افاق العلوم

التقنيات الأكثر تطوراً قد يمكن اعتراضها بأخرى بسيطة
إعداد: الملازم ول ربيع دوغان

الهاتف الـخلوي يكشف الطائرات الـخفية

يقف المرء مشدوهاً أمام التقدم التقني الذي يشهده العالم اليوم، وخصوصاً ما يتعلق منه في مجال الطيران الحربي تحديداً، ولعلّ قراءة كتاب في هذا السياق تجعلنا نحلّق في الأجواء، ونخوض المعارك، ونهاجم قواعد العدو خلف خطوط المواجهة، كل ذلك يحصل لنا من دون أن نغادر أسرتنا، وإنما عبر أحلام رائعة ستراودنا بُعيد قراءة ذلك الكتاب لا محالة.
وإذا أردنا أن نتجاوز الأحلام قليلاً لندخل في الواقع الماثل في تلك الساحات فعلاً، فإننا نحتاج إلى كثير من الخيال لإدراك بعض مما يجري في ذلك العالم. وما أثار لديّ فضول البحث في هذا المضمار خبر تتناقله الأوساط العلمية البريطانية مفاده أن طائرات «بي-2» الخفية، التي تصنّف ضمن مجموعة الطائرات الملقبة بالشبح، لم تعد شبحاً ولا يحزنون، فالتقنية العالية المستخدمة لإخفاء الطائرة عن عيون الرادارات المختلفة، أصبح بالإمكان كسرها عبر تقنيات بسيطة جداً وباستخدام موجات كهرومغناطيسية تشبه تلك الصادرة عن الهواتف الخلوية.
الفكرة ببساطة أن القيام بإجراء مكالمة هاتفية عبر هاتفك النقال (أو الخلوي أو الجوّال كما تسمّيه)، تلك المكالمة كافية لكشف وجود الطائرة المرعبة على بعد ثمانية أميال فوق رأسك، بل وتحديد موضعها بالضبط.
إن آلاف المكالمات الخلوية العشوائية التي تجري بين الناس في كل لحظة قد استطاعت بالفعل وبشكل غير متعمد «تخريب» تقنية الإخفاء المعقدة التي تتميز بها طائرة «بي-2» وأشباهها. وحتى ندرك كيف يتم ذلك دعونا نشرح الفكرة بإيجاز، ثم نربط بينها وبين فكرة الطائرات الشبحية، بعد استعراضها بشيء من التفصيل.


أداء غير موثوق

على الرغم من أن الأبحاث جرت في معهد «روكي مانور» الواقع في قرية انكليزية معزولة، فإنه معهد تابع لشركة «سيمنز» الألمانية العملاقة، وهي شركة كما نعلم تعنى بالعديد من المجالات الكهربائية والالكترونية، ومنها الهواتف الخلوية. وقد أعلن المعهد في و2قت مبكر من العام 2001، أن «أداء أنظمة الطائرات الخفية أو الشبحية لم يعد موثوقاً كما كان من قبل». وقد برّر قوله بأن «تحليل إشارات الهواتف الخلوية المرتدة عن أجسام طائرات الشبح يتيح للمدقق معرفة مكان الطائرة بالضبط، فضلاً عن اكتشاف وجودها».
وتقوم فكرة الرادار في الأصل على تسليط شعاع قوي من الإشارات اللاسلكية نحو الفضاء، ثم تحليل الإشارات المنعكسة عن الأجسام المتحركة في الفضاء. ولكننا اليوم نعيش في بحر من الإشارات اللاسلكية المنبعثة بشكل مستمر من أبراج الهواتف الخلوية، والمحطات الفضائية، وغيرها من المصادر، ولعلّ تلك الثورة الهائلة في الاتصالات والمعلومات قد تسببت في انتاج أداة تجسّس وتنصّت جديدة لم تكن تخطر لأحد من قبل، إنه رادار جديد يستثمر الإشارات اللاسلكية الموجودة فعلاً في الفضاء بدلاً من إنتاج إشارات جديدة.
لقد كانت فكرة معهد روكي بسيطة وطريفة، وتعتمد على الهاتف الخلوي في الأساس، وذلك عبر إجراء مجموعة من المكالمات الهاتفية ومن مناطق متعددة تغطي المنطقة المقصودة بالمراقبة، ويتم تحديد نقطة مركزية لمعالجة الإشارات الصادرة والواردة من المكالمات المتعددة، وبالتالي يتم تحليل تلك الإشارات ومعالجتها ومقارنتها بما يسبقها وما يليها، وتسجيل أي اختلالات أو تشوهات حدثت للإشارات (بسبب مرور طائرة عبرها). ومن خلال دراسة طبيعة التغيرات، وطبيعة حركتها، وتقاطعها مع خطوط المكالمات بحسب مصادرها، يمكن تحديد مسار حركة الطائرة، وموضعها بالضبط في كل لحظة ضمن مدى الرادار (الخلوي) إن جاز لنا التعبير.
إن هذه الفكرة تبدو منطقية وممكنة إلى حد كبير، إلا أنها لم تخرج إلى النور على شكل جهاز فعلي حتى الآن، وما زالت تحتاج إلى المزيد من العناية والتحليل الواقعي، وخصوصاً من الجانب العسكري والأمني. ولكن العلماء لدى معهد روكي يصرّون على أن الفكرة سترى النور قريباً، بالرغم من إدراكهم صعوبة رصد صدى التغيرات التي تجري على المكالمات الخلوية بدقة.

 

لعبة الهرّ والفأر

من المسائل التي تجعل فكرة معهد روكي أقرب إلى كونها مزحة من أن تكون فكرة قابلة للتطبيق عسكرياً، ذلك التاريخ المعقد لتطور الطائرات الخفية، فقبل اختراع الرادار الذي يكتشف وجود الطائرات على بُعد عشرات الكيلومترات كانت عملية مراقبة الطائرات تتم بالعين المجرّدة، وبقي الأمر كذلك إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، حين بدأ العلماء البريطانيون أول أبحاثهم في هذا السياق. واستفاد البريطانيون كثيراً من تجربة الحرب العالمية الثانية، حيث تم الكشف عن الطائرات القادمة لضرب لندن عام 1940 قبل وصولها بمدة، وبالتالي أخذ الاحتياطات اللازمة للمواجهة.
واستمرت لعبة الهر والفأر بين الطائرات والرادارات بعد تلك الحقبة عدة عقود، واستخدم العلماء أنواعاً مختلفة من الدهانات والطلاء لتمويه الطائرات، إلا أن ذلك لم يفلح بعد تطور الرادارات وتحسّن إمكاناتها. ومن القصص المشهورة في هذا المجال إرسال وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) لطائرة «يو-2» داخل الأراضي السوفياتية بعد تمويهها بكل الوسائل المتاحة آنذاك لأغراض تجسسية، ولكن الرادارات السوفياتية اكتشفتها وحدّدت مسارها بالضبط، وأدت هذه المسألة إلى احتجاجات سوفياتية وكشف العملية على الملأ.
وجــرت بعـد ذلك عدة محاولات من جانب السوفيات لتمويه طائراتهم، إلا أن المسألة لم تفلح، ومن هنا بدأت الأبحاث تتجه في نهاية الستينيات من القرن الماضي نحو إعادة تصميم الطائرات بطريقة تضمن عدم عكسها للإشعاعات المرسلة من قبل الرادار نحو الأرض. وكانت الفكرة كما يشـرحها المهندس آلان براون من شركة لوكهيد التي تولّت عمليات التطوير هـي: «إنتاج أسوأ هوائي لاسـلكي، ثم جعـله يطــير في الفضاء».
وأسفرت الأبحاث المضنية عن إنتاج أول طائرة خفية لدى شركة لوكهيد، لقد كانت بالنسبة إلى مهندسي التصميم أشبه ما تكون بالمسخ المشوّه، فجسمها لم يكن أملساً بل مليئاً بالأخاديد، وأجنحتها ذات زوايا حادة مائلة للخلف، وبالكاد استطاعت الطيران فوق الأرض. ولكن من حيث المعايير الأخرى، فإن الرادار لم يستطع أن يراها إلا بحجم طائر صغير بالرغم من أن وزنها كان يتجاوز الستة آلاف كيلوغرام.

 

قدرة على تشتيت الأشعة

الفكرة الأساسية التي كانت وراء ذلك النجاح المبدئي هي قدرة جسم الطائرة المشوّه على تشتيت الأشعة المنبعثة من الرادار في كافة الاتجاهات، وبالتالي عدم قدرة الرادار على التقاط انعكاسات بحجم تلك الأشعة الصادرة.
وتمـثل طائرتا «F-117» و«B-2» أول طـائرتين خفـيتين تم انتاجهما فعلياً عام 1980، وتعتمدان المبدأ نفسه، حيث يقوم سطحهما العلوي والسفلي المائل بتشتيت أشعة الرادار إلى اتجاهات مختلفة، وتساهم الحواف الحادة في زيادة تشتيت الأشـعة القادمة من الرادار، وبالتالي ضمان عدم عودة تلك الأشعة إليه.
ولكـن لأن التكـنولوجيا تأكل بعضها، فإن أبحاث معـهد روكـي تأتي في سـياق لعـبة الهـرّ والفـأر بين الرادارات والطائرات الشبحية، ومن الممكن أن تكون الفكرة قابلة للتطبيق خلال السنوات القادمة، وعندئذ علينا انتظار الفكرة الجديدة التي سترد بها الطائرات على الرادارات.
وتجـدر الإشارة إلى أن الرادارات قد سجّلت نجاحاً عبر فكرة متطورة أخرى سبقت فكرة معهد روكي، وتسمى بالرادار متعدد المواقع. ففي حين يكون جهاز إرسال الإشارات وجهاز استقبالها في الموقع نفسه في الرادار التقليدي، فإن جهاز الإرسال يكون منفصلاً تماماً عن جهاز الاستقبال، وهنا يمكن لهذا الرادار التقاط أشعة منعكسة أكبر من الطائرة الشبح التي تحلق في الأجواء، وبالتالي تحقيق رؤية أكبر بالنسـبة إلى تلك الطائرة.
إنه صراع مستمر بين التكنولوجيا والتكنولوجيا المضادة، علماً أن التقنية برغم تعقيـداتها وتكلفة أبحاثها قد يمكـن مواجـهتها بتقنية بسيطة عبر استخدام الموارد المتاحة، فقد يستطيع أي معهد بحثي في أرجاء العالم القيام بما قام به معهد روكي في سبيل إنتاج «رادار الفقراء» (إن جازت لنا التسمية).