تعليم

التعلّم والأزمات: ما يُقلق يتخطى التعثّر الأكاديمي!
إعداد: روجينا خليل الشختورة

«ابني في الصف الأساسي الثاني، تقول السيدة تقلا، وهو ما زال متعثرًا في القراءة والكتابة ودون المستوى الذي ينبغي أن يكون عليه في هذه المرحلة التعليمية». تقلق هذه السيدة كما سواها الكثير من الأهل بشأن ما فات ابنها تعلّمه خلال السنتَين الأخيرتَين إذ أدت جائحة كورونا إلى اعتماد التعليم عن بُعد، وهذه العملية لم تكن سهلة خصوصًا بالنسبة للتلامذة الصغار. لكن ما يُقلق الأهل ليس هو نفسه ما يُقلق التربويين، فهؤلاء يرون أنّ الضرر الأكبر الذي لحق بالمتعلمين هو نفسي – اجتماعي نتيجة حرمانهم التفاعل الطبيعي مع أقرانهم والأزمة التي تضغط على الجميع. «أولادنا بحاجةٍ إلى أن نحبهم قبل كل شيء» وفق ما تقول مديرة إحدى المدارس، أما الثغرات الأكاديمية فيمكن تداركها.

 

للمدرسة تأثير مهم في حياة الطفل وتكوين شخصيته، وهو يكاد لا يقلُّ أهمية عن تأثير التنشئة في الأسرة. والمفهوم الحديث للمدرسة لا يربط دورها وأهميتها بمجرد كونها مؤسسة نظامية تزوّد الفرد المعرفة فقط، بل هي مجال لتعزيز نمو الفرد على أكثر من صعيد، والعمل على تنمية شخصيّته وقدراته ومهاراته الاجتماعية والنفسية وفاعليّته في المجتمع، وهي بذلك ذات رسالة تربوية تهدف إلى ما هو أشمل من مجرد التعليم وتحصيل المعرفة.

 

الضرر الأكبر!
تؤكد الخبيرة التربوية الدكتورة ندى معوّض أنّ الضرر الأكبر الذي تعرّض له أولادنا في السنتَين الأخيرتَين لا سيما في فترة التعلم عن بُعد، لم يكن على المستوى الأكاديمي فقط، بل على المستوى الاجتماعي، خصوصًا لدى الفئات التي تراوح أعمارها بين الثلاث والخمس سنوات. إذ إنّ التحصيل الأكاديمي يمكن أن يكتسبه هؤلاء في عمر أكبر (ستّ وسبع سنوات) وبشكلٍٍٍ أسرع، كما هو معتمد إجمالًا في البلدان الأوروبية حيث لا يبدأ تعليم القراءة والكتابة قبل عمر السادسة، أما ما يحتاجه الطفل بشكلٍٍٍ أساسي في هذا العمر الصغير فهو بناء العلاقات الاجتماعية.
في السياق نفسه، ومع إقرارها بتأثير غياب التلامذة عن مدارسهم في مستواهم الأكاديمي، تُشير مديرة مدرسة القديس جاورجيوس - بصاليم السيدة جورجينا دعبول إلى ظهور مشكلات على مستوى السلوك الاجتماعي والتنظيمي للمتعلّمين، وتؤكد أنّ المشكلات التي أجمع على وجودها الكادر التعليمي والأهل والإدارة تقع على هذا المستوى. وهي توضح: «لدى الأعمار الصغيرة واجهنا مشكلات في طريقة إمساك القلم أو ترتيب الدفتر والخط وهي أمور لم يكن بالإمكان متابعتها عن بُعد... وبالنسبة لمن هم أكبر ثمة مشكلات في السلوك الاجتماعي، فهم لا يعرفون حدودهم في التعاطي مع رفاقهم والمسؤولين عنهم، أو في طريقة التكلّم مع أساتذتهم في الصف، والتزام القواعد المتعلّقة بالوقت والهندام».
بدورها تتحدث معلمة في صفوف الروضة عن السلوك الاجتماعي للصغار، فتقول: «أكبر المشكلات التي استوقفتنا بعد العودة إلى المقاعد الدراسية هي أنّ الأولاد لا يعرفون كيف يتشاركون الألعاب ولا الطعام، ما يسبب توترات في الصف. وما ينبغي العمل عليه برأيها هو مساعدتهم على التفاعل الإيجابي في ما بينهم، وتوجيههم إلى التشارك والتعاون وبناء الصداقات، وتزويدهم مهارات التواصل وسواها، لما لذلك من أهمية على صعيد نجاحهم في المجتمع مستقبلًا».
هنا يبرز أثر حرمان الصغار من التفاعل الاجتماعي بسبب غيابهم القسري عن المدرسة لسنتَين متتاليتَين، فضلًا عن الأزمة الاقتصادية التي تُرهق الأهل ولا بد أن تنعكس على الأولاد الذين «تعاني نسبة غير قليلة منهم الشرود الذهني في الصف»، وفق المعلمة نفسها.

 

برامج لاستدراك الوضع
ماذا عن الحلول؟ وما هي الخطوات المتبعة لاستدراك الوضع؟
على صعيد المدارس الرسمية، ثمة برنامج لتعزيز التعلم الاجتماعي - العاطفي (برنامج التعافي)، وقد تم وضعه بالتعاون بين المركز التربوي للبحوث والإنماء ومشروع «كتابي» المموَّل من الوكالة الأمیركیة للتنمیة الدولیة USAID. وبحسب مديرة مدرسة بطرام الرسمية السيدة بلبلة سرحان، لا بد من العمل على إرساء التوازن بين التعلم وبناء شخصيات المتعلمين من خلال توفير بيئة آمنة ومستقرة لهم في خضم الأزمات التي تعصف بالبلد، فالرفاه النفسي الاجتماعي هو من ركائز التعلم السليم، وهو ضروري لتحقيق النجاح وتعزيز التطور العلمي والمعرفي.
يؤكد برنامج التعافي على أهمية تأمين البيئة النفسية والاجتماعية الآمنة، ونقل العملية التعليمية - التعلمية من التشديد على البعد المعرفي، إلى التركيز على الأبعاد النفسية والاجتماعية والمعرفية. وتوضح السيدة سرحان أنّ العمل في المرحلة الأولى للبرنامج بدأ بورش عمل ودورات تدريبية منذ أيلول ٢٠٢١، تبعتها المرحلة الثانية خلال السنة الدراسية ٢٠٢١-٢٠٢٢، والمرحلة الثالثة في أيلول ٢٠٢٢.
يتضمن البرنامج مجموعة أنشطة دعم نفسي - اجتماعي مقسمة على المراحل التعليمية، من المرحلة الأولى للتعليم الأساسي إلى مرحلة التعليم الثانوي، وهو يراعي التطور المعرفي والنفسي والاجتماعي لدى المتعلمين. من هذه الأنشطة ما يتعلّق بتنمية حس التعاطف، وكيفية التخفيف من حدة الانفعالات وتحديد المشاعر وتنظيم الوقت وإدارته والإصغاء وتحديد الأهداف، ومواجهة التحديات... وقد تابع المعلمون والمعلمات دورات تدريبية لضمان حسن تطبيقها.
في المدارس الخاصة بدأ العمل على استدراك الثغرات والمشاكل منذ العام الفائت وفق السيدة دعبول، وعملية إعادة التأهيل بالإضافة إلى تركيزها على مراجعة الدروس غير المكتسبة بشكلٍٍ سليم، تراعي الشق النفسي والاجتماعي. «أولادنا بحاجةٍ قبل كل شيء إلى الحب» برأيها. وقد عمدت بعض المدارس إلى تقليص أوقات الحصص الدراسية وإطالة أوقات الاستراحة في مختلف الحلقات. وعملت على خلق ألعاب ونشاطات موجهة من قبل مدربين متخصصين لتعزيز التفاعل بين التلامذة، بالإضافة إلى متابعة المعالج النفسي لكل الحالات الخاصة التي ظهرت أو استجدّت لدى بعض الأولاد بالتعاون مع ذويهم.

 

نحو مستقبلٍ أفضل
نظرًا للحالة الحرجة لقطاع التعليم في لبنان، لا مجال للإصلاحات السطحية أو المؤقتة. كما أنّ المساعدة الظرفية لقطاع التعليم لن تكفي ليبقى قادرًا على الصمود لفترةٍ طويلة. فما من قطاع تربوي فعّال ومستدام في ظل الأوضاع السائدة في البلد ومن دون معالجة أزمته الاقتصادية. وطريقة استجابتنا للتهديد الذي يُواجِه القطاع التعليمي الذي طالما فاخرنا به ستُحدِّد مستقبلنا.
ووفق ما صدر في تقرير البنك الدولي للعام ٢٠٢١، «من الضروري إعطاء الأولوية للشروع في أجندة إصلاحية شاملة تضع الطلاب في محور القطاع التربوي وتُعطي الأولوية لجودة التعليم للجميع، من دون المساس بأمن المعلمين والكادر التعليمي ورفاههم».
في الخلاصة، يحتاج لبنان إلى وضع خارطة طريق تستند إلى الدراسات الحديثة وتقدّم خطة تكفل جودة التعليم للجميع. والأهم إعطاء الأولوية لمساعدة قطاع التربية من أجل إنقاذ ما تبقّى، من خلال الحرص على أن يتمكن المعلمون من تأدية رسالتهم التعليمية بطريقةٍ كريمة، وألّا يضطر الطلاب إلى الاختيار ما بين تعليمهم من جهة والاستمرارية الاقتصادية لعائلاتهم من جهة أخرى، وأن تتعاون المدارس والعائلات لتقديم بيئة مناسبة لتعلّم أجيال الغد.