ناجحات

التلميذ الضابط كريستينا برادعي:حكاية طموح وتحدٍ

 

لأنّها تهوى التحدي ومواجهة الصعاب، وترفض الانصياع للتقاليد والمفاهيم السائدة التي لا تعترف بقدرة المرأة على مجاراة الرجل في المهمات والمسؤوليات، تركت كريستينا عالمها المريح، ولبست البزة العسكرية حاملةً طموحها وأمانيها لتبحر في عالم القوات البحرية وتغوص في أعماقه.

 

بعد أن أنهت كريستينا برادعي اختصاصها في مادة الكيمياء في الجامعة اللبنانية، باشرت التخصص في الهندسة البتروكيماوية، لكنّ فكرة الالتحاق بالكلّية الحربية استعدادًا للالتحاق بمدرسة القوات البحرية التي راودتها غيّرت مجرى حياتها، وها هي اليوم تلميذٌ ضابط في السنة الثالثة في مدرسة القوات البحرية. وجدت في هذا الاختصاص الكثير من التحدي والغموض، كما اعتبرته وسيلة لتحدي التقاليد وتغيير المفهوم السائد بأنّ إمرة المركب البحري تقتصر على الذكور، وما شجعها على المضي بالفكرة هو أنّ اختصاصها الجامعي ينسجم مع مهمات القوات البحرية، ويتيح لها عدة مجالات للتطوير والتطور خصوصًا وأنّ القوات البحرية في الجيش اللبناني هي في تعاون دائم مع الدول الأجنبية الصديقة التي تتبادل وإياها الخبرات والمعارف.

 

طليعة دورة الغطس

لم تكن الرحلة سهلة، فالتدريبات شاقة وتتطلب مستوى عاليًا من الكفاءة. أما الصدمة الأكبر فكانت حين اكتشفت كريستينا بأنّها الأنثى الوحيدة في اختصاص قتال السطح، الأمر الذي أثار في نفسها الخوف في البداية لا سيما وأنّ المدربين لا يميزون خلال التدريب بين شابٍ وفتاة. كما أزعجتها فكرة عدم وجود زميلة لها تشاركها يومياتها وتتفهم مشكلاتها. مع ذلك، تخطت التلميذ الضابط مخاوفها، وتحدّت بشجاعة مختلف الصعوبات التي واجهتها، إلى أن تمكنت من إثبات قدراتها باحتلالها المركز الأول في دورة الغطس في القوات البحرية. كانت مدة الدورة سبعة أسابيع، تخللها في أول أسبوعين دروس نظرية، تلاها خمسة أسابيع من التمارين العملية، بما فيها الغطس من دون قناع، وطرق التنفس تحت الماء، بالإضافة إلى التعامل مع العتاد البحري والحفاظ على التوازن الجسدي وغيرها من التدريبات. تابعت كريستينا التمارين نفسها التي تابعها زملاؤها الذكور، كان عتاد الغطس ثقيلًا جدًا وأتعبها حمله، ومع ذلك لم تحظَ بمعاملةٍ خاصة وإنما عانت المشقات نفسها التي عاناها زملاؤها.

 

«تانيا» والتجربة المميزة

أصعب ما في تلك الدورة كان التمرين المعروف باسم «تانيا»، وهو التمرين الخاص بإنقاذ غريق على عمق ١٢ مترًا من دون استعمال قنينة الأوكسيجين. و«تانيا» هي عبارة عن تمثال يبلغ وزنه حوالى الثلاثين كيلوغرامًا في الماء، ويشكل «إنقاذه» صعوبة كبيرة، خصوصًا بسبب نقص الأوكسيجين في طريق العودة إلى سطح الماء، حيث يمكن أن يفقد المرء وعيه، وهو ما حصل مع المتمرّن الذي سبق كريستينا، ما أثار الخوف في قلبها، لكنّها تمكنت من تخطي الخوف والنجاح في التمرين.

أما أفضل ما في الدورة، فكان الغوص وصولًا إلى عمق أربعين مترًا، وهو ما أتاح للمتمرنين أن يختبروا أعماق البحر ويستمتعوا بالتجربة المميزة وتحدي الذات والنجاح.

 

ما لم يخطر في البال!

على الرغم من الجهود التي بذلتها كريستينا في دورة الغطس، إلّا أنّه لم يخطر في بالها أن تُصنّف في المركز الأول، خصوصًا وأنّ المشاركين كان لديهم خبرة مسبقة في الغوص، ولعل ذلك قد زادها إصرارًا ومثابرةً. وبالفعل، فقد أثمرت جهودها نجاحًا مميزًا إذ تمكنت من إحراز المرتبة الأولى في سباحة الـpalmage (السباحة من دون استخدام اليدين) على مسافة ٤ و٥ كلم. كما نجحت في تمرين «تانيا» الذي أدته بالشكل الصحيح منذ المرة الأولى. وفي ختام الدورة، شاركت بنجاحٍ في المعمودية وهي بمثابة اختبار في مختلف التدريبات التي خضع لها التلامذة الضباط خلال الدورة، وقد حققت نتائج لم تكن تتوقعها.

 

أهداف مستقبلية

إنّ الصعوبات التي تعرضت لها كريستينا في بداية الدورة زوّدتها في ختامها ثقة بالنفس وإصرارًا على تخطي الصعوبات. وقد وضعت لنفسها هدفًا بأن تشارك مستقبلًا في دورة مداهمة سفن وتفتيشها، الأمر الذي يتطلب مهارات جسدية صعبة، بالإضافة إلى السباحة بالبزة العسكرية، وهو أمر ليس سهلًا على الإطلاق ولكنّها تأمل أن تحقق هدفها بنجاح. إلى ذلك، تدرك التلميذ الضابط أنّ تحديات كبيرة تنتظرها لدى تخرجها برتبة ملازم، بما فيها استلام الإمرة ومواجهة خطر العدو. وهي تشير في هذا الإطار إلى أنّ الانتقال إلى الحياة العملية هو مسؤولية بحد ذاته، فكم بالأحرى إذا كانت المهمة هي إمرة مركب وسلامة من فيه. من هنا، فإنّها تستعد منذ الآن نفسيًا وجسديًا لتحمل هذه المسؤولية. وعليه، فإنّ التمارين الجسدية والرياضة البدنية أصبحا جزءًا من حياتها اليومية، بالإضافة إلى أنّها تسعى لمتابعة دوراتٍ عسكرية مثل دورة القنص ودورة المداهمة وغيرها من الدورات التي تساعد في تنمية قدراتها واستعدادها لمواجهة أي عدوان. أما على الصعيد النفسي، فيتولى المدربون إعدادها مع زملائها لمواجهة مختلف الاحتمالات والحفاظ على رباطة الجأش في مختلف الظروف.

 

مهمة على متن سفينة أميركية

ما بين التمرين النظري والتطبيق العملي فرق شاسع، لذلك كانت كريستينا متحمسة للتجارب العملية. لم يطل انتظارها كثيرًا، إذ أُتيحت لها فرصة المشاركة في مهمةٍ على متن سفينة أميركية تحمل مساعدات للجيش اللبناني. كان وجودها على متن الباخرة في أثناء مؤتمر حضره قائد الجيش والسفيرة الأميركية إلى عدد من الضباط في الجيش اللبناني. وكانت التجربة بمثابة تدريب عملي على مهمات سوف تقوم بها لاحقًا كضابط في سلاح البحرية، وقد أتاحت لها فرصة التواصل مع أفراد الطاقم الأميركي، والاطلاع على معلومات مفيدة على صعيد سلاح البحر. أما أبرز ما لفتها، فهو أنّ قيادة السفينة كانت بيد أنثى، وقد حملت مسؤولية قيادة طاقم من الولايات المتحدة إلى لبنان، الأمر الذي زاد من عزيمة الشابـة وإصرارهـا على النجاح في أهدافها المستقبلية كضابـط في القوات البحريـة.

حب كريستينا للبحر لا يفوقه سوى حبها لأرض الوطن. ولأنّها تدرك أنّ الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان تدفع بالكثير من العناصر الشابة إلى مغادرة البلاد والهجرة بحثًا عن العمل، فقد وجّهت نداءً إلى الفتيات اللواتي يرغبن بالانضمام إلى المؤسسة العسكرية بأن لا يترددن، مؤكدةً أنّ الوطن بحاجةٍ إلى زخم الشباب، كما أنّ الحياة العسكرية سوف تزوّدهن خبرةً ومسؤولية وقدرة على مواجهة صعوبات الحياة.

كريستينا كما زميلات لها في الجيش وجدن في المؤسسة العسكرية فرصة لتأكيد قدراتهن خارج الأطر التقليدية، وقد أثبتن أنّهن على قدر المسؤولية، وقدمت كل منهن نموذجًا يُحتذى.