قصص وعبر

التنوّع والتنافس
إعداد: العقيد دانيال الحداد


صودف في يوم من الأيام، أن التقى عالم بجاهل في مجلس أحد الحكماء، فكان اللقاء عاصفًا بالشكاوى المتبادلة، ملتهبًا بمشاعر الحسد والكراهية، حتى كاد الحكيم يقفز من عرشه ويطرد هذين الزائرين الثقيلين، لولا خوفه على سمعته ومكانته الراسخة بين أهله وبني قومه.
بادئ ذي بدء، حاول الحكيم الحذق استيضاح كلّ زائر عن أحواله وشوؤن حياته المختلفة، فكانت ردود كليهما بارد ة، حائرة، مبهمة، تعكس تمامًا قسمات وجهيهما، التي ارتسمت عليها دلالات الانزعاج والتوتر، ليس لكونهما من طبيعتين مختلفتين فحسب، وقد التقيا قسرًا في حضرة الحكيم، بل أيضًا لأنهما غير راضيين عن نصيبيهما في الحياة.
كلمات قليلة، حاول من خلالها الحكيم تلطيف الأجواء بين الاثنين، علّه يستطيع تدريجًا تخطي الموقف الحرج، وهذا ما أراح الضيفين بعض الشيء، وشجعهما على مباشرة الكلام كيفما اتفق لهما.
- الجاهل: أرى أن الحياة مفطورة في الأساس على الظلم، وغياب العدالة والمساواة بين بني البشر.
- العالم: هذا هو رأي المتشائمين، ولا أظنّه واقعيًا على الإطلاق، فالأمر يتعلق بجهد الإنسان، ألا يقول المثل:» من جدّ وجد و من زرع حصد»؟
- الجاهل: كلامك ينطوي على كثير من الاستكبار والتعجرف، أنا أعمل ليل نهار وبطاقاتي كلّها، وبالكاد أستطيع ثني شبح الجوع والذلّ عن التسلل إلى أفراد عائلتي، فيما مهنتك تدر عليك أنهارًا من الذهب، وما تجنيه بنهار واحد، قد لا أجنيه طوال العمر فأين العدالة في ذلك كلّه؟
- العالم: كيف تسمح لنفسك بالمقارنة بينك وبيني؟ أنت تسعى إلى الرزق بساعديك وهما من حجر، أما أنا فأسعى إليه بعقلي وهو من الروح.
- الجاهل: أنت تكسب المال الوفير بالإشارة والتنظير عن بعد، حول قضايا لا تمتّ إلى حاجات الإنسان الأساسية بصلة، بل هي من قبيل الترف والرفاهية لا أكثر، أما أنا فأحصل على لقمة العيش بعد طول عناء، مغمسة بدم القلب وعرق الجبين.
- العالم: أنا أعمل لأنهض بالبشرية من سبات الجمود والظلام، وأنير لها طريق العلم والإبداع، فكم من مرّة عصرت عقلي وجففت أعصابي في سبيل كشف مسألة أو إنجاز اختراع، يعود عليها بالخير العميم.
- الجاهل: يكفي أنك حظيت بالمال والشهرة معًا، وهما كما يدرك الجميع مصدر السعادة وراحة البال.
- العالم: لو صحّ كلامك لكان الأثرياء كلّهم في الأرض سعداء، ألا تعلم أن المال في غالب الأحيان، يجلب على مالكه همّ تدبيره وهمّ غيرة الناس وبغضهم؟ ثم أليست الشهرة مدعاة قلق دائم لصاحبها خوفًا من الفشل؟ وبمنزلة قيود لحريته في رأيه وتنقله وطرق عيشه المختلفة؟
في حمأة هذا الجدال الذي لم يخل من التجريح ولم يؤدِّ إلى أي نتيجة، قرر الحكيم برأيه السديد حسم الأمور قائلًا: أيها الأخوان تمهّلا! آراء كليكما تحتمل الخطأ والصواب في آن، ولكن لنعد إلى الأساس، واستمعوا إلى كلامي جيدًا:
تصوّروا أن الله قد أراد خلق الناس كلهم جهلاء وبالقدرات العقلية والجسدية نفسها، ألا يصحّ حينذاك اختصار البشرية بإنسان واحد؟ ثم كيف لهذه البشرية أن تتطور وتخطو إلى الأمام؟
وتصوّروا أن الله قد خلقهم جميعًا علماء وبالقدرات عينها، هل يعود هناك من فضل أو ميزة لهذا العالم أو ذاك على غيره.
وتصوّروا أيضًا لو خلقت الناس على مقاييس الجمال نفسها، ما قيمة الجمال حينها؟
إذًا، أساس الوجود يقوم على قاعدة التنوع والتنافس، وكلّ يؤدي دوره في الحياة ويحتاج إلى غيره ويتكامل معه، وأخيرًا لا تنسوا حتمية تبادل الأدوار بين الناس مع تعاقب الأجيال.
صمت الرجلان، وفي صمتهما هذه المرّة علامات القناعة والرضى، بعد أن أصابت كلمات الحكيم فيهما مقتلًا.