قضايا إقليمية

الجاسوسية الصهيونية في حيثياتها ومخاطرها
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

يعتبر التجسّس انعكاساً لفكرة الحرب ومفهومها لدى المتحاربين. والحرب في الشريعة اليهودية كانت وما تزال هدفاً مقدساً ونابعاً من مفهوم ديني هو مفهوم شعب الله المختار الموعود بأرض الميعاد منذ خروج بني إسرائيل من أرض مصر بعد الاستعباد الفرعوني، وتوجههم نحو الأرض الموعودة في فلسطين. وفي هذا السياق كان للجاسوسية اليهودية دور بارز في تحقيق إنجازات كثيرة في ما بعد.
لقد قامت القوى العظمى، على مرّ التاريخ، بتوظيف الأقليات الدينية والإثنية في خدمتها، واليهود لم يشكّلوا إستثناء للقاعدة، إذ قام قمبيز، الإمبراطور الفارسي، حسبما ورد في تاريخ هيرودوت، بإرسال جواسيس يهود الى مصر قبل أن يقوم بغزوها ليأتوه بمعلومات عن أوضاعها الداخلية الإجتماعية والأمنية. كما أدى انتشار الجماعات اليهودية في أرجاء العالم الغربي الى قيام شبكة إتصالات يهودية، لا تقوم بتسهيل عملية تبادل البضائع والأموال فحسب، وإنما تقوم ايضاً بتوصيل المعلومات بسرعة. وقد استفاد يهود البلاط وسط أوروبا في القرن السابع عشر، من هذه الشبكة، في الحصول على المعلومات وتوصيلها الى الحكومات التي يدينون لها بالولاء. وفي إبان غزو نابليون روسيا كلّف بعض اليهود بالتجسّس لحسابه، لكن أغلب هؤلاء تجسّسوا عليه لحساب الحكومة القيصرية، لأن المؤسسة الدينية كانت تعتبره عدوها الأكبر. وخلال الحرب الألمانية الفرنسية، كانت الإستخبارات الفرنسية تجنّد الإلزاس واللورين الملمين بالألمانية ليتجسّسوا لحساب فرنسا. وقد حصل العكس ايضاً إذ قامت الإستخبارات الألمانية بتجنيد بعض يهود الإلزاس ليتجسّسوا لحساب ألمانيا. وبعدئذٍ جرت محاولة لتوظيف ما يسمى الشعب اليهودي بأكمله لخدمة مصلحة إستعمارية معينة مثلما فعل أوليفر كرومويل في بريطانيا ونابليون بونابرت في فرنسا. وكان هرتسل يشير باستحسان كبير الى محاولة نابليون توظيف أعضاء الشعب اليهودي في خدمته، كما وكان حاييم وايزمان، أول رئيس للدولة الصهيونية يؤكد دائماً أن انكلترا إن تبنت المشروع الصهيوني فإنها ستحصل ايضاً على عدة ملايين من العملاء أي أعضاء الشعب اليهودي. وكلمة عميل هنا تعني «جاسوس» أي المواطن الذي لا يشعر بالولاء لوطنه فيتعاقد مع قوة خارجية توظفه لصالحها داخل مجتمعه، فيوجد مسافة بينه وبين مجتمعه محاولاً التخريب فيه. وفي هذا الإطار شكّلت الوكالة اليهوية في العشرينيات من القرن الماضي شبكة تجسّس كانت لها فروع في العالم العربي، وكانت تعمل سراً تحت ستار تنظيمات شرعية مثل الأندية الرياضية أو المنظمات الخيرية المتعددة الأوجه.
في الثلاثينيات من القرن الماضي أنشأت منظمة الهاغاناه قسماً للإستخبارات ترأسه موشيه شاريت، كما أسّست ايضاً «الموساد» العام 1937 مركزاً لتدريب اليهود العرب على القيام بأعمال التجسّس على مواطنيهم ومن ثم انضووا تحت إسم فرق المستعربين التي تقوم باغتيال واختطاف قادة المقاومة الفلسطينية بشكل خاص.
وبعد قيام الدولة الصهيونية العام 1948 تصاعدت عملية تجنيد اليهود العرب في أعمال التجسّس والتخريب؛ فكانت فضيحة لافون في مصر في سياق هذه الأعمال، إذ قام 13 يهودياً مصرياً، بناءً على تعليمات من إسرائيل، بوضع متفجرات في مكتبة المركز الإعلامي الأميركي في القاهرة وفي منشآت أخرى أميركية وبريطانية في كل من القاهرة والإسكندرية، وذلك بهدف إثارة التوتر في العلاقات بين مصر عبد الناصر وهاتين الدولتين الغربيتين، وإظهار هشاشة وضعف السلطة الثورية الجديدة في نظر العالم والإساءة الى العلاقات معه ومنع إبرام إتفاقية مع بريطانيا تنص على الجلاء عن قناة السويس، ومنع قيام أميركا بتقديم أسلحة الى مصر.
هذا النمط من العمل التجسّسي تكرّر مع الجاسوس اليهودي جوناثان بولارد في أميركا إثر التحاقه بخدمة الإستخبارات البحرية العام 1979 حيث عمل محللاً إستخباراتياً مدنياً وتدرّج حتى أصبح له حق الإطلاع على العديد من المعلومات السرية الحسّاسة. فقام ضابط الإستخبارات الإسرائيلية أفيعام سيلاع بتجنيده جاسوساً يعمل لصالح الدولة الصهيونية، فقدّم اليها كمّاً هائلاً من المعلومات الخاصة بإسرائيل والدول العربية ودول أخرى، وقد تمّ القبض عليه وأودع السجن حتى اليوم.
لقد سعت مؤسسة الإستخبارات الإسرائيلية «الموساد» الى تنفيذ عمليات تجسّس بشتى الأساليب والوسائل منها توظيف مستخدمي الفنادق وعمال البارات والسكرتيرات والمومسات والسائقين العموميين وفي بعض الأحيان إستغلال الصحافيين ورجال الأمن ورجال السياسة وسواهم. ولم تغفل الموساد ايضاً عن استغلال الأطفال المشرّدين والفاشلين في حياتهم وأعمالهم والحاقدين على مجتمعاتهم وحكوماتهم. وفي هذا المجال يقول آفي ديختر، وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي سابقاً إن «المعلومات التي يمكن الحصول عليها من المصادر البشرية تكون في الغالب موثوقة أكثر من المعلومات التي يمكن الحصول عليها بالوسائل الإلكترونية مثل التنصت ومتابعة الأقمار الصناعية». ورأى بأن إسرائيل مطالبة في الوقت الحاضر بمضاعفة الإستثمار في مجال تبني المزيد من المصادر البشرية.
وفي محاضرة عن إستراتيجية الدولة العبرية في المنطقة يقول ديختر بحضور أعضاء معهد أبحاث الأمن القومي، إن إسرائيل تحاول اختراق الساحة اللبنانية وزرع الإختلالات فيها، بهدف تعميق النزاعات السياسية والمذهبية والطائفية وقطع الطريق أمام تحقيق التوافق بين القوى الحزبية والسياسية. ورأى ديختر ايضاً أن لبنان «هو أكثر بيئة إقليمية تفرض التحدي الإستراتيجي على إسرائيل». وقال إن خيار القوة قد استخدمته إسرائيل مع لبنان العام 2006، وعدم نجاحها في تلك الجولة لا يعني استبعاد ذاك الخيار، الذي سيظل قائماً، والإستعداد له مستمر بوتيرة عالية. وفي الوقت ذاته لم تتوقف إسرائيل عن السعي لإحداث الإضطراب وتعميق الشقاق في الساحة اللبنانية. وهي سبق لها أن حقّقت نجاحات عديدة منها أنها أوجدت بيئة معادية للمنظمات الفلسطينية في مطلع السبعينيات انتهت باندلاع الحرب الأهلية المشؤومة العام 1975 ولم تنته إلا بعد العام 1989 باتفاق الطائف. وهي ساعدت في إيجاد بيئة غير صحية وغير سوية مع الأشقاء السوريين عبر توجيه شبهة الإغتيالات الإجرامية في لبنان نحوهم. وهذا كله إنما يتم في المحصلة لمصلحة العدو الصهيوني الذي يحتل أراضي الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، ويسعى الى تمزيق صفوفهم وتقسيم بلدانهم ضمن ما عرف في الآونة الأخيرة بإسم الشرق الأوسط الكبير.
وإذا كانت مشاريع العدو الصهيوني في لبنان قد انهارت تحت ضربات الجيش والمقاومة العام 2000، فإن هذا العدو بادر الى تحويل كل نشاطه واهتمامه في اتجاه زرع الفتن وتفجير الحروب المذهبية والطائفية التي تؤدي الى الفرز السكاني المذهبي كأمر واقع وتهيء الأجواء والظروف الآيلة الى التقسيم أو الفدرالية. ولهذه الغاية زرع العدو على امتداد ساحة الوطن مجموعات ضخمة من شبكات التجسّس والعمالة ذات الأهداف المتعددة والمتفرعة ضد المقاومة والجيش والقوى الحزبية والسياسية والتكتلات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. هذا ناهيك عن التجسّس على السفارات العربية والأجنبية.
وفي هذا السياق يقول ديختر: «إن الجهود الإستخباراتية الإسرائيلية داخل لبنان، والسياسية في المحافل الدولية هي التي أجبرت السوريين على الإنسحاب من لبنان». ورأى يعكوف بيري في كتابه «الآتي لقتلك» إنه إذا أسفر الصراع عن نجاح طرف ما باحتلال الطرف الآخر، فإن هذا يشكّل «الظروف المثالية» لتجنيد العملاء، يضاف اليه بطبيعة الحال الإحتياجات المادية والعاطفية والخدماتية وضعف الشعور بالإنتماء الوطني وانخفاض المستوى التعليمي وانعدام الثقة بالنفس وضعف الوازع الأخلاقي والديني. وعلى الرغم من كل هذه المعطيات والأجواء السلبية تمكّن الجيش اللبناني بالتعاون مع قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن المقاومة على مدى العقد الماضي، من اكتشاف أعداد كبيرة من شبكات التجسّس الصهيونية، ومنها شبكة محمود رافع الذي اعترف باغتيال الأخوين مجذوب في صيدا بالإضافة الى مساهمته في التحضير لعمليات إغتيال أخرى بقيت قيد الشبهة والتحقيق المعقّد. والملفت أن هذه الشبكات نشطت بشكل خاص قبل وبعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رفيق الحريري العام 2005 مستفيدة من أجواء التوتر والفرقة وسوء الظن بين اللبنانيين أنفسهم أولاً وبينهم وبين إخوانهم العرب ثانياً. والمرجح أن هذه الشبكات وأنشطتها إنما جاءت كتعويض عملاني ومعنوي للتستير على مظاهر الفشل الفاضحة معنوياً ومادياً، التي مُني بها الجيش الصهيوني ومخابراته العام 2006 بشكل خاص، مما شكّل سبباً أساسياً لجلد الذات الذي تمّ التعبير عنه في تقرير لجنة فينوغراد ولجان عسكرية أخرى لم يُنشر أي شيء عن إستنتاجاتها.