رحلة في الانسان

التعلّق بالمظاهر ودلالاته
إعداد: غريس فرح

حيث يتقلص دور المؤسسات ينتشر حب الظهور

 

علاقة الإنسان بالمظاهر قديمة قدم المجتمعات البدائية التي حملت معها ألواناً من الشكليات والتقاليد, وميّزت بين البشر لناحية مظهرهم الخارجي, ولباسهم ومقتنياتهم الشخصية.

ومع تطّور الحضارات, تعلّق الإنسان بالقشور الإجتماعية التي ابتدعتها مخيلته, وأصبحت مع الوقت جزءاً لا يتجزأ من ذاته, والسند الذي يزوّده بالمناعة والقوة.
وعلماً أن حب الظهور هو من حيث المبدأ من صلب الطبيعة البشرية, إلا أنه يتخذ في بعض المجتمعات أشكالاً مرضية تتفاوت حدّتها بحسب تركيبة هذه المجتمعات وأسسها العامة.
فما هي العوامل الإجتماعية التي تسيّر الطبيعة البشرية الى خارج حدودها المعقولة, وكيف يتحوّل حب الظهور الفطري البريء الى مرض إجتماعي؟

 

كما سبق وأشرنا, يتفاوت التعلّق بحب الظهور من مجتمع الى آخر لإرتباطه الوثيق بالتربية والبيئة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية.
ففي المجتمعات الراقية مثلاً, وخصوصاً في الدول الكبرى, حيث التطوّر الفكري والعدالة وسيطرة المؤسسات الرسمية الحامية لحقوق المواطن, يقل عموماً حب التعلّق بالمظاهر, بل يكاد ينعدم في صفوف عامة الشعب لينحصر بأقليات الأثرياء ونجوم المجتمع من فنانين وسياسيين يحلو لهم أحياناً لفت الأنظار لمصالح وأهواء شخصية.
أما في المجتمعات النامية, حيث يتقلص دور المؤسسات الرسمية المساندة, ويضطر الفرد الى الإعتماد على نفسه وتأمين مستقبله بوسائله الخاصة, فيكثر التباهي بالمظاهر والميزات الشخصية بالإضافة الى الإنتماء العائلي والإجتماعي والطائفي. هنا يلفت الإختصاصيون الى أن الإحتماء بالعائلة أو القبيلة والطائفة, يضفي على التعلّق بالمظاهر تأثيراً مزدوجاً. فهو إذ يؤمن للفرد الإكتفاء الذاتي والطمأنينة المستمدة من مراجع الحماية الفئوية, يسلّح هذه المراجع بالقوة الضرورية للإستئثار بالسلطة.

واللافت أن حب التباهي في هذه المجتمعات يتخطى الحدود المعقولة, إذ يدفع بالأفراد أحياناً الى بيع الممتلكات أو الإستدانة لشراء سيارة فخمة أو ثياب أنيقة ومفروشات باهظة الثمن. وهكذا يتحوّل هذا الشعور العفوي الى مرض إجتماعي خطير يفتك بالعائلات المحـدودة الدخل, ويعرّض أفرادها لشتى أنواع الصراعات النفسية.

 

كيف يتولّد حب الظهور؟

بالإضافـة الى المشاعـر البدائية الأولــــى التي عرفها الإنسان كالجوع والألم والبرد وسواها, فهو قد عانى من الخوف وتملكه في الوقت ذاته حب الإغراء.
وباعتبار الخوف شعوراً بدائياً سلحت به الطبيعة الإنسان لحمايته من مكامن الخطر, فإن حب الإغراء شكّل الدافع الطبيعي للفت إنتباه الغير وتحقيق التآلف الإجتماعي, إضافة الى إجتذاب الجنس الآخر لضمان بقاء النسل.
وبفعل خوف الإنسان من المخاطر المحيطة به, ومحاولته تطوير أسس الحماية الفردية, وميله في الوقت ذاته الى إغواء الغير, تمكن مع الوقت من الإستعانة بقوته الذاتية وما حققه من مكاسب في مجال الحماية الشخصية كالملابس وأمكنة الإقامة وسواها من المقتنيات للتباهي والظهور. بهذا تولّد لديه حب المظاهر, وتطوّر ليصبح مع الزمن سلاحاً نفسياً فعّالاً يحميه من ضعفه, وقناعاً مزيّفاً يخفي وراءه عيوبه ونواقصه.

 

تفاوت نسبة حب الظهور في المجتمع الواحد

على الرغم من تشابه طبيعة الأفراد وخصوصاً في المجتمع الواحد, فإن نسبة حب الظهور تختلف من بيئة الى أخرى وذلك بحسب تركيبتها ومدى علاقة الفرد بها.
ففي المجتمعات النامية حيث الولاء للعائلة والقبيلة أو الطائفة, يتفاعل الأفراد مع قوّة أو ضعف مراجع ولائهم ليضفوا على علاقتهم بالمظاهر الطابع الشخصي.
فالفرد الذي يخجل مثلاً من إنتمائه العائلي أو وضعه المادي, يتسلح بوسائل دفاع فردية مختلفة, منها التباهي بالمظهر الزائف, أو المقدرة على الإنتاج والإبداع, أو بالسعي للوصول الى مراكز مرموقة.
هنا يشير الإختصاصيون الى دور الثقافة والتطوّر الفكري في تحجيم التعلّق بالمظاهر ودفعه بإتجاه الصراع الحضاري. مع ذلك يشيرون بتحفظ الى أن الإبداع والإنتـاج في الدول النامية يندرج في إطار الـتباهي والغرور وتمييز النفس عن الآخرين في مجتمع تتآكل الغيرة أفراده, ويتمحور الصراع فيه حول المال والسلطة.

 

الصراع على المال والسلطة

حسب المعطيات الآنفة الذكر, يلاحظ أن حب الظهور المرضي يتفاقم في المجتمعات الضيقة حتى في طبقات المثقفين, ويتقلص في المجتمعات المتطورة التي تصهر الأفراد في بوتقة القيم وعدالة المؤسسات, ما يعني أن هذا الشعور يعتمد في تفاقمه على الصراع الفئوي وذلك تحقيقاً للنفوذ الفردي على حساب المجتمع. وهي حالة إجتماعية بدأت تتلاشى في الدول الغربية حيث يعتمد تحقيق الذات على الأسس الجماعية من دون إلغاء الهوية الذاتية المميزة.
في حال كهذه, يأمل الباحثون أن ينعكس أسلوب الحياة في الدول الكبرى على نفسية الأجيال الصاعدة في الدول النامية وخصوصاً الشرق أوسطية لتعاطيهم المباشر مع الغرب عن طريق الهجرة للعمل أو تحصيل العلم, أو بواسطة التواصل مع الأفكار المستوردة عبر تقنيات الإتصال السريعة.
يبقى السؤال: هل ستـظل العوامـل الإجتماعية في الدول النامية تغـذي قشور المظاهر, أم أن عدالة المؤسسات ستتعاون مع معطـيات العولمة الإيجابـية لتمد أجيالنا بالإطمئنان والإكتـفاء الذاتـي بعيداً عـن مركبات النــــقــــص المتوارثة؟