تاريخ عسكري

التكتيك العسكري عند الجيوش القديمة
إعداد: د. شادية علاء الدين

اتصفت أساليب القتال ووسائله في الامبراطوريات والقبائل القديمة بالبدائية والبساطة. لكنها في الحروب والمناوشات التي كانت تنشأ بين القبائل أو حتى ضمن القبيلة نفسها أحيانًا، تفننت في ترتيب الجند والقتال وإدارة المعركة، واتبع كل منها تكتيًا عسكريًا معينًا.

 

عرب الجاهلية
عرف عرب الجاهلية تكتيك «الكر والفر» بلا نظام أو قاعدة أو هدف. كان القتال يبدأ بـ«المبارزة» بين أبطال القبيلتين المتخاصمتين، وقد أدت المبارزة دورًا مهمًا في حسم الكثير من الحروب وحالت دون الاشتباك بين العديد من القبائل. أما في حال نشوب الحرب فكانوا يعتمدون تكتيك «الكر والفر» من دون أي فكرة مناورة، ويتراشقون بالسهام حتى إذا شعرت قبيلة منهم بالهزيمة، تراجعت ثم كرت من جديد.
اعتمد هذا التكتيك البدائي والبسيط على المبدأ القائل: «أتقنوا الكرّة بعد الفرّة»، بحيث يكرّ كل فريق على خصمه، من دون غاية معينة أو نظام محدد، حتى يصبح في متناول سهامه فيرشقه بها أو يلتحم معه بالسيف، إلى أن ييأس الخصم أو يضعف، فيفرّ لاستجماع قواه والتقاط أنفاسه، ويكرّ من جديد.

 

الأشوريون
أنشأ الأشوريون جيشًا دائمًا ومنظمًا شكّل القوة الضاربة في الشرق الأدنى القديم، وذلك لاتّباعهم تكتيكًا عسكريًا ناجحًا من أبرز عناصره، المفاجأة والسرعة واستعمال الأسلحة الحديد.

 

الغساسنة والمناذرة
اعتمد الغساسنة والمناذرة تكتيك «الكرّ والفرّ»، غير أنهم اتقنوا التكتيك العسكري والتنظيم الذي اعتمده البريطانيون والفرس بحكم العلاقة التي نشأت بين الطرفين، وهي كانت سلمية أحيانًا وعدائية حربية أحيانًا أخرى. وهكذا طورت هذه القبائل تكتيكها الحربي من «الكرّ والفرّ» إلى «الزحف والصف».

 

الجيش المقدوني
حقق الملك فيليب المقدوني الوحدة السياسية في مقدونية، واهتم بالأمور العسكرية وأقام جيشًا مركزيًا منظمًا قادرًا على الغزو الخارجي بامتياز وجدارة (360 ق.م). واتبع المقدونيون نظام الفليق الذي أثبت تفوّقه في القتال خصوصًا خلال حملة الاسكندر المقدوني على الامبرطورية الفارسية. ويتميز هذا النظام بكثافة عدد جنود المشاة الثقيلة والأسلحة، ومرونة الحركة في الوقت نفسه، فضلاً عن المشاة الخفيفة وفرق الفرسان التي كانت الأقوى والأحسن تنظيمًا وتسليحًا. وقد شكلت مقدونيا، في عهد الملك فيليب، خطرًا كبيرًا على المدن اليونانية المنقسمة في ما بينها، إذ قام بالاستيلاء عليها وجعلها تحت سيطرته، وذلك بفضل قواته العسكرية المتطورة. كما انتصر على القوات الأثينية ــ الطيبية (طيبة) وانزل بهم هزيمة ساحقة، العام 338 ق.م.

 

الفرس والبريطانيون
تميز الفرس والبريطانيون عن الجيوش القديمة، بأساليبهم المتنوعة في القتال وتنظيمهم وقوتهم العسكرية. واعتمدوا «قتال الزحف» و«نظام الصف» و«القتال بالكراديس» و«المناورة» في حروبهم بدلاً من أسلوب «الكرّ والفرّ». ومما يجدر بالذكر، أن الفرس والبريطانيين كانوا من أعظم الامبراطوريات وأكثرها تقدمًا في فنون الحرب والقتال وأوسعها نفوذًا في التاريخ القديم. وقد أخضعوا أمم الشرق لسطوتهم وقوتهم إذ كانت الجيوش الأخرى بدائية في أساليب قتالها.

 

الفتوحات العربية
من المعروف أنه خلال الفتوحات العربية تميزت العلاقة بين العرب من جهة والبيزنطيين والفرس من جهة أخرى، بالعدائية وسادها القتال والحرب. وقد تمكن العرب، في بضع سنين فقط، من اتقان خصائص الفن العسكري الذي برع به أعداؤهم وأحرزوا الانتصار على أمم ذلك العصر.
واتبع القادة العسكريون تكتيكًا عسكريًا تطور مع الوقت تطورًا كبيرًا لاستفادتهم من التكتيك الذي اعتمده أعداؤهم في الحروب ضدهم، ومن تجاربهم المتكررة في المعارك. وقد تميز القتال عند العرب  بالمبادئ التكتية العسكرية الآتية:
ــ قتال الكرّ من دون الفرّ الذي يمنع الجنود من الفرار من أمام العدو.
ــ قتال الزحف والصف، وهو يقضي بترتيب صفوف الجنود للمعركة كما ترتّب للصلاة، ومن ثم التقدم نحو الفريق الآخر صفوفًا متراصة.
ــ المناورة والمباغته في القتال، أي الانحراف أو «الميل» يمنة ويسرة وقلبًا، لمداورة العدو ومناورته أو الالتفاف عليه.
ــ التعاون مع القوى الحليفة في ساحة المعركة.
ــ الصمود في ساحة المعركة والثبات في وجه الأعداء من دون تراجع.
ــ ترصد الأعداء واستطلاع أخبارهم، فقد اتبعت الجيوش هذا التكتيك العسكري منذ القدم حيث استخدم عرب الجاهلية الجواسيس لأغراض عسكرية وكذلك الآشوريون.
 واعتمد القادة العرب إبان الفتوحات العربية على الجواسيس والسعاة الذين كانوا يستطلعون أخبار العدو وينقلونها لهم. في المقابل طلبت شعوب البدان التي تم احتلالها الأمان والصلح متعهدة بأن توفر للعرب «عونًا» و»أعوانًا». ومن بين هذه الشعوب الأقباط والجراجمة الذين كانوا يأتون بأخبار الروم وحشودهم، غير أن الجراجمة كانوا يستقيمون للفاتحين العرب مرة ويخونون مرة أخرى.

 

المغول
اعتمد المغول على تكتيك «الكرّ والفرّ» في قتالهم. واعتبرت اعمالهم الحربية المميزة بالقدرة على الإطباق والسرعة أحد أهم عوامل النصر في حروبهم. فقد تميزوا بسرعة إطباقهم على العدو وبسرعة الرماية وإحكامها، فضلاً عن تفوقهم في الأسلحة. وقد أصدر ملك المغول جنكيز خان قانون «اليساق» أو «الياسا» الذي اشتمل على مبادئ أساسية في تعبئة الجيوش والاستعداد للحرب، ومنها:
ــ الطاعة التامة.
ــ النهي عن الهرب من صفوف الجيش المغولي.
ــ إنقاذ الجندي العاجز أو الذي وقع أسيرًا في يد الأعداء.
ــ مساعدة الجندي الذي سقط منه قوسه أو شيء من متاعه، وهو يكرّ أو يفرّ في ساحة المعركة، إذ يتوجب على زميله الواقف خلفه مناولته ما سقط منه، ونصّ «الياسا» على قتل الجندي الذي لا يتقيد بهذا البند.
والجدير بالذكر أن أمة المغول كلها عملت في صفوف الجيش المغولي لتزويده الطعام والمعدات والأفراد.

 

العثمانيون
تميزت الدولة العثمانية بقوتها العسكرية وجيشها النظامي الأحسن تدريبًا بين الجيوش خلال القرنين السادس والسابع عشر. وكان السلاطين العثمانيون يعبئون جيشهم للقتال ويهيئونه بشريًا وماديًا ونفسيًا وفق ما بدا جليًا في الفرمانات التي أصدرها السلطان عبد المجيد الأول خلال القرن التاسع عشر.
ويعتبر إعداد الجيش بشريًا ونفسيًا وماديًا أحد أهم عوامل النصر في القتال، في الماضي كما في أيامنا هذه، حيث يشدد العلم العسكري الحديث على التعبئة النفسية والتوجيه المعنوي، كأحد أهم عوامل النصر في أي حرب.

 

المراجع والمصادر:
ــ سجل رقم 51 من سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس الشام، ص 142، 142، 146، 147، 164.
ــ اللواء الركن ياسين سويد: الفن العسكري الإسلامي، أصوله ومصادره، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 1990.
ــ د. زين نور الدين: نشوء القومية العربية، دراسة تاريخية في العلاقات العربية التركية، دار النهار للنشر 1986.
ــ د. لطفي عبد الوهاب يحيى، اليونان مقدمة في التاريخ الحضاري، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1979.
ــ د.عمر عبد السلام تدمري: لبنان من الفتح العربي حتى سقوط الدولة الأموية، جروس برس، طرابلس 1990.
ــ د. حسن المبيض، تاريخ الشرق الأدنى القديم، دار ومكتبة الجامعة اللبنانية للطباعة والنشر والتوزيع، 1991.
ــ د. فاطمة هدى نجا، المشرق العربي منذ ضعف الخلافة العباسية حتى ظهور الخلافة العثمانية، دار الإيمان، طرابلس 1993.