دراسات وأبحاث

التكلفة الاقتصادية لـ«الربيع العربي»
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

«إنّ من يكسب النزاع ليس من يملك آخر رصاصة بل آخر قرش» نابوليون بونابرت

 

بين أواخر العام 2010 ومطلع العام 2011 انطلقت في بعض البلدان العربية، حركات احتجاجية ضخمة. وكان من أسبابها الأساسية، انتشار الفساد، والركود الاقتصادي، وسوء الأحوال المعيشية، إضافة إلى التضييق السياسي والأمني، وعدم شفافية الانتخابات. هذه الحركات التي ما زال بعضها مستمرًا، انحرفت بمعظمها عن الأهداف والشعارات التي انطلقت في الأساس من أجل تحقيقها، وبات واضحًا حجم التدخلات الخارجية الاقليمية والدولية في مجرياتها وتحوّلاتها.


خسائر وتقديرات
ورد في أول تقدير للخسائر الاقتصادية التي نتجت عن «الربيع العربي» وفق الأمم المتحدة: «إنّ حركة الاحتجاجات التي شهدتها عدة دول في الشرق الأوسط خلال ما يعرف بـ«الربيع العربي» كبّدت المنطقة خسائر بلغت 614 مليار دولار منذ العام 2011. وشملت التقديرات دولًا لم تكن محور التحوّلات السياسية، لكنها تأثّرت من خلال وصول اللاجئين وفقدان التحويلات المالية وتراجع السياحة. وقد استندت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا- إسكوا، التابعة للأمم المتحدة في تقديراتها هذه، إلى توقّعات النموّ قبل موجة الانتفاضات في المنطقة».
كذلك، ذكر تقرير للبنك الدولي، أنّ معدّل نمو إجمالي الناتج المحلي للمنطقة في العام 2015، بلغ2.8. وتُعدّ احتمالات تحسّن هذا المعدّل ضئيلة مع استمرار التراجع في أسعار النفط وبقاء الحروب الأهلية والصراعات، إضافة إلى الركود المحتمل في الاقتصاد العالمي.
وقد أضرّت الحروب الأهلية بشدة باقتصاد العديد من الدول العربية، وفي طليعتها سوريا والعراق. ومع مطلع العام 2017 قدّر بعض المراجع الإعلامية أنّ الاقتصاد السوري حلّ في المرتبة الأولى في العالم من حيث تسديد كلفة فاتورة العنف (تشمل: الإنفاق العسكري، الأمن الداخلي، النزاع المسلّح، والجريمة)، والتي بلغت نحو 54.1% من الناتج المحلي الإجمالي. وحلّ الاقتصاد العراقي في المرتبة الثانية، من حيث دفع هذه الفاتورة (نحو 53.5% من الناتج المحلي).
كذلك، لم تسجّل البلدان المستوردة للنفط في المنطقة، نموًا سريعًا في أعقاب تراجع أسعار النفط، بسبب تضرّرها (بدرجات مختلفة) من الهجمات الإرهابية، وآثار الحروب في البلدان المجاورة، وضعف النموّ في منطقة اليورو، وغموض الأوضاع السياسية العالمية.

 

العراق
مرّ عام آخر في عمر الأزمة العراقية من دون أن تتوصّل بلاد الرافدين إلى حلّ لمشاكلها السياسية والأمنية. ولكنّ العام 2016 سجّل بداية انحسار المساحة الجغرافية والديموغرافية التي كانت «داعش» قد تمدّدت فوقها منذ العام 2014، وبدأت الحكومة العراقية بدعم شعبي ودولي تحرير الأراضي العراقية الواقعة تحت سلطة العصابات الإرهابية، ما استلزم كلفة كبيرة بشريًا واقتصاديًا وماليًا. وقد تباطأ نمو الاقتصاد العراقي، وانخفضت حركة الاستثمار إضافة إلى انخفاض عائدات الموارد، خصوصًا وأنّ تنظيم «داعش» كان يستولي على عدد من آبار النفط والغاز في الشمال والغرب العراقي، ممّا خفّض مستوى الدخل القومي الوطني ومعدّل النمو السنوي المتوقّع.
في العام 2016 انخفضت ميزانية العراق 90 مليار دولار أي نحو 21% عن السنة السابقة، وذلك بسبب انخفاض سعر النفط في بلدٍ يعتمد بنسبة 80% من دخله القومي على إنتاج الطاقة وتصديرها. كذلك ارتفعت قيمة مشتريات السلاح والتي قدّرت بأكثر من 20 مليار دولار أي نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي للعراق.
وكشفت إحصائيات دولية أنّ أكثر من 12 ألف شخص قتلوا، ونحو 14 ألفًا أصيبوا بجروح مختلفة، في أعمال عنف وتفجيرات ومعارك متواصلة شهدتها غالبية محافظات العراق في العام 2016، فضلًا عن حالات الهجرة إلى الخارج والنزوح في الداخل.
 

ليبيا
يعتمد الاقتصاد الليبي على تصدير النفط والغاز بالدرجة الأولى، وقد أدّت الأزمة المتواصلة في ليبيا، وعدم وجود حكومة واحدة قوية، إلى انخفاض كميات الغاز والنفط المصدّرة إلى الخارج بنسبة الثلثين. ونتيجة لاستمرار الحرب، ولسيطرة المسلّحين على عددٍ من مرافق الانتاج ومرافىء التصدير، تدهورت أسعار النفط وتداعى الاقتصاد.
يرى مدير صندوق النقد الدولي أنّ الاقتصاد الليبي غارق في حالة الركود منذ أكثر من 4 سنوات، ويضيف، أنّ الناتج المحلي انخفض نحو 9% في العام 2016، وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي إلى نحو ثلث ما كان عليه قبل العام 2011. كما ارتفعت الضغوط التضخّمية، لا سيما في ما يخصّ المواد الغذائية. وقد أشار أحد المراجع الاقتصادية الليبية إلى ارتفاع نسبة العجز في الميزانية العامة للدولة إلى الناتج المحلي الإجمالي، من 40.3% في العام 2014 إلى 52.5% في العام 2015، لتصل إلى 59.8% في العام 2016. وهذا العجز في الميزانية العامة يقترن بعجزٍ في الحساب الجاري بميزان المدفوعات، الذي ارتفعت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي من 27.8% في العام 2014 إلى أكثر من 50% في العام 2016. وحذّر المرجع نفسه من استمرار تآكل احتياطي النقد الأجنبي لدى المصرف المركزي.
ويشكو المجتمع الليبي من نقصٍ في الأدوية واللقاحات والمواد الغذائية والسلع الضرورية والمياه والكهرباء وتدنّي الأجور والقدرة الشرائية، وهذا ما دفع أعدادًا كبيرة من الليبيين إلى الهجرة وبخاصة نحو دول جنوب أوروبا.

 

اليمن
وصف مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن الوضع الإنساني بالكارثي، وبأنه يستدعي الاسراع بالتوصّل إلى حلّ للأزمة.
فقد أدّى الصراع المتصاعد منذ آذار 2015 إلى تعطُّل الأنشطة الاقتصادية وتدمير البنية التحتية على نطاق واسع (الطرقات والمدارس، والمستشفيات، المؤسسات العامة والخاصة، الكهرباء والمياه والمصانع وغيرها، وهي خسائر تقدّر بعشرات مليارات الدولارات).
ومنذ الربع الثاني من العام 2015، توقّفت صادرات النفط والغاز. كما انكمشت الواردات، وارتفعت أسعار المنتجات الغذائية ومنتجات الطاقة البترولية والغازية. وبلغ معدّل التضخّم السنوي حوالى 30% العام 2015، ويُتوقّع زيادته بصورة أكبر مع استمرار ضعف أداء المالية العامة. كذلك، أدّى الصراع إلى تعقيد السياسة الخاصّة بالنقد وأسعار الصرف وانخفاض سعر صرف الريال.
وقد تراجعت احتياطيات النقد الأجنبي إلى أقل من ملياري دولار في أواخر العام 2015، وبالتالي، توقّف البنك المركزي اليمني في شباط 2016 عن مساندة الواردات بسعر الصرف الرسمي، وشمل ذلك السلع الأساسية كالقمح والأرزّ. وفي غضون ذلك، أدّى اعتماد الحكومة على تمويل البنك المركزي لعجز المالية العامة، إلى زيادة رصيد الدين المحلي بنحو 18% من إجمالي الناتج المحلي، ليصل إلى نحو 74% من إجمالي هذا الناتج.
ويرى بعض المحلّلين الاقتصاديين أنّ الاقتصاد اليمني دخل مرحلة الانهيار الجزئي، عندما توقفت معظم الموارد الاقتصادية بسبب الحرب المستمرة منذ سنتين، وهو الآن يواجه شبح الانهيار الكلي نظرًا الى الصعوبات في صرف رواتب الموظفين وتدهور الريال اليمني وتفاقم الأزمات المعيشية، مما يدفع أعدادًا كبيرة من المواطنين إلى الهجرة إلى الخارج القريب أو البعيد.

 

سوريا ولبنان والأردن
استنادًا إلى بعض الأرقام التي طرحها تقرير «وورلد فيجين»، معتمدًا على تحليل أرقام البنك الدولي والأمم المتّحدة، أنهكت الحرب في سوريا البلاد، بشريًا واقتصاديًا، وخسائرها ستثقل كاهل الأجيال المقبلة أيضًا. فالكلفة الاقتصادية للحرب تقدّر بنحو 700 مليار دولار أميركي تقريبًا حتى نهاية العام 2016. أما في حال استمرّت الحرب حتى العام 2020، فإنّ كلفتها الاقتصادية قد ترتفع إلى تريليون وثلاث مئة مليار دولار. كما خلّف النزاع حتى هذا الوقت، أكثر من ربع مليون قتيل (بينهم أكثر من 11 ألف طفل)، وقرابة الخمسة ملايين لاجئ، ويبلغ عدد المحتاجين إلى مساعدة إنسانية نحو أربعة عشر مليون شخص، بينهم ستة ملايين طفل وفق تقدير الأمم المتحدة.
كما أنّ النزاع السوري أرخى بظلاله على دول الجوار وفق ما جاء في التقرير، والأكثر تضررًا هما لبنان والأردن. تكلّف لبنان نحو مليار دولار للإنفاق على الخدمات العامة والكهرباء للّاجئين السوريين بين العامين 2012 و2014. كذلك قدّر البنك الدولي أنّ خسائر لبنان في الإنفاق على النازحين في مجال التعليم والبنية التحتية تجاوزت 16 مليار دولار منذ العام 2012 ونهاية العام 2016. يضاف إلى ذلك، ارتفاع نسبة البطالة ونسبة الفقر، ممّا يرفع من رقم خسائر الاقتصاد اللبناني.
أما الأردن، فبلغ مستوى إنفاقه بسبب تدفّق اللاجئين نحو 900 مليون دولار، في العامين 2012 و2013.

 

بارقة أمل
مع إسدال الستار على العام 2016 بات مشهد الحل السياسي في سوريا أقل تعقيدًا، بوجود بارقة أمل في العودة إلى المفاوضات السياسية، وتقهقر سيطرة الإرهاب في قسم كبير من الجغرافيا السورية، بالإضافة إلى رغبة بعض الدول الكبرى في إيجاد حلّ مقبول للأزمة.
وعلى الرغم من أنّ الوضع في سوريا كارثي، فهو قابل للعلاج بفضل بقاء الدولة وأجهزتها العسكرية والمدنية وهيكلها الإنتاجي. في المقابل، فإنّ العراق وليبيا، اللذين تعرّضا للتفكّك الشامل، يحتاجان إلى ما يشبه المعجزة للعودة إلى سياق بنائي وطني موحّد. أما اليمن، ذلك البلد الفقير والمنهك أصلًا، فقد أتت الحرب على معظم مقوّمات إعادة البناء فيه، ولفترة طويلة.
 
 

استنتاجات
قد لا تكون الأرقام التي وردت في هذه الدراسة حول التكاليف المادية أو المالية وثمن الأسلحة أو الأعداد المتعلّقة بالخسائر البشرية أو النازحين والمهجّرين في هذه الدول، بالدقّة والشفافية المطلوبتين، أولًا لأنها تقديرات، وثانيًا بسبب تعدّد المصادر وتنوّعها واختلاف وجهات النظر والجهات التي تقدّم الإحصاءات من قِبل الأطراف المتنازعة. كما أنّ هذه الحروب لمّا تنتهِ بعد، ولذلك لا يمكن تقديم إحصاءات دقيقة ومحايدة حول أيّ من النقاط التي خضعت للتقدير. ولكن يبقى أنّ هذه الأرقام تقدّم فكرة عامة تمكّن المحلل أو القارىء من تكوين صورة افتراضية إجمالية تقريبية، حول انعكاسات «الربيع العربي» وأثره في اقتصاد دول المنطقة. وإذا دقّقنا بتفاصيل هذه الصورة نجد الآتي:
- اعتماد معظم هذه الدول الأساسي على موارد الطاقة من نفط وغاز في دخلها القومي.
- تدنّي الدخل القومي بسبب الحرب وتدنّي الإنتاج، بالتزامن مع سياسة تخفيض أسعاره عالميًا.
- العجز المستمر في ميزانية هذه الدول، وارتفاع مديونيتها.
- ارتفاع معدّل الإنفاق على شراء السلاح، على حساب المشاريع التنموية والإنتاجية والاقتصادية.
- تدنّي مستوى المعيشة وازدياد عدد الفقراء والعاطلين من العمل، وتدنّي مستوى التعليم والصحة.
- ارتفاع أعداد القتلى والجرحى والمعوّقين.
- ارتفاع وتيرة الهجرة والنزوح من هذه الدول إلى أوروبا ودول الجوار وازدياد وتيرة الإرهاب فيها.
- تدمير ممنهج للبنية التحتية الضرورية لاستمرار اقتصاد سليم ومنتج، وحياة اجتماعية طبيعية، مع ما يعني ذلك من الحاجة للمال والوقت لإعادة البناء في المستقبل.
- ضرب الهوية المشتركة للنسيج المجتمعي القائم، وإعلاء شأن الهويات الطائفية والإتنية والمذهبية، مع ما يترتّب عن ذلك من انعكاسات وتداعيات مستقبلية قاتمة، تؤثّر في إعادة وحدة البناء الإجتماعي والسياسي والجغرافي والاقتصادي الحالي للمنطقة، وربما لفترة طويلة.

 

من يبيع ومن يشتري؟

أكّد معظم الدراسات أنّ الدول الكبرى المصنّعة للأسلحة قد زادت خلال الأعوام الماضية إنتاجها الحربي كما ارتفعت صادراتها من الأسلحة إلى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد اشترت الدول المتورطة مباشرة أو غير مباشرة في حروب أهلية، أو في محاربة الإرهاب، أو الداعمة لبعض الأنظمة والمنظّمات، أسلحة وذخائر ومعدّات بعشرات، بل بمئات مليارات الدولارات.

 

تقديرات عربية

في نهاية العام 2016 قدّر «المنتدى الاستراتيجي العربي» في دبي، كلفة «الربيع العربي» بنحو 833.7 مليار دولار، تشمل خسائر إعادة البناء والناتج المحلي والسياحة وأسواق الأسهم والاستثمارات، بالإضافة إلى إيواء اللاجئين. واللافت أن 461.1 مليار دولار من هذه التكلفة، يتعلّق بالأضرار التي أصابت البنى التحتية. وهي ظاهرة فريدة بين أكثر الثورات دموية في التاريخ؛ فالثورات عمومًا، لها كلفة تتعلّق بالنشاط الاقتصادي بالطبع، أمّا التدمير الكثيف للبنى التحتية، وارتفاع أعداد القتلى والجرحى واللاجئين، فهي من نتائج الحروب الكبرى والكارثية.

 

المراجع:

- http://al-taleanews.com
- http://www.bbc.com/arabic/business
- https://ar.wikipedia.org
- https://www.noonpost.net/
- http://www.aljazeera.net/
- http://www.diwanalarab.com
- http://www.aljazeera.com/news/2016/11/escwa-arab-spring-cost-middlee
- http://www.bbc.com/news/world-middle-east
- https://www.sipri.org/yearbook/2016
- http://www.bbc.com/arabic/business