رحلة في الإنسان

التفكير الإيجابي ضروري ولكن «السير عكس التيار لا يجدي»
إعداد: غريس فرح

كثرت خلال السنوات الأخيرة الدعوة إلى اعتماد التفكير الإيجابي، وبالتالي التدّرب على اكتساب النظرة التفاؤلية للحياة، باعتبارها الركن الأساسي لتحصيل النجاح، وتأمين الصحّة والسعادة، فهل هذا صحيح؟
بعض الباحثين النفسانيين لا يقرّ هذا التوجه المحدود الرؤية، ويلفتون إلى أن للتشاؤم أحيانًا
دورًا مهمًا على صعيد تأمين التوازن الإدراكي.
ووفق هؤلاء فإن الإيجابية ترافق عمومًا الصحة الجيّدة، وتؤمن تحقيق بعض الأهداف، لكن الإفراط في التفاؤل يعمي أحيانًا عن رؤية الحقيقة، الأمر الذي يعرّض المتفائلين لانتكاسات مدمّرة.
اذًا، بين التفاؤل المفرط والتشاؤم المتزمت، كيف نسيّر حياتنا؟

 

للتشاؤم إيجابيات!
إذا أعدنا النظر في الأبحاث التي أجريت خلال العقود الأخيرة، نجد أن علم النفس الأكاديمي كان ولا يزال يولي أهمية كبرى لدراسة الأمراض النفسية والجريمة وإدمان المخدّرات وسواها من الظواهر السلبية، بهدف معالجة بعض المشاكل الفردية والاجتماعية بالطرق المناسبة.
في نهاية التسعينيات، أسس المعالج النفساني الأميركي المعروف مارتين سوليغمان حقلاً جديدًا في علم النفس سماه «علم النفس الإيجابي»، وسعى من خلاله إلى اكتشاف أسباب السعادة وقوة الشخصية، وسواها من الوجوه اللاّفتة لعلم النفس التكيّفي والصّحة العامة. وفي هذا السياق، شدّد سوليغمان على أهمية الإيجابيّة باعتبارها السبيل الوحيد لتحصيل السعادة. مع ذلك فهو قد حذّر من مغبّة الإفراط في التفاؤل، كونه قد يحول دون رؤية الحقيقة بالوضوح اللاّزم.
وفي الواقع، فإن معظم المعطيات التي تعتمدها الأبحاث الحالية من أجل تمجيد التفكير الإيجابي غير المحدود، تفتقر كما يبدو إلى الأرضية الصلبة. حتى أن الاعتقاد السائد والذي سبق وأشرنا إليه، بأن الصحة والسعادة هما نتيجتان حتميتان للتوّجه الإيجابي، لا يبدو حتى الآن صحيحًا. والدليل أن البحث الذي أجرته جامعة كورنيل الأميركية العام 2010 وشمل مجموعات كبيرة من المتفائلين والمتشائمين، أثبت بوضوح أن الصحّة الجيدة تؤمن بحدّ ذاتها الطاقة والمعنويات العالية، وبالتالي التفاؤل والسعادة وإيجابية التفكير، وليس العكس هو الصحيح.
إلى ذلك فقد تبث بالبيانات العملية، أن الأمراض العضوية، وخصوصًا تلك الناجمة عن الفيروسات والبكتيريا، تتسبب ببعض حالات الإكتئاب، وبالتالي بالتشاؤم وهبوط المعنويات. وعرف أن هذه الحالات قد تدوم لفترة طويلة بعد زوال المرض العضوي، وتتحسن من تلقاء ذاتها.


السير عكس التيار لا يجدي
ان اعتناق النظرة التفاؤلية عبر التدريب التكيفي الموجه، قد لا يكون ملائمًا للجميع. فالتفاؤل المقترن بالسعادة، كما التشاؤم المصحوب بالقلق، هما سمتان متعلقتان بتكوين الشخصية والطباع. وعلى هذا الأساس، يتعذر على أي كان اتّباع التعليمات التي تلزمه تغيير نمط شخصيته وتفكيره. صحيح أن التدريب السلوكي قد يفلح أحيانًا في تصويب إتجاه بعض القلقين أو الخائفين من الفشل، لكن معظم نتائج الدراسات الحديثة تشير إلى أن المتشائمين الذين يدفعون إلى التفاؤل قبل الإقدام على خطوات مصيرية، كالخضوع لامتحان أو التحضير لمقابلة عمل، يفشلون عمومًا في أدائهم، الأمر الذي يزيد من تشاؤمهم وشعورهم بالفشل.
وهنا يشير بعض الباحثين إلى أن التشاؤم يجدي في بعض الأحيان. وهذا يحصل لأن المتشائمين يتمتعون بميزة استباق الأحداث لقلقهم الزائد، ويحاولون قدر المستطاع التنبوء بالمصاعب والتغلب عليها. وعرف أن معظم المبالغين في التفاؤل وتضخيم الأنا، يقعون فريسة الاكتئاب لدى أول نكسة تصادفهم. وهذا يعود إلى انعدام إحساسهم بالحذر، الأمر الذي يرتّب على تهورهم كوارث لا تحمد عقباها.

 

أهمية الحفاظ على التوازن
التفكير الإيجابي ضروري وله حسناته. فهو يشجّع على اتخاذ الخطوات الجريئة، ويحث على اقتحام الصعاب، كما يوسّع أفق التفكير. مع ذلك، فإن سلبياته التي سبق واشرنا إليها، قد تمنع المتحلين به من تحقيق الوعود المنتظرة. وهذا ينطبق على المتشائمين الذين يدفعون إلى تغيير نمط تفكيرهم، فهؤلاء يستمدون من آلية قلقهم دعمًا لمواجهة الحياة.
على هذا الأساس يترتّب على الفئتين المذكورتين الأخذ بالاعتبار خطوط شخصياتهم وطباعهم، كما مقدرتهم على التأقلم ورؤية الواقع. والأهم احتفظاهما بالتوازن المنطقي الذي يحمي من ردّات فعل التهوّر الفطرية.