رحلة في الإنسان

التفاعل البشري الإلكتروني إيجابيات ومحاذير
إعداد: غريس فرح

منذ بداية عهد البريد الإلكتروني، مزوّداً مواقع الحوار المختلفة، وانتهاءً بانطلاقة الـ«Facebook» من جامعة هارفارد العام 2008، تغيّرت النظرة العامة الى «الإنترنت»، من أداة ملازمة للوحدة، الى مفتاح لألغاز الطبيعة البشرية. مفتاح يلقي الضوء على معالم شخصياتنا عبر الأثير، ويجعلنا أكثر إدراكاً لأعماق ذواتنا.
مع ذلك، يبقى للتواصل الإلكتروني سلبيات ومحاذير، وهذا يعتمد على الهدف من استخدام «الشبكة» ، وتأثير أبعاده على المعنيين به.
لفهم هذه الأبعاد، يقدم الإختصاصيون النفسيون على دراسة التوجّهات العصرية الحديثة، ومنها، فهم معنى «الوحدة» وتقدير الذات و«النرجسية» والإدمان، الى ما هنالك من نزعات تلازم استخدام «الشبكة» وتعيد رسم خطوط الشخصية.


التعامل مع الوحدة
يبدو أن النظريات القديمة بشأن التواصل الإجتماعي عبر الشبكة، لم تعد ذات أهمية تذكر في الوقت الحاضر. وهذا يفسّر النقاش القائم حول المؤثرات النفسية - الإجتماعية ذات الصلة بهذا الموضوع.
لنأخذ على سبيل المثال الإنطباع السائد حول «الوحدة»، باعتبارها انعزالاً فيزيائياً عن المجتمع. وعلى الرغم من أخذ الكثيرين بهذا التفسير، إلا أنه لم يفلح حتى الآن في إلقاء الضوء على المشاكل المحيطة بها، وفي مقدمها الكآبة المرافقة لانقطاع العلاقات البشرية. وعلى هذا الأساس، يستشري الجدال في الوقت الحاضر حول جدوى التواصل البديل عبر الشبكة، وإمكان الإستعانة به للتعويض عن نقص التفاعل الإجتماعي.
منذ فترة وجيزة، كان يُعتقد أن استبدال العلاقات الإجتماعية بالدردشة والحوار عبر الانترنت هو حل عقيم لأنه يزيد من شعور العزلة، ويقلّص الحاجة الى التفاعل البشري الضروري للصحة العقلية والجسدية. وكانت الدراسات كافة التي تناولت هواة الانترنت، قد أكدت على أن معظمهم يصبح محباً للعزلة. وهو ما أكده طبيب الأعصاب الأميركي جون كاسيوبو في كتابه عن الوحدة تحت عنوان «الطبيعة البشرية والحاجة الى التواصل الإجتماعي». لكن يبدو أن هذا الإنطباع بدأ منذ عامين يأخذ منحى مغايراً. فما هو الجديد بهذا الشأن؟

 

التفاعل بين الوحدة ومعطيات الشبكة
العام 2008، أجرى أطباء نفسيون أميركيون دراسة على مجموعة طلاب جامعيين، تعرّفوا من خلالها على اختلاف تفاعل كل منهم مع «الشبكة» بشكل مستقل. ونتيجة لذلك، تبيّن أن انقطاع العلاقات الإجتماعية لدى البعض، لا يرتبط بزيادة ساعات الجلوس أمام «الانترنت»، وهو ما يتناقض مع ما سبق وأعلنته نتائج الأبحاث السابقة. الى ذلك، جاء معظم الدلائل لمصلحة التطور الإلكتروني، لأسباب في مقدمها: شعور معظم مستخدمي الشبكة، بالسعادة والراحة النفسية، لتمكنهم من التعبير بسهولة لم تؤمنها لهم اللقاءات الحية.
أما بالنسبة الى الربط بين الشعور بالعزلة والإفراط في استخدام الانترنت، فهذا برأي الإختصاصيين، يتعلّق بتكوين أدمغة المعنيين بالأمر. وهذا يعني أن هذا الشعور متأصل في أدمغة البعض، وقد يزيد منه إدمان الانترنت الى حد ما لأسباب أهمها: النظرة الشخصية الى الحياة، والتفاعل مع المتغيّرات.

 

كيف يحصل ذلك ولماذا؟
العام 2009، قام العالِم الأميركي جون كاسيوبو بتصوير أدمغة بعض مستخدمي الشبكة، وذلك في أثناء جلوسهم أمامها، وخلال قيامهم بمهماتهم العادية. وتبيّن نتيجة لذلك أن الشعور بالوحدة لا يرتبط بالانترنت بقدر ارتباطه بمواجهة إفرازات المجتمع، وهذا يعود الى تركيبة قشرة الدماغ (Brain Cortex)، والتي تتفاعل لدى البعض مع السلبيات، أكثر من تفاعلها مع الإيجابيات. ومن هنا التأثير السلبي للإنترنت على مشاعرهم.
فعندما يكون الأشخاص السلبيون بمفردهم، أي بمنأى عن التفاعل الإجتماعي، تتأهب أدمغتهم تلقائياً لمواجهة المخاوف والتهديدات الخارجية. وقد يتضاعف هذا التأثير في حال عدم رؤية هذه التهديدات. وهذا ما يحصل في أثناء الحوار الإلكتروني. والسبب أن هذا الحوار يمنع التلاقي وجهاً لوجه، وبالتالي قراءة لغة العيون والأجساد، والإستعداد للمواجهة، الأمر الذي يغذي الخوف من المجهول ويزيد من الشعور بالعزلة.
من جهة ثانية، تؤكد إحدى الدراسات أن محبي التواصل الإلكتروني والذين يحتفظون بصداقتهم على الأرض، أو يلتقون المتحاورين معهم عبر الشبكة، هم الأكثر بعداً عن شعور العزلة. الى ذلك، ثمة براهين على أن السلبيين، حتى ولو حاولوا تغيير شخصياتهم عبر الأثير، فإن مشاعرهم لا تلبث أن تفضحهم وتبعد عنهم المحاورين.

 

ماذا عن تضخّم «الأنا» عبر الإنترنت؟
كما سبق وأشرنا، فإن سهولة الحوار الإلكتروني قد تنمي ثقة الكثيرين بأنفسهم، لكن المفتقرين الى هذه الثقة قد يجدون فيها فرصة سانحة من أجل التحوّل الى «نرجسيين». والسبب أن الشبكة تتيح لهم إخفاء أخطائهم، وبالتالي التملّص من الإنتقاد. وهو ما يضخّم من أنانيتهم ليوصلهم الى مستوى الغرور. وهنا يطرح بعض الأطباء النفسيين السؤال الآتي: هل النرجسية نزعة فردية متأصلة في الذات، أم أن بلورتها تخضع للمتغيّرات الحياتية، ومنها مؤخراً حوار الإنترنت.
على الرغم من الجدال القائم حول هذه النقطة بالذات، إلاّ أن بعض الدلائل قد أشار بوضوح الى صحة النظرية الأخيرة. فالإحصاءات التي تناولت نسبة وجود النزعة النرجسية بين الأميركيين، منذ العام 1989، أكدت ارتفاع هذه النسبة خلال العام 2002، أي منذ انتشار مواقع الحوار الإلكتروني، كجزء من التطور الحضاري. وهذا يعني أن بعض مواقع الشبكة قد يكون قادراً على جذب الشخصيات الهشة من أجل إعادة رسمها، وتضخيم «الأنا» الكامنة في أعماقها.

 

الشبكة والإدمان
بالحديث عن النرجسية والشخصيات الهشة، لا بد من التطرّق الى الناحية الأهم من إفرازات الإنترنت، أي «الإدمان».
حسب الكثيرين، فإن الإفراط في التواصل الإلكتروني، قد يتسبّب بإدمان يصعب التخلص منه. والدليل وجود 250 مليون مشترك في الـ«facebook» وحده. وهؤلاء بحسب الإحصاءات، يصرفون حوالى 233 مليون ساعة من أوقاتهم وهم يحدّقون بالشاشة. وحسب إحصاءات أجريت في جامعة بوسطن الأميركية، فإن معظم مدمني الـ«facebook» يمارس إدمانه حتى في أثناء العمل، ما يعتبر هدراً للمال والإنتاج. فكيف يحصل الإدمان على الإنترنت، وأي فئة تقع ضحيته؟
الباحثون في هذا المجال، يؤكدون على أن «الإنترنت» هي كسواها من وسائل التسلية والتواصل الإلكتروني، تؤمن لأصحابها مكافأة معنوية وسعادة قصوى، تنجم عن ارتفاع مستوى هرمون «الدوبامين» في الدماغ. وهذا يعني أنها تقود الى الإدمان بدرجات تتفاوت وفق شخصية أصحابها.
فالبعض مثلاً يكتفي بساعة أو ساعتين في اليوم. بينما نجد البعض الآخر ينزلق لا إرادياً بطريقة يصعب ضبطها. ومن هنا الاعتقاد أن مسؤولية الإدمان لا تتحملها الشبكة بقدر ما تتحملها شخصيات مستخدميها، وفي مقدمهم المصابون باضطراب الوسواس القهري. وهو ما يؤكده العالم النفسي الأميركي Scott Caplan بقوله: «إن الأشخاص الذين يستمتعون بالحوار الإلكتروني أكثر من اللقاءات الحيّة، هم عموماً من الشخصيات الوسواسية، إضافة الى كونهم من محبي العزلة». وهؤلاء كما تؤكّد الدراسات يفضّلون التسلي بألعاب الإنترنت، ومنها المقامرة، الى جانب مشاهدة الصور الإباحية.
إذن، الإدمان لا يطاول جميع مستخدمي الشبكة، بل ينحصر بالقلقين الذين يخشون المواجهة، ويريحون أمزجتهم عبر الشبكة ومن هنا تبدأ مشكلتهم.

 

التواصل الإلكتروني في المستقبل
التعامل البشري الحالي مع الإنترنت، والتقدّم العلمي المستمر، يمهّدان، كما يبدو، لغزو إلكتروني أكثر التصاقاً بحياتنا ومستقبلنا.
فنحن، كما تؤكد الدلائل كافة، نتحرك باتجاه زمن، يصعب علينا خلاله التفرقة بين العلاقات الإلكترونية والأخرى الحيّة. وهنا يكمن التحدي بمعنى إبقاء مسافة تحول دون الدمج بين الواقع واللاواقع.
فعلماء النفس الذين يؤيدون اليوم الإستخدام الإيجابي «للشبكة»، يعترفون بأنها تفتقر الى الكثير من عوامل التواصل الإجتماعي الصحيح، وفي مقدمها لغة الجسد واللمس الضروريان للتفاعل البشري السوي. وإذا ما أخذنا بالاعتبار سرعة التقدم الإلكتروني غير المحدود، فقد يأخذنا الخوف من الوصول الى زمن يحصل فيه انصهار تام بين الأجيال القادمة وبين الوسائل الإلكترونية البالغة التطوّر، إنصهار تفقد معه البشرية طابعها العلائقي التقليدي، وتتحوّل الى ملحقات روبوتية.
ويبقى السؤال: هل سيحتفظ الإنسان بمسافة تفصله عن الآلة التي ابتدعتها يداه، أم أنه سينساق وفق متغيراتها؟