دور الأهل، فيؤكد الدكتور الخوري أنّهم المثال الأعلى لأولادهم، وبالتالي تقع عليهم مسؤولية توعيتهم حول عدم الانجرار وراء مفهوم خاطئ للحرية، وعدم الوقوع في فخ الانفعالات الظرفية التي تخلق جيلًا من الفوضويين. والأهم تحذيرهم أنّ التقيد بالسقف الأخلاقي هو أمر أساسي لإنجاح أي تحرك.