رحلة في الإنسان

التكنولوجيا وتطوّر قدرات الدماغ البشري!
إعداد: غريس فرح

هل يمكننا القيام بعدة أعمال في الوقت نفسه؟


قد يضيق بنا الوقت وتتراكم الأعباء على كاهلنا، فنعد أنفسنا بشد العزم وتأدية ما يلزم بالسرعة القصوى. وقد يتطلب العمل الموكل إلينا إتمام مهمات مختلفة في وقت واحد، فهل نستطيع تحقيق ذلك خلال المهلة المحددة، وهل نملك فعلاً كبشر الطاقة اللازمة لهذه الغاية؟


رأي الباحثين
حسب رأي الباحثين، إن الأشخاص الموهوبين أو المؤهلين لجمع المهمات، وخصوصًا المعقدة منها، وتأديتها معًا، هم حتى الآن غير موجودين إلاّ في الأساطير، والأمر ينطبق على ما يسَّمى اليوم بجيل القدرات الفائقة أو جيل الكومبيوتر، وعلى الطيارين المتميّزين بطاقة تركيز واسعة.
فجيل الكومبيوتر الذي نشأ وبين يديه ألعاب الفيديو، وتدرّب منذ الصغر على استخدام الإلكترونيات المعقدة، لم يتمكن حتى الآن من تسجيل تقدّم ملحوظ على نطاق الانتباه. وحتى الطيَّارين المتدربين على تلقّي معلومات مكثّفة في أثناء القيادة، فشلوا بحسب نتائج الدراسات في التفوّق على سواهم لناحية الجمع بين المهمات المختلفة، والدليل زيادة حوادث الطيران غير المرتبطة بأعطال ميكانيكية، وخصوصًا بعد تزايد تعقيدات الطيران في الآونة الأخيرة.

 

علينا أن نعرف حدودنا
هذه الحقائق نشرتها مجلة العلوم الأميركية في دراسة تمّ خلالها طرح نظرية تشدد على ضيق مجال طاقة الانتباه البشرية، وهي نظرية اعتمدت نتيجة أبحاث وفحوصات دقيقة واكبت أداء أدمغة الأشخاص الذين كلفوا بأكثر من عمل في الوقت نفسه. وقد تبين بنتيجة ذلك أن عملاً واحداً يمنع الانتباه من التركيز على سواه. والسبب أن الانتباه يطيل مدى بعض الموجات الكهربائية الدماغية، ويمنع سواها من العمل وهذه العملية قد تكون المكبح الذي يضخّم حجم بعض المنبّهات ويكبح أداء المؤثرات الدخيلة. لذا يمكننا القول أن برمجة الانتباه وحصره بعمل واحد هو مفتاح المعرفة الصحيحة والأداء الجيّد.

 

حذار الهاتف النقال أثناء القيادة والمشي
من أجل تأكيد النظرية المشار إليها، أجرت المراجع المختصة اختبارات على أدمغة السائقين والمشاة لدى استخدامهم الهواتف النقّالة، وكانت النتيجة مماثلة للنتائج السابقة. فالأداء يتدهور بسرعة لدى استخدام الهواتف النقالة في أثناء القيادة والمشي، وهو ما يعرّض السائقين لحوادث سير كان بالإمكان تفاديها، ويعمي بصيرة المشاة فيتعثرون أو يصطدمون بعوائق يعجز بصرهم عن رؤيتها لتشتت انتباههم.
كشف هذه الحقائق لم يكن بحاجة إلى عناء بالغ، فقد لاحظ الباحثون الذين واكبوا الاختبارات على السائقين والمشاة المتكلمين عبر الهواتف النقّالة، والمثقلة رؤوسهم بالأقطاب الكهربائية اللاقطة لموجات الدماغ، أن هؤلاء كشفوا عن أنفسهم من خلال عيونهم الزائغة قبل إلتقاط المختبرين موجات أدمغتهم الكهربائية المضطّربة واللافت في الأمر أنهم جميعًا فشلوا في رؤية المعرقلات التي وضعت في طريقهم.


الشرود يشتت الذاكرة
كانت الأبحاث التي أجريت على المجموعات ذاتها وللغاية نفسها، أكّدت أن المشاركين الذين طُلب إليهم التحديق مليًا بالأشياء التي يصادفونها في طريقهم، وخصوصًا على جوانب الطرقات كالمشاة والأعمدة وسواها، فشلوا لاحقًا في تذكّر وجودها لتشتت ذاكرتهم بفعل استخدام الهاتف النقال. من هنا تمّ الاستنتاج أن الشرود الذي تحدثه معرقلات الانتباه يمنع الذاكرة من حفظ تفاصيل المعلومات، أو إعادة سردها بحسب أهميتها.
ولأن الهواتف النقّالة هي في مقدّمة هذه المعرقلات، عمدت معظم حكومات الدول إلى منع استخدامها في أثناء القيادة لخطرها على السلامة العامة.
على كل، يرى الباحثون أن نسبة الشرود التي يتسبب بها الهاتف النقال ليست متساوية لدى جميع السائقين. فعندما يكون السائق وحيدًا في السيارة، يخف انتباهه مقارنة مع كونه مرافقًا من الزملاء أو الركاب. فهؤلاء يعمدون إلى تنبيهه في اللحظات الحرجة منعًا لشروده.
كذلك، فإن نسبة شروده خلال حديثه مع الرفاق في السيَّارة تنخفض بالمقارنة مع حديثه على الهاتف النقَّال.

 

هل يكفي التدريب لمنع الشرود؟
يعتقد البعض أن السائقين المدربين على استخدام الهاتف النقّال هم أكثر انتباهًا من غير المدرّبين. لكن الدراسة المشار إليها كانت قد أجرت مقارنة بين الفئتين، ونتيجة لذلك تبيّن أن المدربين على القيام بعملين معًا هم نسبة ضئيلة لم تتجاوز الواحد أو الإثنين بالمئة. وعندما تمّ إخضاعهم للإختبارات، تبيّن أنهم يتميزون بفوارق لجهة عمل الذاكرة والجبهة الدماغية الأمامية (pre frontal cortex). مع ذلك فهم أخفقوا كما لوحظ لاحقًا في تأدية أعمال أكثر صعوبة.
إشارة هنا الى أن جودة عمل الذاكرة تعتبر مهمة، لكنها غير كافية من أجل تفعيل طاقة الانتباه، حتى ولو جهد المتدربون في ذلك.

 

مزيد من المعلومات
لمعرفة المزيد من أسباب الفوارق بين الفئتين المشار إليهما، تتم حاليًا دراسة التواصل بين خلايا أدمغة كل منهما إضافة إلى جيناتهم الوراثية، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من الدراسات الأكثر فعالية. لهذا السبب أخضعت القلة المنتقاة والتي سبق وأشرنا إليها لاختبارات إضافية، ومن خلالها تبين أن أفرادها يتميّزون عن سواهم بعدد أكبر من الأنزيمات المسؤولة عن رفع مستوى هرمون الدوبامين في الدماغ، والمسؤول بدوره عن تواصل الأعصاب في الجبهة الأمامية. ولتوسيع رقعة الدراسات يتم البحث حاليًا عن المزيد من الأشخاص الأكثر وعيًا وانتباهًا. ويركّز الباحثون حاليًا على دراسة أدمغة الطيّارين، وكذلك الطباخين المحترفين لتميزهم بسرعة تحضير الوجبات المتعددة. وهم لم ينسوا لاعبي كرة القدم والجراحين المتخصصين بالجراحة الدقيقة. مع ذلك تدور الشكوك حول إمكان وصول نسبة كبيرة من بين المشار إليهم إلى قمة التركيز، لأنهم جميعًا يقومون بمهماتهم بالاعتماد على فريق مساعد. على كل فإن الجزم في هذا الموضوع يبقى حتى الآن قيد الدراسة لدقته وتعقيده. لكن عُرف أن الأبحاث الجارية تشمل حاليًا استقصاء أسباب نقص الانتباه المقترن بالحركة الزائدة لدى البعض، والذي تظهر بوادره خلال سنوات الطفولة الاولى.

 

...ومزيد من الأمل
بالعودة إلى ما يتعلق بقدرة الإنسان على تأدية أكثر من عمل في الوقت نفسه، يأمل العلماء في حصول تطوّر مستقبلي على مستوى عمل الدماغ البشري، وهو أمر يعتبر محتومًا. فالتقدّم الإلكتروني الهائل الذي شهدته العقود الأخيرة، والذي يواصل تطوره، سيزيد بدون شك من سرعة تواصل الخلايا العصبية الدماغية، وربما يخلق أجيالاً فائقة القدرة، الأمر الذي قد يرفع الجنس البشري إلى مستويات يصعب تصوّرها.