قراءة في التاريخ

ستون ربيعاً بين صيفين والحصاد... وطنٌ يتسنبل

 من الملفت لنظر الباحث، في تاريخ لبنان الحديث، أمر التلازم بين وجود المؤسسة العسكرية، ووجود الدولة المستقلة، صاحبة السيادة، فالجيش والدولة يشتركان في تاريخ الولادة، حتى يحتار، أيهما أوجد الآخر؟ أو سبقه؟ ولئن كان الاستقلال النظري أسبق في التاريخ (1943)، فإنه لم يتحقق بالفعل إلا بعد ولادة الجيش في أول آب عام 1945، وكأنه توأم له ومتمم لمعناه.
إن الحدث التاريخي، المتمثل بتسلّم السلطة اللبنانية للوحدات الخاصة من القوى المسلحة (والتي كانت تتشكل من لبنانيين وسوريين وتعمل بإمرة سلطة الانتداب الفرنسية)، إعتباراً من أول آب عام 1945 الساعة صفر، كان علامة ومؤشراً لبداية ممارسة السلطة اللبنانية لاستقلالها الفعلي والعملي، فقد أصبحت هي من يشرّع قانون المؤسسة ويقوم بتعيين قادتها وأجهزتها ويحدد مهامها على أرضها، خاصة بعد إنجاز عملية جلاء الجيوش الأجنبية عن الأراضي اللبنانية مع نهاية عام 1946، وبعد مفاوضات مريرة مع الدولة الفرنسية المنتدبة، التي كانت تطمح الى عقد معاهدة تحفظ لها موقعاً ممتازاً في لبنان مقابل تسليم الوحدات الخاصة اللبنانية (Troupes spéciales)، وسحب جيوشها من لبنان وسوريا.

الجيش في عهدة الدولة اللبنانية

شكل الأول من آب عام 1945 محطة مركزية لانطلاق قطار الجيش على سكة الوطن في جميع الاتجاهات: جبلاً وشمالاً وشرقاً وجنوباً، يزرع بذور قمح الوطنية في سهوله وجباله وعلى شطآنه، فيحوّله ربيعاً واعداً بسنابل الوحدة والانصهار في مشروع الدولة الوطن لكل أبنائه، وانسجاماً مع قول رئيس الحكومة الأسبق المرحوم عبد الحميد كرامي في ذلك الوقت: "إن دولة بلا جيش لا يكتب لها عيش".
كان أول عمل قامت به الحكومة بعد تسلّم الجيش هو إصدار  قانون جديد لهذه المؤسسة الوطنية في 4 أيلول 1945 (مرسوم رقم K/3860) وفيه تحدد مهام وزارة الدفاع الوطني، وقد ورد في المادة الأولى منه كما يأتي:
أ­ تأليف جيش بري يتناسب وحاجة الدفاع عن البلاد، يجري تنظيمه بقانون خاص.
ب­ تأليف وحدات جوية وبحرية عند الاقتضاء وفقاً لحاجة البلاد، ويجري تنظيمها بقانون خاص.
ج­ إتخاذ الوسائل الفعالة لإعداد مرافق البلاد وتوجيه صناعتها ومنشآتها وفق حاجات الوطن الدفاعية.
د­ توجيه وتثقيف الشباب الوطني وإعداده للاشتراك عند الحاجة في واجب الذود عن الوطن (بمرسوم خاص).
وفي أوائل تشرين الأول عام 1945، بدأت أول عملية تطويع في صفوف الجيش اللبناني ومن قبله مباشرة وعبر لجنة عينتها قيادة الجيش كانت تجول في مختلف المناطق اللبنانية، استمر عملها شهراً وطوّعت نحو ألف جندي من بين ستة آلاف مرشح.
ومنذ ذلك الوقت بدأت رحلة بناء الجيش وتطويره وتجهيزه بالعتاد والمعدات اللازمة للقيام بالمهمات التي حددت له، كما قررت القيادة تعريب القيود والمحاسبات واعتماد اللغة العربية في الجيش اعتباراً من أول العام 1946.

حرب فلسطين عام 1948

شكّلت حرب فلسطين، ومعركة المالكية، التي خاضتها وحدات الجيش اللبناني، على الحدود الجنوبية "معمودية النار" الاولى لهذا الجيش الوطني الفتي ضد العدو الصهيوني، وسقط له فيها شهداء من الرتب المختلفة، وذلك دفاعاً عن الحق العربي في أرض فلسطين وعن حدود الكيان اللبناني الناشئ، والمفتوح على شهية العدوان والتوسع الصهيونيين، وكان لانتصاره في هذه المعركة أثر بعيد في تعميق لحمته وبلورة شعور الانتماء الوطني بين أفراد المجتمع اللبناني، وشعور الأخوة مع المحيط العربي وفعالية المشاركة في العمل الدفاعي المشترك ضد عدوٍ مشترك.

أحداث عام 1952

اذا كانت حرب فلسطين ومعركة المالكية هما "معمودية النار العسكرية" للجيش، فإن معركة إسقاط الرئيس بشارة الخوري من قبل المعارضة هي "معمودية النار السياسية" له، فعندما توالت المظاهرات وأعمال العنف التي قادتها المعارضة في ذلك الوقت، مطالبة باستقالة رئيس الجمهورية الرئيس بشارة الخوري بسبب اعتباره مسؤولاً عن الفساد الاداري والسياسي في السلطة وهيمنة وتسلط ذوي القربى والمحاسيب على الادارة والسياسة في البلاد، حاول الرئيس الخوري استعمال الجيش لقمع المظاهرات وحل الإضراب؛ لم يستجب قائد الجيش في ذلك الوقت اللواء فؤاد شهاب لطلب الرئيس وهذا ما دفع الرئيس الخوري الى تقديم استقالته وتكليف قائد الجيش نفسه برئاسة حكومة انتقالية في 18 أيلول، وبموافقة الجميع وسلّمه الدستور قائلاً له: "احتفظ به وحافظ عليه".
شكلت هذه الحادثة، المناسبة الاولى التي ظهر فيها الجيش على مسرح السياسة اللبنانية، كمحافظ على الدستور وحامٍ للنظام العام، وكي لا تنفصم الأسس والروابط التي قام عليها الوطن، وبالفعل فقد أعاد الجيش السلطة لأصحابها الدستوريين بعد أن انتخب مجلس النواب الأستاذ كميل شمعون رئيساً للجمهورية، وقدم اللواء شهاب استقالته من رئاسة الحكومة واستمر قائداً للجيش الذي أُعيد الى ثكناته، مع نهاية أيلول 1952.

أحداث عامي 1975- ­ 1976

لم تكن أحداث العام 1975 وما سبقها وتلاها وحتى العام 1990، وليدة اللحظة التاريخية الآنية، أو نتيجة الفعل وردة الفعل فقط، ولكن ما حدث، يرتبط بجميع التحوُّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، وارتباطها بسياسة الحرب الباردة التي قامت بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي السابق بُعَيد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن العشرين، ذلك أن سياسة الاحلاف والمعسكرات والصراع الاقتصادي على النفط والأسواق والمواد الأولية بين الدول العظمى والتكتلات الكبرى، وردة فعل دول المنطقة العربية صاحبة العلاقة، وزرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة، أسهم في تأجيج الصراع واحتدامه وإدامته، بتنويع تفاصيل بؤر الخلافات الاقليمية والمحلية، على تقاسيم ونغم العقائد والأيديولوجيات السائدة، والتي كانت تجد دوماً أنصاراً لها على هذا المسرح الواسع. وكانت الساحة اللبنانية مناسبة لهذا الصراع، ولما كان الجيش قوة ممسكة بأركان الدولة بشدة فقد ارتؤي إلغاء دوره هذا بالغاء سبب قوته، فتم العمل على تقسيمه، ففرغت الساحة اللبنانية لأحداث استمرت 15 عاماً.

الجيش بعد اتفاق الطائف

رسم مؤتمر الطائف في المملكة العربية السعودية، والذي عقد بين الأطراف اللبنانية المختلفة، برعاية عربية ودولية، خريطة طريق لهذه الفئات لاعادة بناء الدولة على أسس جديدة، عمادها إعادة بناء الجيش على مفاهيم تكرس الوحدة الوطنية، واعادة اللحمة الى المجتمع اللبناني، وتحدد العدو من الصديق، وتدعم عمل المقاومة الوطنية لتحرير الجنوب من الاحتلال الصهيوني، وذلك في ظل الرعاية الأخوية، والدعم المادي والمعنوي من الجيش العربي السوري الشقيق.
استطاعت المقاومة الوطنية اللبنانية دحر العدو الصهيوني الى خارج الحدود عام 2000 بدعم مباشر وغير مباشر من الدولة اللبنانية عبر مؤسساتها المختلفة وفي طليعتها الجيش الذي قدم شهداء في معركة التحرير، وبذلك كان يتابع دوره الذي نذر نفسه للقيام به ولم يبخل بدمائه، فبذلها سخية على مذبح التحرير والدفاع عن تراب الوطن، الذي تحول ربيعاً دائماً، وسنابل تشي بحصادٍ، هو وطن بحجم طموحات أبنائه جميعاً، يتشكل من آمالهم وآلامهم، من نجاحاتهم واخفاقاتهم، ولكنه وطن يشبههم، ولا يشبه وطناً آخر، يقوم على عطاء وتضحيات جيش منهم ولهم، جيش بدونه لا يقوم وطن، وكما دلت أحداث العام 2005 فإن دوره كان الاساس في حفظ الشعب والدولة.