العوافي يا وطن

التهريب من أيام «يعيش يعيش» إلى أيامنا
إعداد: إلهام نصر تابت

التهريب على الحدود الشمالية - الشرقية مسألة مزمنة ومعقدة. زمنيًا تعود عمليات التهريب إلى ما قبل الاستقلال بكثير، البحث عن القمح أيام المجاعة كان أحد دوافعها، فيما بعد كثرت الدوافع وتطورت. وفي ما خص التعقيدات لا يغيب عن بال أحد أنّ التهريب عبر الحدود يرتبط بعدة عوامل متداخلة ومتشابكة، بل أنّه نتيجة لهذه العوامل ومنها الجغرافي والإنساني والاجتماعي والسياسي والتجاري... ولعل في مسرحية «يعيش يعيش» للأخوين رحباني وفيروز التي قُدّمت على مسرح البيكاديلي سنة ١٩٧٠ أفضل تعبير إبداعي عن ذلك.

ففي الجغرافيا تصف المسرحية طرقات التهريب إذ يقول المهرّب: «... على طرقات ما هيي طرقات، عالية ومسنونة بالخطر مسكونة. بتقولي حريف الهوّة، والهوّة تحت، ونهر كبير يهدر تحت، الحجر لولا وقع كان انوجع». هذه الجرود المسنونة لم تعرف منذ الاستقلال وجهًا للدولة، لم يرتفع فوق صخورها علم لبنان إلا حين انبرى الجيش لمواجهة الإرهابيين الذين تسللوا عبر وعرها ووحشتها. يوم حلّ فجر الجرود ارتفعت الراية معلنة وصول الدولة إلى تلك المناطق التي لم تلمح يومًا ظل مسؤول. شقّت سواعد العسكريين طرقات خطّتها دماء الشهداء فأتاحت للمواطنين الوصول إلى حقولهم وأرزاقهم.

في المسرحية حين يُسأل ملهب المهرّب عن سبب اختياره مهنة التهريب يُجيب: «هيي اختارتني، حمّلتني بارودة وقالتلي امشي. يومها كان في رجال قاعدين بالشمس وناطرين، وكان في ولاد عم يلعبو بالشمس وتيابن مخزّقة. الولاد بدن يكبرو ما بيقدرو ينطروت يصير في حكومة. وكان في عينين نسوان، كلّن شدوا فيي، صرنا أهل جرود، وصار عنا ضيعة».

نصل إلى البعد السياسي للمسألة وهو يتصل من جهة بالعلاقة بين البلدين على طرفي الحدود كما يتصل من جهة أخرى بالوضع الداخلي للدولة وسياساتها المحبطة. في المسرحية ملهب يسأل: «مين مش عم يهرّب؟ اللي بيهرب ربحو من درب الضرايب منو مهرّب؟ اللي بيهرّب السعر عن البضاعة منو مهرّب؟» طبعًا لو كانت المسرحية ابنة أيامنا هذه لأُضيفت أسئلة أشد إيلامًا.

للتهريب اليوم أبعاد وأسباب تتخطى ما ذكرناه، غير أنّ ذلك لا يغير كثيرًا في الأساس وفي لبّ المسألة. جوهر المسألة أنّ معالجة التهريب لا يمكن أن تقتصر على الحلول الأمنية، وإنما هي بحاجةٍ إلى رؤية متكاملة تحيط بكل العوامل التي ترتبط بها.

فلنعد إلى الجغرافيا وطبيعة الحدود، إلى الجرود ومسالكها وممراتها، في كل متر يمكن أن ينبت معبر أو مسلك للتهريب. والجيش بما يملك من إمكانات وبما يتيحه له تولي المهمات في الداخل يعمل على مكافحة التهريب ومنعه، لكن لماذا لا يتم منع التهريب من مصدره؟ لماذا يسمح بوصول كميات من المازوت والطحين إلى المنطقة تفوق حاجتها؟

ولنتوقف عند واقع البؤس وغياب سياسات الإنماء في المناطق الشمالية الشرقية وسواها من مناطق الأطراف، وإلى تعقيدات السياسة في بلدنا: ماذا يعرف بعض من يطالبون الجيش بمنع التهريب عن جغرافية هذه المناطق والنقاط المتنازع عليها هناك، وعن تلك التي ما زالت حدودها من دون ترسيم؟ كثيرون ممن يعقدون المؤتمرات الصحفية لم يسمعوا حتى بأسماء تلك المناطق، ولم يعرفوا شيئًا عن أهلها.

يقوم الجيش بواجبه وبأكثر منه في مجال حماية الحدود وضبطها، ومع قلة إمكاناته لا يوفر جهدًا لمساعدة الأهالي في مجال الخدمات الحياتية التي هي أساسًا من مسؤولية مؤسسات الدولة الأخرى. بفضل دماء شهدائه باتت الدولة موجودة على حدودنا، وعليها أن تكمل المسيرة ليكون وجودها راعيًا وحاميًا لا أمنيًا فقط.

العوافي يا جيشنا - العوافي يا وطن