إقتصاد ومال

الثقة عالية والايجابيات متوافرة رغم الظروف التي مرّ بها لبنان وحدّت من فرص الاستثمار
إعداد: تريز منصور

د. مكرم صادر: مطلوب الاهتمام بالاصلاح الاقتصادي والتنمية في موازاة الاصلاح المالي

عام 2005 هو عام التحولات والمتغيرات الكبيرة في لبنان، سياسية كانت أم إقتصادية.
فلقد أمنت الاكتتابات في الإصدار الأخير احتياجات الدولة بالعملات الأجنبية لفترة ثلاثة أشهر، ما عكس ثقة اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين والأجانب، بإمكانية إعادة بناء دولة قوية رغم الظروف الأمنية والسياسية الحرجة التي يمرّ بها لبنان، والتي حدّت من إمكانية الاستثمار والنمو في ظل عدم إرتفاع الفوائد في لبنان بموازاة ارتفاعها عالمياً، كما شهدت الفترة الاخيرة تدفقات عالية مرتبطة بزيادة الصادرات الى الدول العربية، اضافة إلى تحويلات العمالة اللبنانية والاستثمارات العربية...
ويرافق أجواء الثقة هذه، التحضير لمؤتمر دعم لبنان «بيروت-1» الذي قد يساهم كما يتمنى الجميع، بالنهوض بالاقتصاد وبإعادة النمو الى القطاعات كافة. والحكومة اللبنانية هي اليوم بصدد وضع برنامج يعكس رغبتها بالإصلاح المالي والاقتصادي والتنموي، باعتبار أن الاصلاح المالي بمفرده، بات غير ممكن نظراً لآثاره الإجتماعية والإقتصادية السلبية، اذا لم يترافق مع تدابير اقتصادية مكلفة وجذرية.
أما المكسب الأساسي الذي قد يحققه مؤتمر دعم لبنان فهو افساحه المجال لتراجع المخاطر بالنسبة للبنان وتصنيفه السيادي، ومن ثم تخفيض كلفة الدين تدريجياً.
وبالنسبة للقطاع المصرفي اللبناني المموّل الرئيسي للدولة والذي ساهم في تجديد مخزون الدين (20 مليار دولار) بفوائد منخفضة (7.4 في المئة)، فإن دوره الأساسي في هذه المرحلة، سيكون الاستمرار بتمويل الدولة والقطاع الخاص بأحجام كافية من القروض.
الاكتتابات الأخيرة؟ إرتفاع الفوائد عالمياً؟ مؤتمر دعم لبنان؟ دور المصارف في هذه المرحلة؟ أسئلة عديدة حملتها مجلة «الجيش» الى أمين عام جمعية المصارف الدكتور مكرم صادر وكان لها معه الحوار التالي.

 

الفوائد تتجه الى الارتفاع عالمياً مع نهاية العام المقبل لكن السقف لن يتجاوز 5 في المئة

ثقة اللبنانيين والأجانب بلبنان

* رغم الظروف الأمنية والسياسية الدقيقة التي يمرّ بها لبنان، أظهرت الاكتتابات التي قامت بها الحكومة في تشرين الأول الماضي، ثقة عالية بلبنان من قبل المستثمرين اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين والأجانب، وقد فاق حجم الاكتتابات الحاجة والمتوقع.
 فما سرّ هذه الثقة الكبيرة والمرتبطة عادة باستقرار الأوضاع الأمنية والسياسية في مختلف دول العالم؟

- لقد أمّنت الإكتتابات في الإصدار الأخير احتياجات الدولة بالعملات الأجنبية لفترة معينة من الزمن تبلغ نحو ثلاثة أشهر، وهذا أمر هام جداً.
والأمر الثاني والهام أيضاً، أن الاكتتاب جاء في فترة حرجة في لبنان، ما أظهر مدى ثقة اللبنانيين بمستقبل البلد والدولة، وعكست ثقة المستثمرين اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين والأجانب، بإمكانية إعادة بناء دولة قوية على أسس سليمة، وذات سيادة وقرار حر.
وهذه بادرة جيدة جداً، نأمل تأكيدها مع الوقت، مع ما ينتج عنها من زيادة الثقة في المستقبل.

وهناك أمر ثالث وهام، لا بد من الاشارة اليه، وهو أن جميع الاكتتابات التي تمّت من جهات خارجية أو محلية على السواء، قد تحققت عن طريق المصارف اللبنانية وبعض زبائنها، وكانت بمعظمها اكتتابات مباشرة من المصارف اللبنانية.
ويعود هذا الأمر لاعتبارات عديدة منها:

1- تعتبر المصارف اللبنانية، أن إعادة تمويل الدولة، هو أمر هام وملحّ من أجل تأمين استمراريتها، باعتبار أنهما يسيران في مركب واحد في هذه القضية.

2- إن السيولة بالعملات الأجنبية متوافرة لدى المصارف، وذلك من خلال استحقاقات دفعتها الدولة للمصارف قبل فترة من هذا الإستحقاق. وبالتالي فإن الإكتتاب أو الإصدار الأخير لم يرفع قيمة مستحقات الدولة لدى المصارف، أو ديون الدولة على دفاتر المصارف.

* نتيجة لذلك، هل يمكننا اعتبار أن قيمة الإكتتاب الأخير، هي دين داخلي أم دين خارجي؟
- حكماً هو دين خارجي، لأن كل دين بالعملة الأجنبية يعتبر ديناً خارجياً، حتى لو كانت الجهة الممولة جهة وطنية كالمصارف مثلاً، والمصارف اللبنانية لديها زبائنها المحليون والأجانب.

كما وان عملية تجديد الدين من قبل المصارف اللبنانية تمنح هذه الأدوات عنصر استقرار في الأسواق العالمية، وتبعدها عن تقلّبات أسعار السوق، باعتبار ان حامليها مصارف لا تبغي المتاجرة بها.

 

فرص الاستثمار

* ترتفع الفوائد عالمياً، فما تأثير إرتفاعها على سعر الفوائد في لبنان، وبالتالي على خدمة الدين العام وعلى الاقتصاد...؟

- لقد ترافقت فترة إرتفاع الفوائد في العالم خلال العام 2005 مع موجة دولرة الودائع في لبنان (تحويلات من الليرة الى الدولار) والتي بدأت فعلياً في شهر آب من العام 2004.
 وبالتالي فإن حجم السيولة بالعملات الأجنبية في المصارف كبير نسبياً وقد وصل الى 60 في المئة، وفي بعض الأحيان تخطّت دولرة الودائع عتبة ال80 في المئة، الأمر الذي حال دون إرتفاع الفوائد على الودائع بالعملات الأجنبية بنفس النسبة او السرعة التي شهدتها الفوائد عالمياً. مع ذلك فإن الفوائد ارتفعت نسبياً في لبنان خلال هذه الفترة من مستوى 3.2 في المئة الى مستوى 3.8 في المئة.
ولا بد من الإشارة الى أن إرتفاع الفوائد عالمياً ترافق أيضاً مع عنصر خارجي له الأهمية نفسها، وهو ارتفاع أسعار النفط في المنطقة العربية، وزيادة السيولة وزيادة التحويلات المالية، والناتجة إجمالاً عن زيادة التدفقات المالية الى لبنان والمرتبطة بزيادة الصادرات الى الأسواق العربية او بتحويلات العمالة اللبنانية هناك، او بالاستثمارات العربية المباشرة في لبنان. وكل هذا حدّ من تأثير ارتفاع الفوائد على العملات الأجنبية (وخصوصاً الدولار) عالمياً على السوق المحلية.
وأضاف الدكتور صادر: «ان عدم ارتفاع الفوائد في لبنان مقارنة مع ارتفاعها عالمياً، كان من الممكن أن يكون له تأثير ايجابي على النمو مع التدفقات المالية وغيرها... لو أنه ترافق مع عناصر اخرى في البلد. ولكن للأسف، فإن ضخامة الأحداث الأمنية والسياسية التي تحصل في لبنان حدّت من إمكانيات الإستثمار والنمو.
واشير في هذا المجال الى ان الفوائد اللبنانية لن تتأثر كثيراً في حال المزيد من الإرتفاع عالمياً، ولكن الفوائد العالمية، وبحسب رأي الخبراء في الأسواق العالمية تتجه نحو السقف الأعلى للإرتفاع، 5-4.5 في المئة مع نهاية العام 2006، ومن غير المنطقي والمسموح أن تتعدى هذا السقف، لكي لا تكبح النمو في الاقتصاد الأميركي. وفي اعتقادي ستلعب أسعار النفط دوراً هاماً على هذا الصعيد. فقرار رفع الفوائد من قبل المصارف المركزية الرئيسية في العالم يتخذ لمحاربة الضغوطات التضخمية.

 

اعادة النمو الى الاقتصاد
* كمراقب مصرفي وأمين عام لجمعية المصارف، ماذا تقرأ في أفق المساعدات المالية التي سوف يقدمها المجتمع الدولي الى لبنان، خلال مؤتمر «بيروت-1» الذي سوف يعقد في الربع الأول من العام 2006، كما أعلن رئيس الحكومة، وما هو برأيكم نوع الدعم وحجمه؟

- كل هذه الأسئلة مبنية على افتراضات. والحكومة اللبنانية نفسها لم تحضّر لغاية الآن برنامج الإصلاحات الذي ينتظره منها المجتمع الدولي، كما ان موعد انعقاد المؤتمر لم يحدد بعد. وبالتالي لا يمكن التنبؤ بحجم المساعدات ولا بنوعيتها، هل ستكون مساعدات نقدية، ام مساعدات مرتبطة بمشاريع محدّدة، هل ستكون مساعدات مرتبطة بضخ جزء منها الى القطاعات الإقتصادية بغية تنميتها، وهل ستكون مساعدات للمؤسسات اللبنانية في القطاع الخاص، والتي لها الدور الأساسي والفعّال في عملية النمو والنهوض بالاقتصاد؟ شخصياً، آمل ألاّ يتمحور البرنامج الذي سوف ترفعه الحكومة للجهات الدولية، فقط على موضوع المالية العامة وكيفية الخروج من حلقة المديونية. وأتمنى أن تأتي المساعدات، ليس فقط لإدارة الدين العام، لأن اعادة النمو الى الاقتصاد لن تأتي، إلا من خلال مساعدة القطاعات الإقتصادية الفعلية، ومساعدة المؤسسات. وبالتالي وكما ذكرت، نأمل أن يأخذ برنامج الحكومة بعين الإعتبار بشكل جدي وواعٍ (رغم كل التعقيدات المالية والإقتصادية في البلد)، قضية إعادة النمو الى الإقتصاد وأن يدخل اليه من زاوية المؤسسات في القطاع الخاص ومن زاوية القطاعات الاقتصادية الفعلية.
وأعتقد أن المجتمع الدولي يلبّي رغبة الحكومة اللبنانية، التي سوف تعبّر عنها من خلال برنامج مشروط فقط بقدرته على جعل الاصلاحات الإقتصادية والمالية ممكنة التحقيق، أي بمصداقية ذاتية. وطبعاً موافقة أو إعطاء هكذا برنامج اجازة مرور من المؤسسات المالية الدولية، أمر هام وأساسي لكي يكتسب البرنامج المصداقية الدولية، فتندرج عندها قيمة المساعدات ونوعيتها والجهات التي ستمنحها طبيعياً في سياقه.

 

مطلوب اصلاحات وجهود لدرء المخاطر

* هل ترون أن صندوق النقد الدولي يعمل الآن على المستوى نفسه لتوجّهات الحكومة اللبنانية، فيما كان بالأمس القريب يقف بجانب آخر من سياستها المالية؟

- إن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أي ما يعرف بالمؤسسات المالية الدولية، لم تغيّر رأيها قيد أنملة من السياسات المالية الدولية المتبعة في لبنان. فهي كانت وما زالت ترى إن إمكانية الإستمرار في الاستقرار النقدي (لجهة المحافظة على أسعار الصرف ومستوى التضخم) في عجوزات المالية العامة (الموازنة والخزينة) مستحيلة في المستقبل. الشيء الوحيد الجديد في رأيها والذي اعترفت به هو القدرة الكبيرة للقطاع المصرفي اللبناني على إكساب الدولة والبلد الوقت، والحؤول دون انفجار أزمة مالية مفتوحة.
واعتقد أن موافقتها أو عدم موافقتها على أي برنامج سيضعه لبنان ترتبط بتضمين البرنامج إصلاحات تنزع فتيل الأزمة المالية مستقبلاً. وهذا ما يعرف بلغة المؤسسات الدولية بالشق المالي من البرنامج.
وبرأيي كإقتصادي أن الإصلاح المالي وحده بات غير ممكن لآثاره الإجتماعية والإقتصادية السلبية، اذا لم يترافق ايضاً مع تدابير إقتصادية مكلفة وجذرية، تسمح بعودة النمو الى الإقتصاد وبمعدلات كافية ولسنوات طويلة.
لقد ولّى الإنفاق بلا حساب وتمويله بالاقتراض.
إن الزمن الآتي هو زمن تقاسم التضحيات وتوزيع الأعباء.
وأية مساعدات خارجية مهما كان حجمها أو نوعها، تساعد في إنجاح برنامج التصحيح المالي والاقتصادي، ولكنها لا تكفي.

والكارثة كل الكارثة، أن نعتبر كلبنانيين أن المساعدات ستتدفق علينا كالمنّ والسلوى، وانه باستطاعتنا الإستمرار بالسياسات ذاتها وبأنماط الإنفاق والاستهلاك ذاتها. على العكس، المهم أن نعي مخاطر الوضع الإقتصادي والمالي القائم، وأن تنصبّ كل جهودنا على درء المخاطر وتحويل الفرصة المتاحة الى إصلاح حقيقي.

 

تجديد مخزون الدين

* ما هو الدور الذي سوف تلعبه المصارف اللبنانية في مؤتمر دعم لبنان «بيروت-1»، هل سيكون مماثلاً للدور الذي لعبته في مؤتمر «باريس-2»، حيث قدمت قرضاً بفائدة صفر في المئة.

- قبل «باريس-2» كانت الدولة تدفع معدلات فوائد بنسبة تتراوح بين 14 و 18 في المئة. وأنباء المؤتمر في حينها، قلّصت مخاطر الدولة، الأمر الذي أدى الى انخفاض معدلات الفوائد من متوسط كانت تدفعه الدولة يومها بحدود 13 في المئة، الى متوسط هو اليوم في حدود ال7.4 في المئة.
 وبالتالي قبل «باريس-2» وبعده، كانت هناك إمكانية كبيرة لخفض الفوائد، فيما هذا الأمر غير متوافر حالياً، في بلد مثل لبنان تصنيفه السيادي "B".

ومن جهة أخرى، فإن نسبة الفوائد المدفوعة من قبل الدولة اللبنانية، تعتبر من أفضل الفوائد التي من الممكن أن تدفعها أية دولة لها التصنيف السيادي ذاته (B).

 وعليه لا أعتقد ان هناك امكانية لتخفيض جذري إضافي على كلفة الدين العام، بل اذا نجح المؤتمر وتأكد الإستقرار الأمني والسياسي، فإن ذلك يفسح في المجال لتراجع مخاطر البلد وتصنيفه ومن ثم تخفيض كلفة الدين تدريجياً.
ولا بد من الإشارة الى أن أهم خطوة تحققت في «باريس-2» هي ليست فقط مساهمة المصارف اللبنانية بقرض قيمته 3.6 مليار دولار أميركي وبفائدة صفر في المئة، إنما في خطوة إعادة تجديد ستوك الدين أو مخزون الدين العام بفوائد منخفضة. ونتكلم هنا عن إعادة تجديد ما يزيد عن 20 مليار دولار، والناس يتذكرون ال4 مليارات وينسون هذا. لذلك فإن خدمة الدين العام قد تدنّت الى درجة كبيرة، ولا زلنا مستمرين لغاية اليوم، بإعادة تجديد معظم مخزون دين الدولة اللبنانية بفوائد منخفضة.
والجدير ذكره أن الدولة مدينة للمصارف اللبنانية بما يعادل 17 مليار دولار. وأعتقد أنه مهما حقق لبنان من هذا المؤتمر، لن يحصل على هذا المبلغ، لذلك من الضروري جداً أن يستمر القطاع المصرفي في تلبية حاجات الدولة التمويلية، الأمر الذي يساهم في عدم إنهيار المالية العامة. هذا هو الدور الأساسي للقطاع المصرفي، الإستمرار في تمويل الدولة والقطاع الخاص، بأحجام كافية من القروض وبشروط مقبولة.
وهذا هو الدور الطبيعي المنوط بأي قطاع مصرفي في أي بلد.
 ولكن إن تحققت المعجزة، وحصل لبنان على مبالغ معينة تسمح باستبدال ديون قائمة بكلفة 7 في المئة بديون بكلفة أقل، فهذا أمر هام جداً ومرحّب به وسيعني انتفاء حاجة الدولة الى موارد إضافية من المصارف، الأمر الذي يساهم في تخفيض الفوائد بشكل طبيعي.
ولا بد من الاشارة الى أن عملية تخفيض الفوائد وتسعير أدوات الدين يجب أن تتم ضمن آليات عمل السوق، وليس بقرارات إدارية تصدر عن السلطات السياسية أو النقدية أو المالية في البلد. فنحن في إقتصاد حر، ولا بد من إحترام قوانينه وآلياته، كما درجت عليه العادة حتى في أسوأ فترات الحرب اللبنانية.
وختم الدكتور مكرم صادر أخيراً بقوله: ان مقياس التوقعات الايجابية في البلد، يرتبط بشكل أساسي بقدرتنا كلبنانيين على إعادة صياغة وفاقنا الوطني عبر مراعاة ثلاثة عوامل: سلطة الدولة، والعلاقات مع المحيط والعالم، ومبادئ الإصلاح الاقتصادي والمالي ومرتكزاتهما. وهكذا يحتل البعد السياسي والأمني موقعاً محورياً في تحديد المخاطر السيادية ودرجة تصنيف البلد وتالياً مستويات الفوائد.

 فالموضوع لا يقتصر على البعد الإقتصادي والمالي وحده، وبالرغم من الأوضاع المعقّدة والصعبة جداً، التي نشأت بفعل السياسات المتعاقبة خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، راكم قطاع المؤسسات قدرات وطاقات لا يستهان بها، وحرام كل الحرام أن نبددها اليوم بتفويت الفرصة المتاحة لإعادة بناء وفاقنا الوطني.