الثورات المخملية: معبر و مطميّة إلى الهيمنو العالمية

الثورات المخملية: معبر و مطميّة إلى الهيمنو العالمية
إعداد: ليديا سيماكوفا
باحثة

تعرَّف الثورة الاجتماعية عموماً بأنها تبدّل جذري في حياة المجتمع. ويُحِلّ هذا التبدل عادة تشكيلة اقتصادية واجتماعية بغيرها تكون أرفع منها مستوى وتنسجم مع المتطلبات الجديدة للمجتمع الذي كانت تختمر في أحشائه منذ زمن. وتبيّن تجربة الثورتين الكبريين في التاريخ الحديث: الثورة الفرنسية العام 1789، وثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا العام 1917، أن الثورة هي تحطيم جذري للنظام القديم، وترسيخ لمؤسسات اجتماعية جديدة أكثر تقدماً، وهي قفزة نوعية للمجتمع في سياق تطوره. فالأولى أطاحت سلطة الإقطاع والنبلاء وجاءت إلى سدة الحكم بطبقة تقدمية في ذلك الزمن، هي بورجوازية المدن من تجار وحرفيين. وأطاحت الثانية سلطة البرجوازية الحديثة العهد التي مثلتها حكومة كيرينسكي بعد أن كانت هذه قد أنهت عهد القيصرية الطويل في ثورة شباط/فبراير من العام نفسه. وفيما يضنّ المحللون السياسيون الليبراليون اليوم بصفة الثورة على ثورة أكتوبر الإشتراكية فينعتونها بالانقلاب البلشفي، نراهم هذه الأيام يطلقون بسهولة مريبة إسم «الثورة» على انقلابات فوقية تغيّر في تركيبة النخب الحاكمة من دون أن تغير شيئاً في جوهر الأنظمة السياسية والاقتصادية. ولئن كانت الثورة الحقيقية تعني الانتفاض على الظلم الاقتصادي والاجتماعي والقومي والسياسي، وتجيء إلى السلطة عادة بنخبة تمثل طبقة تحمل أهدافاً أكثر تقدماً وتنوراً فتنقل المجتمع من حال التخلف والركود الاقتصادي والظلم الاجتماعي إلى حال الانتعاش الاقتصادي والمزيد من العدالة الاجتماعية، فإن «الانقلابات الفوقية»، وإن كانت تدّعي في أحيان كثيرة إعلان المبادئ الديموقراطية والشعبية والاستقلالية والسيادية، فهي في العادة من كل هذه المبادئ براء، وشعاراتها مفعمة بالرياء.  يبدو أن المهم بالنسبة إلى هؤلاء المحللين، وإن كانوا أصلاً ممن لم يفتأ يدعي على مدى سنوات كثيرة معارضته للعنف والثورات، هو الشكل الذي تتم فيه الثورة، لا المضمون الذي تحمله: أن يخرج إلى الشارع آلاف الناس الذين لا يأبهون للقانون «القديم» والنظام «القديم» (وليس مهماً أكان هذا القانون أو هذا النظام جيداً أم سيئاً)، فيأتي بنتيجة ذلك إلى السلطة أشخاص جدد. في هذا السياق بالذات يندرج اليوم ما يسمى بـ«الثورات المخملية» أو «الملونة»، هذه «الثورات» المستعارة من قواميس الإستخبارات وكواليس السفارات، الملقبة بألقاب مختلفة، والملونة بألوان شتى «من حواضر البيت» الذي تقوم فيه، والتي تأتي إلى السلطة عادة بأنظمة ليست أقل عداء للشعب من سابقاتها، بل تكون عادة أكثر ليونة واستعداداً لبيع مرافق البلاد الحيوية إلى أرباب العولمة. وليس يمكن، في الحقيقة اعتبار «الثورات المخملية» التي حصلت في السنوات الأخيرة في عدد من البلدان، إلا جزءاً من تكتيك تعتمده الولايات المتحدة ويندرج تحت ما يسمى ب«الفوضى البناءة»، للهيمنة على العالم كله. وليس سراً أن كل مبادئ السياسة الخارجية الأميركية، (ابتداء من مبدأ مونرو، ثم مبدأ «الحدود المتحركة» و«الأبواب المفتوحة» إلى ما هنالك)، تلك المتسترة خلف حجة «حماية أمن» القارة الأميركية، افترضت السيطرة على العالم كله وإخضاعه. وقد سار على النهج نفسه أيضًا المبدأ الجديد الذي رسمه ستيفن هادلي وسماه بـ«استراتيجية الأمن القومي» لدى عرضه له في معهد السلام US Institute of Peace في واشنطن مؤخراً(1) معلناً أن المهمة الرئيسة هي مكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية في العالم أجمع.

 

ويتواءم تكتيك «الثورات المخملية» مع تكتيك إشاعة «الديموقراطية» في صيغتها المتداولة حالياً (لنتذكر أن هذه الكلمة اليونانية الأصل تعني حرفياً «حكم الشعب») ومكافحة «الإرهاب» في أرجاء المعمورة، ليتجسد كلا الشعارين أحياناً حروباً فعلية تشنّ على بعض البلدان المحسوبة على «محور الشرّ» حسب المفهوم الأميركي. فـ«الثورات المخملية» السلمية والحروب التي تُستخدم فيها الأسلحة تشكلان إذاً وجهين لعملة واحدة. ويمكن أن ننظر إلى حروب يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق، وربما إلى الحرب المحتملة على إيران، على أنها الوجه الآخر لهذه العملة. ولئن كانت الانقلابات العسكرية في الماضي والحاضر ممكنة بالنسبة إلى الأميركيين كأحد الأساليب لإيجاد أنظمة موالية لهم، إلاّ أن علّته الكبرى أنه أسلوب مفضوح يفتقر إلى الشرعية. فـ«الثورات المخملية» هي أيضا شكل من أشكال الإنقلاب، ولكنه انقلاب يحافظ على مظاهر الشرعية حيال الرأي العام ويندرج في الظاهر ضمن إطار إيجابي من إشاعة للـ«ديموقراطية»، في حين أنه يكون حركة مرائيةً  غير صادقة، حسب ما تبين الأحداث. وعلى الرغم من أن مصطلح «الثورة المخملية» ظهر لأول مرة بعد حرب الأطلسي على يوغوسلافيا التي أفضت لاحقاً، ومن خلال «ثورة مخملية» أعقبتها، إلى نقل السلطة في هذا البلد إلى موالين للأميركيين والغرب، فإن هذا المصطلح يمكن إطلاقه استرجاعاً على حدث سبق تلك الثورة، وهو البيريسترويكا الغورباتشوفية (الأعوام 1985-1990)، هذه البيريسترويكا التي نقلت الإتحاد السوفياتي من اقتصاد الخطط الخمسية وملكية الدولة لوسائل الإنتاج، إلى اقتصاد السوق الرأسمالي الحرّ بأبشع صوره وأشدها توحشاً، ثم أدت لاحقاً إلى تفكيك البلد واستدراج الغورباتشوفيين إلى قشة «انقلاب تلفزيوني» قصمت ظهر البعير، فجرى نقل السلطة، إثر تظاهرة المليون في الساحة الحمراء، إلى الرئيس «السكّير» يلتسين في روسيا «الديموقراطية». فالبيريسترويكا إذاً كانت أول «ثورة مخملية» تتم ضمن الأطر الشرعية تقريباً، ثم ما لبثت أن استكمِلت بانقلاب دامٍ «غير شرعي» على بعض الأطراف المترددة في السلطة الجديدة العام 1993، خلال الهجوم على البرلمان، كرس النهج الموالي للغرب والأميركيين في روسيا تكريساً كاملاً خلال فترة طويلة. وقد انتهى العديد من الحملات الانتخابية في بلدان شتى خلال السنوات الأخيرة، مدعوماً أو مسبوقاً بتظاهرات حاشدة في الشوارع والساحات، وتحركات احتجاج جماهيرية ينظمها عادة جزء من الفاعليات السياسية التقليدية المحلية، وترفع فيها الشعارات النيوليبرالية الجديدة كالخصخصة وإشاعة الديموقراطية ومحاربة الإرهاب، مع ما تيسّر من شعارات الحرية والإستقلال والسيادة وغيرها، إلى نقل هذه الأخيرة التي صارت في مرحلة ما كـ «معارضة» إلى مرابع السلطة. ويدعمها بلا حساب في ذلك رأس المال العالمي بالسياسة والمال والإعلام وبنفوذ المؤسسات الدولية التي يهيمن عليها. وقد بيّنت تجربة الثورات المخملية في العديد من البلدان أن هذه «المعارضة» كانت تستغل في أحيان كثيرة حدثاً ما كعملية اغتيال أو أي عملية إرهابية أخرى، للقفز إلى سدة السلطة. ذاك ما آلت إليه مثلاً أحداث جمهورية صربيا بعيد الحرب التي شنّها الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة على يوغوسلافيا لإزاحة الرئيس السابق ميلوشيفيتش، وهي التي عرفت بـ «الثورة القرنفلية». ثم جاءت لاحقاً أحداث جمهورية جورجيا (السوفياتية سابقاً) المعروفة بـ«ثورة الورود» والتي أزاحت من السلطة الحليف الهرم للولايات المتحدة إدوارد شيفاردنادزه، وأحلت محله الحليف الجديد اللامع ميخائيل ساكاشفيلي؛ وكانت انتخابات الرئاسة في أوكرانيا التي حظيت بتسمية «الثورة البرتقالية» حيث بات الصراع بين ممثلي طرفي الفاعليات المالية والاقتصادية، بعد أن كان قبل ذلك بين طرفي السلطة والمعارضة اليسارية، ففاز في المعركة من اعتبِر حليف الغرب، فيكتور يوشنكو، ليحل محل فيكتور يانوكوفيتش المحسوب على موسكو؛ وجاءت انتخابات البرلمان والرئاسة في قرغيزيا التي أزاحت الرئيس عسكر أكايف بعد أن جلس طويلاً على كرسيي موسكو وواشنطن المتعِبين بمنحه كليهما الحق في إقامة قواعد عسكرية في بلاده؛ وهذه هي أخيراً لا آخراً «ثورة الأرز» في لبنان، وهو الإسم الذي أطلق عليها من واشنطن بالذات، وعلى لسان الرئيس الأميركي جورج بوش، إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في عملية إرهابية مرعبة. وقد غذاها امتعاض قطاعات واسعة من اللبنانيين من الوجود العسكري والسياسي السوري والأزمة الاقتصادية التي تفاقمت في ظله، فتحددت سلفاً نتائج الانتخابات النيابية التي أجريت على عجل، وبأي قانون وجد آنذاك «من حواضر البيت»، بعد مضي أشهر قليلة على عملية الإغتيال. في ضوء نجاح بعض هذه الثورات شبه السلمية، سنحاول استشفاف الأسباب العميقة الكامنة وراء إمكان حصولها، لنحدد تالياً مضمون حركة العالم المعاصر: إلى أين هو سائر؟  

 

  1- الأسباب الكامنة وراء «الثورات المخملية»:

  يبدو لنا أن السبب الاقتصادي هو أهم أسباب قيام «الثورات المخملية». فالاقتصاد كالعادة يبقى أساس الصراعات، لأن ما يتضارب هو المصالح بالدرجة الأولى وليس الأهواء. الصراع الآن قائم على أشده بين رأس المال العالمي المتمثل في الاحتكارات العالمية الكبرى ومن يرعى مصالحها من السياسيين وقادة الدول. لقد بدا أن التناقض الرئيس في عصرنا بعد اختفاء الإتحاد السوفياتي ومنظومته، هو التناقض بين رأس المال العالمي الكبير المتجاوز حدود القوميات والدول والقارات، ورأسِ المال القومي (أو الوطني) الذي يحاول جاهداً الصمود في هُزاله وعزلته.

ويبدو هذا التناقض مثابةَ صيغة متطوّرة لتناقضات النصف الأول من القرن العشرين، عندما كانت دول ذات اقتصاد ليبرالي (مثل الولايات المتحدة أو ألمانيا النازية) قد وجدت في نفسها ما يخوّلها أن تنافس وتصارع غيرها من الدول الاستعمارية «العريقة» على المستعمرات، لإعادة تقاسمها والحصول منها على مغنم أكبر. وهو ما أسفر في بداية القرن الماضي عن نشوب الحرب العالمية الأولى وإعادة تقسيم العالم «المهدور دمه» ما بين الكبار (معاهدة سايكس بيكو كانت تعبيراً محلياً عن إعادة تقاسم تركة «الرجل المريض»)، وأسفر في أواسط القرن عن نشوب الحرب العالمية الثانية بمبادرة من ألمانيا الهتلرية التي استشعرت في نفسها القدرة على الثأر بعد مرور فترة على معاهدة فرساي المهينة.

 غير أن حصة الأسد في اقتسام تركة الإتحاد السوفياتي المهزوم كانت في نهاية القرن العشرين للاعب الأكبر وهو الولايات المتحدة الأميركية.  هذا التناقض بين الشركات العالمية الكبرى وبعض جزر الطموح القومي المتبقية، هما العاملان اللذان كادا أن يسيّرا حركة التاريخ اليوم، لولا بروز ثورات جديدة أعلنت التصاقها بالاشتراكية في أميركا اللاتينية كثورتي تشافِيز ومورالس وغيرهما. ولعل النتيجة كانت ستؤول، لو بقيت نسبة القوى على حالها بعد انهيار الإتحاد السوفياتي مباشرة، لصالح أرباب العولمة، وكانوا سيصبحون أسياد العالم بلا منازع لأن عندهم من أسباب القوة والمنعة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والثقافية أكثر بكثير مما عند أي من الدول القومية. وتندسّ مفاعيل هذا التناقض في كل حنايا جسم العالم المعاصر. فالكل فيه، كما نُثارات الحديد في حقل مغنطيسي، يتخذ الآن وجهته طبقا لخطوط القوة الناشئة عن التناقض الرئيس، طبقا لقوانين الاصطفاف الجديدة.  فبعد تدمير المعسكر السوفياتي لم يعد هناك من مقابل قادر على موازنة ضغوط «الحكومة العالمية»  وإملاءاتها والمتمثلة في بلدان «المليار الذهبي»، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية والغرب الليبرالي المهيمنة على العالم على هيمنة شبه كاملة والمصرّة على السير قدماً على نهج العولمة ورفض كل «سيادة وطنية»، وفتح أبواب الدول «خلعاً» إذا لم تنفتح طوعاً (على الرغم من الكلام الكثير على السيادة والاستقلال في خطابات القادة الغربيين الموجهة إلى حلفائهم في البلدان الأخرى المطلوب قيام ثورات مخملية فيها). وقد زادت احتداماً الأزمات الاقتصادية التي باتت تتخبط بها بلدان «العالم الثالث» بعد انهيار عالم القطبين وانحسار الدعم الاقتصادي والسياسي السابق عن هذه البلدان (والذي كان تنافس القطبين أحد أسبابه).

  ومما عمّق أزمة الأنظمة في بلدان «العالم الثالث» أيضاً سير بعضها على النهج النيوليبرالي مصغية إلى نصائح المؤسسات المالية الدولية، ما أوصلها إلى المزيد من الديون الخانقة والانهيارات المالية والعجز في الموازنة والبطالة إلخ... هكذا حصل للكثير من بلدان «العالم الثالث» (الأرجنتين أحد أبرز الأمثلة) التي سارت على هدي «نصائح» المؤسسات المالية الكبرى التابعة للغرب فعانت ما عانت من انهيارات اقتصادية ومالية، ولم يبق في فترة من الفترات، قبل حصول الثورات اليسارية المضادة في العديد من بلدان أميركا اللاتينية بالطريق الديموقراطي الانتخابي، سوى بضعة بلدان معزولة يحكمها رأس المال الوطني وتواجه تنّين رأس المال العالمي. لقد كان بوسع هذه البلدان قبل انتقال العالم إلى القطب الواحد، أن تنهج سياسة مستقلة إلى حد ما، متأرجحةً بين النظامين: الشرقي السوفياتي الاشتراكي الموجّه والغربي الرأسمالي الحرّ، ومستفيدة من حقل القوى المحايد الناشئ عن صراع القطبين. أما الآن فنحن نعيش في عالم نجد فيه هذا البعض المبعثر والمشرذم من الدول، حيث ما يزال يسيطر رأس المال القومي المتنوع المشارب والمصالح يواجه رأسَ المال العالمي الكبير. وها هو هذا الأخير بات في السنوات الأخيرة مثل الحوت يلتهم ويبتلع الاقتصادات القومية الواحد تلو الآخر. ويحاول رأس المال القومي يائساً المقاومة والصمود في وجه الرياح العاتية، في وجه «تسونامي» رأس المال العالمي الجائحة، غير أن خصمه الذي لا يعترف لا بحدود سياسية للدول ولا بسيادة قومية على الاقتصاد والثروة ولا حتى بخصوصيات ثقافية ودينية، لا يفتأ ينتصر حتى اللحظة لأنه يفوقه جبروتاً وعتوّاً في كل الميادين: اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وثقافياً. ويبدو السبب الجغراسياسي واضحاً في استثارة «الثورات المخملية»، خصوصاً في البلدان المنبثقة عن تفكك الإتحاد السوفياتي والدول التي كانت دائرة في فلكه، حيث اتخذت هذه «الثورات» شكل صراع على مناطق النفوذ بين روسيا والولايات المتحدة ضمن رقعة تفكك المنظومة السابقة، وحيث تتطلب ضرورة الهيمنة على المناطق المؤدية إلى الصين، الخصم الجغراسياسي الأساسي للولايات المتحدة بعد زوال الإتحاد السوفياتي، هضم واستيعاب التركة السوفياتية وتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير.

 

 ولعل لبنان يدخل ضمن هذه الحسابات من بوابة هذا المشروع لكونه بالأخص يقوم كدولة بمحاذاة  إسرائيل التي تشكل خاصرة الوجود الأميركي المستديم في المنطقة. وتمكن أيضا رؤية الخلفية السياسية في محاولة مفتعلي «الثورات المخملية» امتصاص النقمة الشعبية على عجز الحكومات والأنظمة البيروقراطية المقيدة للحريات الديموقراطية والالتفاف على احتمال قيام ثورات شعبية حقة على الأنظمة غير الشعبية التي باتت مستنفدة طاقتها على الاستمرار. ففي ظل أزمة الأنظمة الوطنية (التي اعتبِرت في زمن مضى تقدمية وتنطّحت لمعالجة قضايا قومية واجتماعية فما أفلحت نتيجة تحولها شيئا فشيئا إلى أنظمة تترأسها شرائح بيروقراطية ذات مصالح ضيقة)، ونتيجة فقدانها طابعها الثوري والشعبي الذي أوصلها إلى السلطة في مرحلة التحرر الوطني أوائل النصف الثاني من القرن الماضي، وفي ظل تضييق الخناق عليها من قبل رأس المال العالمي، أخذت تنشأ حركات شعبية راديكالية تسعى إلى ملء الفراغ الناجم عن فشل الأنظمة الوطنية في حل القضايا القومية والاجتماعية المطروحة بإلحاح وعزوفها عن تلبية المطالب الشعبية المحقة. أما السبب الأيديولوجي فيندرج ضمن حاجة رأس المال المعولم إلى قطع الطريق على الأفكار الثورية الراديكالية من جهة، والأصولية المتطرفة من جهة أخرى، هذه الأفكار المعرقلة لمسيرة العولمة، بعد أن تخلصت الدول الغربية الرأسمالية من منافس أيديولوجي كبير لها هو الإتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، وبعد أن نشأت في ظل غياب هذا المنافس الأيديولوجي، وليس من دون مساعدة غربية، حركات أصولية بنت نشاطها على الحميّة الدينية وعلى التعصب للتقاليد في مواجهة النزعة التنميطية للعولمة. وهنا لا تأنف السياسة الغربية من الإفادة حتى من الطفرة الأصولية نفسها في محاربة حركات التحرر وتسعير التطاحن الطائفي حين يكون ذلك ممكناً، وإن تنافست معها في الوقت نفسه على وراثة الفكر الثوري اليساري وعلى استدراك بروز فكر ثوري يساري متجدد وقطع الطريق عليه وهو يتنطح إلى أن يصبح خشبة خلاص للشعوب في مسعاها إلى التحرر من الظلم السياسي والقومي والاجتماعي. ويتبنى مشجعو «الثورات المخملية» شعارات ليبرالية جذابة كالتجديد والتحديث والتعددية وحرية القول وغيرها تمثّل طُعماً جيداً لاقتناص الكثيرين من المثقفين.  

 وأيضًا في سياق تعداد الأسباب الكامنة وراء قيام «الثورات المخملية» ثمة خلفيات اجتماعية ونفسية تتمثل في بروز أوهام لدى شرائح واسعة، لا سيما بين أوساط الطبقة الوسطى، بأن التعامل مع الدول الغنية سيؤتي الازدهار والرفاه. وتدل الخبرة الشعبية على أن الناس هم عادة «مع الواقف». وهم يدركون أن المنتصر على حلبة الصراع العالمي في نهاية القرن الماضي يثمّر ويعمم انتصاره ذاك في بداية القرن الحالي. وفي هذا السياق، نعتقد أن من المفيد الغوص بمزيد من التفصيل في مثال «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا التي جرت العام 2004 وباتت الآن تتأكلها تناقضات من قام بها. فقد برزت في هذه «الثورة» تناقضات وصراعات المرشحَين الرئاسيين فيكتور يوشنكو وفيكتور يانوكوفيتش كمظهر محلي، أوكراني، من مظاهر التناقض الشامل بين رأس المال العالمي الكبير ورأس المال القومي.

 

 2- حيثيات ومضامين «الثورة البرتقالية» الأوكرانية

 كان مرشح السلطة فيكتور يانوكوفيتش ومعه الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته ليونيد كوتشما، يمثلان على وجه العموم، رأس المال القومي الذي يتكوّن أساساً من المجموعات المالية والصناعية في مناطق دونِيتسك ودنيبروبتروفسك ذات الأغلبية الناطقة بالروسية، وفي العاصمة كييف (يتجسد رأس المال هذا شخصياً في كل من تحالف المتموّل الكبير رينات أحمدوف - مجموعة دنيبروبتروفسك، مع رئيس الوزراء السابق يانوكوفيتش ومعه مجلس الوزراء والنائب العام التمييزي فاسيلييف والأوليغارشي بينتشوك- مجموعة دنيبروبتروفسك مع الرئيس السابق كوتشما، والأوليغارشي سوركيس- مجموعة كييف مع رئيس الإدارة الرئاسية مدفدتشوك، وكذلك من ممثلي المجموعات المالية الصناعية الرئيسة في المجلس النيابي الأوكراني). وقد اعتبِر يانوكوفيتش ممثلاً للبورجوازية الموالية لروسيا والداعية إلى تدعيم الروابط معها والمؤيدة معاهدة توحيد المجال الاقتصادي بين روسيا وبيلوروسيا وأوكرانيا وكازاخستان. أما فيكتور يوشنكو فاعتبر مثلَ ممثل البورجوازية القومية المتعصبة الجديدة الموالية للغرب وللولايات المتحدة خصوصاً. وقد اعتقد كثيرون من خصومه أنه بوصوله إلى سدة السلطة سيحيل أوكرانيا نهائيا إلى مستعمرة للغرب، وأن الحلف الأطلسي لن يُعدَم حجة لاحتلالها احتلالا مباشراً في مستقبل قريب (مناورات الأطلسي جرت هناك في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي)، وجعلِها من ثَمَّ في مواجهة روسيا، وجعلِ شعب أوكرانيا كله في مواجهة الشعب الروسي. وخشي هؤلاء من أن المستقبل القريب لأوكرانيا في ظل حكم يوشنكو سيكون عنوانه الإساءة إلى أبعد الحدود للعلاقة مع روسيا كما سيكون «ليلاً دامساً من ليالي الرجعية الفاشية».

 لقد كانت توازنات السلطة السياسية التي تشكل البنية الفوقية لاقتصاد أوكرانيا حتى قيام «الثورة البرتقالية» مثلَ الحَكَم النزيه بين مختلف الأطراف. وأتاح نظام التوازنات هذا للدولة الأوكرانية الناشئة انتهاج سياسة ترعى مصالح المجموعات المالية الصناعية الرئيسة وتعبّر عن مصلحة مشتركة بينها وتخفف من غلواء تناقضاتها الداخلية.

 وتكمن هذه المصلحة المشتركة في كون رؤوس الأموال القومية راحت تتقاسم ملكية الدولة عبر خصخصة المؤسسات بأرخص الأسعار. وهذا ما ينجم عنه كالعادة حَرَد البعض ممن يرون أنهم لم ينالوا النصيب الذي يستحقون خلال عملية التقاسم تلك. وهؤلاء «الحردانون» يتلقون الضربات واحدة تلو الأخرى من لدن المهيمنين على المجموعات المالية الصناعية الرئيسة، وهم إزاء ذلك لا يفتأون يشكون ويؤكدون أن القانون يجب أن يسري مفعوله على الجميع بلا استثناء، وأن المحاسيب (المجموعات المالية الصناعية) لا ينبغي أن تكون لهم امتيازات ما تميّزهم عن غيرهم. هؤلاء «اللاهثون وراء الحقيقة» كانوا هم أيضًا من رجال الأوليغارشيا ولكنهم كانوا أقل شأناً، ومن أبرزهم رئيسة الوزراء السابقة والسيدة المغامرة وصاحبة «الكاريزما» يوليا تيموشنكو (التي كانت مطلوبة من قبل الإنتربول والعدالة الروسية بسبب بعض التلاعبات وأعمال الرشوة والفساد التي اتّهمت بها حين كانت في السلطة) وغيرها برئاسة المرشح الرئاسي والرئيس حالياً فيكتور يوشنكو! ولكان من السهل على المجموعات المالية الصناعية الرئيسة أن تنقضّ على الخارجين على الطاعة من رجال المال والصناعة المحليين لو لم يكن رأس المال العالمي هناك بالمرصاد. فهو الآخر يطمع بتقاسم الجبنة مع رأس المال المحلي، بل بالاستيلاء على حصة الأسد من المصانع الأوكرانية المعروضة للبيع في ما يشبه «سوق النخاسة» إذ باتت سائبة ومحللة للخصخصة و«الحصحصة» بعد انهيار الدولة المركزية السوفياتية واقتصادها الموحد. ولذا تحالف رأس المال العالمي مع رجال الأعمال الأوكرانيين المغضوب عليهم في ظل السلطة السابقة.

 

 وخير مثال على ما نقول كيفية خصخصة مصنع الفولاذ في منطقة «كريفوي روغ». فالدولة الأوكرانية باعت مصنع الفولاذ هذا بأرخص الأثمان من المتموّلين الكبيرين بينتشوك وأحمدوف (من مجموعتي دنيبروبتروفسك ودونيتسك) مستبعدة رأسَ المال العالمي من الاشتراك في المزايدة لشراء أسهم هذا المصنع الأضخم من نوعه في أوكرانيا. فمن الذي هَبّ في أوكرانيا للدفاع عن رأس المال العالمي؟ إنه فيكتور يوشنكو (المحسوب على الأميركيين والغرب). فقد وقف إلى جانب «الخصخصة الشريفة والصادقة». وما هذه سوى المنافسةِ الصريحة السافرة التي يفوز فيها من رأس ماله أكبر. ومن البديهي أن تضحي الشركات المتجاوزة حدود القوميات هي صاحبة المصانع بلا منازع في ظل الخصخصة الشريفة والصادقة! هكذا نرى أن تناقض يوشنكو ويانوكوفيتش إن هو إلا تناقض بين رأس المال العالمي ورأس المال القومي الأوكراني. فأي منهما ربح المعركة في خاتمة المطاف؟ إنه رأس المال العالمي. وما دام هذا لم يحصل منذ الدورة الانتخابية الأولى ولا الثانية، فلتكن دورة ثالثة... وبخلاف كل قانون ودستور!! وليست هذه الوصفة صالحة لأوكرانيا فحسب، بل للعالم كله، ومن ضمنه بلداننا العربية. من هو الطرف الذي يمكن اعتباره تقدمياً، من وجهة النظر الاقتصادية طبعاً في البداية؟ إنه، ولا  شك رأس المال العالمي والاقتصاد العالمي والعولمة. فرأس المال القومي، والاقتصاد القومي المشرذم بين مراكز القوة المختلفة، بل الاقتصاداتُ القومية المبعثرة هنا وهناك في أرجاء هذا العالم، يفترض أن تشكل الجانب «الرجعي» في المسيرة العالمية التاريخية نحو المزيد من العولمة. ومن المفترض أن ينتصر رأس المال العالمي عاجلاً أو آجلاً على رأس المال القومي في كل بلد من البلدان، لأن الأخير هو الحلقة الأضعف. وهذا سيكون مثل خطوة جديدة إلى الأمام على صعيد الاقتصاد العالمي، تماماً مثلما أزيلت  في نهاية القرون الوسطى، الحدود والحواجز الإقطاعية من درب حرية التبادل بين البلدان الأوروبية نفسها مع بدء تطور الرأسمالية فيها وبروز حاجتها إلى المزيد والمزيد من الأسواق الحرة. وهذا تقدم لا شك فيه. فكل الحواجز المصطنعة القائمة في وجه تطور الرأسمالية وتقدمها يجب أن تُزال. والرأسمالية، كأي نظام اجتماعي، ينبغي أن تستنفد ذاتَها وقدرتها على النمو والتطور لكي يتم الانتقال منها إلى نظام اجتماعي أكثر فاعلية اقتصادياً وأكثر تحريراً للطاقات، وفي الوقت نفسه أكثر عدالة ومساواة بين الناس. وهذا الأمر الأخير رهن بوعي الناس أهميتَه وبنضج التناقض بين الطابع الجماعي للإنتاج والطابع الفردي لتملّك وسائل الإنتاج وحصيلةِ الإنتاج من ربحٍ مادي وقدرةٍ على الاستهلاك وسلطانٍ سياسي ومعنوي. لقد راح  رأسا المال الروسي والأوكراني، إذ شعرا بضعفهما حيال رأس المال العالمي، يضافران قواهما لأجل مواجهة الأخير. وفي هذا السياق كان لا بد من التغلب على التناقضات القائمة بين رأسي المال الروسي والأوكراني أولاً. ولا يسع رأسُ المال القومي أن يواجه أصلاً رأس المال العالمي في الميدانين العسكري والاقتصادي، فهو في هذا المجال أضعف منه أضعافاً مضاعفة. ولذا يحاول أن يقاومه سياسياً ما دامت مقاومته اقتصادياً متعذرة. وهنا لا بد من أن نلفت إلى الإجراءات القمعية التي يتخذها عادة رأس المال القومي درءًا لقيام «الثورات المخملية».

 

 3- آليات استنهاض «الثورات المخملية» وعوامل نجاحها

 من بين ما جاء في المبدأ الجديد لـ«استراتيجية الأمن القومي» أيضاً: «إن سياسة الولايات المتحدة هي البحث عن الحركات والمؤسسات الديموقراطية في كل أمة وكل ثقافة ودعمها من أجل الهدف النهائي ألا وهو القضاء على الطغيان في العالم» (2). وإذا ترجمنا هذه العبارة من لغة الديماغوجية الأميركية إلى اللغة العربية السليمة وجدنا أنها تعني وحسب أن على الاستخبارات الأميركية أن تعثر في كل بلد لا يروقها على «طابور خامس» فتموله، أي على ضروب شتى «المدافعين عن حقوق الإنسان» و«المنشقين» و«الباحثين عن الحقيقة» الذين سيكون عليهم أن يحققوا «ثورة ملونة» بألوان البلد المقصود ورموزه، لصالح الولايات المتحدة. والمبدأ إياه يعطي «روشتّة» إعداد مثل هذه الانقلابات. فتجب بدايةً إدانة انتهاكات حقوق الإنسان إدانة حازمة، أو إحداث عملية مدوية واتهام جهات بها تعدّها الولايات المتحدة خصماً لها، وتأليب الجمهور على «الفاعل»؛ ثم عقد لقاءات في البيت الأبيض مع «الإصلاحيين من البلدان المظلومة»، ثم المساعدة على إجراء انتخابات ديموقراطية حرة (حتى بقانون من صنع «التوتاليتاريين» وفي ظل شراء الأصوات واستخدام المشاعر الطائفية، على أوسع نطاق) وإقامة المجتمع المدني. هوذا السيناريو المعتمد، والذي قد تختلف تفاصيله باختلاف ظروف البلد المعني. ولقد تفنَّنت الإستخبارات الأميركية في صنعه لدرجة أن أي تعديلات عليه لم تعد تلزم من حيث الجوهر. لنأخذ مثلا انهيار الإتحاد السوفياتي، حيث حصلت، كما سبقت الإشارة، أول «ثورة مخملية» نفّذتها البيروقراطية الحزبية السوفياتية «المتبرجزة» إياها ودعمتها الـ«سي.إن.إن» ومن يقف وراءها في الــ«سي.آي.إي» والغرب الرأسمالي كله: لقد كان مرد الانهيار إياه، والحق يقال، إلى أسباب داخلية، غير أن العامل الخارجي اضطلع هو بدور ليس بالأخير. ففي البداية دين الإتحاد السوفياتي على انتهاكه حقوق الإنسان (المقصود كان بالأخص حقوق حفنة من المنشقين من بين اليهود المتصهينين خاصة)؛ ثم عقِدت لقاءات مع الإصلاحيين غورباتشوف ويلتسين وغايدار وتشوبايص (الأخيران تعلما في هارفارد في إطار ما يسمى «مشروع هارفارد»)؛ ثم تم دعم إجراء انتخابات حرة إلى هذا الحد أو ذاك، ثم منِح الأثرياء الروس الجدد الذين نشأوا وترعرعوا في مياه البيريسترويكا إمكان بناء «المجتمع المدني» الرأسمالي. هذا السيناريو تم تكراره لاحقاً في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا.

وعليه يمكن تلخيص آليات استنهاض «الثورات المخملية» وكيفية مصارعة رأس المال العالمي لرأس المال القومي على النفوذ في عقر داره بالعناوين الآتية:

 - الضغوط السياسية التي قد تتخذ أحيانا شكل حرب استباقية تشن بواسطة «القنابل الذكية». وهذا ما حصل خصوصاً في يوغوسلافيا.

- ركوب موجة الصراعات السياسية الداخلية بين الطبقات المختلفة وداخل الطبقة الواحدة (بين أجنحة النخبة الحاكمة في البلد المعني) وغيرها من الصراعات.

 - إستغلال عمليات اغتيال أشخاص مرموقين من أجل تفجير الأوضاع الراكدة. وهذا ما حصل مثلا في أوكرانيا (اغتيال الصحافي المعروف غونغادزه) وفي لبنان (اغتيال الرئيس الحريري) حيث كانا مثل الصاعق الذي فجّر الأوضاع برمتها.

- استغلال الاستحقاق الانتخابي، نيابياً كان أو رئاسياً، لإنجاح «الثورات المخملية» حتى ولو تطلب الأمر استخدام ما يسمى «التقنيات القذرة». وهذا ما يضفي على عملية التغيير صفة الشرعية بخلاف الانقلاب العسكري، ويشكل نجاحاً يُشهَد له ولم يُعهد من قبل لسياسات التدخل الاستعماري.

 - تحييد العامل العسكري من خلال تطويق الأجهزة الأمنية بعد التشهير بها أو تحييدها، في ظل اضطرابات أمنية وعمليات اغتيال متتالية تلصَق تهمة ارتكابها بهذه الأجهزة بعدما تعجز عن كشف المدبرين والفاعلين الحقيقيين. - اللعب على أوهام الناس العاديين في شأن تحسن مستوى عيشهم حين ينخرطون في «الثورات المخملية»، وجرهم إلى شعارات تعموية وغير واقعية في أحيان كثيرة لا تمت بصلة إلى مصالحهم الحقيقية.

 - استغلال التناقضات الإقليمية التي يكون لرأس المال العالمي ودوله ومؤسساته باع طولى في استنفارها وتأجيج نارها لتضحي مثل حرب أهلية إقليمية.

 - ولا ننسينّ أيضاً استدراج العديد من الزعماء المحليين إلى دائرة الفساد (بحسب نصيحة أحد القادة العسكريين والفلاسفة الصينيين الذي عاش بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد سونغ تصي)(3).

عليه يجب بدايةً أن نقول إن رأس المال العالمي يستخدم في الصراع مع الحكومات التي لا ترضيه، الطاقات الاحتجاجية لدى العمال والشبيبة والناس العاديين وفئات الطبقة الوسطى في البلدان المعنية. ولذا نرى خصمه رأس المال القومي مضطراً إلى الحفاظ على مستوى معيشي مرتفع نوعاً ما لعماله. فثمة مثل يقول: الذئاب لا تعوي عندما تكون بطونها ملآنة. وعلاوة على ذلك يجب أن تكون ثمة ضمانات اجتماعية تؤمن عيشاً معقولاً للجميع وإن لم يكن ذاك العيشَ المرفّهَ المنعَّم.

 

 لكن بموازاة هذا الأمر في بلدان هيمنة رأس المال القومي، يُمنع كل رأي معارض، وتُحجَب كل معارضة يمكن أن تهزّ أركان الاستقرار وتستثير انفجاراً اجتماعياً قد ينقل مقاليد الاقتصاد إلى أيدي رأس المال العالمي، أو إلى أيدي تنظيمات شعبية تقف إلى يسار البورجوازية الوطنية وتشكل خطراً على مصالحها، تماماً كما يحصل حالياً في بلدان أميركا اللاتينية. قصارى القول أن رأس المال القومي المحلي يجد نفسه مضطراً إلى أن يواجه رأس المال العالمي، إلى أن يؤمن مستوى معيشة مقبولاً وضمانات اجتماعية لكل أبناء بلده، وإلى أن يضرب بقوة كل معارضة محتملة.

 وكمثال على هذا نسترجع نظام حكم صدام حسين في العراق، الذي، مع إيجاده مستوى معيشة لائقاً نسبياً، ومع تطويره قدرات علمية واقتصادية كبيرة، ومحاولاته الرامية إلى تطوير قدرات عسكرية هامة لا تسمح بها ظروف الصراع مع إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، أغرق بالدم كل معارضة شعبية، شيعية كانت أم شيوعية أم حتى بعثية. ورأس المال القومي في أوكرانيا انتهج سياسة مشابهة في بعض الأوجه. وقد برز هذا خصوصاً في مثال محافظتي دونيتسك ولوغانسك حيث تم رفع مستوى معيشة العمال ومعاملة المعارضة اليسارية والشيوعية بقسوة في الوقت نفسه.

 إلا أن كل هذا لا يمنع رأس المال العالمي من أن يسعى إلى أن يبتلع في نهاية المطاف رأس المال القومي. وهذا قد لا يتم على سلام. ففي ظل الأزمة الاقتصادية العالمية المتزايدة باتت تبرز ابتداء من أميركا اللاتينية قوة ثالثة تعمل على استنهاض العمال والسكان الفقراء ضد كلا طرفي رأس المال تحت الراية الشعبية. وتميل أجواء المناصرين لكليهما بعد حصول التعب إزاء عدم التوصل إلى نتيجة إيجابية للصراعات «المخملية»، إلى الموقف السلبي منهما. حينئذ يصبح بإمكان القوة الشعبية الثالثة التوجه إلى أبناء الشعب العاديين من كلا المعسكرين ليحولوا وجهة سلاحهم ضد قادتهم الحاليين. أفلم يدعُ زعيم البلاشفة لينين مثلاً الشعوب خلال الحرب العالمية الأولى التي خاضتها الدول الكبرى المتنازعة على إعادة تقسيم العالم إلى «تحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية ضد الحكام ومناصريهم».

 إن رأس المال القومي لجد ضعيف وتابع للغرب اليوم في معظم بلدان العالم. وحتى لو استطاع أن يربح الحرب ضد شركات الغرب في مكان ما، فالغرب سوف يخنقه اقتصادياً.

ولنا في عودة إلى حال أوكرانيا مثال كلاسيكي: فأي تغيّر في البنية الفوقية السياسية لن يكون منه سوى إنجاز التغيير في البنية التحتية. فاقتصاد أوكرانيا، مثلاً، مرتهن كله للاقتصاد العالمي كغيره من اقتصادات الدول المنبثقة عن انهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، ويكفي لإركاعه تدخل عنصر «الحكومة العالمية» وحسب. وليس حتى اقتصاد دولة قوية مثل الصين الشعبية، التي يرشحها كثيرون لتصبح الدولة الأقوى في العالم خلال القرن الحادي والعشرين، بمعزل عن هذا الارتهان، وثمة من يقول باقتصاد أميركي وغربي في أراضي الصين الشعبية، وليس باقتصاد صيني!

 وقد بيّن مثال أوكرانيا أن الاشتباك وقع من حيث المبدأ بين مرشحَي جماعتي مافيا الاقتصاد والمال، وباتت تحركات الاحتجاج الشعبية أسيرة ألاعيب هاتين الجماعتين، فتم تسعير «الهستيريا البرتقالية» وتفجيرها في الشوارع على يد جماعة الغرب من ممثلي كتلة يوشنكو لكونهم يريدون الوصول إلى السلطة بأي ثمن، كما صرح يوشنكو نفسه قبيل الدورة الثالثة. فهؤلاء الساسة المحترفون يستفيدون من الأجواء الراديكالية السائدة داخل قطاع من الشبيبة فيدعون هؤلاء الشباب المتحمسين إلى أعمال الشغب. ويدعمهم في تصعيدهم للتوتر في البلاد كبار عرّابي وأيديولوجيي «الثورة البرتقالية»،أي رأس المال الغربي الذي كاد يبدي من أجل هدفه الرئيس، هدفِ تحويل سخط الشعب الأوكراني إلى مطية لتطاولاته الاقتصادية والجغراستراتيجية، استعداداً للجوء إلى إشعال نار حرب أهلية في أوكرانيا لو اقتضى الأمر ذلك. وقد استخدمت في أوكرانيا السيناريوهات التي اعتمدت وجربت ونجحت في كل من جورجيا وصربيا حيث شكلت تنظيمات شبابية على شاكلة التنظيم الشبابي الذي كان في أوكرانيا وراء التظاهرات ونشط تحت ستار «مراقبة نزاهة الانتخابات».

كذلك فإن تزوير نتائج الانتخابات أمر وارد تماماً. فكلتا القوتين الممثلتين لمافيات رأس المال تستخدمان إمكاناتهما الإدارية والمالية في هذه الانتخابات. ولا يعود مهماً بعد ذلك من الذي سينتصر في هذا السجال، فحق الاختيار لدى الشباب يكون قد سرِق منهم. وليست السلطة وحدها هي التي تسرقه كما يدّعي عادة ويحاول أرباب المعارضة أن يبرهنوا، بل يسرقه كل من السلطة و«المعارضة»، أي أصحاب رأس المال كلهم من وراء السلطة و«المعارضة». فالخلافات هي خلافات أهل السلطة و«المعارضة» وحدهم، ولا دخل للشباب فيها، لأن السلطة و«المعارضة» تتصارعان على الحق في السيطرة على موارد البلاد الاقتصادية، فهما لا تعدوان كونهما وجهين لعملة واحدة.

بيد أن «الثورة المخملية»، بخلاف الانقلابات العسكرية، تكلف غالياً. فلا بد بدايةً من إعداد السكان إعداداً مكثفاً ليعتبروا نظام بلادهم غير ديموقراطي (وهذا أمر غير صعب المنال إذ إن هذه هي حقيقة الوضع في معظم البلدان المعنية التي تدعي الديموقراطية وهي منها براء). ثم تلقى تبعة تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي على رأس النظام الذي سيكون على «الثورة المخملية» إياها أن تزيحه. وهكذا يتركز غضب فئات كثيرة من الناس على هذا الزعيم أو ذاك فتطالب باستبداله. ثم يعدّ الخبراء الأميركيون المجربون «الثوريين المحترفين» الذين سيكون عليهم أن ينظموا الجماهير في الوقت المناسب والمكان المناسب للتحرك، ويؤمنوا لها وسائل النقل والخيم والمأكل!! كل هذا يتطلب طبعاً اعتمادات مالية كبيرة، سوف يتم التعويض عنها بالتملك المقبل في البلد المعني وبالحق في نهب ثرواته وموازناته إذا ما تحقق لهم إيصال واحد من جماعتهم إلى سدة الحكم، أي «رئيس منتخب ديموقراطيا». وهذا الأسلوب استخدم في صربيا وجورجيا وأوكرانيا كما سبقت الإشارة.

 

4- رقعة إشعال «الثورات المخملية»

 لا تقتصر رقعة إشعال «الثورات المخملية» على دول «محور الشر» مثل إيران وكوريا الشمالية وسوريا وكوبا (وفنزويلا تشافيز حديثاً)، بل تتجاوزها إلى دول «صديقة» أو غير معادية مثل مصر والسعودية واليمن والدول المنبثقة عن تفكك الإتحاد السوفياتي والمتعاونة أصلاً مع الغرب والحلف الأطلسي والولايات المتحدة. وهي في الخلاصة تشمل العالم كله كهدف استراتيجي. والهدف هو المزيد من ربط الدول الصديقة بالسياسة الأميركية، ما يستدعي تهديدها هي أيضا بـ«ثورات مخملية».

 وقد نجح رأس المال العالمي حتى الآن في إشعال «الثورة القرنفلية» في صربيا و«الثورة البرتقالية» في أوكرانيا و«ثورة الورود» في جورجيا و«ثورة الخشخاش الأحمر» في قرغيزيا و«ثورة الأرز» في لبنان والحبل على الجرار. وثمة الكثير مما يجمع بينها. فمضمون هذه «الثورات» يكمن في كل مكان في تغيير الزعيم غير المنسجم كلياً مع المصالح التجارية والسياسية لرأس المال الأميركي، ليحل محله زعيماً أكثر انسجاماً مع هذه المصالح، زعيماً يكون غالباً «في الجَيب».

 وهنا يبدو مشروع تصدير الديموقراطية إلى بلدان «الشرق الأوسط الكبير» مثابة إطار لـ«ثورات مخملية» تطاول كل هذه البلدان. وتتعثَّر مساعي «الثورة القادمة» في سوريا حتى الآن في أوحال المستنقع العراقي وتأرجحات الوضع اللبناني. وهي تعثرت في إيران بفعل الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جاءت بقيادة أكثر راديكالية من القيادة السابقة. وتتعثر «ثورة الأرز» في لبنان في مستنقع خصوصيات الوضع اللبناني وتوازناته إذ لا تزال تحول دون نجاحها الكلي عقبات تطبيق القرار 1559 المرتبطة أيضا بالوضعين السوري والإيراني. وقد ووجهت أخيراً بـ«ثورة مخملية» مضادة تمثلت في الاعتصام المعارض في الخيم وسط بيروت، وهنا ربما أخذ يفعل فعله قانون نفي النفي لفيلسوف الديالكتيك الألماني هيغل. هذا الاعتصام شكل خناقاً يضغط على عمل الحكومة «الثورية الأرزية» ويشله إلى حد كبير.

 

5- هل يمكن تدارك نجاح «الثورات المخملية»؟

 لم يحالف الحظ دوماً مسعى الأميركيين إلى إشعال «ثورات مخملية». فقد جربوا مثلاً هذا الأسلوب في فنزويلا وفي بيلوروسيا وفي زيمبابوي، وجربوه في كوبا أيضا ولم ينجحوا. وهو مرشح لأن يُستخدم لاحقاً في أكثر من بلد في العالم.

هذا يعني أن دسائس الشركات العالمية ومؤامراتها ومن يمثلها سياسياً لا تكفي وحدها لإسقاط الزعماء القوميين. فلانتصار «الثورات المخملية» لا بد من توافر بضعة شروط داخلية ليس بمقدور الاستخبارات الأميركية ولا أموال وزارة الخارجية الأميركية أن تؤمنها.

أول هذه الشروط تردّي الوضع المادي لجمهور الشعب وتشديد اضطهاده من قبل النخبة الحاكمة، وهو ما يفهمه هذا الشعب أنه ظلم يلحق به.

وثانيها الانقسام الخطير الذي قد يحصل داخل الطبقة الحاكمة، وهو ما يتيح لرأس المال العالمي العثور على حليف جدي وغني داخل البلاد.

 وبدون هذين الشرطين لا يمكن لأي «ثورة مخملية» أن تنتصر. ولنستعرض بالتفصيل بعض الأمثلة على ما نقول.

 في بيلوروسيا حيث وضع الناس، وإن لم يكن ممتازاً فإنه كان أفضل من وضعهم في بلدان الإتحاد السوفياتي السابق الأخرى، باءت محاولات الغرب المتكررة باستعداء الناس على «الديكتاتور لوكاشنكو» بالفشل الذريع حتى الآن. فالفئات الحاكمة هناك هي من البيروقراطية السوفياتية سابقاً التي استطاعت أن تحافظ على امتلاك الدولة للقسم الأعظم من المؤسسات وأن تتراص حول الرئيس لوكاشنكو الذي ستعني زحزحته خصخصة هذه المؤسسات لصالح رأسي المال الأوروبي والروسي، فيما سيبقى القادة البيلوروس خاليي الوفاض، ولذا هم متمسكون بالرئيس لوكاشنكو. ولذا لم تمر «الثورة المخملية» هناك. ولذا أيضاً لم ينثن «آخر دكتاتور»(4) في أوروبا أمام المعارضة الليبرالية المدعومة غربياً.

 

ويهوّل كثيرون باحتمال تحقيق الأميركيين ثورة برتقالية في روسيا من خلال بعض أطراف الأوليغارشيا الطريدة أو السجينة. غير أن كثيرين من المحللين الروس(5)  يرون انعدام إمكان حصولها هناك لأن الرأسمالية الروسية باتت متطورة إلى درجة أن الرأي العام خبر جيداً هذه الألاعيب، وهو يريد مبادرات وشعارات وبرامج أكثر وضوحا وصدقاً. وإن هم قبلوا على مضض ديماغوجية السلطة قبولهم بضرورة مؤسفة، فليسوا مستعدين لسماع دفق جديد من أكاذيب المعارضة.

 وفي فنزويلا، عاد الرئيس اليساري أوغو تشافِيز المخلوع ليبني الاشتراكية ويناهض الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع كوبا وبلدان أخرى في أميركا الجنوبية انتفضت على «الشيطان» الأميركي الشمالي. وكان الأميركيون قد تمكنوا في البداية من شراء قادة الجيش والنقابات. غير أن النتيجة لم تأت مثلما في «ثورة الورود» الجورجية أو «الثورة البرتقالية» الأوكرانية، بل جاءت معاكسة تماماً. وقد تحسن وضع جماهير الشعب الفقيرة في عهد تشافيز إذا ما قورن به خلال سنوات حكم خبراء صندوق النقد الدولي. وبوشر تنفيذ برنامج للتعليم الشعبي المجاني وللطبابة المجانية. وقد أممت السلطة الجديدة في عهد رئاسة تشافيز كبرى الشركات النفطية تحجيماً للنفوذ الأميركي في فنزويلا. وكانت النتيجة أن انقلاب قيادتي الجيش والنقابات الموالية للنظام القديم على تشافيز لم يمر، واعتقاله لم يعمر طويلاً، إذ قضت عليه تحركات الجماهير الشعبية في الأحياء الفقيرة من العاصمة كراكاس. وها هو تشافِيز الآن قد جذّر مواقفه وثورته «البوليفارية» نحو مزيد من التوجه الاشتراكي والتحالف مع النظام الكوبي، بل والعمل حثيثاً على إنشاء حلف إقليمي ضد الولايات المتحدة.

 فليس لـ«أموال الغرب»، كما نرى، أن تثير دائما «ثورة مخملية» ناجحة. و«يد الغرب» يمكنها أن تفعل ما تفعله وحسب حيث الشعب أصلاً مضام من قبل المافيات المحلية وهيمنتها على الدولة.

وثمة كثيرون من زعماء الدول «المستقلة»، إذ يرون ما يحصل من تغيير في الأنظمة، يحاولون تدارك هذا عندهم بزيادة التعسف والقمع ضد المعارضة وبإقامة نظام دكتاتوري. ولكن يمكن زعم أن هذا لن ينفعهم في شيء. ولعل من الخير لهم أن يتعلموا من تشافيز ولوكاشنكو، وبذلك يؤمنون حماية لأنفسهم ولأنظمتهم من «ثورات قرنفل وورود وبرتقال» وغيرها من أزهار الطبيعة وأثمارها. لكن، ومن جهة أخرى، فإن وصول حكّام جدد على موجة من التأييد الشعبي وهم لا يمثلون المصالح الحقيقية للشعب، ليس بالشيء الجديد في التاريخ العالمي. فهذا هتلر مثلاً، دكتاتور ألمانيا والمبادر إلى إشعال نار الحرب العالمية الثانية ، جاء في الثلاثينيات إلى السلطة على موجة التأييد الشعبي العارم.

 

6- إلام آلت «الثورات المخملية» التي نجحت؟

 خيّل لكثيرين من المحللين خلال السنوات الثلاث الأخيرة التي طفرت بـ«ثورات مخملية»، أن حفنة من ملايين الدولارات توزع بين بضع منظمات غير حكومية، من شأنها أن تُؤتي  -حسب الطلبية-  النظام السياسي المطلوب ذا المعالم المبرمجة أصلاً. بيد أن الأحداث اللاحقة بيّنت، أولاً، أنْ ليس كل نظام يمكن دحره، وثانياً، أن انقلابات كهذه، حتى ولو نجحت، لا معنى لها.

فطالبو «الثورات المخملية» ورعاتها لم يربحوا الكثير حتى الآن. صحيح أنهم غيّروا الأشخاص في رأس السلطة، ولكن المنتصرين، في أوكرانيا مثلاً، دبّت الخلافات بينهم منذ الأشهر الأولى، فعاد إلى السلطة إثر ذاك أولئك الذين وجهت ضدهم «الثورة البرتقالية» إياها. وهكذا لم يتغّير شيء نحو الإيجابية في حياة المواطن العادي، وليس من شيء مرشحاً لأن يتغير في المستقبل المنظور.

وفي قرغيزيا كذلك عادت الأمور سريعاً إلى نقطة البداية. فقط في جورجيا يبدو الوضع حتى الآن مستقراً، بما أن نظام ميخائيل ساكاشفيلي هو استمرار واستنساخ لنظام إدوارد شيفاردنادزة. وما كان بالإمكان غير ما كان. وليس صدفة أن راح شيفاردنادزة يحضّر ساكاشفيلي بالذات لخلافته. خلاصة الاستنتاج أن الاستقرار بات أقل، والباقي بقي على حاله. ويمكن القول إنه لم يكن مرتقباً لشيء أن يتغيّر... فالسهولة التي حصلت فيها «الثورات المخملية» حددت منذ البداية كونها لا تنتمي في جوهرها إلى عائلة الثورات، وهي لم تكن تفترض أي تغيير باستثناء إحلال مجموعة من الموظفين محل مجموعة أخرى في إطار الفريق ذاته. أما بالنسبة إلى هذا الزعيم أو ذاك فالتغيير حصل، والمال إلى الجيب دخل!

 

7- دروس مُستفادة من نتائج «الثورات المخملية»

 يمكن اعتبار فوز مرشحي «الثورات المخملية» إلى حدّ بعيد وكأنه انقلاب. انقلاب وليس ثورة كما يحلو للبعض القول. فالذي يحصل هو إعادة توزيع جبنة السلطة بين أطراف الفعاليات الاقتصادية النافذة نفسها، بين أطراف الإقطاع السياسي المتناوب على السلطة، فيما التمثيل الشعبي الحقيقي في السلطة يبقى مغيباً، فتنتقل سلطة التقرير من طرف ينتمي إلى هذه الفاعليات إلى طرف آخر من طينتها نفسها أيضا. وما الانقلاب سوى انتقال للسلطة من طرف إلى آخر داخل الطبقة نفسها، ولكن، خلافا للتقاليد الديموقراطية المعمول بها في مثل هذا الانتقال، وعبر انتخابات «شرعية ونزيهة وهادئة».

بناء على ما تقدّم يبدو أن هذا الدفق الجارف من «الثورات المخملية» ما هو إلا فوضى مقصودة تشيعها الأوساط الأميركية لمجرد خلق الارتباك في صفوف القوى المعادية لها في العالم. فالصيد غير ممكن إلا في الماء العكر. ولهذه الفوضى «البناءة» أهدافها المحددة والتي أوّلها إحداثُ التغييرات المؤاتية لتقدم «بلدوزر» العولمة وسيطرة الشركات العالمية على مقدرات الشعوب وثرواتها، مع إبقاء هذه الشعوب فريسة التخلف والجهل والأمراض، كما يحصل  في قارة أفريقيا الفائقة الغنى بالثروات الطبيعية. والنتائج الاقتصادية لهذه الثورات هي المزيد من التبعية للشركات العالمية، ونتائجها السياسية هي المزيد من الانخراط في الأحلاف الأجنبية، ونتائجها الاجتماعية والنفسية هي تشويه لمفهوم الثورة وقنوط لدى الناس من إمكان إحداث أي تغيير يحسن معيشتهم والعزوف عن المشاركة النشطة في الحياة السياسية. لذا فهي من حيث الجوهر ثورات مضادة للثورة الحقيقية. والثورة الحقة هنا ليست في رفض العولمة بعد أن أضحت الكرة الأرضية «قرية عالمية». إنها، بعكس ذلك، في جعل هذه العولمة مسيرة شعبية فعلا، تعود ثمارها الخيرة على الجميع بدون استثناء. هذا الحلم الوردي الذي راود المفكرين من ذوي النزعة الإنسانية والمظلومين منذ أيام «انتفاضة سبارتاكوس»، وربما قبلها، لن يتحقق إلا بحركة شعبية عارمة «من المحيط إلى المحيط» تطالب بالديموقراطية الشعبية بديلا عن الديموقراطية الليبرالية، وبالعولمة الشعبية بديلا عن النظام العالمي الجديد الذي دعا إليه بوش الأب ومعه صديقه الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، بالعولمة التي توظف الثروات المسلوبة من البلدان النامية، في تنمية هذه البلدان وتطويرها، لا في تأبيد تخلفها واستغلال الأيدي العاملة فيها. فالشركات العالمية أخذت تنقل مصانعها إلى بلدان «العالم الثالث» ليس «كُرمى لسود عيونها»، بل لرخص الأيدي العاملة فيها، وما ينجم عنه من خفض شديد لتكلفة البضائع بغية إبقاء البلدان التي تقطنها خمسة أسداس البشرية سوقاً لشركات بلدان «المليار الذهبي». وقد تحول العالم الآن كله في حقيقة الأمر إلى طبقتين متباعدتين مادياً وجغرافياً هذه المرة: إحداهما تسكن «القصر العالمي»، وهي مرفهة وقادرة على شراء السلع المصنعة في أوروبا وأميركا واليابان وعلى التمتع والاستجمام في الأماكن السياحية شتى في العالم، ولا يقوى على إيذاء بعض أفرادها إلا «تسونامي» مثل الذي حصل نهاية العام الماضي في جنوب آسيا، وأخرى تسكن «الكوخ العالمي»، بلدان «العالم الثالث» الذي انضمت إليه خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة بلدان كثيرة تحدرت من «العالم الثاني» الذي كان يتمثل في الكتلة الشرقية الاشتراكية. وتكاد هذه الطبقة لا تجني شروى نقير على الرغم من كدحها اليومي المضني.

فما هي نتائج «الثورات المخملية» على معيشة أبناء الشعب؟ لا بد هنا من الإجابة عن ثلاثة أسئلة هي: علام تحصل الفئات الشعبية بنتيجة هذه الانتخابات؟ وماذا يمكنها أن تأمل وترتجي منها؟ وما الذي عليها فعله حيال نتائجها؟

فعلياً لا تحصل على شيء، باستثناء التصدّق من قبل السلطة عليها بعض الأحيان بزيادات ضئيلة في الأجور على أعتاب الانتخابات (لا يلبث ارتفاع الأسعار أن تلتهمها). ولن يتغير شيء في وضع الفئات الشعبية: فهي ستبقى موضع استغلال ومصدر زيادة لأرباح وثروات المافيات من داخل السلطة ومن خارجها، وتبقى تبيع قدرتها على العمل كما تباع أي بضاعة أخرى. وثمن هذه البضاعة (من نوع خاص) لا يمكن أن يذهب في ظل الأنظمة القائمة بعيداً عن الحد الأدنى لكلفة إعادة إنتاج هذه القدرة على العمل (لذا يعمل جل أبناء الطبقة العاملة دوامين أحياناً لإعالة عيالهم وتعليم أطفالهم). وكل ما يقال حول تكافؤ الفرص ما هو إلا خرافة تهدف إلى ذرّ الرماد في الأعين.

 وهل من الممكن تغيير وضع الفئات الشعبية بواسطة الانتخابات؟ هيهات أن يكون ذلك ممكناً في معظم الأحيان. فالانتخابات نفسها، كما تبين تجربة السنوات الطوال في بلدان كثيرة، ما كان منها أن تحسن وضع هذه الفئات، على الرغم من استخدام مرشحي أطراف الموالاة والمعارضة لشعارات شعبوية تتم «سرقتها» في أحيان كثيرة من خصومهم لاستخدامها في معركتهم للفوز بأصوات الناخبين. كما أنها تظهر في الوقت نفسه أن الكثيرين من أبناء الشعب العاديين غير واعين لمصالحهم الحقيقية، فيحسبون مصالح المتنافسين الكبار وكأنها مصالحهم، أي يبنون قصوراً على رمال الأوهام. ومن هذه الأوهام:

 1- الأمل في «انتخابات نزيهة» في ظل هيمنة أصحاب المصالح الكبار. فكثيرون من العمال والطلاب والشباب الذين هم ربما عاطلون عن العمل، والذين ساندوا «الثورات المخملية» اعتقدوا أنهم يكافحون في سبيل حقهم في اختيار سلطة حرة ونزيهة. غير أن الديموقراطية التي قامت على مخمل تلك الثورات لم تكن في واقع الأمر سوى تزوير لإرادة الشعب ونحر لأحلامه.

 2- الأمل في أن تنبثق عن الصراع سلطة «نزيهة»، لا سلطة مافيات وعصابات... وإن هو إلا أمل خلّبي. فالقوى التي تجيء إلى السلطة بفعل هذه «الثورات» تكون عادة من جماعة السلطة والمستفيدين منها سابقاً. وليس مستبعداً أن يتفق رجال المافيا من رهط المعارضين مع المافيات من رهط الحاكمين بعد «الثورة» على احترام المصالح العامة «العليا» للفريقين، أي على المصلحة المشتركة في نهب أبناء الشعب.

 3- الأمل في أن يكون رأس المال «الوطني» أفضل للشعب من رأس المال الأجنبي الذي سيهيمن من خلال الخصخصة على مرافق الاقتصاد الأساسية، لأنه بصفته «وطنياً» سيقاوم غزو رأس المال الأجنبي، وسيؤمن فرص عمل للناس. في هذا السياق يمكن الجزم بأن اقتصادات تابعةً لرأس المال العالمي أو مرتبطة به تكوّنت في معظم بلدان العالم حالياً نتيجة لإنجاز مسيرة العودة إلى الرأسمالية في بلدان الإتحاد السوفياتي السابق والمعسكر الاشتراكي الشرقي، أو نتيجة إصلاحات السوق التي تمت في غيرها من البلدان التي لا تزال تدعي الحفاظ على سلطة شعبية مثل الصين الشعبية حيث بلغ حجم التوظيفات الأميركية في اقتصاد الصين بلايين الدولارات، وبات رأس المال المحلي «الوطني» واقعاً أكثر فأكثر في براثن التبعية المالية لرأس المال العابر حدود القارات، إما مباشرة وإما من خلال رؤوس الأموال الإقليمية، التي تقع هي أيضا بدورها فريسة تبعية مماثلة (شركة تيومين النفطية الروسية التي ترتهن لها شركات وفاعليات اقتصادية أوكرانية باتت، مثلا، هي نفسها تابعة لشركة النفط البريطانية «بريتيش بتروليوم»). ويتم تثبيت التبعية الاقتصادية بتبعية سياسية من خلال المجيء بحكام موالين لهم «يبصمون» على ما يجب «البصم عليه» من قرارات تعمق هذه التبعية. ومن الأمثلة على تجسيد هذه التبعية مشاركةُ أوكرانيا وبولندا وغيرهما من دول الكتلة الشرقية سابقاً في احتلال العراق بفعل الضغوط والوعود والإغراءات الأميركية. لذا لا يسع الفئات الشعبية أن تذود وحسب عن حقها في الخبز والعمل، بل سيكون عليها أن تذود وحسب عن حقها في أن لا تكون وهي تعمل مستغَلّة ومضطهدة. عليها أن تحارب بالقدر نفسه كل من يتطاول على لقمة عيشها، أكان أجنبيا أو محلياً وأن تنخرط في هيئات حزبية وأهلية ونقابية تكون قادرة على التكافل والتضامن في نضالها من أجل إحقاق المصالح الشعبية الفعلية، وعلى دعم كل تحرك عمّالي في سبيل الحقوق العمالية ومساعدته بكل الوسائل الممكنة، والاستفادة من كل تحرك لإنشاء التنظيمات العمّالية الوفية للمصالح الشعبية وتدعيمها.              

 

1.  Steven Hadly, U.S. Strategy of National Security, March 2006

2. المصدر السابق

 3. كان من بين تعليماته: «ورطوا الرجالات المرموقين لدى الخصم بمشاريع إجرامية».

 4. هكذا يسميه الغرب.

 5. بوريس كاغارليتسكي، www.aglog.ru، 2007/4/29

The “Velvet Revolutions” A passage to world domination

The researcher starts by defining the social revolution and took both of the French revolution (1789) and the social revolution (1917) as historic examples and compares these revolutions with what she calls the “Velvet Revolution” which she considers as “a part of a tactic adopted by the United States of America in the framework of what the States calls the constructive chaos with the aim of dominating the world”. The researcher considers that this tactic is adopted under the cover of spreading democracy which is being transformed via the American attitude to wars launched by what Washington calls “the Axis of Evil Countries”. Afterwards, the researcher explored all the reasons which she considers responsible of causing the “Velvet Revolution” in the world by shedding light on the “Orange revolution” in Ukraine and considers it a “Velvet Revolution” with excellence. Then the researcher shifts to what she considers as attempts to detonate “Velvet Revolutions” in Syria and Iran and considers that what took place in Lebanon under the appellation of “ the Cedars Revolution” and afterwards the sit-in which was organized by the Lebanese opposition in Beirut’s commercial downtown are nothing but two “Velvet Revolutions” facing each other. The researcher concludes by tackling the future of the “Velvet Revolutions” which are currently taking place in the world and reviews the usable lessons from the results of these revolutions.

Les révolutions veloutées: un passage vers l’hégémonie mondiale

La chercheuse commence par définir la révolution sociale, en évoquant la révolution française (1789) et la révolution socialiste (1917) en tant qu’exemple historique en la comparant avec ce qu’elle appelle la révolution veloutée qu’elle considère comme étant une «partie de la tactique adoptée par les Etats-Unis dans le cadre de l’anarchie constructive et ce dans le but de régner sur le monde». Elle trouve que cela se produit sous le titre de faire répandre la démocratie qui, selon l’attitude américaine, se transforme en des guerres menées par Washington sur ce qu’elle appelle les «pays de l’axe du mal». La chercheuse évoque une multitude de raisons se cachant derrière les révolutions veloutées dans le monde, elle illumine sur la «révolution orange» en Ukraine et qu’elle considère une révolution veloutée par excellence. Puis elle parle des tentatives pour faire jaillir des révolutions veloutées en Syrie et en Iran. Elle croit que ce qui fut nommé la «révolution des Cèdres» au Liban puis le sit-in de l’opposition dans le centre-ville commerciale de Beyrouth ne sont que deux révolutions veloutées qui s’opposent. La chercheuse conclut en évoquant le futur des révolutions veloutées dans le monde et les leçons tirées des conséquences de ces révolutions.