دراسات وأبحاث

الجاسوسية بين انهيار القيم والمصلحة الفردية
إعداد: الدكتور احمد علّو
عميد متقاعد

الفراعنة أول من مارس التجسّس

 

ظاهرة الجاسوسية قديمة في التاريخ، فهي عمل من أعمال الدولة والأجهزة الأمنية التابعة لها. كذلك نجد في كل دولة أجهزة لمكافحة هذه الجاسوسية، سواء التي تقوم بها دول أجنبية، في بلد آخر من خلال أفراد ومؤسسات وأجهزة مختلفة، أم من خلال أفراد وجماعات تزرعهم «دولة ما» أو دول بغية الحصول على المعلومات التي تريدها لبناء مصالحها وسياساتها، في هذه الدولة، أو لإثارة الفوضى والقلاقل وضعضعة أمن المجتمع الأهلي للوصول به الى ما تطمح اليه الدولة الأخرى.
ولكن ما الذي يدفع الإنسان الى العمل مع العدو ضد مصلحة وطنه وأهله وتاريخه؟ أهو المال؟ أهو الإنتقام؟ أم هو اختلال التوازن في الشخصية، أو هو إنهيار القيم؟ أو الرغبة في الوصول من دون اعتبار للأخلاق والوطنية؟

 

ما هي الجاسوسية؟
الجاسوسية، أو التجسّس (Espionnage or Spying) حسب قاموس «وبستر» (Merriam Webster’s) هي «الحصول على معلومات عن خطط ونشاطات دولة أو حكومة أجنبية، أو شركات متنافسة (تجسّس صناعي - تجاري).
وحسب موسوعة «ويكيبيديا» (Wikipedia)هي «تورط أفراد في الحصول على معلومات تعتبر سرية أو مكتومة بدون إذن أو موافقة القيّم عليها».
وفي اللغة العربية، فإن الجاسوسية وفق «المنجد في اللغة والإعلام» تعني: «مهنة الجاسوس» وتجسُّسْ تعني البحث عن الأخبار وتفحّصها وجمعها وإيصالها الى مرجع ما، كما تعني الجاسوسية «منظمة تؤلفها الدول لتتجسّس لها الأخبار، وتستطلع الأسرار وتأتيها بها».
غير أن ما يميز هذه العمليات جميعها هو أنها تتم في الخفاء، لذلك يمكن اعتبار الجاسوسية عملاً سرياً يقوم به أفراد، أو مجموعات منفصلة بعضها عن البعض، بغية جمع المعلومات، أو الوثائق، لصالح منظمات حكومية رسمية، أو مؤسسات وشركات خاصة، بهدف الاستفادة منها لمصلحة هذه الحكومات والمؤسسات وضد الحكومات والدول أو الشركات المنافسة الصديقة والعدوة.
ومع التطور التقني والتقدم العلمي، فإن عمليات التجسّس لا تقتصر على العنصر البشري فحسب، فاليوم تتم عمليات التجسّس بواسطة الأقمار الصناعية، وشبكات الإنترنت، والتلفونات وأجهزة التنصت الراديوي المنتشرة في السفن والغواصات، والطائرات، التي تجري مسحاً دائماً لصورة أي مكان تريد، مهما صغُر، كذلك أجهزة الرادار المنتشرة فوق الجبال. كما تشكّل وسائل الإعلام وبعض الذين يعملون فيها (صحف، تلفزيون، مراسلون) ومنظمات دولية رسمية أو غير ذلك، شركات تجارية، سفارات ودبلوماسيون الخ... كل هذا يشكّل شبكة متكاملة لتجميع الأخبار والأسرار التي تهم دولة ما. وهذه المعلومات تشكّل حوالى 90٪ من الكمية المطلوبة لأجهزة المخابرات، التي تبني على تحليلها لها موقفاً معيناً، أو تضع خطة ما، ولكن الـ10٪ الباقية تشكّل أساس المعطيات التي بمعرفتها يمكن اتخاذ القرار الصحيح والموقف السليم، ويكون التقييم أكثر شمولاً وموضوعية. لذلك تلجأ الأجهزة والمنظمات الأمنية، السياسية والعسكرية الى تجنيد ما يعرف بالعملاء (Agents) لسد الفراغ في نقص المعلومات التي تحتاجها، أو للقيام بعمل ما تتطلبه الخطة التي تضعها هذه الأجهزة، وللحصول على المردود الأعلى والحصيلة القصوى لمصلحة أهدافها الخاصة سواء أكانت مصالح دولة ما، أم مؤسسة أم منظمة، ودائماً من دون اعتبار لبعض القيم أو حياة بعض الناس.  
وقد يلجأ العملاء والجواسيس الى إثارة الفتن والإضطرابات والتفجيرات والقتل وغيرها.

 

تاريخ الجاسوسية
يعتبر بعض المؤرخين أن الجاسوسية عمل قام به الإنسان منذ آلاف السنين، فهو قام بالاستطلاع والاستكشاف بحثاً عن الأرض المناسبة والماء، أو الصيد لاستمرار بقائه. وبعدما أصبح يعيش في مجموعات بشرية، كان يرسل أفراداً لاستطلاع المعلومات وجمعها عن مجموعات بشرية أخرى تجاوره لمعرفة طريقة حياتها، أو توجهاتها، أو نواياها لحماية نفسه، أو تمهيداً للإعتداء عليها، أو للتحالف معها. ولما قامت الممالك الدول، وامتلكت الجيوش والأسلحة، واندلعت الحروب لسبب أو لآخر، اكتشف الإنسان أهمية معرفة أسرار قوة الخصم أو نقاط ضعفه، ليعمل على تجنّب هزيمته أمام هذا الخصم أو لتسهيل الإنتصار عليه، وتحقيق سيطرته وتأمين مصالحه المختلفة، فكان عمل الجواسيس والعملاء ذا فوائد كبيرة على هذه الدول.
يرى كثير من المؤرخين والباحثين أن الفراعنة القدماء وفي الألفية الرابعة قبل الميلاد هم أول مَن مارس عمل التجسّس في الحرب في فترة حكم الأسرة الثانية عشرة (3600 - 3400 ق. م) وبخاصة في عهد الفرعون «تحوتمس الثالث» في أثناء حصاره بلدة يافا الساحلية، فقد أدخل مجموعة من جنده الى داخل أسوار البلدة في أكياس القمح، لإشاعة الفوضى والارتباك في صفوف السكان وفتح ما يمكن من أبواب الحصن.
كما ورد في «التوراة» أن النبي موسى عندما خرج من مصر (حوالى 1400 ق. م) ووصل الى شمال سيناء، جمع رجاله واختار منهم سبعين رجلاً وطلب منهم التوجه الى أرض كنعان واستطلاعها والتجسّس عليها قائلاً لهم: «اصعدوا من هنا الى الجنوب، واصعدوا الى الجبل، وانظروا الأرض ما هي والشعب الساكن فيها، أقويّ هو أو ضعيف، قليل أم كثير؟ وكيف هي الأرض، أجيدة؟ أم رديئة؟ وما هي المدن التي هو ساكن فيها، أمخيمات أم حصون؟ والأرض أهي سمينة أم هزيلة؟ أفيها شجر أم لا؟ وتشددوا فخذوا من ثمر الأرض».
وعاد جواسيس موسى ليقولوا: «إن أرض كنعان يتدفق منها اللبن والعسل، وأن سكانها من العمالقة الجبابرة الضخام». وهكذا يبدو أن التعليمات التي أصدرها النبي موسى لجواسيسه تغطي أكثر الأمور الجوهرية في مهمة أي جاسوس.

 

الجاسوسية في الصين والهند واليابان قديماً
يعتبر صن تزو صاحب كتاب «فن الحرب» (عاش حوالى العام 500 ق. م في الصين) أن الجاسوسية من أهم أسباب انتصار القائد العسكري، إضافة الى التخطيط التكتي والإستراتيجي، وصنّف الجواسيس أو العملاء السرّيين أنواعاً خمسة هي:
1- العملاء المحليون: مواطنون محليون يتقاضون مكافآت على المعلومات.
2- عملاء الداخل: خائن في صفوف العدو.
3- عملاء مزدوجون: يؤدون دوراً مزدوجاً.
4- عملاء يضحى بهم: عميل اعتاد تزويد العدو معلومات كاذبة، يحتمل قتله في ما بعد.
5- عملاء أيابون: عميل مدرب يعتمد عليه في العودة من مهمته بأمان.
كذلك فقد قام شاناكيا (Chanakya) في الهند بوضع كتاب مشهور اسمه «أرتاشسترا» (Arthachastra) وذلك في القرن الرابع قبل الميلاد (350 - 283 ق. م) وفيه شرح لفن إدارة الدولة، والإقتصاد والإستراتيجيا العسكرية، وخداع العدو واستخدام العملاء السرّيين والجواسيس في تأمين النصر على العدو. وكان له ولكتابه فضل كبير في إقامة إمبراطورية موريا في الهند بقيادة الإمبراطور شاندرا غوبتا (Chandra gupta).
كذلك فقد ظهر في اليابان فرسان «النينجا» (Ninjas) في القرن الرابع عشر، ومعنى الكلمة «غير المرئي» أو فن «التخفي» أو «الشبح»، وجندي «النينجا» مدرّب على أصعب الأعمال القتالية والمهارات والسرعة والخفة، وكان يكلف بمهمات الإغتيال والتجسّس وغيرها من الأعمال الأمنية غير التقليدية.
وهكذا فإن التاريخ، والعسكري منه بشكل خاص يذكر أهمية عمل الجاسوسية، ودورها في الحروب، ذلك أن هذا العمل يرتبط بمفهوم آخر، ويعتبر مبدأ أساسياً من مبادئ الحرب وهو الأمن، أي أمن الجيوش وسلامة انتقالها وتمركزها وحركات وحداتها سواء أكان ذلك في فترة السلم أم فترة الحرب، فالأمن من أهم عناصر نجاح القائد في تأمين النصر في المعركة أو في الحرب، وهذا الأمن يتطلب عملاً مستمراً داخل أرض الصديق وداخل بقعة عمل العدو، فمن المهم لأي قائد عسكري معرفة العدو الذي يحاربه: عديد قواته، أسلحته وأنواعها، معنويات جنوده وتدريباته. كذلك فإن القائد كان يرسل «العيون» أي الجواسيس لاستطلاع طبيعة الأرض وتضاريسها، الأنهار والجبال والمسالك المحتملة لتقدم العدو، أو لتقدم الصديق وخصوصاً تلك التي لا يمكن توقعها... الخ، وهذا الفن مارسه أكثر القادة العسكريين منذ القدم، مروراً بالإسكندر وهنيبعل والرومان والمسلمين العرب والمغول والعثمانيين، وحتى نابليون بونابرت، وبعده حتى القرن العشرين.
وعلى الرغم من اختلاف الوسائل وتغير التقنيات واختراع الآلات الحديثة، من الأنواع المختلفة في الجو والبحر والبر، وثورة الإتصالات وتعدد وسائلها، يبقى الإنسان هو العنصر الأساسي في أي عمل تجسّسي لما يملكه من قدرة على التقييم والتحليل والحل والربط، والتكيّف مع كل حالة، وكذلك لما يملكه من إمكانات عقلية وفكرية تمكّنه من إحداث تغيير في واقع ما، أو إثارة في مجتمع وتحريضه بالإتجاه الذي يخدم فيه مصالح الدولة أو الجهة التي جنّدته.
ومن هنا تبرز أهمية وجود الجواسيس والعملاء الذين يجنّدهم العدو من أبناء الدولة الخصم، ليكونوا عيونه وآذانه ويده وأدواته في تنفيذ مخططاته العدوانية تجاه هذه الدولة وشعبها.

 

المراجع:

1- فن الحرب: «صن تزو» تعريب وإعداد العميد الركن سمير الخادم والعميد الركن قوه هونغ شيان - بيروت 1998.
2- الجاسوسية: على الرابط Yabeyrouth.com.
3- Wikipedia Encyclopedia - Espionnage.
4- بطاقات في التاريخ العسكري - كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان (صن تزو) - تأليف العميد م. دكتور أحمد عَلَّو.
5- الكتاب المقدس: - سفر العدد: الإصحاح 3 (17 - 20).