- En
- Fr
- عربي
تكنولوجيا العصر
في العقود الأخيرة، شهدت البشرية موجة غير مسبوقة من التطورات التكنولوجية، شملت مختلف جوانب الحياة: من الطب إلى الاتصالات، ومن الاقتصاد إلى التعليم… غير أنّ التحوّل الأبرز في هذه الحقبة قد لا يكمن في الأدوات التي نستخدمها، بل في الإنسان نفسه. فبينما كانت الآلة في الماضي امتدادًا لقدرات الإنسان، أصبح الإنسان نفسه موضوعًا للتعديل وإعادة التصميم. وتُعدّ الساحة العسكرية من أبرز الميادين التي تسعى فيها الدول إلى استثمار هذه القفزات التقنية، ليس فقط في تطوير الأسلحة، بل في تطوير الجندي نفسه، بوصفه العنصر المحوري في أي مواجهة محتملة.
من هذا المنطلق، بدأ مصطلح «الجندي الخارق» يتردّد في الأدبيات العلمية والعسكرية، لا بوصفه تعبيرًا مجازيًّا أو تهوينًا، بل كدلالة دقيقة على تحوّل تدريجي في طبيعة المقاتل، يجمع بين البنية البيولوجية والامتدادات التقنية. ومع بروز هذا النموذج الجديد، تبرز أسئلة جوهرية تسعى هذه المقالة إلى معالجتها: ما هي التقنيات البيولوجية والعصبية التي تُسهم في تشكيل الجندي الخارق؟ وما التأثيرات المحتملة لهذه التحسينات على قدراته وأدائه؟ وهل من حدود أخلاقية أو صحية لهذا النوع من التعديل البشري؟ وما انعكاسات ذلك على المجتمعات، والنظم العسكرية والسياسية؟
هندسة الجسد: من التدريب إلى التعديل
بدأت ملامح «الجندي الخارق» تتشكّل في مختبرات الأبحاث العسكرية، حيث لم تعد الأجساد البشرية تُعامل بوصفها حقائق بيولوجية نهائية، بل كمادةٍ أولية قابلة للهندسة. ولم تعد التدريبات تقتصر على تحسين الأداء، بل باتت تسعى إلى إعادة تصميم الجسد ليكون أكثر كفاءة وقدرة. ومن أبرز مظاهر هذا التوجّه تطوير الهياكل الخارجية الذكية التي تُدمج بالجسد لتمنحه قوة ميكانيكية هائلة، فتعزز قدراته البدنية وتدفعها إلى مستويات غير مسبوقة. ففي عام 2022، طوّرت مراكز مثل DARPA Defense Advanced Research Projects Agency هياكل خارجية ميدانيًا، مكّنت الجنود في تجارب فعلية من حمل أوزان تتجاوز 90 كيلوغرامًا لمسافات طويلة دون إنهاك، ما أسهم في رفع كفاءة الأداء وتقليل خطر الإرهاق الجسدي.
التعديل الوراثي والدم الاصطناعي
في موازاة ذلك، أتاح التقدّم البيولوجي تدخلات دقيقة في الجينات البشرية، مكّنت من تعزيز مقاومة الجندي للبرودة، وزادت قدرته على التحمّل في البيئات القاسية، بل وسرّعت وتيرة التئام الجروح. وقد اختُبرت هذه التعديلات في محاكاة بيئات جبلية وصحراوية وتحت الماء، فأظهرت نتائج أولية واعدة. يضاف إلى ذلك استخدام الدم الاصطناعي الذي يمكن أن يحلّ محل الدم الطبيعي في حالات النزف، ما يعزز فرص بقاء الجندي في ظروف ميدانية قاسية (Shaaban, 2023). وتشير دراسات حديثة إلى إمكانية تطوير أعضاء ذاتية الإصلاح، كالكبد والطحال، ما يقلّل الحاجة إلى التدخل الجراحي ويزيد فرص النجاة في أرض المعركة (National Academies, 2021).
التحكم العصبي: الدماغ في قبضة التقنية
أما التحوّل الأعمق، فقد يكون في مجال التحكم العصبي، إذ تُجرى تجارب على زرع شرائح إلكترونية في الدماغ، لتسريع المعالجة الذهنية وربط الجندي مباشرة بالأنظمة المعلوماتية. وقد استخدمت بعض الجيوش شرائح EEG – Electroencephalogram متصلة بأنظمة واقع معزّز، تُمكّن الجندي من رؤية الخرائط والبيانات البيئية آنيًا. والأخطر من ذلك، أنّ هذه الشرائح قد تُستخدم للتحكم في الانفعالات، مثل تعطيل الشعور بالخوف عبر التأثير في اللوزة الدماغية، ما يُعدّ تدخلًا نفسيًا عميقًا يجعل الجندي أكثر ثباتًا وأقل ارتباطًا بعواطفه الإنسانية (Lin, Abney, & Bekey, 2012).
تنافس عالمي وتسابق استراتيجي
لم يعد هذا التوجه حكرًا على دولة واحدة، بل تحوّل إلى ميدان تنافس استراتيجي عالمي. ففي الولايات المتحدة الأميركية يجري تطوير برنامج TALOS الذي يدمج بين الحماية والتحليل البيئي اللحظي، فيما تسعى الصين إلى تسريع هذا المسار عبر واجهات دماغية – حاسوبية تتيح للجنود التحكم بالأسلحة عن بُعد باستخدام الإشارات العصبية فقط. وفي موازاة ذلك، تستثمر الوكالات العسكرية الكبرى في تطوير أنظمة تُبقي الجنود يقظين لأيام من دون نوم أو تغذية، من خلال التحكّم في الأيض ونبضات الدماغ (Singer, 2009). فيما تركز روسيا على إنتاج جنود مقاومين للمواد الكيميائية والنووية، مستفيدة من تقنيات جينية ومناعية متقدمة.
الحدود الأخلاقية والأسئلة الإنسانية
لكن هذه الثورة لا تخلو من تحديات أخلاقية جسيمة، فحتى الآن لا توجد دراسات كافية حول الآثار بعيدة المدى لتلك التعديلات، مثل زرع الشرائح العصبية أو استخدام الدم الاصطناعي. كما تبقى احتمالات عدم توافق المواد الصناعية مع الأعضاء الحيوية قائمة، ما يعرّض الجنود لخطر مضاعف في ظروف القتال الحقيقية (Bess, 2015). وقد حذّرت تقارير من احتمال تطوّر مشكلات نفسية مزمنة، مثل فقدان الإحساس بالهوية أو تضاؤل الارتباط بالواقع.
وتبرز أيضًا إشكالية الهوية الإنسانية: فإذا صُمِّم الجندي بيولوجيًا ونفسيًا لأداء وظيفة محددة، فهل يبقى كائنًا إنسانيًا؟ وهل تتقبل الجيوش جنودًا يفوقون البشر في القدرات لكن يفتقرون إلى العواطف؟ وماذا عن خطر الانقسام الاجتماعي بين فئة معدّلة خارقة وأخرى طبيعية؟ قد يُنتج هذا الواقع شكلًا جديدًا من التمييز الطبقي، قائمًا على مستوى التعديل البيولوجي لا على العِرق أو الطبقة.
انعكاسات استراتيجية عابرة للحدود
على المستوى الدولي، قد يؤدي تعميم هذه التكنولوجيا إلى اختلال عميق في موازين القوى، يتجاوز بكثير حدود السلاح التقليدي. إذ ستُنتج دولٌ قوى بشرية متفوقة، ما يُطلق سباق تسلُّح جديدًا مبنيًا على القدرات البيولوجية لا النووية. وإذا لم تُوضع أطر قانونية دولية صارمة، فقد نواجه في المستقبل حروبًا تقودها كائنات معدّلة بلا ضوابط أخلاقية واضحة، ما يضع البشرية أمام تحديات غير مسبوقة في التاريخ.
خاتمة مفتوحة: بين السيطرة والانفلات
في ضوء ما تقدم، لا يبدو أنّ مشروع «الجندي الخارق» مجرّد سيناريو مستقبلي، بل هو مسار علمي آخذ في التحقق، مدفوعٌ بالرغبة في امتلاك السيطرة الكاملة على المعركة. لكنه، في الوقت نفسه، يدعونا إلى إعادة التفكير في ماهية الإنسان، وحدود التدخل في تكوينه البيولوجي والعقلي، ودور الأخلاق في ضبط هذا الانفلات التكنولوجي.
فهل سنفقد تعريفنا التقليدي للإنسان في زمن تتداخل فيه الآلة والجسد؟ وهل سيصبح الجندي المعدّل نواة لمستقبل تتفكك فيه القيم الإنسانية لمصلحة الكفاءة الباردة؟ أم أنّ العالم سينجح في سنّ مواثيق تضبط هذا المسار قبل أن يفقد السيطرة عليه؟ تلك أسئلة مفتوحة لا يمكن تجاهلها ونحن نخطو نحو مستقبل قد يُعيد تشكيل الإنسان نفسه.











