الجيش ينتصر في نهر البارد الانتصار في معركة لا يعني انتهاء الحرب على الإرهاب

الجيش ينتصر في نهر البارد الانتصار في معركة لا يعني انتهاء الحرب على الإرهاب
إعداد: نزار عبد القادر
عميد ركن متقاعد

مقدمة : وأد الفتنة

في اليوم الخامس بعد المئة، انتصر الجيش اللبناني على الإرهاب بتسجيله انتصاراً ساحقاً على تنظيم "فتح الإسلام" بزعامة شاكر العبسي. لقد افتدى الجيش بهذا الانتصار لبنان، وأزاح عنه شبح الفتنة التي كانت ستحوِّله إلى ساحة للاقتتال وفق النموذج العراقي.

تحقَّق هذا النصر بكلفة باهظة تحمَّلها الجيش حيث بلغت في نهاية المطاف 168 شهيداً ومئات من الجرحى. لكن تحقَّقت لقاء هذه التضحيات الجسام مكاسب كبرى على المستويين الوطني والعسكري: فقد وحّد الجيش اللبنانيين حول ضرورة الانتصار في معركة نهر البارد من أجل وأد الفتنة، والقضاء على الإرهاب، وتحقيق السيادة على جميع الأراضي اللبنانية. وأكَّد الجيش على المستوى العسكري على وحدته ومناعته، بحيث لم تنل منه كل محاولات الإثارة الدينية أو المذهبية، أو كل محاولات الترهيب بحدوث انشقاق في صفوفه. لقد رفع هذا الإنجاز المثقل بالشهادة "الجيش فوق الخلافات والمختلفين حتى على البديهيات، وأسبغ عليه صفة المرجعية الوطنية معوضاً عليه بالمعنويات النقص الفاضح الذي عاناه خلال حرب المئة وخمسة أيام، في السلاح والذخيرة والعتاد الضروري لمواجهة شرسة في قلب "قلعة" معزَّزة بالتحصينات والسراديب والملاجئ المتعدِّدة الطبقات، وكميات لا تنتهي من الصورايخ والمدافع والعبوات الناسفة، وخبرة متميِّزة في تفخيخ كل مكان وكل شيء"(1).

مع إقفال الصفحة الأخيرة من هذه المعركة الشرسة التي خاضها الجنود والضباط "باللحم والدم" قوّم العماد ميشال سليمان النتائج بصورة أوَّلية حيث رأى أن "هؤلاء الشهداء، وهم التضحية الكبرى للمؤسسة العسكرية في تاريخ لبنان، افتدوا بدمائهم كل اللبنانيين. ولو تصوَّرنا ماذا كان يمكن لهذه المجموعة الإرهابية أن تفعل لو مضت في مخططها، لرأينا المشهد العراقي يصيب لبنان، وكأننا أمام مشاريع من الفتنة المتنقلة، كانت ستصيب آلاف اللبنانيين. وهذا يؤكد أن الجيش افتدى الوحدة الوطنية وقدّم نموذجاً جديداً لها، وهي صارت اعتباراً من هذه اللحظة أمانة بيد كل السياسيين، بحيث ينبغي عليهم أن يستثمروا هذا الانتصار من خلال تقديم تنازلات متبادلة تصب في خانة صيانة الوحدة الوطنية"(2).

أصدرت مديرية التوجيه في قيادة الجيش بياناً تصف فيه الفصل الأخير من معركة نهر البارد: "فجر اليوم (أمس) هاجم مسلحو "فتح الإسلام" مراكز الجيش في محاولة يائسة للفرار من نهر البارد، تصدَّت لهم قوى الجيش وأوقعت في صفوفهم عدداً كبيراً من القتلى والأسرى. وتتابع قوى الجيش مهاجمة معاقل ما تبقى من المسلَّحين وملاحقة الفارين منهم خارج المخيم"(3).

 

وهكذا بعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر من بدء المعركة فجر الأحد 20 أيار/مايو واستمرارها كراً وفراً، وتقديم الجيش مئات الشهداء والجرحى، انتهت معركة مخيم نهر البارد يوم الأحد في 2 أيلول/سبتمبر بنصر ساحق على الإرهاب، وبفورة من الابتهاج عمَّت الشمال والعديد من المناطق اللبنانية.

تعتبر معركة مخيم نهر البارد أكبر وأشرس معركة خاضها الجيش اللبناني منذ تأسيسه، وشكلت اختباراً حقيقياً لوحدته ومهنيته العسكرية، وقدرته على خوض غمار معركة تعتبر من أصعب أنواع القتال في الحروب الحديثة حيث تجمع ما بين قتال العصابات المتحصِّنة في المدن والقتال ضد التنظيمات الإرهابية وأساليبها غير التقليدية في القتال.

وضعت هذه المعركة الجيش اللبناني كمؤسسة وقيادة ووحدات قتالية، وكإداء قتالي، تحت مجهر وسائل الإعلام المرئي والمسموع التي لاحقت المعركة دقيقة بدقيقة. ولم تقتصر هذه التغطية على وسائل الإعلام المحلية أو العربية بل تعدَّتها إلى المجال الإعلامي العالمي حيث اهتمَّت الفضائيات والإذاعات والصحف العالمية جميعها بمراقبة مجريات المعركة بكل تفاصيلها. كما كانت المعركة وأداء الجيش اللبناني محط اهتمام المؤسسات العسكرية والأمنية العربية والأجنبية، وحظيت كذلك بالكثير من تعليقات الخبراء العسكريين والاستراتيجيين الدوليين.

سأحاول، من خلال هذا البحث، أن ألقي بعض الأضواء على ما جرى في مخيم نهر البارد، خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً، من المواجهات بين وحدات الجيش وتنظيم "فتح الإسلام". إن المقاربة التي سأعتمدها في سرد الأحداث، أو تحليل ما جرى، تختلف كلياً عن المقاربة التي يعتمدها المؤرخ الأكاديمي، وذلك بسبب قربنا من الحدث في الزمن حيث لا تتوافر بعد المعلومات كلها التي يمكن الاستناد إليها لمعرفة حقيقة الدوافع والأهداف والسلوكيات لمختلف المشاركين في هذه المعركة. وستختلف هذه المقاربة أيضاً عن الرؤية الملتزمة التي اعتمدها كل من شاركوا تخطيطاً أو تنفيذاً في هذه المعركة، سواء على المستوى القيادي أو العملاني. وسأعتمد على تجربتي الميدانية السابقة كضابط محترف سبق له أن شارك في عمليات عسكرية أدت إلى مواجهات ميدانية، وإلى اختبار أجواء الشك وضبابية المعركة التي يخلِّفها الاحتكاك الميداني، بالإضافة إلى اعتمادي المكثف على مفاهيم نظرية الحرب، وإستراتيجية المواجهة في بعض أشكال الحرب الحديثة، والتي تختلف عن كل مبادئ الإستراتيجية التقليدية سواء لجهة طبيعة الحرب أو طرائق القتال.

وستركِّز هذه الدراسة على البيئة السياسية والأمنية التي سبقت المعركة، وعلى الظروف والأجواء التي رافقتها، وعلى الإعداد للمواجهة، والخطة العسكرية للمعركة، ودراسة مجريات المعركة، وتقويم نتائجها على المستويين السياسي والعسكري. وسأسعى إلى استخراج ما يمكن من دروس وعبر، وأيضاً تقويم مدى قدرة لبنان على مواجهة التهديد الإرهابي في المستقبل.

 

أولا": الطريق إلى نهر البارد

لن نعود في البحث إلى الظروف والتطورات التي رافقت نشأة التيار السلفي في لبنان سواء بين أهل السنة من اللبنانيين أو بين أهل السنة من الفلسطينيين، وذلك اعتقاداً منَّا بأن انتساب بعض الأفراد من اللبنانيين أو الفلسطينيين أو التحاقهم بتنظيم "فتح الإسلام" قد حدث بإرادتهم الشخصية، ويؤيد ذلك موقف المتفرِّج الذي اتخذته كل الجماعات ذات التوجه السلفي منذ بداية أحداث شارع المئتين والزاهرية في طرابلس وإلى حين سقوط نهر البارد. ويمكن في هذا السياق وضع رد الفعل المحدود الذي قامت به جماعة "جند الشام" في أطراف مخيم عين الحلوة بالتعاطف القائم على علاقات بين أشخاص وليس على أساس الترابط التنظيمي أو الإستراتيجي.

من المؤكد أن الأجهزة الأمنية والقضاء اللبناني يملكان الآن ما يكفي من المعلومات والحقائق التي تكشف عن أسباب نشأة تنظيم "فتح الإسلام" ودوافعه للدخول إلى لبنان، وانتقاء مخيم نهر البارد كمعقل له، وأيضاً عن الجهات التي كانت تموّله وتحرّكه، بالإضافة إلى تحديد الأهداف والآليات والوسائل التي سيستعملها لتحقيق هذه الأهداف. وسيكشف التحقيق أيضاً عن علاقات قادة التنظيم داخل الحدود وخارجها بحيث تتحدَّد المسؤوليات السياسية لكل الجهات والمرجعيات الرسمية وغير الرسمية، سواء لجهة إنشاء التنظيم، أو تسهيل دخوله إلى لبنان، وانتقاله بين عدة محطات على الأرض اللبنانية قبل أن يستقر في مخيم نهر البارد. لكن تبقى هذه المعلومات المتوافرة الآن طي الكتمان لأسباب تتعلق بسرية التحقيق، كما يستبعد أن يكشف عن بعضها، حيث من المرجَّح أن تبقى بعهدة الأجهزة على أساس أنها تتعلق بأمن الدولة وعلاقاتها الخارجية. وهناك عقبة أساسية أمام إمكان الجزم في حقيقة بعض الأمور. ويمكن أن نحاول أن نعوّض عن هذا النقص في المعلومات الدقيقة من خلال اللجوء إلى عملية تحليلية واستقرائية للبيئة والظروف التي نشأ فيها "فتح الإسلام"، ومن بينها الظروف والتطورات التي شهدها لبنان منذ العام 2004 وحتى الآن.

 

1- تحليل البيئة:

لن نعود في تحليلنا للبيئة بغية ربط أسباب نشأة فتح الإسلام بالصراع العربي – الإسرائيلي وبوجود مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، أو بالدوافع الشخصية التي حرَّكت مشاعر رئيس التنظيم شاكر العبسي على أساس أنه فلسطيني، أو بالتي دفعت عشرات من الفلسطينيين للالتحاق به. كما أننا لن نبحث في ربط نشأة "فتح الإسلام" بتنظيم "القاعدة" الذي يرأسه أسامة بن لادن، أو بالحرب على الإرهاب التي تشنها أميركا منذ وقوع هجمات نيويورك وواشنطن في 11 أيلول/سبتمبر 2001، واحتلالها كلاً من أفغانستان والعراق، مع كل ما نتج عن ذلك من تداعيات جيو - ستراتيجية أو تفجيرات سياسية وأمنية عمّت دول الشرق الأوسط وخصوصاً العراق وفلسطين ولبنان.

 

من الواقعي أن نعود في دراسة البيئة والظروف والتطورات التي هيَّأت لظهور "فتح الإسلام" إلى العام 2004حين أعلنت سوريا نيّتها تعديل الدستور اللبناني من أجل تمديد ولاية الرئيس أميل لحود الأمر الذي أثار معارضة فريق سياسي لبناني أساسي ضمّ الرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط وتجمّع قرنة شهوان والتيار الوطني الحر، كما أثار تحركاً دولياً بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا، لم يكتفِ بتقديم الدعم السياسي والمعنوي للقوى السياسية اللبنانية المعارضة للقرار السوري وحسب، بل عمل على تعميم المعارضة الدولية لهذا القرار، ونقل الموضوع إلى مجلس الأمن واستصدار القرار 1559.

إستهدف مضمون القرار 1559، بصورة مباشرة، الوجود السوري في لبنان من خلال التأكيد في بنده الثاني على طلب الشرعية الدولية بسحب كل القوى الأجنبية من لبنان، وكان يقصد سوريا وحدها بعد أن كانت إسرائيل قد انسحبت من معظم الآراضي اللبنانية في أيار/مايو العام 2000، باستثناء مزارع شبعا والجزء اللبناني من بلدة الغجر.

كما استهدف القرار عزم سوريا على العمل على تعديل الدستور اللبناني وتمديد ولاية الرئيس لحود، وذلك من خلال الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية حرة وعادلة وفقاً لمواد الدستور اللبناني. وحمل في بنده الثالث طلباً لحل كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، والمقصود الجناح العسكري في حزب الله، بالإضافة إلى الميليشيات التابعة للتنظيمات الفلسطينية. ويمثِّل هذا الطلب استهدافاً لحلفاء سوريا الأساسيين على الأرض اللبنانية.

استخفَّت سوريا بمفاعيل القرار 1559، حيث طلبت إلى حلفائها السير قدماً في تعديل الدستور، كما أجبرت الرئيس الشهيد الحريري وكتلته النيابية على الانضمام إلى إلركب في عملية التمديد للرئيس لحود، من دون التبصّر في التداعيات التي يمكن أن تنتج عن التعارض مع الموقف الدولي الذي أعطى إشارة واضحة لدمشق بضرورة تعديل سلوكيتها في التعاطي مع كل من لبنان وفلسطين والعراق. ولكن الديبلوماسية السورية أخفقت في تقويمها للنتائج المرتقبة لهذا التعارض مع الموقف الدولي في المرحلة المقبلة.

 

شكّل اغتيال الرئيس رفيق الحريري ظهر يوم 14 شباط/فبراير العام 2005 زلزالاً فعلياً بالنسبة إلى الوجود السياسي والعسكري السوري في لبنان، حيث شعرت دمشق بخطورة الأوضاع الداخلية المتفجِّرة، وبأنها لم تعد قادرة على مقاومة المد الشعبي الكبير المطالب بانسحابها، أو الضغوط الدولية التي تطالبها بالانسحاب تنفيذاً لنصوص القرار 1559. وخوفاً من تداعيات الموقف الشعبي المعارض للوجود السوري قرَّر الرئيس السوري بشار الأسد سحب القوات السورية من لبنان في 27 نيسان/أبريل 2007.

أدى اغتيال الرئيس الحريري وقيام تحقيق دولي حول الجريمة بموجب قرار جديد من مجلس الأمن إلى نشوء أزمة في العلاقات اللبنانية – السورية، وإلى انقسام سياسي داخلي حيث انقسمت القوى السياسية الرئيسة في لبنان إلى معسكرين: الأول يتهم سوريا بالجريمة والآخر متحالف معها وداعم لها في مواجهة ضغوط التحقيق الدولي.

 

حوّلت الانقسامات والتعقيدات السياسية، بشقيها الداخلي والخارجي، لبنان إلى ساحة مفتوحة على الاحتمالات كلها، كما جعلته بيئة مؤاتية لتغلغل جماعات إرهابية من خارج الحدود تحرِّكها أيادٍ خارجية.

في ظل هذه البيئة من الانقسامات السياسية والتناقضات المذهبية الحادة، وفي ظل التطورات الإقليمية وما أعقب ذلك من تدهور في العلاقات اللبنانية – السورية، "كان من الطبيعي أن تتحوَّل الساحة اللبنانية إلى بيئة مناسبة لتغلغل تنظيم "فتح الإسلام" تحت شعار الدفاع عن السنة تارة، وتدريب المجاهدين وإرسالهم إلى العراق تارة أخرى. ولكن الالتباس رافق هذا التنظيم من علاقته بسوريا تارةً إلى علاقته بقوى سياسية محلية تارةً أخرى، ونية استخدامه في النزاع الداخلي، إذا قُدِّر لهذا النزاع أن يتحوَّل إلى صراع بين الأحزاب أو المذاهب اللبنانية"(4).

جاءت التحقيقات حول جريمة استهداف باصين للركاب في عين علق في المتن الشمالي لتؤكد أن هذا العمل الإرهابي الخطير كان من صنع تنظيم "فتح الإسلام"، وذلك وفق الاعترافات التي أدلى بها أحد المنفِّذين وبعض الضالعين في التحضير للعملية. وهكذا تكوَّنت رؤية واضحة عن أهداف دخول هذا التنظيم إلى لبنان.

بعدما تسرّبت هذه المعلومات إلى الإعلام طُرِحَت تساؤلات عديدة حول أسباب تأخر السلطة والأجهزة الأمنية في معالجة وجود مثل هذا التنظيم الإرهابي، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تهديدات إرهابية لاحقة، خصوصاً بعدما توافرت معلومات حول إمكان قيام هذا التنظيم بعملية اغتيال الوزير بيار الجميّل.

في بداية شهر أيار/مايو 2007، وفي ظل استمرار التصعيد في الأزمة الداخلية وخصوصاً بعدما تركَّزت الأزمة كلها على عنوان إسقاط الحكومة، وإنشاء المحكمة الدولية مع كل ما رافق موضوعها من تجاذبات بين قوى الأكثرية والمعارضة، وبين سوريا والحكومة اللبنانية، بدا أن العودة إلى مسلسل الإرهاب باتت وشيكة، وبأن تنظيم "فتح الإسلام" مرشح لتوسيع نشاطاته الإرهابية.

هذه الأجواء دفعتني إلى كتابة تقويم أمنى نشرته صحيفة الديار بتاريخ 9 أيار/مايو 2007، تحت عنوان "خواطر أمنية وخطط مشدَّدة لمواجهة مخاطر تفجيرات مرتقبة"(5). ولقد حظي هذا التحليل باهتمام خاص من السلطات الأمنية الأساسية في البلد. 

 

2- الهواجس الأمنية

في ظل الأزمة المتشعّبة والمتعدِّدة المخاطر ظهر جلياً أن الأوضاع الأمنية معرضة للاهتزاز من جراء حدوث تفجير أمني من نوع جديد. كان تقويمي الأمني للمرحلة متقاطعاً مع الهواجس التي كان يشعر بها بعض القادة الأمنيين، فيما كانت القيادات السياسية تغرق في خلافاتها وانقساماتها حول تقاسم السلطة والمغانم. انطلاقاً من هذا التقويم كتبت في صحيفة الديار بتاريخ 9 أيار/مايو 2007 في زاوية "تحليل الديار" تحليلاً أمنياً بعنوان "هواجس أمنية وخطط مشدَّدة لمواجهة مخاطر تفجيرات مرتقبة"، وكان أبرز عناصر تقويمي للوضع الأمني يتلخَّص بالآتي:

لبنان إلى أين؟ سؤال نطرحه بجدية وعقلانية سياسية، وانطلاقاً من تقويمنا الواعي للتهديدات والمخاطر الأمنية التي يمكن توقع حدوثها في الأشهر المقبلة.

 

تدفع المؤشرات الداخلية والدولية كلها إلى الاستنتاج أن الأيام المقبلة ستكون حبلى بالتطورات والأحداث الأمنية، وبأن الآمال كلها التي عقدها اللبنانيون على الوساطات العربية والدولية من أجل حل الأزمة قد ذهبت أدراج الرياح، أو أنها كانت وهماً وسراباً لا أكثر.

تحدَّث بعض المصادر عن ترجمة هذه الهواجس الأمنية إلى خطط وأوامر مشددة تنفَّذ على الأرض وذلك ضمن رؤية أمنية وقائية. وذكرت هذه المصادر أن الأوامر المشددة قد قضت باعتماد تدابير صارمة لمراقبة المداخل الشرعية وغير الشرعية إلى لبنان جميعها، وأيضاً عمليات انتقال الأشخاص المشبوهين والأسلحة والمتفجرات بين المناطق اللبنانية، بالإضافة إلى التشديد في عمليات التفتيش عن آليات وسيارات تنقل متفجرات أو معدة للتفجير، ومموَّهة تحت شعارات وتسميات تعطيها في الظروف العادية قدراً من الحصانة.

وأضاف بعض هذه المصادر أنه يتوقَّع أن يلجأ المهاجمون و "الإرهابيون" إلى تنفيذ هجمات ضد أهداف "رخوة"، تكتظُّ بالناس، ولا تتمتع بأي حماية مادية أو أمنية. أما عن وسائل الهجوم فإن المخاوف تتركَّز الآن على إمكان حصول هجمات انتحارية أو هجمات بواسطة السيارات المفخَّخة أو المحمَّلة شحنات كبيرة من المتفجرات(6).

إن التصعيد الحاصل في المواقف الداخلية والإقليمية والدولية، وخصوصاً ما يعود إلى إمكان إقرار مشروع المحكمة الدولية تحت الفصل السابع، بالإضافة إلى الضغط الدولي من أجل منع تهريب السلاح إلى لبنان، وهو أمر تحدَّث عنه الأمين العام للأمم المتحدة بإسهاب في تقريره نصف السنوي عن تنفيذ القرار الدولي 1559. وحذَّر بان كي مون من أنه يخشى احتمال حدوث سباق محلي إلى التسلُّح في لبنان بما ينطوي عليه من عواقب لا يمكن التكهن بها.

 

تحدَّثت في ورقة تقدمت بها إلى مؤتمر عقد في مونترو – سويسرا في نيسان/أبريل 2007 حول موضوع إصلاح قطاع الأمن في لبنان عن ثلاثة سيناريوهات خطيرة:

 السيناريو الأول: تصعيد الموقف السياسي بين معسكري 14 آذار و 8 آذار خصوصاً مع إقرار المحكمة الدولية تحت الفصل السابع بشكل يؤدي إلى مواجهة في الشارع، والتي يمكن استغلالها من قبل بعض الفئات "المخرِّبة" لزرع الفتنة، والدفع باتجاه توسيع العمليات الإرهابية من أجل تحويل المواجهة المحدودة إلى حرب أهلية. وتظهر في هذا السياق مخاطر الهواجس الأمنية التي عبَّر عنها الأمين العام للأمم المتحدة أو تلك التي اعتمدتها القيادات الأمنية لوضع خططها وإصدار تعليماتها الأمنية الجديدة والمتشددة.

السيناريو الثاني: هناك احتمال أن تلجأ إسرائيل إلى شن عدوان جديد على لبنان من خلال التركيز على شن عمليات خاصة لتدمير أهداف وتنفيذ اغتيالات ضد قيادات حزب الله. ويمكن أن يؤدي مثل هذا السيناريو إلى توسع العمليات إلى مواجهة عسكرية واسعة، خصوصاً إذا ما قام حزب الله بردات فعل عسكرية قاسية تستعملها إسرائيل كمبرر لعدوان كبير على لبنان. يمكن أن يكون الهدف لمثل هذا التصعيد الإسرائيلي مطالبة مجلس الأمن باستصدار قرار دولي جديد خاص بجنوب لبنان بموجب الفصل السابع. وسيؤدي مثل هذا التطوُّر إلى مزيد من الانقسام اللبناني – اللبناني، وإلى ارتفاع حدة الصراع الداخلي والاحتقان المذهبي.

 

السيناريو الثالث: إذا تصدَّع الوضع الأمني بسبب الاحتقان الداخلي خصوصاً في ظل الاستحقاق الرئاسي أو بسبب إقرار المحكمة الدولية تحت الفصل السابع، يمكن أن تلجأ سوريا وإيران وحلفاؤهما إلى العمل على إسقاط الحكومة ومنع انتخاب رئيس للجمهورية. يمكن أن يؤدي هذا السيناريو إلى انسحاب الذراع الأوروبية من قوات اليونيفيل، بشكل يهدِّد مهمة الجيش اللبناني المنتشر في الجنوب وتماسكه.

تبقى النتائج المترتِّبة على أي من هذه السيناريوهات أخطر من نتائج الحرب التي شنَّتها إسرائيل على لبنان في تموز/يوليو 2006 . لقد تماسك اللبنانيون في مواجهة العدوان الإسرائيلي، ولكن ليس هناك ما يؤكد الحفاظ على الحد الأدنى من الانسجام في ما بينهم في مواجهة التهديدات المرتقبة في هذه السيناريوهات الثلاثة.

تفترض خطورة التهديدات المرتقبة أن لا تتوقَّف الأجهزة الأمنية عند سياسة "الأمن الوقائي" في حدوده الدنيا، بل من واجباتها الأساسية أن تأخذ المبادرة لمعالجة البؤر والجماعات كلها التي تشكِّل تهديداً إرهابياً مباشراً، خصوصاً أن المعلومات كلها تشير بوضوح إلى الجهات التي تقف وراءها، وإلى الأهداف والمهمات التي ستضطلع بتنفيذها في الوقت المناسب.

إن التحدي الحقيقي الذي تواجهه المؤسسات الأمنية يكمن في المبادرة إلى تحويل الهواجس الأمنية إلى رؤية أمنية متكاملة للحفاظ على المجتمع، وتأمين استمرار الدولة على "قيد الحياة". إن العواقب الفعلية لأي تقصير في مضمار الأمن الوطني سيؤدي من دون شك إلى حالة "اللادولة".

 

في اليوم التالي لنشر هذا التقويم الأمني اجتمعت مع أحد القادة الأمنيين وتناقشنا مطوَّلاً حول الهواجس الأمنية، وارتقابات حدوث تفجيرات وعمليات إرهابية تؤدي إلى تصدُّع الوضع الأمني. وشرح لي هذا القائد الأمني (بناءً على طلبي) كيف جرت جريمة التفجير في عين علق، وما توصَّلت إليه التحقيقات مع أحد المنفِّذين للجريمة بالإضافة إلى ثلاثة موقوفين بتهمة التعاون والضلوع في التحضير لعملية التفجير. وكان واضحاً من المعلومات التي توصل إليها التحقيق عدة أمور أبرزها:

1- إن تنظيم "فتح الإسلام" هو المنفِّذ لعملية تفجير الباصين في عين علق، وبأن المنفِّذين هما من الأعضاء العاملين في هذا التنظيم، وبأن المنفذ الآخر الذي أفلت بعد التنفيذ قد التحق بالتنظيم المذكور في نهر البارد.

2- يحضّر "فتح الإسلام" لتنفيذ عدة عمليات إرهابية جديدة، بالإضافة إلى عمليات اغتيال ستطاول بعض الشخصيات السياسية.

3- يعمل "فتح الإسلام" على توسيع انتشاره باتجاه بعض المخيمات الأخرى، كما أنه بدأ بعملية انتشار واسعة في الشمال وبيروت وصيدا والبقاع، ونجح بعض خلاياه في إقامة قواعد له في أكثر من مدينة ومنطقة. وهذا التنظيم جاد في إيجاد صلة وثيقة وأرضية مشتركة مع تنظيمات سلفية وأصولية من أجل التحضير لانتفاضة إسلامية واسعة في منطقة الشمال، تمهيداً لإقامة "إمارة إسلامية".

بدا واضحاً من النقاش مع هذا القائد الأمني أن الأجهزة الأمنية تدرك تماماً ما يحضّر له تنظيم "فتح الإسلام"، وأنه يعمل على تنفيذ مخطَّطات خارجية تقضي بإحداث فتنة في لبنان، وأن هناك مخططاً لتفجيرات كبرى يجري الإعداد له. وسألت محدِّثي: لماذا لا تقوم الأجهزة الأمنية بعملية واسعة لاستئصال "فتح الإسلام"؟ وكان جوابه بأنه لا يملك القدرات اللازمة في قوى الأمن الداخلي للقيام بذلك، وبأنه طرح المسألة على قيادة الجيش التي لم ترفض الفكرة ولكنها تريَّثت بانتظار حدوث شيء ما. في الواقع، تبيَّن بعد انتهاء معركة نهر البارد أن القيادة العسكرية كانت تشعر بخطورة التهديد الذي يشكله وجود "فتح الإسلام"، وأنها كانت بصدد التهيئة لعملية عسكرية،درءًا لأي مخاطر قد تنتج من أحتلال هذا التنظيم لمراكز متقدمة في المخيم الجديد باتت تهدد سلامة سالكي الطريق الدولية المواجهة لهذه المراكز. وكان الجيش قد سبق له أن وجَّه انذارات عديدة لإخلاء هذه المراكز ووقف التحرشات، وتأخَّر تنفيذ العملية لعدة أسابيع لأسباب تقنية بحتة(7).

 

3- حرب غير تقليدية

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، وخروج القوات السورية من لبنان، بدا واضحاً أن الانقسام السياسي بين مختلف القوى سيؤدي حتماً إلى أزمة سياسية عميقة، تشلُّ الإرادة الوطنية وتعطل آليات القرار الوطني كلها.

جاءت حرب تموز/يوليو العام 2006 لتوحِّد بين اللبنانيين جميعهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي، ولكنها ولَّدت المزيد من الشكوك وإنعدام الثقة بين طرفي الموالاة والمعارضة وبالتالي زيادة الشرخ الحاصل بينهما.

وصف مسؤول في مجلس الأمن القومي الأميركي في تشرين الثاني/نوفمبر 2006 الأزمة التي يواجهها لبنان بأنها "في غاية التعقيد لدرجة أنه يمكن اعتبارها من أصعب الأزمات التي تتعامل معها الإدارة الأميركية الراهنة"(8). في الواقع، لا يمكن أن يرى أي مراقب للتطورات والاستحقاقات التي يتحضَّر لبنان لمواجهتها أي مغالاة. كان يمكن تشبيه ما يواجهه لبنان مع نهاية العام 2006 وخلال العام 2007 بتلك الأوضاع الخطيرة التي واجهها بعد الغزو الإسرائيلي العام 1982، لكن نقطة الاختلاف بين الوضعين أن سوريا وإسرائيل قد انسحبتا من لبنان، وأن الصراع قد تحوَّل إلى صراع نفوذ ما بين الولايات المتحدة والتحالف الإيراني – السوري، ولكل من هذين الفريقين فريقه الخاص في الداخل اللبناني، حيث تؤيد وتدعم الولايات المتحدة وأوروبا و"محور الاعتدال" العربي الأكثرية النيابية ومعها الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة، فيما تدعم إيران وسوريا قوى المعارضة.

 

لكن على الرغم من الدعم والرعاية الدولية شبه الكاملة فقد سيطرت على الحكومة ومعها الأكثرية النيابية حالة من الشلل والقنوط، ويعود ذلك إلى عدة أسباب أبرزها:

1 - شعور الحكومة، ومعها الأكثرية النيابية، بأن الأزمة القائمة غير قابلة للحل بالوسائل السياسية والقانونية التي تملكها الدولة، وبأن الأمور مرشَّحة إلى مزيد من التفاقم في ظل الضغوط الداخلية والخارجية التي تعمل على تعطيل جميع مؤسسات الدولة الرئيسة (رئاسة الجمهورية، والمجلس النيابي، ومجلس الوزراء). وكانت الحكومة والأكثرية تشعران بالإحباط بسبب فشل المجتمع الدولي في احتواء الهجمة الإيرانية – السورية. ورسم إقرار المحكمة الدولية طريق الجلجلة التي كان على الحكومة وقوى الموالاة سلوكها بنجاح من أجل تفادي التصادم مع المعارضة في الشارع.

2 - في التقويم الواقعي لمسار الأزمة بدا بوضوح أن لبنان معرض لمواجهة شكل من أشكال الحرب غير التقليدية، وأن هناك أوجهاً عديدة لهذه الحرب: هناك الوجه السياسي، الذي تمثَّل باستقالة ستة وزراء من الحكومة، كما تسبَّب بتعطيل رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي، وهناك التهديد الأمني المتواصل الذي تركَّز أولاً على سلسلة من عمليات الاغتيال التي استهدفت شخصيات نيابية وسياسية وإعلامية. 

3- شعرت الحكومة، ومعها الأكثرية النيابية، بأن شبح الفتنة لم ينحسر بصورة كلية. صحيح أن الاتصالات الإيرانية – السعودية قد نجحت في وقف موجة التصعيد في الشارع، وأيضاً في احتواء المواجهة الخطيرة بين السنَّة والشيعة، ولكن ذلك لم يبدِّد كل المخاطر حيث ظهرت مؤشرات عن وجود خطط أخرى معدَّة من أجل الإيقاع بين اللبنانيين، وبين اللبنانيين والفلسطينيين، وافتعال أحداث أمنية كبرى من خلال تحريك مجموعات "إرهابية" اتخذت من بعض المخيمات الفلسطينية قواعد لها، ومن أبرزها تنظيم "فتح الإسلام" و"جند الشام" و"عصبة الأنصار"، بالإضافة إلى خلايا إرهابية نائمة.

4- كان واضحاً منذ البداية أن المخطط الذي يجري الإعداد له لا يستهدف الحكومة سياسياً، أي دفعها إلى الاستقالة تمهيداً لقيام حكومة أوسع تمثيلاً، بل هناك استهداف لكامل بنية الدولة من أجل تعطيل قدراتها على المواجهة جميعها سياسياً وأمنياً، بحيث ينتقل لبنان من حالة الهدوء إلى حالة الفوضى. وتركَّزت بدايةً هذه الحملة الشعواء على قوى الأمن الداخلي من خلال اتهامها بالعمل على هامش القانون، ولصالح فئة سياسية هي 14 آذار، وعلى حساب قوى المعارضة. ووصلت هذه الحملة إلى حد اتهام بعض النواب من المعارضة للقوى الأمنية بأنها قد تحوَّلت إلى ميليشيات خاصة بقوى الأكثرية. ولكن لم يطل الزمن حتى ظهرت بوادر ومؤشرات تكشف أن الخطة تستهدف الجيش، وأن هناك نيات مبيَّتة لتعريضه لمواجهة خطيرة مع المخيَّمات والقواعد الفلسطينية تمهيداً لإضعافه وإسقاط دوره الوطني من خلال دفعه إلى مواجهة خيارات خطرة أبرزها:

        الخيار الأول: دفع الجيش إلى الاشتباك مع تنظيمات أصولية فلسطينية في بعض المخيمات، فإذا لجأ إلى الحسم من خلال استعمال قدراته النارية، فإن ذلك سيؤدي إلى سقوط عدد كبير من المدنيين، ما يسهّل اتهامه بارتكاب مجزرة وبالتالي الطعن بوطنيته تمهيداً لإضعافه.

        الخيار الثاني: الإيقاع بالجيش من خلال فرض معركة عسكرية لا يمكنه الانتصار فيها وذلك بقصد إظهاره بمظهر العاجز عن الحسم من أجل النيل من معنوياته ووحدته، وبالتالي إسقاطه وطنياً من خلال التشكيك بقدرته على الحفاظ على أمن البلاد ومواجهة أي اعتداء إسرائيلي.

        الخيار الثالث: تمييع الوضع السياسي وتحريك تنظيم "فتح الإسلام" داخلياً من أجل إلهاء الجيش في مهمات أمنية داخلية، وبالتالي تخفيف فعالية وجوده في الجنوب أو على طول الحدود مع سوريا.

بدا واضحاً خلال الأشهر التي سبقت معركة البارد أن الجيش مستهدف، وأن "فتح الإسلام" ما هو سوى رأس جبل الجليد في مؤامرة كبرى لتخريب السلم الأهلي والأمن الوطني والنيل من معنويات الجيش ووحدته.

 

ثانيا": تنظيم فتح الإسلام

في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر العام 2006 هاجم عشرات المسلَّحين المقنَّعين ثلاثة مواقع لتنظيم "فتح الانتفاضة" في مخيم نهر البارد، وأعلنوا قيام تنظيم جديد يعرف باسم "فتح الإسلام". كما أعلنوا أنهم أبناء حركة التحرير الوطني الفلسطيني وذلك عبر منشورات وزَّعوها على المخيم أدانت كذلك قيادة "فتح الانتفاضة" واتهمتها بالانحراف والفساد والخضوع لأجهزة المخابرات. وأقسم "فتح الإسلام" في بيانه أنه سيشنُّ حرباً مقدسة من أجل تحرير فلسطين(9).

في اللحظة الأولى لنشوء "فتح الإسلام" والإعلان عنه بدت الصورة بأن الأمر لا يعدو كونه انتفاضة جديدة داخل "فتح الانتفاضة". وأبدت الصحافة اللبنانية والدولية اهتماماً خاصاً بهذا التنظيم بعد أسابيع من إعلان احتلاله مواقع "فتح الانتفاضة" في مخيم نهر البارد.

وأشارت التقارير الصحافية إلى معلومات حول دخول هذا التنظيم إلى لبنان، ومفادها أن رئيس التنظيم المعروف باسم شاكر العبسي قد دخل إلى لبنان مع خمسين مقاتلاً عن طريق قاعدة "لفتح الانتفاضة" على الحدود السورية – اللبنانية في منطقة راشيا الوادي، وتمركزوا بداية في مخيم شاتيلا، لكن، ولأسباب مجهولة، لم يطل مكوثهم في المخيم المذكور أكثر من أسبوعين انتقلوا بعدها إلى مخيم نهر البارد حيث نفذوا انقلابهم على "فتح الانتفاضة".

تتناقض المعلومات المتوافرة (من خارج التحقيق الذي تجريه السلطات اللبنانية) حول أسباب نشوء "فتح الإسلام" وأهدافف. لكن، من المؤكد، أن المدعو شاكر العبسي هو القائد الفعلي للتنظيم، وقد حكم عليه العام 2004 بالإعدام في الأردن مع صديقه أبو مصعب الزرقاوي وذلك على خلفية اتهامهما بقتل الديبلوماسي الأميركي لورنس فولي العام 2002.

 

شاكر العبسي فلسطيني من مواليد جرش العام 1955، وقد انتسب إلى فتح، وتخرَّج في ليبيا كضابط طيار ورُقِّي في صفوف فتح إلى رتبة مقدم. ويروي بعض المصادر الفلسطينية بأنه انشق عن فتح العام 1983. التحق بتنظيم "فتح الانتفاضة" بعد وصوله إلى دمشق هرباً من ملاحقة السلطات الأردنية له. اعتقلته السلطات السورية العام 2003 وصدر بحقه حكم قضائي قضى بسجنه ثلاث سنوات بتهمة تهريب أسلحة وذخائر بين الأردن وسوريا، ومن ثم أطلقت سوريا سراحه من دون أن تستجيب لطلب الأردن استرداده ومحاكمته بتهمة قتل الديبلوماسي الأميركي. وأورد بعض المصادر معلومات عن ذهابه إلى العراق بعد الغزو العام 2003، ولكنه عاد بعد فترة إلى سوريا حيث التحق بخالد العملة الذي ساعده على دخول لبنان عن طريق قاعدة عسكرية قائمة في منطقة حلوة البقاعية. هناك معلومات متناقضة حول نشوء "فتح الإسلام" حيث أنه اعتبر كتنظيم فلسطيني بعد انقلابه على فتح الانتفاضة، ولكن سرعان ما انكشفت حقيقته من خلال التحاق عناصر من جنسيات مختلفة به، إذ انضم إليه عدد من الفلسطينيين والسوريين والسعوديين واللبنانيين المعروفين بانتمائهم لمجموعات سنية أصولية.

قالت صحيفة "الحياة" في تقرير نشرته، أن كل أفراد تنظيم "فتح الإسلام" يتكلَّمون اللغة العربية وبلهجة سورية، وأن هناك بعض الأفراد من جنسيات أخرى قد أُلحق به للتمويه على حقيقته وأهدافه وذلك بقصد إضفاء صفة التنظيم المؤلف من جنسيات مختلفة عليه، من أجل إبعاد التهمة عن ارتباطه بالسلطات السورية(10).

قال شاكر العبسي في مقابلة أجرتها معه صحيفة "نيويورك تايمز" في آذار/مارس 2007 بأن له الحق باللجوء إلى العنف ضد الأميركيين الذين جاءوا إلى الشرق الأوسط ليقتلوا ويدمروا شعبه(11).

يلف نشوء تنظيم "فتح الإسلام" على أنقاض "فتح الانتفاضة" الكثير من الألغاز التي لن تحل قبل نشر التحقيقات التي تجريها السلطات اللبنانية. لكن لا بد من الاعتراف بأن لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي كان يمكن شاكر العبسي دخوله مع عدد من المقاتلين بغية إنشاء قاعدة عمليات إرهابية فيه، وأن يكدِّس كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، وأن يطوّع ويدرّب مئات المقاتلين من جنسيات مختلفة، وأن يستقبل مندوبي الإعلام المحلي والعربي والدولي ومن بينها صحيفة "نيويورك تايمز". لم يكن من الممكن لشاكر العبسي بعد الحكم عليه بالإعدام في الأردن العام 2004 أن يجد بلداً غير لبنان يسمح له بالظهور العلني من دون أن يخشى توقيف السلطات له وتسليمه للأردن.

لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي أعطى، منذ توقيع اتفاقية القاهرة، الحق للفلسطينيين بالحفاظ على الأمن في المخيَّمات التي كانت طوال فترة الوجود السوري في لبنان تخضع بشكل أو بآخر للسيطرة السورية. لكن الأوضاع الأمنية داخل مخيم عين الحلوة ساءت بسبب غياب الوجود السوري في المنطقة، وبسبب خسارة تنظيم فتح قدرته على ضبط الوضع الأمني، وذلك يعود إلى سببين: الأول، نشوء بعض التنظيمات الإسلامية، الأصولية كـ "عصبة الأنصار" و"جند الشام"، والثاني لجوء عدد كبير من المطلوبين بجرائم إلى المخيم للاحتماء فيه من قبضة السلطات اللبنانية، ومؤازرة هؤلاء للتنظيمات المناوئة لفتح.

 

بعد الانسحاب السوري من لبنان في نيسان/أبريل 2005 قويت الحركات الإسلامية الأصولية في عين الحلوة وبدأت بالتمدد نحو مخيمي نهر البارد والبداوي في الشمال. في ظل هذه الأجواء المؤاتية (بعد الانسحاب السوري) تمكّن شاكر العبسي من إقامة قواعده في مخيم نهر البارد، وبالتالي جذب مئات من المقاتلين الأصوليين للالتحاق به سواء من اللبنانيين أو من جنسيات أخرى. وكان اللافت تقاعس حكومة فؤاد السنيورة عن معالجة هذه التنظيمات الأصولية وخصوصاً تنظيم "فتح الإسلام" على الرغم من الظهور الإعلامي الكثيف للمسؤولين عنه(12).

وذهب بعض التقارير في الصحافة الغربية، ومنها صحيفة "نيويورك تايمز"، بالإضافة إلى تقرير هام كتبه الصحافي الأميركي سيمور هيرش في "النيويوركر"، إلى اتهام السلطة اللبنانية وبعض الفئات السياسية بالسكوت عن ظاهرة "فتح الإسلام" لا بل تشجيعها، بالإضافة إلى عدم حل مشكلة حي التعمير في صيدا قرب مخيم عين الحلوة من خلال إخراج "جند الشام" منه، وذلك ضمن سياسة ضرب معادلة على الأرض مع حزب الله(13).

استطاع شاكر العبسي أن يحصن وضعه في مخيم نهر البارد ما سهّل التحاق مئات المقاتلين الأصوليين به، بالإضافة إلى تكديس كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة كالهواوين والصواريخ والمتفجِّرات داخل المخيم. وتساءلت تقارير إعلامية عديدة حول أسباب عدم اكتشاف الأجهزة الأمنية اللبنانية لهذا التدفق الكبير بالرجال والسلاح باتجاه مخيم نهر البارد. وقد علَّق المسؤول عن منظمة أونروا (UNRWA) في لبنان على ذلك بأن "هناك من لم يقم بواجبه"(14).

 

1- أيديولوجية وخطط فتح الإسلام

لم تتوافر معلومات دقيقة حول عدد المقاتلين المنضوين تحت راية "فتح الإسلام"، أو عن الهوية الحقيقية لقياداته. واتضح لاحقاً أنه كان يضمُّ بعض الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والسعوديين وغيرهم من "الجهاديين العرب" الذين سبق أن اشتركوا في الحرب في العراق(15). وتحدث بعض وسائل الإعلام عن إمكان وجود مقاتلين داخل "فتح الإسلام" من الشيشان والبنغال، ولكن لم يثبت ذلك في ما بعد.

هناك تقارير متضاربة حول عدد مقاتلي هذا التنظيم عند بدء الاشتباكات مع الجيش، حيث وضع بعضها هذا العدد ما بين 250 و300 مقاتل، فيما ذهبت تقارير أخرى لتضعه في حدود 500 مقاتل(16). واختلفت هذه الأرقام أيضاً مع تقديرات قيادة الجيش لعدد المقاتلين الذين شاركوا في معارك نهر البارد حيث قدِّر العدد بألف مقاتل.

أما لجهة التوجُّه الأيديولوجي فقد ربط بيان قيادة الجيش "فتح الإسلام" بتنظيم "القاعدة"، وبأنه أحد مشتقات خط الجهادية السلفية الذي تتبعه "القاعدة". ونقلت وكالة "رويترز" أن الهدف الأساسي لهذا التنظيم يتركَّز على فرض الشريعة الإسلامية في المخيَّمات الفلسطينية ومحاربة إسرائيل(17).

 

لكن شاكر العبسي نفى وجود أي علاقة بين "فتح الإسلام" و"القاعدة"، ولكنه وافق على أن هدف التنظيم الأساسي "هو محاربة الكفار"، وقد نشر هذا الكلام في بعض المواقع التي تستعملها عادةً "القاعدة" على الانترنت(18)، وذلك رداً على التقارير التي اتهمت سوريا باستعمال تنظيم "فتح الإسلام" من أجل خلق حال من عدم الاستقرار والفلتان الأمني في لبنان. وقد صرَّح المندوب السوري لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري بأن "عدداً من أعضاء هذا التنظيم سجنوا في سوريا لثلاث أو أربع سنوات لعلاقتهم بتنظيم "القاعدة"، وبأنهم تركوا البلد بعد إطلاق سراحهم"، وأضاف الجعفري "سيكون مصير هؤلاء السجن في ما لو دخلوا سوريا ثانية. ولا يحارب هؤلاء من أجل القضية الفلسطينية، بل لحساب تنظيم القاعدة"(19).

وأصدرت الجامعة العربية في 23 أيار/مايو 2007 (بعد بدء الاشتباكات في نهر البارد) بياناً أدانت فيه بقوة الأعمال الإرهابية والإجرامية التي ينفذها التنظيم الإرهابي المعروف باسم "فتح الإسلام" مؤكدة أنه ليس هناك من رابط بين هذا التنظيم والقضية الفلسطينية أو الإسلام. وحمل ظهور الصحافي الأميركي سيمور هيرش على قناة CNN رواية مفاجئة تتناقض مع كل الروايات حول تنظيم "فتح الإسلام" وأهدافه حيث قال إنَّ هناك اتفاقاً بين نائب الرئيس الأميركي ونائب مستشار الأمن القومي الأميركي ايليوت أبرامز وبين مستشار الأمن القومي السعودي الأمير بندر بن سلطان بأن تقدم المملكة العربية السعودية سراً الدعم المالي اللازم لـ "فتح الإسلام" من أجل موازنة النفوذ مع حزب الله. وأضاف هيرش "عندما كنت في بيروت تحادثت مع بعض المسؤولين الذين اعترفوا بأن سياسة التسامح المتبعة مع المجموعات الجهادية المتطرفة، ينبع من الاعتقاد بأنهم يؤمنون قدراً من الحماية في مواجهة حزب الله"(20).

 

أما عن خطط "فتح الإسلام" فقد نقلت صحيفة Le Monde الفرنسية عن أحد المسؤولين في الأمم المتحدة أن ممثل منظمة التحرير في لبنان عباس زكي قال إن التنظيم يخطط لاغتيال 36 شخصية لبنانية معروفة بمواقفها ضد النظام السوري. وأوقفت الأجهزة الأمنية التابعة لفتح ستة أعضاء من "فتح الإسلام" بهذه التهمة أطلقت لاحقاً أربعة منهم وسلمت اثنين إلى السلطات الأمنية أحدهما سوري والآخر سعودي(21).

واتهمت السلطات اللبنانية "فتح الإسلام" بتنفيذ الهجمة الإرهابية ضد باصين في عين علق في 13 شباط/فبراير 2007 والتي قتل فيها ثلاثة أشخاص وجرح أكثر من عشرين. وتمكَّنت قوى الأمن الداخلي من اعتقال أربعة مشتبه في ضلوعهم في هذه العملية. ونفت كل من الحكومة السورية و"فتح الإسلام" وجود أي تعاون بينهما(22). أما عن الهيكلية التنظيمية فقد أفاد مجمل المعلومات التي وفَّرتها وسائل الإعلام بأن التنظيم اعتمد مبدأ الإمارة، وبأن شاكر العبسي كان الأمير المبايع من قبل أعضاء التنظيم، وقد أقسموا جميعاً على الطاعة والنصرة له. ويأتي بعده "نائباه أبو مدين أو أبو مؤيد، وصهره أبو اللبن، ومن ثم يأتي مجلس القيادة المؤلف من: أبو هريرة (شهاب القدور)، أبو يزن، أبو سلمي (شاهين شاهين)، أبو سليم طه، أبو رياض، ومسؤول عن المقاتلين العرب طلحة السعودي، وهناك أيضاً هيئة شرعية مؤلفة من: أبو بكر (سوري)، أبو الحارث (سعودي)، وأبو السعيد (فلسطيني). ويقوم هؤلاء بترتيب المناهج الدينية وإصدار الفتاوى والأحكام، ليأتي بعدهم قادة المقاتلين(23)".

 

2- مسلسل الإرهاب والغدر

 

حدثت عملية سطو مسلح على فرع بنك المتوسط في أميون -  الكورة وفرّ الجناة بعد سرقة مبلغ مئة وخمسة وعشرين ألف دولار. استطاعت قوى الأمن الداخلي تحديد المكان الذي لجأ إليه السارقون وهو عبارة عن شقة في شارع المئتين في طرابلس، وشقة أخرى في الزاهرية، وقررت مهاجمة الشقتين المذكورتين ليل 19 أيار/مايو 2007. ولكنها فوجئت، بعد تطويقهما حوالى الساعة الواحدة صباحاً، بضراوة مقاومة المسلحين فيهما، ما حال دون تمكّنها من دخولهما. ويفيد مصدر عسكري رفيع المستوى بأن قيادة الجيش أو قيادة منطقة الشمال العسكرية لم تكونا على علم بعملية قوى الأمن الداخلي، وأن قوى الجيش في طرابلس قد استنفرت بعد بدء الاشتباكات فطوَّقت الشقتين مؤازرةً قوى الأمن في احتلالهما مع الساعات الأولى لصباح 20 أيار/مايو 2007. ولكن تبيَّن لاحقاً أن قوى الأمن لا تملك القدر الكافي من المعلومات عن عدد الإرهابيين داخل الشقتين حيث تبيَّن بعد انتهاء الاشتباك أن أحد عشر إرهابياً كانوا يحتلون الشقة في شارع المئتين، وثمانية إرهابيين يحتلُّون الشقة في الزاهرية، وجميعهم من تنظيم "فتح الإسلام".

 

فاجأت سيارة يستقلها مسلَّحون من "فتح الإسلام" مركزاً للجيش قرب الملعب البلدي في طرابلس وأطلقت عليه النار، فرد المركز على النار، ونتج عن الاشتباك استشهاد جنديين وقتل ثلاثة إرهابيين واعتقال اثنين آخرين (24).

إتصل من مخيم نهر البارد المدعو "أبو هريرة" طالباً فك الطوق عن الشقتين، وإذا لم يستجب لطلبه فإن "فتح الإسلام" سيرسل مقاتلين من المخيم لفك الطوق. وكانت هذه التهديدات للقوى الأمنية قد أبلغت إلى رئيس تنظيم سلفي في طرابلس يبدو أن "أبا هريرة" كان على تواصل معه(25). وتكرَّرت الاتصالات من دون أن تثمر عن أي نتائج لجهة فك الطوق.

واستمرت الاشتباكات بين الإرهابيين في الشقتين وقوى الجيش والأمن الداخلي ثلاثة أيام انتهت في 23 أيار/مايو حين خرج آخر مسلح من "فتح الإسلام" وفجر نفسه عند مدخل المبنى في طريق المئتين.

 

3- الوضع العسكري في المخيم

أقام الجيش موقعين عسكريين على مقربة من مخيم نهر البارد في بحنِّين والعبده قبل دخول "فتح الإسلام" إلى المخيم المذكور وذلك كجزء من خطة انتشاره الأمني في منطقة المنية وعكار. وعلى أثر اعتقال مقاتلين من "فتح الإسلام" من قبل المخابرات واتهامهما بالإعداد لعمليات اغتيال، قرر شاكر العبسي إقامة ثلاثة مراكز عسكرية جديدة في مواجهة مواقع الجيش. وهذه المراكز هي: الأول جسر نهر البارد جنوب المخيم، والثاني قرب العبده، والثالث قرب مفرق المحمّرة. كما احتلَّت منظمة فتح موقعاً جديداً جنوب النهر.

قامت مديرية المخابرات في الجيش باتصالات سياسية مع مختلف القيادات الفلسطينية من أجل إقناع شاكر العبسي بإخلاء المراكز العسكرية المستحدثة. ولم تؤدِّ هذه الجهود الدبلوماسية إلى أي نتائج. وهكذا أمام تعنُّت قيادة "فتح الإسلام" ورفض الانسحاب، قرَّرت قيادة الجيش تكثيف الدوريات حول المخيم، وإقامة مركز عسكري قوي في المحمّرة.

على أثر تفجير الباصين في عين علق واتهام "فتح الإسلام" بتنفيذهما كثّف الجيش الضغط على التنظيم من خلال تعزيز انتشاره حول المخيم وفق الترتيب الآتي: سرية مشاة من العبده إلى الجسر على الطريق الرئيس، وسرية ثانية معزَّزة بفصيلة دبابات على تلة بحنين المشرفة على المخيم. ويمكن إيجاز انتشار لواء المشاة الخامس بتكليف لفيف تكتي الانتشار حول المخيم، ولفيف تكتي لتنفيذ دوريات من دير عمار إلى الحدود اللبنانية – السورية وصولاً إلى وادي خالد، ولفيف تكتي ثالث ينتشر في مراكز ثابتة على الحدود اللبنانية – السورية لمنع تهريب الأسلحة وتسلل إرهابيين ومخربين إلى داخل لبنان.

شعر "فتح الإسلام" بتضييق الخناق عليه فبدأ بحملة تحريض ضد الجيش متهماً المراكز بتفتيش النسوة وبالتضييق على السكان في محاولة لاستثارة مشاعر سكان المخيم ضد الجيش تمهيداً للمطالبة بتخفيف الطوق حول المخيم.

 

شعرت قيادة الجيش بخطورة الوضع القائم في نهر البارد وذلك على ضوء ما توصَّلت إليه التحقيقات مع الموقوفين من "فتح الإسلام" في قضية التفجير في عين علق. كما شعرت بضرورة إعداد خطة للهجوم على مراكز هذا التنظيم واستئصالها، فأصدرت الأوامر لقيادات ثلاثة أفواج من النخبة (المغاوير ومغاوير البحر والمجوقل) لاستطلاع المخيم ومحيطه.

في أوائل شهر أيار/مايو 2007 هدد التنظيم بالقيام بعمليات انتحارية إذا أصر الجيش على تدابيره المشدَّدة عند مداخل المخيم وحوله. طلبت قيادة الجيش من اللواء الخامس المنتشر حول المخيم تعزيز مراكزه وتحصينها، ووضع خطة مدافعة واضحة عنها، وأنذر "فتح الإسلام" بضرورة سحب مواقعه المستحدثة في مواجهة مواقع الجيش، وإذا لم يفعل فالجيش سيهاجمها ويقتلعها من جذورها. ولكن قيادة الإرهابيين لم تستجب لهذا الإنذار.

في ظل هذا التصعيد الذي بدأ في أوائل شهر أيار قرَّر قائد الجيش العماد ميشال سليمان الإعداد لتنفيذ الإنذار وشن عملية لاقتلاع "فتح الإسلام" من مواقعه التي تشرف على مراكز الجيش وعلى الطريق الرئيس، وطلبت مديرية العمليات أن تجري أفواج النخبة التي ستكلَّف هذا الهجوم عمليات استطلاع على مستوى السرايا والفصائل والحضائر. وكُلِّفت مديرية المخابرات إجراء الاتصالات اللازمة لتأمين التغطية السياسية على المستوى الداخلي والعربي والإقليمي، مع التركيز على تأمين أكبر دعم لبناني ممكن للعملية تفادياً لتكرار ما حدث العام 1973 عندما أجبر الجيش على وقف هجومه على المنظمات الفلسطينية في بيروت. 

كان تنظيم "فتح الإسلام" قد أحكم سيطرته العسكرية على مخيم نهر البارد، ما دفع "منظمة فتح" إلى الانسحاب من وسط المخيم والتمركز جنوب النهر. فلم يجد التنظيم المذكور عندئذ أي صعوبة في السيطرة على المخيم بعد انقضاضه على "فتح الانتفاضة" التي كانت تسيطر على هذا المخيم منذ العام 1983، عندما هاجمت القوات السورية قوات منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات وطردتها إلى خارج لبنان. وقد استسلم المخيم لأنصار سوريا الذين أطلقوا على حركتهم اسم "فتح الانتفاضة" بقيادة أبو موسى ومساعده أبو خالد العملة. بعد الانسحاب العسكري السوري من لبنان في نيسان/أبريل 2005، بقيت السلطة اللبنانية غائبة عن ما يجري في المخيمات الفلسطينية، وبدا في مطلع أيار/مايو 2007 أن مخيم نهر البارد سيتحوَّل إلى وضع من الفلتان الأمني على غرار ما هو عليه الوضع في مخيم عين الحلوة.

 

4- العملية الغادرة ضد مواقع الجيش

يؤكد مصدر عسكري رفيع أن الجيش لم يكن على اطلاع بتحرك قوى الأمن الداخلي في طرابلس من أجل تطويق الشقتين في شارع المئتين والزاهرية في الساعات الأولى من صباح 20 أيار/مايو، وأن قوى الجيش المنتشرة في مدينة طرابلس قد استنفرت بعد سماعها تبادل النيران بين قوى الأمن والإرهابيين الذي بدأ في الساعة الثالثة وخمسين دقيقة، وتلا ذلك اشتباك بين أحد مراكز الجيش قرب الملعب البلدي مع زمرة من الإرهابيين أسفر عن استشهاد جنديين من اللواء السابع، ومقتل ثلاثة واعتقال اثنين من إرهابيي "فتح الإسلام".

أفادت قيادة اللواء الخامس المتمركزة في مطار القليعات أن مراكز اللواء المنتشرة حول مخيم نهر البارد تتعرَّض لهجوم مركَّز من قبل مسلحين بدءًا من الساعة الرابعة من صباح 20 أيار/مايو. فور تلقي هذا الاتصال أمرت مديرية العمليات في قيادة الجيش بشخص مدير العمليات العميد الركن فرنسوا الحاج بإنذار عدة وحدات عسكرية، والتحضُّر للانتقال إلى منطقة الشمال، كما طلبت من اللواء الخامس التمسك بتلة بحنين والمحمّرة، ولكن تبيَّن أن الإرهابيين قد نجحوا في الاستيلاء على المراكز العسكرية من العبده إلى المحمرة وفرضوا سيطرتهم على طول الطريق بين هذين الموقعين.

شعرت قيادة الجيش بخطورة الموقف فأمرت قيادة اللواء الخامس باستعمال نيران الدبابات ورمايات المدفعية من عيار 155 ملم لحماية ما تبقَّى من مراكز، وذلك بعد أن اتصلت برئيس الحكومة فؤاد السنيورة وأطلعته على الوضع، وبلَّغته أنها تستعد لاستعمال نيران الأسلحة الثقيلة ضد الإرهابيين، وكان ردّ رئيس الحكومة إيجابياً تاركاً القرار لقيادة الجيش للقيام بكل ما يلزم لاستعادة المواقع العسكرية.

صمد موقع الجيش في العبده، كما صمد الموقع في تلة بحنين، فيما سقطت خمسة مراكز ومن بينها المركز القائم عند مدخل المحمّرة، كما سيطر الإرهابيون على طول الطريق العام. تكبَّد الجيش بنتيجة هذا الهجوم الغادر والمفاجئ 27 شهيداً. ويبدو أن "فتح الإسلام" قد خطَّط لمفاجأة الجيش ليس في نهر البارد وحسب بل في مدينة طرابلس كما سبق وأشرنا قرب الملعب البلدي، وأيضاً في المنطقة بين دير البلمند والقلمون حيث تعرضت دورية من اللواء السابع لنيران كمين نصبه الإرهابيون سقط بنتيجته خمسة شهداء للجيش، وهكذا بلغت الخسائر بالأرواح 34 شهيداً.

 

ثالثا": حشد القوى والإعداد للهجوم

بعد إنذار القوى العسكرية، أمرتها قيادة الجيش بالتحرك نحو منطقة مخيم نهر البارد، وقد شكَّل طليعتها فوج المغاوير تبعه رتل ثانٍ مشكّل من فوج التدخل الثالث. في هذا الوقت تحرَّكت كتيبة من اللواء الثاني باتجاه كسروان وجبيل للانتشار من أجل تحرير فوج مغاوير البحر المنتشر في هذه المنطقة.

وأصدرت القيادة أمراً للواء السابع للانتقال على محورين عبر قضاء زغرتا وطريق بيروت - طرابلس من أجل تطويق مخيم البداوي. واستنفر إلى جانب القوى البرية بعض القطع البحرية التي أمرت بالإبحار نحو مخيم نهر البارد للمشاركة في العمليات ضد إرهابيي "فتح الإسلام". شنّ فوج المغاوير عند وصوله إلى تخوم المخيم هجوماً صاعقاً حيث نجح في استعادة كل المراكز والسيطرة على الطريق العام، واستطاع اللواء الخامس في ساعات النهار استعادة تلة المحمّرة. في هذا الوقت كانت الزوارق البحرية قد اشتبكت مع المسلحين ضمن مناورة تهدف إلى تخفيف مقاومة الإرهابيين في مواجهة القوى البرية المهاجمة، وإرباك قيادة "فتح الإسلام" بإجبارها على القتال في الاتجاهات كلها. وانتهت عملية استعادة المراكز العسكرية والسيطرة على الخط الرئيس الساعة الثالثة من بعد ظهر 20 أيار/مايو.

استكمل حشد القوى بإرسال الفوج المجوقل من بيروت في وقت لاحق، كما تحرَّك فوج مغاوير البحر باتجاه المخيم بعد تحريره من مهماته في كسروان وجبيل.

استكمل هذا الحشد العسكري تحضيراً للمعركة الحاسمة في الأيام اللاحقة حيث انضمت إلى وحدات النخبة حول المخيم وحدات من عدة ألوية مشاة ومن فوجي المدرعات الأول والثاني ومن فوجي المدفعية الأول والثاني ومن فوج الهندسة وفوج الأشغال المستقل، بالإضافة إلى وحدات الدعم. واستكملت عملية تطويق المخيم في نهاية نهار 20 أيار/مايو، وبدأ الإعداد للمعركة الفعلية والحاسمة.

 

أ- تحليل المهمة والإعداد للمعركة

في مواجهة الاعتداء الغاشم والخسائر الفادحة بالأرواح في صفوف العسكريين، لم يكن أمام قيادة الجيش من خيار سوى الدخول في معركة حاسمة لتصفية تنظيم "فتح الإسلام" في مخيم نهر البارد، وإطلاق خطة بحث وتحرٍ لكشف الخلايا الإرهابية وتدميرها أينما وجدت.

انطلاقاً من قرار مجلس الوزراء المرن والحازم في الوقت نفسه، والذي أعطى قيادة الجيش الحرية المطلقة في تحديد أطر تصفية التنظيم الإرهابي وطرائقها وأساليبها ووسائلها، كان من الواضح أن القيادة العسكرية شعرت بخطورة المهمة ودقتها، كما ساورتها هواجس عديدة حول ما يمكن أن ينتج من تساقطات ضارة ومخاطر جديدة قد تتسبَّب بخلق حالة من الارتباك الوطني الذي سيؤثر حتماً على سير العملية العسكرية في نهر البارد، وعلى فعالية الجيش في تنفيذ مهامه الأمنية الأخرى: في الجنوب، وعلى الحدود مع سوريا، وفي داخل بيروت.

كان لا بد للقيادة من إجراء دراسة تقويمية على المستويين السياسي والعسكري، يجري من خلالها تحديد الأهداف التي سعى تنظيم "فتح الإسلام" إلى تحقيقها من خلال شن هذا الهجوم الغادر والمفاجئ ضد مراكز الجيش. وبدا في بداية الأمر أن الهدف من هذه المؤامرة التي حيكت بإتقان يتركَّز على استدراج الجيش إلى معركة واسعة ومتشعِّبة بحيث لا تقتصر المواجهات على مخيم نهر البارد بل تتعدَّاه لتشمل مخيَّمات فلسطينية أخرى بما فيها مخيم عين الحلوة حيث يوجد أكثر من تنظيم أصولي.

وكان السؤال الحرج بالنسبة إلى القيادتين السياسية والعسكرية يتركَّز حول ما يمكن أن يكون عليه موقف القيادات والفصائل الفلسطينية تجاه تنظيم "فتح الإسلام"؟ وما هي ردود الفعل المرتقبة على إطلاق الجيش عملية عسكرية واسعة قد تستدعي إخلاء سكان مخيم نهر البارد جميعهم؟

كان لا بدَّ، في هذه الحالة من الشك والغموض، من إجراء دراسة تحليلية تأخذ بالاعتبار الاحتمالات كلها، وخصوصاً (الاحتمال الأخطر) أن تكون هناك خطة محضرة يشارك فيها أفرقاء داخليون وخارجيون لاستدراج الجيش إلى سلسلة من المعارك تستدعي مواجهتها سحب أكبر عدد من الوحدات العسكرية من مواقع انتشارها في الجنوب وعلى الحدود اللبنانية – السورية ومن العاصمة بيروت.

 

جرت المناقشات لتقويم الوضع كلها بين القيادتين السياسية والعسكرية بسرعة وسرية تامة، ما أفسح لمجلس الوزراء اتخاذ القرار بتفويض إلى قيادة الجيش القيام بالتدابير والخطوات اللازمة كلها للقضاء على "فتح الإسلام". وفسّر المراقبون من أصحاب النوايا الحسنة قرار مجلس الوزراء بأنه يعبّر عن ثقة مجلس الوزراء بقيادة الجيش كما يعبر عن تقديره لدقة المهمة الملقاة على عاتق الجيش وصعوبتها، مع الأخذ بالاعتبار النقص الكبير في التجهيزات والمعدات والذخائر اللازمة لإنجاح هذه المهمة. وحاول بعض الفئات السلفية من فلسطينية ولبنانية التي كانت لا تريد تصفية "فتح الإسلام" التشكيك في "حرية العمل" التي أعطيت لقيادة الجيش فوجدت فيها فرصة لدك إسفين في وحدة الموقف بين القيادتين من خلال التشكيك في نوايا مجلس الوزراء واتهامه بالتهرُّب من المسؤولية، وتحميله المسؤولية لقيادة الجيش على أساس أن النجاح في المعركة غير مضمون. وذهب بعض الصحف ووسائل الإعلام المرئي إلى حد الترويج لمؤامرة تستهدف الجيش من خلال دفعه إلى "كمين" يهدد وحدته. لقد وقع بعض أطراف المعارضة في سوء التقدير عندما اعتقد ورّوج لإمكان معالجة الجريمة التي ارتكبتها "فتح الإسلام" ضد الجيش حول مخيَّم نهر البارد وطرابلس ومنطقة البلمند – القلمون عن طريق عملية تفاوضية مع "فتح الإسلام" أو مع القيادات الفلسطينية الأخرى. شكَّلت العمليات ضد الجيش خرقاً كبيراً للأمن الوطني، واعتداءً على أمن الجيش وهيبته ومعنوياته. وسيترك البحث عن حل خارج إطار الحسم العسكري آثاراً سلبية داخل المؤسسة العسكرية، كما سيؤثر على موقع الجيش وعلاقاته بالشعب اللبناني. كان يمكن أن يؤدي البحث عن حل سياسي للجريمة الكبرى إلى إسقاط الجيش في دوره الوطني، وإلى تفشيله في تنفيذ مهماته في الجنوب وعلى الحدود السورية، وفي دوره الأمني وخصوصاً في العاصمة.

 

سارعت القيادات الفلسطينية الممثلة لمنظمة التحرير وفتح وحماس إلى تدارس الوضع مع الحكومة بحثاً عن مخارج من أجل تجاوز حصول معركة عسكرية في مخيم نهر البارد يمكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية بسبب اكتظاظه بالسكان. لكن هذه الاتصالات لم تؤدِّ إلى أي نتائج إيجابية: واجهت كل من الحكومة وقيادة الجيش هذه المحاولات لتجنُّب عملية اقتحام المخيم لتصفية "فتح الإسلام" بموقف صارم، كما تجاهلتا كل النصائح والتحذيرات من مغبَّة دخول المخيم بالإصرار على اقتلاع التنظيم الإرهابي وتدمير الخلايا الإرهابية أينما وجدت، مع التأكيد على قيام الجيش بمهمته الوطنية الكبرى في حماية الاستقرار والسلم الأهلي وفرض سلطة القانون.

لم يغب عن تقويم قيادة الجيش صعوبة المهمة من الناحيتين العملانية والتكتية وذلك انطلاقاً من تحليلها للظروف العامة في البلاد والبيئة الخاصة بالمخيم، وأن تأخذ بالاعتبار العقبات والالزامات الآتية:

 

أولاً: كان على قيادة الجيش أن تدرس بعناية فائقة الأمور الآتية:

أ - ردود الفعل الفلسطينية واللبنانية والعربية تجاه إطلاق الجيش عملية اقتحام لمخيم نهر البارد الذي يعتبر أكبر ثاني مخيم للاجئين في لبنان.

ب - تداعيات المعركة على الصعيد السياسي الداخلي خصوصاً أن البلد يواجه أزمة سياسية حادة.

ج - ما يمكن أن يقوم به بعض الفئات الفلسطينية من ردود فعل على اقتحام المخيم على ضوء التحذيرات التي صدرت عن الجبهة الشعبية – القيادة العامة، ومنظمة حماس، وبعض التنظيمات الإسلامية الفلسطينية الموجودة في مخيم عين الحلوة.

وكان من الطبيعي أن تشكِّل هذه الخلفية الرافضة عملية اقتحام المخيم مصدراً للعديد من الهواجس الأمنية لدى قيادة الجيش فتستعد بالتالي لمواجهة اهتزازات أمنية في المخيَّمات الأخرى وخصوصاً في مخيم عين الحلوة، وفي مناطق البقاع الغربي والأوسط حيث توجد عدة قواعد فلسطينية.

 

ثانياً: يتمركز تنظيم "فتح الإسلام" في عمق المخيم، ويستطيع أن يفيد في معركته من التحصينات والملاجئ ومخازن الأسلحة والذخيرة كلها، ومن التجهيزات الخدماتية والمؤن المتوافرة في المحلات التجارية من أجل خوض معركة طويلة قد تستمرُّ عدة أشهر.

 

ثالثاً: يشكِّل المخيم مدينة متوسطة ومكتظَّة، حيث يبلغ عدد سكانه وفق التقديرات الأولية ما يقارب 35 ألف نسمة. وهو قلعة حصينة حيث صرفت منظمة التحرير أموالاً طائلة على تحصينه وبناء غرف عمليات وملاجئ وأقبية خلال فترة السبعينيات والثمانينيات. ولا تسمح كثافة البناء وضيق الشوارع والأزقة، التي يراوح عرضها ما بين متر و80 سنتيمتراً باستعمال الآليات، ولا تؤمن حقول الرمي اللازمة لاستعمال نيران الأسلحة الثقيلة المباشرة وخصوصاً نيران الدبابات.

يمكن للإرهابيين الإفادة من طوق المباني العالية التي جرى تشييدها حول المخيم القديم (وهي تعرف بالمخيَّم الجديد) كمرابض مثالية للقنص على وحدات الجيش، وللتحكُّم بكل محاور التقدم باتجاه قلب المخيم من خلال احتلالها، والتي تشكل أيضاً درعاً واقية للمخيم القديم ضد نيران الدبابات والمدفعية المباشرة البعيدة المدى.

 

رابعاً: كان على قيادة الجيش أن تجرى تقويماً أمنياًً للمخاطر المترتبة على وجود خلايا من "فتح الإسلام" أو من تنظيمات أصولية في مناطق أخرى، وبالتالي يحتاط لقيام هذه الخلايا بعمليات تفجير أو نصب كمائن على الطرقات العامة للإيقاع بسالكيها من العسكريين والمدنيين. ويتطَّلب استدراك هذه المخاطر وجود قاعدة معلوماتية واسعة ودقيقة حول مواقع انتشار هذه الخلايا في مختلف المناطق وعلى تخوم المخيمات الفلسطينية أو في داخلها، وكشف هوية المنتسبين إليها، ووضع خطة لمكافحة نشاطها الإرهابي ودهم أوكارها واعتقال المشبوهين بالتعامل معها كلهم.

في الواقع ظهر جلياً أن هذه المعلومات الدقيقة عن انتشار هذه الخلايا لم تكن متوافرة، وقد تجلَّى ذلك من خلال عدم امتلاك الأجهزة الأمنية معلومات محققة ودقيقة عن عدد عناصر "فتح الإسلام" وهوياتهم داخل مخيم نهر البارد.

 

خامساً: شعرت قيادة الجيش بحجم المسؤولية الوطنية والتاريخية الملقاة على عاتقها، وبأنه لا بدَّ لها أن تحسم هذه المعركة لصالحها وبالسرعة الممكنة. وكان مصدر الاطمئنان الوحيد يتمثَّل بالدعم الشعبي الواسع للجيش ولقيادته، واستنكار عملية الغدر، والمطالبة الملحَّة بتصفية تنظيم "فتح الإسلام". وأدركت القيادة أن عيون العالم ستكون مسلطة على مجريات عملية اقتحام المخيم وعلى أداء الجيش الميداني، وسيرتبط مدى دعم الدول الصديقة بتقويم الأداء العملاني للجيش، وصلابة القرار السياسي في مواجهة هذا التحدي الإرهابي. وعلى قدرة الجيش على حسم هذه المعركة سيتقرَّر مدى طاقة الحكومة والأكثرية النيابية على الصمود في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرَّض لها لبنان، وأي تراجع أو تقاعس في تنفيذ المهمة بنجاح سيؤدي إلى انهيار الحكومة وبالتالي دفع الأمور إلى حالة من الفوضى الأمنية والسياسية.

إنطلاقاً من هذا التحليل للمهمة ومتطلباتها، والتأكيد على ضرورة نجاح آخر خطوة فيها، كان على قيادة الجيش أن تدرس وتستدرك الوسائل والتجهيزات والأسلحة والذخائر اللازمة كلها لإنجاح المهمة وفق الخطة المعتمدة. كما كان عليها أن تدرس مختلفة الخيارات المتاحة ونسق القتال الهجومي الذي ستتبعه للقضاء على "فتح الإسلام". ومن ناحية ثانية، كان لا بدَّ من توثيق التعاون بين الحكومة وقيادة الجيش من أجل توظيف العلاقات السياسية والديبلوماسية والعسكرية كلها مع بعض الدول العربية والصديقة من أجل الحصول على الدعم اللوجستي اللازم لإنجاح المهمة، ومنها تأمين الذخائر والمعدات الخاصة التي تتطلَّبها المعركة. ويبدو جلياً أن قيادة الجيش قد نجحت في استدراك معظم الحاجات باستثناء حصولها على دعم جوي فاعل للعملية، والذي كان يمكن أن يؤدي دوراً أساسياً في دك الحصون والملاجئ التي احتمى فيها إرهابيو "فتح الإسلام".

كان على قيادة الجيش كذلك أن تدرس عملية إخلاء المخيم من سكانه المدنيين قبل إطلاق الهجوم لاستئصال "فتح الإسلام" آخذة بالاعتبار الموقف السياسي العام، وأيضاً المحاولات الفلسطينية لإيجاد مخارج تحول دون دخول الجيش إلى المخيم. وكان عليها أن تنهي التنظيم الإرهابي ضمن مهلة زمنية معقولة، وبالتالي استعادة المبادرة بالسرعة اللازمة تمهيداً لمعاودة الجيش مهماته الأساسية في الجنوب وعلى الحدود السورية وفي الداخل.

ورأى الخبراء والمحلِّلون العسكريون أن قيادة الجيش قد عملت باحتراف عالٍ، وقد برهنت عن فهم عميق للأبعاد السياسية للمهمة. كما كان الأداء الميداني للوحدات المشاركة في العملية محل تقدير وإعجاب من قبل المراقبين الأجانب، فأشادت وسائل الإعلام الغربية بمهنية الجيش وقدراته على شن عملية هجومية في أصعب الظروف، حيث يمكن اعتبار المهمة الهجومية التي قام بها من أدق مهمات القتال في الأماكن الآهلة، ويوازي أداؤه هذه المهمة ما واجهته القوات الأميركية في أثناء اقتحامها لمدينة الفلوجة بحثاً عن أبي مصعب الزرقاوي وفلول القاعدة التي حاولت جعل المدينة معقلاً أساسياً لعملياتها. ولا بد في هذا المجال من الأخذ بالاعتبار الفوارق بين ما تملكه قوات المارينز وما يملكه الجيش اللبناني من وسائل ومن نيران لدعم الهجوم، بالإضافة إلى الدور الحاسم الذي اضطلعت به القوة الجوية في الفلوجة في حين لا يملك لبنان أي طائرة قادرة على الطيران.

 

2- الاستعداد للهجوم

بعد استعادة المراكز العسكرية كلها التي كان قد اقتحمها الإرهابيون في الساعات الأولى ليوم 20 أيار/مايو وسيطرة اللواء الخامس وفوج المغاوير على الوضع، بدأت قيادة الجيش بحشد وحدات النخبة حول المخيم استعداداً للمعركة الفاصلة، حيث استحضرت الفوج المجوقل من بيروت، وفوج مغاوير البحر من قضاء جبيل، وأنشأت غرفة عمليات متقدِّمة في منطقة الشمال.

طوّق الجيش المخيم من الجهات كلها وفق الترتيب الآتي:

انتشر الفوج المجوقل من خان العبده إلى أول الطريق العام (القديم) بينما انتشر فوج المغاوير في الجهة الشرقية أي من الطريق العام (القديم) إلى مدخل بلدة المحمّرة، وانتشر فوج مغاوير البحر من مدخل المحمّرة حتى مجرى نهر البارد. وانتشر اللواء الخامس في الجهة الجنوبية من المخيم حيث أقام قاعدة نيران للأسلحة الثقيلة المباشرة على تلة بحنين التي تتحكَّم بالمخيم. كما استقدمت في وقت لاحق بعض الوحدات من ألوية أخرى...، وقامت زوارق البحرية بتطويقه من البحر(راجع الخريطة في الملحق الرقم 2).

بدأت هذه القوى بالتعامل مع المراكز المتقدمة للإرهابيين بانتظار اعتماد خطة من قبل قيادة الجيش لإسقاط المخيم وتنظيفه من أعشاش الإرهابيين من "فتح الإسلام" وغيرهم من المسلحين الذين انضموا إليهم. وبعد إحكام سيطرتها بالنار على جميع مداخل المخيم وأحيائه، بدأت الإعداد لخطة هجومية. وكان أمام قيادة الجيش ثلاثة خيارات لحسم المعركة:

- الخيار الأول: تنفيذ عملية اقتحام سريع وعلى ثلاثة محاور تنفذها وحدات النخبة من أجل تطهير المخيم من الإرهابيين، وتنظيفه من الأسلحة والمتفجرات التي جرى تكديسها في داخله في العقود الماضية. كان يمكن لقيادة الجيش أن تعتمد مثل هذا الهجوم السريع، لكن قد تترتَّب عليه خسائر فادحة بالعتاد والأرواح، إذ يمكن أن يسقط ما بين 400 و500 شهيداً، بالإضافة إلى ضعف هذا العدد من الجرحى.

 

- الخيار الثاني: تشديد الطوق حول المخيم، وفرض حصار كامل عليه، والعمل تدريجاً على تفريغه من السكان تمهيداً لاعتماد حرب حصار طويلة، مع عمليات استنزاف لكل القدرات العسكرية لتنظيم "فتح الإسلام". من المؤكد أن اعتماد هذا الخيار يخفف من الإصابات في صفوف الوحدات العسكرية، ولكن قد يستغرق الحصار لإسقاط المخيم واستسلام الإرهابيين من 10 إلى 12 شهراً. لم يكن بإمكان القيادة العسكرية اعتماد هذا الخيار البطيء في حسم المعركة وذلك لأسباب عديدة أبرزها:

1- ضرورة استعادة المبادرة ضمن مهلة زمنية معقولة من أجل الحفاظ على معنويات الجيش (والسبب يعود إلى الخسائر الفادحة بالأرواح  من جراء عملية الغدر)، ومكانة المؤسسة العسكرية تجاه الشعب الذي يتوقَّع أن يثأر الجيش من الإرهابيين. كان لا بد من تصحيح الاختلال المعنوي على مستوى الجيش والمواطنين، واستيعاب الصدمة وآثارها. 

2- ضرورة الانتهاء من المهمة ضمن مهلة زمنية معقولة بحيث يجري تحرير قسم كبير من القوى المشاركة في العملية وإعادتها إلى مهماتها الأساسية في الجنوب أو على الحدود السورية أو في الداخل.

3- حاجة الجيش إلى الانتصار في معركة قاسية وبالتالي إثبات قدراته القتالية على الرغم من ضعف التجهيزات والقدرات النارية، وشح الذخائر من جميع الأصناف. كان هناك اعتقاد راسخ لدى بعض القوى السياسية، وأيضاً لدى قوى الأمن الداخلي، أن "فتح الإسلام" قد دفعت إلى لبنان عبر الحدود السورية من أجل العمل على تفجير الوضع الأمني، وأن الانتصار عليها يعني إسقاط هذه "المؤامرة" ضد الحكومة والأمن الوطني.

 

- الخيار الثالث: تنفيذ عملية هجومية على مراحل، وذلك بالتقدم ببطء وحذر للسيطرة على المخيم تدريجاً، وذلك بدءاً من الأحياء المحيطة بالمخيم القديم (والتي تعرف بالمخيم الجديد) كمرحلة أولى، ثم تضييق الطوق العسكري حول المخيم القديم، ودكُّه بنيران ثقيلة وكثيفة من أجل حصر الإرهابيين في منطقة محددة في مرحلة ثانية، ثم إطلاق عملية اقتحام سريعة وكاسحة في مرحلة ثالثة وأخيرة.

درست قيادة الجيش بتمعن هذه الخيارات كلها، فاستبعدت فوراً الخيار الأول وذلك لسببين: الأول، حجم الخسائر بالأرواح، والثاني، بسبب توقُّع سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف المدنيين داخل المخيم وجواره. واستبعدت أيضاً الخيار الثاني بسبب المهلة الزمنية الطويلة التي يتطلَّبها إسقاط المخيم من خلال الحصار، وإدراكها مفاعيل الضغوط السياسية والشعبية التي يمكن أن تمارس على الجيش من قبل الحكومة والشعب ومن قبل الفلسطينيين وبعض الدول العربية من أجل وقف العمليات.

وهكذا قررت قيادة الجيش اعتماد الخيار الثالث الذي أطلقت عليه اسم "تكتية القضم" أي تنفيذ عمليات هجومية صغيرة ومتكرِّرة بحيث تتقدَّم القوى المهاجمة نحو أهدافها بخطى ثابتة ومضمونة، مع حرصها على وقوع أقل قدر ممكن من الخسائر بالأرواح في صفوف الوحدات والمدنيين على حد سواء. واجهت القيادة المشكِّكين بالعملية العسكرية في مخيم نهر البارد بإعلان قرارها الحازم بعدم التراجع عن تصفية تنظيم "فتح الإسلام"، وبأن الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعنويات الجيش ودوره الوطني، وأنه من غير المسموح لأي سلطة أو فئة سياسية أن تشكك بالخطة العسكرية التي سيعتمدها الجيش من أجل تحقيق انتصار مبين على التنظيم الإرهابي. كما أنه لا يمكن أن تسمح القيادة لأحد أن يتلاعب بالأمن الوطني تحت أي ذريعة سياسية أو إنسانية. لقد كان هناك قناعة كاملة في ظل هذه التطورات الدراماتيكية التي افتعلتها "فتح الإسلام" بأن البلد يقف على مفترق خطير: إما أن يحقِّق الجيش انتصاراً على الإرهاب فيحفظ البلد ويحصّن الدولة، وإما أن يتراجع أمام الضغوط الخارجية والبازار السياسي الداخلي، فتسقط الدولة ويتفتت الجيش على غرار ما حدث العام 1976.

 

كان على قيادة الجيش أن تدرك، وهي تستعد للهجوم على "فتح الإسلام" أنها تخوض غمار حرب غير تقليدية، وأن تتنبَّه إلى خطورة حدوث عمليات إرهابية في مناطق عديدة، حيث بدا أن هناك نيّات مبيّتة لتعريض الجيش من خلال دفعه إلى اعتماد واحد من ثلاثة سيناريوهات شبه مستحيلة:

السيناريو الأول: دفع الجيش إلى تنفيذ قصف عشوائي للمخيم مستفيداً من قدراته النارية لوقف استمرار هجمات "فتح الإسلام" على مراكزه حول المخيم فتؤدي الضربات النارية إلى سقوط عدد كبير من الإصابات في صفوف المدنيين، فيتهم الجيش بارتكاب مجزرة ما يسهل استثارة مشاعر الفلسطينيين في المخيمات الأخرى وبالتالي توسيع الصدام المسلح بحيث لا يقتصر على مخيم نهر البارد بل يشمل المخيمات الأخرى في بيروت والجنوب.

السيناريو الثاني: دفع الجيش إلى المغامرة في دخول معركة سريعة وحاسمة تؤدي إلى استنزاف قدرات قوات النخبة المكلَّفة هذه المهمة (ضد تنظيم فتح الإسلام). وستؤدي هذه العملية "المتسرّعة" إلى إظهار الجيش بمظهر العاجز كمقدمة لإسقاطه معنوياً والتشكيك بدوره الوطني وبقدراته على الاضطلاع بمهماته الأخرى في الجنوب وعلى الحدود السورية وفي حفظ الأمن في الداخل.

السيناريو الثالث: خلق أجواء تشكيك سياسي بهدف خلق حالة من التردد في اتخاذ القرار العسكري الحاسم أي تمييع الوضعين السياسي والأمني من أجل تأخير العملية العسكرية. وسينتج عن حالة التردد في اتخاذ القرار حالة من الإحباط لدى اللبنانيين تنعكس بفقدان الثقة بالمؤسسة العسكرية وبدورها وقدرتها على تحقيق الأمن والسيادة.

كان هناك خشية حقيقية من أن يكون الجيش مستهدفاً في هذه المرحلة كمقدمة لإسقاط الدولة، وبأن "فتح الإسلام" ما هو سوى رأس جبل الجليد من مؤامرة تستهدف لبنان. لم تكن المخاطر مقتصرة على الصعوبات العملانية التي سيواجهها الجيش في هجومه بل تتعدَّى ذلك إلى ما يمكن أن يحصل من تداعيات سياسية قد تشكل إسفيناً في وحدة الجيش.

 

رابعاً: خطة الهجوم

1 – العمليات العسكرية

حقق الجيش بعد الصدمة الأولى صباح 20 أيار/مايو إنجازاً أمنياً من خلال السيطرة من جديد على المراكز العسكرية كلها، كما أحكم الطوق حول المخيم وبدأ بالتعامل مع مواقع الإرهابيين تحضيراً لبدء الهجوم من عدة محاور من أجل اقتلاع تنظيم "فتح الإسلام" من المواقع المتحصن فيها داخل المخيم القديم.

كان على الجيش أن ينتظر خروج السكان المدنيين قبل التعامل بنيرانه الثقيلة مع المسلَّحين، وبالفعل فقد غادر المخيم أكثر من ألفين من ساكنيه خلال يومين، ومن ثم أخذت عملية الإخلاء طابعاً تدريجياً بمعدل ألف شخص يومياً. واستغرقت هذه العملية ما يزيد عن عشرة أيام عمل الإرهابيون خلالها على نصب أكبر عدد من الفخاخ والأشراك في المخيم الجديد من أجل الإيقاع بالقوى المهاجمة وتكبيدها أعلى نسبة ممكنة من الخسائر بالأرواح. وبالفعل، فقد شكَّلت هذه الفخاخ عقبة كأداء أمام تقدم أفواج النخبة، وتبيَّن أن لدى التنظيم اختصاصيين محترفين بعمليات التفخيخ ونصب الإشراك.

قررت القيادة تكليف أفواج النخبة القيام بمهمة الهجوم على ثلاثة محاور من الشمال والشرق والجنوب الشرقي تساندها الدبابات ونيران المدفعية بنيرانها المباشرة وغير المباشرة، ويشارك اللواء الخامس في العمليات من جهة الجنوب، ويقيم قاعدة نيران على تلة بحنين. وشرح مدير العمليات في الجيش العميد الركن فرنسوا الحاج في مؤتمر صحافي عقد في وزارة الدفاع بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر 2007 بحضور وزير الدفاع ورئيس الأركان ومدير المخابرات مراحل عملية الهجوم وقد حدَّدها بست مراحل وفق الآتي:

أنشئ المخيم العام 1948 شمال مدينة طرابلس، وبلغت مساحته 14 كيلومتراً مربعاً، وهو يقع على امتداد الشاطئ شمال مصب نهر البارد. وأقامت الفصائل الفلسطينية في داخله تحصينات وملاجئ وأنفاق للحماية من الاعتداءات الإسرائيلية، كما خزّنت فيه كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر. لم تدخل قوات الأمن أو الجيش إلى هذا المخيم منذ أواخر الستينيات. بعد أن دخل شاكر العبسي إلى المخيم وبعد انقلابه على "فتح الانتفاضة"، ركَّز تنظيمه في مواقع محصنة وراح يستقدم مناصرين جدد من جنسيات عربية مختلفة حيث بلغ عددهم عند اندلاع الأحداث نحو 300 إرهابي. أخضع العبسي أتباعه لدورات عسكرية مكثَّفة داخل المخيم، كما عمد إلى تجميع كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر وبودرة الألمنيوم، التي كانت تهرَّب وقد استخدمت في تفجير العبوات الناسفة، وتصنيع المتفجرات، وقد ضبط الجيش كميات كبيرة منها داخل المخيم.

 

وعرض مدير العمليات العميد الركن الحاج الأحداث التي سبقت عملية المخيم، من سرقة فرع بنك المتوسط في أميون إلى الاشتباكات في طرابلس إلى جريمة الغدر ضد مراكز الجيش حول مخيم نهر البارد. وشرح بعد ذلك مراحل تنفيذ العملية خلال الفترة الممتدة من 20 أيار/مايو إلى 2 أيلول/سبتمبر 2007(26):

المرحلة الأولى: على أثر الاعتداء الغادر صباح 20 أيار/مايو الذي نتج عنه استشهاد ضابط و 27 عسكرياً وعدد من المدنيين صدرت الأوامر ورفعت جهوزية قوى الجيش، وبدأت عملية استرجاع المواقع العسكرية حول مخيم نهر البارد، وأنجزت المهمة صباح اليوم التالي بعد تعزيز الوحدات المنتشرة هناك، من أفواج الجيش الخاصة والقوات البحرية التي سدَّت القطاع البحري بكامله. في نهاية هذه المرحلة سيطر الجيش على خط سكة الحديد حتى مركز الخان في المخيم.

المرحلة الثانية: امتدت شهراً استمر خلالها الجيش بالتقدم نحو المخيم الجديد حيث احتل مركز صامد والنورس واستراحة الوحش والتعاونية ومحيط مجمع ناجي العلي السكني، ووصلت القوى إلى موقع الحلاّب وخط الغاز.

قام المسلحون خلال هذه الفترة بقصف الأماكن المدنية حول المخيم، كما هدَّدوا بالقيام بعمليات انتحارية بواسطة سيارات مفخَّخة ضد مراكز الجيش وأهداف مدنية ومراكز قوات الطوارئ الدولية في الجنوب. سيطر الجيش في نهاية هذه المرحلة على كامل المخيم الجديد، وضيَّق الطوق على المخيم القديم.

المرحلة الثالثة: استمرت هذه المرحلة مدة عشرة أيام حيث بدأت القوى بمهاجمة المخيم القديم من الجهة الشرقية، وفرضت سيطرتها الكاملة على هذه الجهة. وكانت المساعي التي قادها تجمع علماء فلسطين وغيرهم من أجل استسلام التنظيم قد فشلت خلال هذه المرحلة.

المرحلة الرابعة: امتدت من 25 تموز/يوليو ولغاية 6 آب/أغسطس حيث تابع الجيش مهاجمة الجزء الغربي من المخيم القديم، كما جرى تضييق الخناق من ثلاث جهات على الإرهابيين الذين، على الرغم من قساوة المعارك والخسائر التي وقعت في صفوفهم، رفضوا الاستسلام. وسيطرت القوى عملياً على خط الطريق القديم داخل المخيم.

المرحلة الخامسة: جرى تضييق الخناق، وتكثف القصف البري والجوي بواسطة الطوافات، وأخليت عائلات أفراد التنظيم وبلغ عددهم 22 امرأة و43 طفلاً. وكان قد جرى حصر الإرهابيين حول منطقة تعرف بملجأ أبو عمار. كما خرج مقاتلو منظمة فتح من المخيم. واتصفت هذه المرحلة بأنها مقدِّمة للحسم ولسقوط آخر معاقل الإرهابيين.

المرحلة السادسة: امتدت من 26 آب/أغسطس إلى الثاني من أيلول/سبتمبر، عمد فيها الجيش إلى تكثيف القصف الجوي بواسطة الطوافات لآخر معاقل الإرهابيين مع تشديد ضغط قوى الهجوم على هذه المعاقل لإسقاطها وإجبار من فيها على الاستسلام. ليل الثاني من أيلول/سبتمبر، وتحت تأثير الضغط الناري المتزايد، قام الإرهابيون بمحاولة يائسة للفرار ومهاجمة مواقع الجيش الذي تصدَّى لمحاولتهم موقعاً في صفوفهم 45 قتيلاً، و24 أسيراً.

ظهر جلياً في المرحلتين الثانية والثالثة أن عدد المسلحين المنتشرين يفوق العدد الفعلي لإرهابيي "فتح الإسلام" إذ قدّر عددهم بما بين 800 و1000 ما يؤشر أن بعض المسلحين أو الشبان من المخيم قد انضم إلى القتال مع التنظيم الإرهابي، ومن ثم انسحب تدريجاً.

ويمكن إضافة مرحلة سابعة على المراحل الست تركزت فيها أعمال الوحدات على تنظيف المخيم من الإرهابيين وتعقب الفارين منهم. وأشار العميد الركن الحاج إلى تزامن هذه المراحل مع أعمال التفجير والاغتيال في بيروت والمناطق بقصد إلهاء الجيش عن مهمته في مخيم نهر البارد وغيرها من المهمات. كما عدَّد أنواع الأسلحة التي استعملها التنظيم على الشكل الآتي: مختلف أنواع البنادق والرشاشات المتوسطة، وبنادق خاصة للقنص ومن عيارات مختلفة، بالإضافة إلى قاذفات آر بي جي وأسلحة مضادة للطائرات وصواريخ عيار 107 ملم وهواوين من عيار 82 و60 ملم. ورأى العميد الركن الحاج أن الضريبة كانت مرتفعة وغالية إذ بلغت 163 شهيداً منهم 13 ضابطاً، ومئات الجرحى تراوح جروحهم بين الطفيف والبليغ. وكان العدد الأكبر من الإصابات بسبب رصاص القنص ونصب الفخاخ. لكن وفق الجداول التي أمكن الحصول عليها فقد بلغ عدد الشهداء من العسكريين 168 عسكرياً. (يمكن مراجعة التفاصيل في الملحق الرقم 1 المرفق).

إضطلعت المدفعية المباشرة وغير المباشرة مع نيران مدافع الدبابات بدور أساسي في دعم القوى المهاجمة حيث شلّت عمل الإرهابيين ودمّرت المواقع الحصينة. وكان دور سلاح الهندسة أساسياً سواء لجهة فتح الطرقات والممرات أمام القوى المهاجمة، ولاسيما تفكيك الفخاخ والأشراك التي نصبها الإرهابيون، أو لجهة تحضير فخاخ للإيقاع بالإرهابيين في أثناء تسلُّلهم في الظلام لمفاجأة مواقع الجيش. كما ساهمت الجرَّافات في فتح الطرقات داخل المخيَّم وتوسيعها بحيث تسمح بتقدُّم الآليات والدبابات للمساندة في العمليات الهجومية على ْ المحاور داخل المخيم كلها.

 

2- دور القوات الجوية والبحرية

في البداية لم يكن للطوافات العسكرية من دور تؤديه سوى القيام بعمليات استطلاع فوق المخيم، وبعمليات إخلاء للإصابات الخطرة باتجاه مستشفيات بيروت. لكن دورها تطوَّر في مرحلة لاحقة لتشارك بقصف مراكز الإرهابيين وتدميرها.

قام سلاح الجو بمبادرة رائدة حيث جهَّز بعض الطوافات بمنصات خاصة لحمل وإطلاق قذيفتين تزن الواحدة 250 كلغ كانت مخصصة في الأصل لإطلاقها من الطائرات النفاثة (هوكر هنتر). وجرى في مرحلة لاحقة، بالتعاون بين القوات الجوية وفوج الهندسة، تطوير قنبلة تزن 400 كلغ رُكِّبت تحت بطن الطوافة بعد أن خضعت لتجارب في حقل رماية الطيبة. كما جُهِّزت طوافات الغازيل بالصواريخ الموجَّهة والتي استعملت لضرب مواقع الأسلحة الثقيلة وخصوصاً الرشاشات التي كانت ترمي على القطع البحرية أو على الطوافات نفسها. لكن لم يتم التركيز على استعمال صواريخ طوافات الغازيل بسبب ارتفاع ثمنها. واستعمل قصف الطوافات لتدمير المباني المحصَّنة والملاجئ. أما الزوارق البحرية فقد شاركت بالعمليات منذ صباح 20 أيار/مايو حيث نجحت في إقفال الشاطئ بفعالية. كما جهَّزت البحرية إمكاناتها كلها لتقديم الدعم اللازم كله للعملية البرية فنفَّذت بالفعل رمايات من أجل منع التسلل نحو الغرب، واستطاعت أن تعتقل كل الذين حاولوا الهرب عن طريق البحر، خصوصاً في آخر يوم من المعركة في 2 أيلول/سبتمبر.

 

3- القيادة والسيطرة والاتصال

على الرغم من الصدمة والمفاجأة التي وقعت صباح 20 أيار/مايو ضد مواقع اللواء الخامس عند مداخل المخيم فقد أظهرت القيادات جميعها عن فعالية وحكمة ما سمح للجيش باستعادة مواقعه خلال ساعات معدودة، كما استطاعت قيادة الجيش حشد القوى اللازمة بسرعة فائقة وتوجيهها نحو بقعة العمليات، كما اتخذت احتياطات لتثبيت الوضع العسكري والأمني حول المخيمات الفلسطينية كلها، وأنشأت بعد ثلاثة أيام من بدء الاشتباكات غرفة عمليات متقدِّمة في منطقة الشمال لقيادة العملية بكل تفاصيلها.

ظهرت فعالية القادة الميدانيين بشكل ملفت حيث عمل قادة الأفواج وضباطهم على قيادة عملياتهم وهم في الرعيل الأول للهجوم، وهذا ما تؤشر إليه الإصابات بين الضباط من مستوى قائد فوج إلى آمر فصيلة (14 ضابطاً سقطوا شهداء و 168 جريحاً).

ومما يؤشر على فعالية آلية القيادة والسيطرة، تماسك الجند تحت النار حيث لم تسجل في أفواج النخبة أي حالات فرار.

أما لجهة الاتصالات فقد تأمَّنت بشكل مرضٍ من خلال شبكة فارتكس، وشبكة الخلوي الرباعية والمقفلة التي يستعملها الجيش. ومن أجل تفعيل عملية السيطرة في الميدان أعدَّت عمليات الجيش خرائط وصوراً جوية مقسَّمة مربعات (25 x 25متراً) مع ترقيم الأبنية داخلها

 

4- اللوجستية

شكَّل المخيم قلعة حصينة احتمى في داخلها الإرهابيون، وكان من الطبيعي أن تتطلَّب المعركة معهم رمايات كثيفة من أسلحة المدفعية والدبابات والهواوين من مختلف العيارات. ولم يكن لدى الجيش وفرة في مخزون الأسلحة الثقيلة، وشعر بأن هناك نقصاً في ذخيرة الدبابات م 48 و ت 54 و55، بالإضافة إلى نقص في ذخيرة المدفعية من عيار 155 ملم، وأيضاً في ذخيرة الهواوين من عيار 82 و120 ملم.   

وتمكنت قيادة الجيش من خلال الاتصالات التي أجرتها من تأمين كميات الذخائر والمعدات الخاصة اللازمة للمعركة من عدة دول صديقة: السعودية ومصر والأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية. ولسد الحاجة الطارئة والملحة فقد نقلت هذه الذخائر والمعدات بواسطة جسر جوي إلى مطار بيروت. وهكذا استطاعت القوى المشاركة في الهجوم من الحفاظ على النسق نفسه من النيران حتى نهاية المعركة، فيما نفَّذت سوريا الاتفاقات المعقودة مع الجيش سابقاً(27).

وزوِّد الجند سترات واقية جديدة تعتبر من أفضل السترات في العالم، كما جُهِّزت الأفواج بمناظير للرؤية الليلية بمعدل 20 جهازاً لكل فوج، بالإضافة إلى كاميرات لكشف القنَّاصين وتوجيه النيران الدقيقة ضدهم.

 

5-الإخلاء الصحي

في موضوع الإخلاء الصحِّي أنشأت الطبابة العسكرية مركزاً متقدماً للإخلاء والمعالجة، حيث كان ينقل الجرحى إلى المستشفيات في عكار وطرابلس. أما الإصابات البليغة فكانت تنقل بالطوافات إلى مستشفيات بيروت ومنها مستشفى رزق ومستشفى الروم حيث يكون فريق من الجرَّاحين المتخصِّصين بانتظار الجريح مع معلومات كاملة عن نوعية الإصابة من خلال الشروحات عبر الهاتف التي يقدِّمها الطبيب العسكري في موقع الإخلاء المتقدم للمستشفى الذي تتوجه نحوه الإصابة.

 

6- الخسائر بالأرواح

بلغ عدد شهداء الجيش 168 شهيداً من بينهم 14 ضابطاً وهي نسبة عالية، وهذا ما يؤشر على أن الضباط كانوا في طليعة القوى المهاجمة ما يؤكد ثقتهم بالنفس وشعورهم بالمسؤولية، كما يؤشِّر إلى مهنيتهم العالية.

بلغ عدد الجرحى حوالى 2400 جريح من بينهم 1000 عسكري أصيبوا بجراح أكثر من مرة واحدة، أما عدد الإصابات البليغة فقد بلغ 200 إصابة. (راجع الجدول التفصيلي في الملحق الرقم 1).

وكان اللافت أن أهالي الشهداء تقبَّلوا الأمر بطيبة خاطر، واعتبروا أن المهمة في قتال الإرهابيين تستأهل مثل هذه التضحيات الكبيرة. كان يمكن تجنب عشرات الإصابات وعشرات الضحايا، لكن يبدو أن اندفاع العسكريين وحماسهم كأفراد أو كوحدات، شكَّلا السبب الرئيس في هذا الارتفاع بالخسائر. وقد استشهد عدد كبير برصاص القنص وعمليات التفخيخ الكبيرة التي لجأ إليها تنظيم "فتح الإسلام"، فعلى سبيل المثال استشهد 11 عسكرياً من الفوج المجوقل دفعة واحدة بسبب انهيار أحد الأبنية عليهم من جراء عملية تفخيخ البناء.

قدّرت مديرية العمليات خسائر الإرهابيين ومن ساعدهم من المنظمات الموجودة في المخيم بحوالى 600 قتيل. أما عدد الأسرى في المخيم فقد بلغ 41 أسيراً، وعدد الموقوفين لدى الجيش وقوى الأمن الداخلي 220 أسيراً.

لكن بعض الإرهابيين استطاع الهرب والتواري ومن بينهم رئيس التنظيم شاكر العبسي الذي سرت شائعات أنه بين القتلى، ولكن تبيَّن لاحقاً من خلال فحص الحمض النووي أن الجثة لا تعود لشاكر العبسي.

 

7-التدريب

أظهرت وحدات الجيش التي اشتركت في معركة مخيم نهر البارد جهوزية عالية سواء من خلال عملية الحشد أو من خلال الإداء الميداني. وكانت الروح المعنوية عالية، وأثبت الجيش مناعة وحدته وقوة تماسكه. وكان الأداء الميداني محط تقدير وإعجاب من قبل الخبراء ووسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية التي رافقت العملية بكل تفاصيلها بالصورة والصوت على مدار الساعة.

وراقبت قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب العملية العسكرية، وأبدت إعجابها بالمهنية العالية والفعالية والانضباطية التي تميَّزت بها الوحدات العسكرية وهي تخوض واحدة من أقسى المعارك وأصعبها في حرب معقدة وغير تقليدية ضد جماعات نذرت نفسها للقتال حتى الموت.

لكن لا بد من الاعتراف بوجود نقص في التدريب على استعمال الأسلحة الفردية والجماعية، وأيضاً في دقة النيران وتوجيهها نحو أهدافها. فالنقص في التدريب لم يقتصر على الرماية وعلى وحدات المشاة، بل لوحظ في التدريب لدى وحدات النخبة، وذلك بشهادة أحد القادة الذين أشرفوا على العملية.

يشكِّل المخيم بكثافة أبنيته وضيق طرقاته ومحدودية حقول الرماية بيئة صعبة وخطرة لأي قوة مهاجمة بغض النظر عن مستواها القتالي. وتبيَّن بالفعل أن هناك نقصاً ظاهراً في التدريب على القتال في الأماكن الآهلة، ويعود السبب في ذلك إلى تكليف الجيش مهمات أمنية متواصلة خلال السنتين الأخيرتين حيث لم يتبع الجند أو الوحدات الدورات التدريبية اللازمة ومنها القتال في الأماكن الآهلة.

ويمكن ربط العدد المرتفع للإصابات في صفوف الجنود بتآلفهم مع مجريات المعركة، ومع عمليات القنص والتفخيخ. ويضاف إلى هذا التآلف، الذي شمل كذلك الضباط من الرتب كلها، عدم تطبيق العسكريين تدابير الحماية والتدرؤ من رمايات القنص التي اعتمدها "فتح الإسلام" لإيقاع أكبر عدد من الإصابات في صفوف الوحدات المهاجمة.

وهنا لا بد أن يعطي الجيش أهمية خاصة لموضوع الحماية والتدرؤ نظراً إلى ما يمكن أن يوفره ذلك من خسائر بالأرواح، ولا بد من التركيز على هذا الموضوع في الدورات التعليمية كلها ومراقبة تنفيذها في أثناء المناورات والتمارين القتالية التي تنفذها الوحدات.

بالاستنتاج العام يمكن القول وعلى الرغم من الأداء الجيد، وكل أعمال البطولة التي أظهرها القادة وعسكريوهم لا بد من الاعتراف بوجود نقص في الخبرات الميدانية، وقد ظهر ذلك على المستويات كافة.

 

8-جهوزية الجيش

أظهرت معركة مخيم نهر البارد مدى جهوزية الجيش في التحرك وحشد القوى، وإعادة نشرها على الأرض وفق متطلبات الأوضاع الأمنية ومتغيراتها.

لبّت الأفواج والألوية المهمات كلها التي طلب إليها تنفيذها وبسرعة لافتة. وعلى الرغم من الصدمة القوية التي تلقَّاها اللواء الخامس، فقد استطاع، بعد ساعات قليلة، أخذ المبادرة ومهاجمة تنظيم "فتح الإسلام"، واستعادة بعض المراكز التي سقطت في أثناء الهجوم الغادر.

اتخذت قيادة الجيش تدابير الحيطة اللازمة كلها، ومنها تعزيز القدرات العسكرية على مداخل جميع المخيمات الفلسطينية وحولها، تحسبًا لأية أعمال مخلَّة بالأمن أو أية تحركات عسكرية للتعاطف مع "فتح الإسلام" في مخيم نهر البارد. وظهرت فعالية تدابيرالحيطة حول المخيمات من خلال رد الفعل الفوري والحاسم للقوى العسكرية عند وقوع الاشتباك بينها وتنظيم أصولي في مخيم عين الحلوة. بلغت جهوزية الجيش خلال معركة نهر البارد نسبة 90 في المائة، وجرى نقل بعض الوحدات من الجنوب لتعبئة الفراغ في بيروت وقضاءي بعبدا وعاليه وذلك بسبب تكليف فوج التدخل الثالث الانتقال إلى طرابلس والفوج المجوقل من بيروت إلى نهر البارد.

ومن أجل الإبقاء على الجهوزية الأمنية في مناطق انتشار القوى، فقد جرى تكليف الشرطة العسكرية بسد النقص الحاصل في بيروت الكبرى. وهكذا يمكن القول أن تدابير المحافظة على الأمن في مختلف المناطق بقيت على المستوى نفسه من الجهوزية والفعالية.

وأكد رئيس أركان الجيش اللواء الركن شوقي المصري في مؤتمر صحافي في 4 أيلول/سبتمبر 2007 أنّ "الجيش على استعداد تام لمواجهة أي طارئ، وهو يمتلك جهوزية عالية، وأن الدليل ما حصل في البارد. انتقلت القوى من بيروت إلى الشمال على مسافة أكثر من مئة كيلومتر وقامت بعملية هجومية من قطار السير. صحيح أن هناك نقصاً في العتاد والتدريب، والجيش منتشر على كامل مساحة أرض الوطن، وهناك تأخير في تأمين مستحقات هذا الانتشار... وعلى الرغم من انتشاره وكثرة مهماته، ما يزال الجيش على استعداد لمواجهة أي طارئ"(28).

 

خامسا":الخلايا الإرهابية خارج مخيم نهر البارد

لم تقتصر العمليات العسكرية والأمنية على مخيم نهر البارد بل نفِّذت عمليات عسكرية ومخابراتية في مناطق عديدة من أجل تعقب بعض الخلايا الإرهابية وخصوصاً في طرابلس، والقلمون، وبيروت، وصيدا والبقاع. وكان بعض هذه الخلايا ينتسب إلى "فتح الإسلام" وبعضها الآخر ينتسب إلى تنظيمات أخرى كانت تتعاطف معه، واكتشفت خلايا إرهابية نائمة لا علاقة لها به، وصودرت أسلحة ومتفجرات وبعض السيارات المفخخة والجاهزة للاستعمال.

وشرح مدير المخابرات العميد الركن جورج خوري في المؤتمر الصحافي بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر2007 ضرورة ملاحقة هذه الخلايا بقوله: "الجيش يتابع موضوع الخلايا النائمة، وانتهاء "فتح الإسلام" لا يعني انتهاء الإرهاب. فنحن في حرب دائمة مع الإرهاب، والعنوان الأساسي لحربنا هو مكافحة الإرهاب. لهذا السبب نحن في شكل دائم نحقِّق ونستقصي ونتابع وجود أي خلية نائمة، ولحظة نضع يدنا فيها على أي ملف يتعلق بهذا الموضوع سنقضي عليها كما حصل في مخيم نهر البارد"(29).

وهناك قرار واضح وحاسم لدى قيادة الجيش لمتابعة الخلايا الإرهابية أينما وجدت، وحتى داخل المخيمات الفلسطينية، والجيش سيسعى مع المنظمات الفلسطينية للتكفُّل بوضع يدها على الإرهابيين وتسليمهم للسلطات اللبنانية، وإذا "شعر الجيش بأن المنظمات الفلسطينية تحاول تسهيل وجود إرهابيين في مناطق أو في مخيمات أخرى، عندئذ سيتصدى (الجيش) لهذا الموضوع وبغطاء سياسي"(30).

 

سادسا":الخطة الإعلامية

لم يسبق أن شهد لبنان مثل هذه التظاهرة الإعلامية الضخمة التي رافقت العملية العسكرية في مخيم نهر البارد، والتي شاركت فيها وسائل الإعلام اللبنانية والعربية والدولية جميعها. لقد غطَّت كاميرات التلفزة تفاصيل المعركة كلها لحظة بلحظة في الليل كما في النهار. وكان البث المباشر من أرض المعركة يعطي صورة حيّة ودقيقة عن كل ما يجري في المخيَّم وحوله.

لم تعطِ وسائل الإعلام هذه الأهمية في تغطيتها للحدث بسبب قيام الجيش اللبناني بمهاجمة مجموعة "فتح الإسلام" الإرهابية، فلو اقتصر الأمر على تصفية هذه المجموعة لخسر مشهد الاشتباكات عناصر الاهتمام والإثارة الإعلامية كلها.

كان الأمر بالنسبة إلى الإعلام العربي والدولي يتخطَّى العملية العسكرية بمندرجاتها التكتية كلها ليشمل الأبعاد السياسية والأمنية المترتبة على نشوء ظاهرة "فتح الإسلام" كمنظمة إرهابية تحت شعار الجهاد، ومدى ارتباط ما يحدث في لبنان مع ما يحدث في فلسطين والعراق، ومتابعة ما يمكن أن يكون لهذه المعركة العسكرية من تداعيات داخل لبنان في ظل هذا الانقسام السياسي الخطير، وأيضاً على مستقبل المخيمات الفلسطينية في لبنان، وعلى العلاقات اللبنانية – السورية بعد أن أشارت معلومات إلى دخول "فتح الإسلام" عبر الحدود السورية وعبر مطار بيروت الدولي.

 

اكتسبت معركة مخيَّم نهر البارد هذا القدر من الاهتمام الإعلامي العربي والدولي للأسباب الآتية:

1- الاهتمام العربي والدولي بالوضع اللبناني منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، بالإضافة إلى مسلسل الاغتيالات والتفجيرات الإرهابية الذي شهده لبنان خلال السنتين الأخيرتين.

2- الاهتمام الإعلامي العربي والدولي بمتابعة مجريات الأزمة السياسية والانقسام السياسي الخطير الذي يشهده لبنان منذ اغتيال الرئيس الحريري، والذي اتخذ أبعاداً جديدة بعد حرب تموز/يوليو العام 2006، حيث دفع بعض الأحداث (في الجامعة العربية، وخطف الزيادين، وإطلاق النار في قصقص) الأمور إلى حافة الحرب الأهلية. 

3- كانت هذه هي المرة الأولى التي يطوِّق فيها الجيش اللبناني مخيماً فلسطينياً (ثاني أكبر مخيم للاجئين)، ويستعد لإخلائه من سكانه تمهيداً لتصفية التنظيم الإرهابي. ويبدو أن التوقعات الإعلامية كانت تصب في اتجاه عدم إمكان حصر القتال في مخيم البارد، بل سيؤدي ذلك إلى مواجهة مع الفلسطينيين في مخيَّمات أخرى. ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة توقُّع انقسام اللبنانيين ما بين مؤيد ومعارض للعملية العسكرية وبالتالي وقوع فتنة بين اللبنانيين. وهذا سيؤدي حتماً إلى سقوط الحكومة وتفكك الدولة.

4- متابعة أداء الجيش اللبناني عن كثب، خصوصاً أنها التجربة الخطيرة الأولى بعد الضنية التي يخوضها الجيش منذ إعادة تنظيمه العام 1991. كانت هناك مراهنات سابقة من قبل بعض وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية على أن الجيش سيتفكَّك عند أول تجربة ميدانية، سواء في الجنوب أو في الداخل. فبعد دخوله بنجاح (لفت أنظار جميع المراقبين الدوليين) إلى الجنوب بعد وقف العمليات العسكرية في حرب تموز/يوليو 2006 مستبقاً وصول طلائع القوات الدولية القادمة إلى لبنان بموجب القرار 1701، أصبح الجيش محط اهتمام خاص بالنسبة إلى الإعلام والخبراء العسكريين.

5- الاهتمام العالمي وخصوصاً الإعلام بمتابعة قضايا الإرهاب، وخصوصاً لجهة مدى ارتباط تنظيم "فتح الإسلام" بـ "القاعدة"، وبما يجري في العراق.

أدركت قيادة الجيش أهمية دور الإعلام في هذه المعركة، كما أدركت ضرورة اطلاع الرأي العام اللبناني والعربي والدولي على حقيقة ما يجري في مخيم نهر البارد وخصوصاً لجهة كشف نوايا التنظيم الإرهابي في تهديد الاستقرار وإثارة الفتنة من خلال قيامه بعمليات إرهابية متنوعة، في وقت يشتد فيه الانقسام السياسي والمذهبي. وقد عملت مديرية التوجيه في الجيش على وضع وتنفيذ خطة إعلامية تسير بالتوازي مع العملية العسكرية. وبالفعل، استطاع الرأي العام متابعة مجريات المعركة من خلال وسائل الإعلام التي كانت لها حرية الحركة ضمن الحدود التي تسمح بها التدابير الأمنية، كما استفادت من كل بيانات المعلومات التي كانت تصدرها مديرية التوجيه تباعاً وعلى مدار الساعة.

 

يمكن إيجاز الخطة الإعلامية وأهدافها وفق شرح مديرية التوجيه بالآتي:

أولاً: تظهير صورة واضحة عن العملية الإرهابية الوحشية والغادرة التي نفذها "فتح الإسلام" ضد مراكز الجيش حول المخيم، والتي تؤكد الطبيعة والنوايا الإرهابية لهذا التنظيم الذي لا علاقة له بالقضية الفلسطينية.

ثانياً: لم يبادر الجيش إلى تطويق المخيم الفلسطيني بمبادرة خاصة تستهدف الفلسطينيين، بل جرى الإعداد للعملية في إطار رد الفعل على عمل إرهابي موجّه ضد الجيش وأمن المواطنين في المناطق المحيطة بالمخيم، والتأكيد أن المعركة ليست ضد المخيم الفلسطيني بل هي ضد التنظيم الإرهابي، وهي لن تنسحب على بقية المخيَّمات، كما أنها لا تستهدف المنظمات الفلسطينية.

ثالثاً: عمل كل ما يلزم  لعزل التنظيم الإرهابي عن البيئتين اللبنانية والفلسطينية والتعاون مع القيادات الفلسطينية من أجل منع انزلاق أي تنظيم فلسطيني للقتال مع "فتح الإسلام"، والحؤول أيضاً دون حصول أي اختراقات أمنية في نطاق المخيَّمات الأخرى، والتأكيد للرأي العام الفلسطيني والعربي أن سلاح الجيش لا يوجّه ضد أي سلاح مقاوم للعدوان الإسرائيلي.

رابعاً: التأكيد على فصل معركة  مخيَّم نهر البارد عن مجريات الأزمة السياسية الداخلية والحؤول دون أي استثمار سياسي للمعركة ولإنجازات الجيش الميدانية، والحفاظ على الجيش خارج كل التجاذبات السياسية والحساسيات الطائفية والمذهبية والمناورات الكيدية بين معسكري الموالاة والمعارضة. والتركيز على إطار الالتفاف الشعبي والرسمي اللبناني والفلسطيني حول الجيش ودعم العملية وكل الخطوات اللازمة لخروج السكان المدنيين من المخيم وحمايتهم ونقلهم إلى مناطق آمنة.

 

خامساً: إظهار أن معركة مخيَّم نهر البارد هي خط الدفاع الأول عن الكيان اللبناني، وأنها تشكل تأكيداً على إرادة العيش المشترك والأمان الوطني، وسلامة الدولة والمجتمع، وأنها معركة أساسية من أجل تأكيد السيادة والاستقلال الوطنيين. إن الأثمان والخسائر بالأرواح ستبقى ضئيلة بالمقارنة مع ما حقَّقه الجيش ضد الإرهاب ومخططاته لإثارة الفتنة، وإنشاء إمارة إسلامية في منطقة الشمال.

سادساً: مواكبة سير العمليات على مدار الساعة وبكل تفاصيلها على كل محاور القتال، وتزويد وسائل الإعلام المشاهد الحيّة من الخطوط الأولى للقتال، وقد ساعد ذلك على إعطاء صورة حيّة عن ضراوة المعارك، والبيئة الميدانية المعقدة. ولم تقتصر التغطية الإعلامية على سير المعركة في المخيم بل شملت أيضاً تغطية جميع العمليات العسكرية والأمنية التي غطَّت مختلف المناطق اللبنانية لكشف الخلايا الإرهابية (النائمة والناشطة)، مع الحفاظ على المعلومات التي تتعلَّق بأمن العمليات.

سابعاً: التأكيد على عدم وجود أي رابط بين قرارات قيادة الجيش والاستحقاقات السياسية بما فيها الاستحقاق الرئاسي، والحؤول دون توظيف دماء الشهداء ومجريات المعركة لأي استثمار سياسي أو طائفي أو مذهبي.

ثامناً: تغطية كاملة لكل نشاطات قائد الجيش والقيادات الأخرى، وخصوصاً في زياراتهم الميدانية، وللجرحى في المستشفيات من أجل رفع معنويات الجند والوحدات المشاركة في المعركة. وشملت هذه التغطية أيضاً جميع مراسم دفن الشهداء، والتي شارك قائد الجيش في عدد منها.

تاسعاً: إظهار مدى التزام الجيش القانون والاتفاقيات الدولية وحقوق الإنسان والمناقبية العسكرية. وظهّر الجيش هذه الصورة الناصعة لسلوكيته الميدانية من خلال المساعدة على خروج المدنيين من المخيم بسلام، وأيضاً بإخراج عائلات الإرهابيين وأطفالهم في المرحلة الأخيرة.

عاشراً: تأمين سلامة وسائل الإعلام وتخصيصها بمواقع مشرفة على مسرح العمليات. وربط مدير التوجيه وسائل الإعلام به شخصياً وذلك بهدف ضبط صحة المعلومات وإلقاء الضوء على ما يلتبس على بعض وسائل الإعلام، وتصحيح القراءات المغلوطة حول سير المعارك. وحظيت وسائل الإعلام بأكبر قدر من الحرية مع الحرص على الحفاظ على أمن العمليات وسلامة الجند.

حادي عشر: القيام بحملة وطنية من أجل تقوية اللحمة بين الشعب والجيش، وذلك عبر تنسيق العمل مع المجتمع المدني من خلال حملة علاقات عامة للتواصل مع كل شرائح المجتمع والهيئات الاقتصادية والبلديات والنقابات والجمعيات والقيادات الروحية. 

 

 

سابعا": تقويم عام واستنتاجات

شكَّلت معركة مخيَّم نهر البارد اختباراً فعلياً لوحدة الجيش وقدراته القتالية، وقد نجح فيه على الرغم من الظروف السياسية والميدانية المعقدة، بالإضافة إلى نقص كبير في الأسلحة والذخائر والعتاد والتدريب. تصنّف العملية القتالية ضمن أحد نماذج الحروب الحديثة، وهي تجمع ما بين مكافحة الإرهاب والحرب في المناطق الآهلة، وضد مقاتلين متمرسين بأعمال القنص والتفجير والتفخيخ، ولديهم القرار بالقتال حتى الموت.

دخل الجيش في حرب غير تقليدية في وقت لم يكن محضّراً لها، وإن أفضل مقياس يمكن اعتماده لتقويم الانتصار الذي تحقق يتمثل بمقارنة مجريات معركة البارد مع ما واجهته مشاة البحرية الأميركية من مصاعب في معركتين خاضتهما: في النجف ضد معاقل جيش المهدي، وفي الفلوجة ضد جماعة إرهابية بقيادة ظهير شاكر العبسي المعروف باسم أبي مصعب الزرقاوي. في التحليل لموضوع "فتح الإسلام"، والذي يمكن النظر إليه كالشقيق الأصغر لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، والذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي، وذلك انطلاقاً من الارتباط الأيديولوجي – الجهادي بين الرجلين، فإنه كان يلزم شاكر العبسي فترة سنتين على الأقل من أجل بناء أرضية صلبة لتنظيمه في لبنان بحيث لا يقتصر وجوده على مخيم نهر البارد، بل يتمدَّد إلى المخيمات الأخرى وإلى المدن ذات الأكثرية السنية، لينضم إلى صفوفه مئات من الأصوليين الإسلاميين من لبنانيين وأجانب.

كان يمكن أن يحظى "فتح الإسلام" خلال هذه الفترة باهتمام أيمن الظواهري وبن لادن بما يوفر له الدعم الأيديولوجي والمعنوي والمالي، بالإضافة إلى الدعم الذي يتلقاه من الجهات الإقليمية التي دفعته إلى لبنان ودعمت إنشاء التنظيم بالمال والسلاح. وكان من المرجّح أن تظهر "القاعدة" اهتمامها بهذا التنظيم بعد انضمام عناصر سلفية إليه في مخيَّم نهر البارد وذلك على غرار تبنيها لحركة أبي مصعب الزرقاوي في العراق وتحويلها إلى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.

 

يبدو من مراجعة مسلسل الأحداث أن التنظيم قد تحرَّك (وافتعل سرقة بنك المتوسط يوم 9 أيار/مايو) وفق أجندة لا تتناسب مع الروزنامة الزمنية اللازمة لبناء أرضية صلبة يرتكز عليها، بحيث يصبح من الصعب حصره وتطويقه وتدميره في بقعة ضيقة مثل مخيم نهر البارد. هذه الأجندة التي طبَّقها العبسي مرتبطة بمصالح وأولويات الجهات الإقليمية التي دفعته إلى لبنان ووفرت له كل الظروف والإمكانات للحلول مكان "فتح الانتفاضة". هناك اعتقاد لدى عدد كبير من المراقبين أن توقيت الأحداث يرتبط إلى حد كبير بإرادة جهات خارجية عملت على التحضير لفتنة من خلال تفجير سلسلة حوادث أمنية كبيرة في لبنان خدمة لمصالحها.

حقق الجيش بتضحياته وتماسكه إنجازاً يتعدى في قيمته الوطنية كل المقاييس الأمنية والعسكرية، حيث توحّد اللبنانيون حول بارقة أمل بقيام وطن سيد وحر، وبقيام دولة تمتلك القدرة على اتخاذ القرارات الأمنية الصعبة لإنهاء كل البؤر الأمنية الخارجة عن سلطتها. لقد أسقط الجيش في مخيَّم نهر البارد كل الرهانات على انقسامه أو على الأقل فشله في مواجهة متطلبات المعركة في هذه البيئة الصعبة وضد جماعة إرهابية نذرت نفسها للقتال حتى النهاية.

تخطَّى الجيش كل خطوط الانقسام الطائفي والمذهبي وقاتل ببسالة، وتؤكد لائحة أسماء الشهداء حقيقة ناصعة تتمثل بإرادة اللبنانيين وقدرتهم على القتال والاستشهاد دفاعاً عن لبنان إذا ما تأمنت الظروف السياسية والعسكرية اللازمة. إن لائحة أسماء الشهداء وانتماءاتهم الطائفية والجغرافية تؤكد أن ليس هناك من طوائف مستعدة للدفاع عن لبنان، وطوائف أخرى ترفض المشاركة بهذه المهمة. لقد قاتل جميع العسكريين من كل الطوائف والمناطق موحَّدين تحت العلم اللبناني، معبّرين عن إيمانهم بوطنهم ومؤسستهم العسكرية، واستحقوا بذلك ثناء جميع المراقبين وتقديرهم.

وحّد أداء الجيش في المعركة وتضحياته الكبيرة جميع اللبنانيين، ويمكن القول إن الشعار القائل "في القلب يا وطن" قد تحوّل إلى حقيقة تعبّر عن ثقة المواطنين وافتخارهم بالمؤسسة العسكرية واعتبارها تمثِّل جسر الخلاص الوحيد للعبور إلى الاستقرار ودولة المؤسسات والقانون.

لا بدّ من الاعتراف بالمهنية العالية والانضباطية العسكرية اللافتة التـي تميّز بها أداء وحدات الجيش في الميدان حيث ترافق حزم القرار مع الحكمة والدراية منعاً لأي توظيف طائفي أو مذهبي أو سياسي. أثبتت القيادات في مختلف الرعائل احترافاً عالياً في ضبـط العملية وممارسة أعلى درجات الإتقان العسكري في آليات السيطرة والقرار التي طبقتـها من أجل حسن سير العملية، والحفاظ على أرواح المدنيين. 

لم تنتهِ فصول المؤامرة التي يواجهها لبنان، فالحرب "غير التقليدية" التي تشن عليه ما زالت في بداياتها. وتفترض الواقعية أن يبقى الجيش على استعداد تام لمواجهة فصول جديدة للمؤامرة المتواصلة، خصوصاً خلال هذه الفترة حيث يبدو أن المخطط يقضي بإحداث فراغ في السلطة يؤدي إلى شلل عام في آلية صنع القرار الوطني، والدفع باتجاه حالة "اللادولة"، حيث لا مؤسسات تعمل ولا سلطة لأي قانون.

بلغني في أثناء كتابة هذا التقويم العام نبأ تعرُّض مدير عمليات الجيش العميد الركن فرنسوا الحاج لانفجار أودى بحياته، وتؤكد هذه الجريمة الإرهابية أن لبنان يتعرَّض لحرب شعواء متعددة الوجوه، وأن الإرهاب لم ينته بسقوط مخيم نهر البارد.

تستخدم في الحرب المستمرة طرائق ووسائل غير تقليدية، إنها نوع من أنواع الحرب الحديثة التي يختلط فيها الإرهاب بالحرب الثورية وعصابات المدن، والتي تتحوَّل مجتمعة إلى معضلة أمنية معقدة يصعب حصرها في الإطار الجغرافي أو الزمني. وإن ما يزيد من صعوبة مواجهة هذه الحرب تحوّل الخلافات السياسية اللبنانية إلى مأزق سياسي، وفراغ في السلطة تستغله قوى إقليمية وجماعات إرهابية لتسعير حربها على لبنان.

شكَّل "فتح الإسلام" وبعض الخلايا الأخرى المرتبطة بها أحد وجود الحرب غير التقليدية التي يبدو أنها مرشحة للاستمرار حتى بعد سقوط مخيم نهر البارد على أساس أنها تشكل جزءاً أساسياً من المواجهة الأوسع الجارية بين قوى إقليمية وقوى دولية ولبنان واحد من مسارحها المتعددة.

 

تؤكد الطرائق والتكتيكات المستعملة في هذه الحرب غير التقليدية أن المخطط العام يهدف إلى تهديد الاستقرار العام، وتفكيك بنية الدولة، وضرب وحدة المؤسسات الأمنية. وتؤكد كل المؤشرات وآخرها جريمة اغتيال العميد الركن فرنسوا الحاج استمرار هذه الحرب غير التقليدية التي يمكن أن تتوسَّع لتغيير المعادلة الأمنية المتمثلة بالعناصر الآتية:

1- استهداف الجيش اللبناني من أجل إضعافه وذلك على أساس أنه ما زال يشكل العمود الفقري الذي تستند إليه السلطة لحماية المؤسسات العامة وحماية المجتمع والحفاظ على السلم الأهلي، بالإضافة إلى تنفيذ المهمات المطلوبة بموجب الالتزامات الرسمية التي قدمها لبنان لتنفيذ القرارات الدولية وخصوصاً القرار 1701.

2- شن سلسلة من الهجمات الإرهابية ضد القوات الدولية العاملة في الجنوب وخصوصاً ذراعها الأوروبية، والتي شهدنا في الماضي القريب بعض فصولها في مرج مرجعيون قرب نبع الدردارة، وفي القاسمية، والرميلة، من أجل ترحيل القوات الأوروبية عن الجنوب، وبالتالي تحويل الخط الأزرق إلى جبهة مفتوحة ضد إسرائيل، وذلك بعد إسقاط كل الضوابط التي نص عليها القرار الدولي 1701. لقد عبّرت جهات إقليمية في أكثر من مناسبة عن تحويل لبنان إلى ساحة لدحر أميركا وإسرائيل.

3- الاستمرار في ممارسة جميع أنواع الضغوط من أجل تعطيل كل الآليات الدستورية والسياسية لمنع حصول توافق وطني حالة الشلل في المؤسسات الرئيسة للدولة.

ليس أمام اللبنانيين من بديل لاعتماد سياسة الصمود الفاعل، ولا يعني ذلك تحمّل كل الضربات الموجعة من ممارسة كل أشكال هذه الحرب غير التقليدية بانتظار أن يأتي المجتمع الدولي لحمايتنا. إن على اللبنانيين الاعتماد على قدراتهم لتحقيق الصمود السياسي والعسكري والأمني، ولا بد أن يترافق هذا الصمود مع سعي حثيث لإعادة بناء السلطة، وبناء المؤسسات العسكرية والأمنية القادرة على تحقيق السيادة والاستقلال.

إن العدو الذي نواجهه هو عدو متخفٍّ وشرس، وقوي المراس، له تجربة واسعة في العمليات الإرهابية وفي العمل السري، وهو فوق هذا وذاك مجهّل الهوية، ويغطي على هويته بعض اللبنانيين. كما أن خطوط المواجهة معه غير محددة، وتغطِّي الوطن بأسره. والأخطر من هذا كله أنه يملك المبادرة للإيقاع بنا وقتلنا من دون أن يترك خلفه أي آثار تؤكد هويته ومسؤوليته. نحن قادرون على الانتصار في هذه الحرب من خلال يقظتنا وصمودنا والعمل بسرعة على إعادة بناء قدراتنا العسكرية والأمنية.

يؤكد مسلسل الجرائم المتمادية، وأيضاً كل الظروف التي سهّلت دخول "فتح الإسلام" وتمركزه في مخيم نهر البارد على مجموعة من الحقائق أبرزها:

أولاً: امتلاك الجهات التي تنفذ هذا المخطط الإرهابي الواسع قدرات عملانية كبيرة تسمح لها بوضع مخطط متعدد الأهداف، وامتلاك حرية العمل في أكثر من منطقة لبنانية، مع تركيز خاص على العاصمة بيروت.

ثانياً: امتلاك القدرة على التخطيط الدقيق لتنفيذ الأعمال الإرهابية كلها، مع خبرات متطوِّرة في أعمال التخفي وطمس آثار الجرائم المرتكبة كلها، ما يؤشر إلى أن الجهة الضالعة ليست مجموعة من الإرهابيين العاديين، بل هي تنظيم له خبراته المتفوقة في مجال العمل الإرهابي والجرمي.

ثالثاً: وجود قاعدة لوجستية هامة بتصرف هذه الجهات توفّر لها كل ما تحتاجه من متفجرات وأسلحة ووسائل "بيروتقنية" متطوِّرة تستعمل في التفجيرات المتتالية وعن بعد. ويبدو أن هذه القاعدة تنعم بحماية تجعلها بعيدة عن منال الأجهزة الأمنية حيث يرجَّح وجودها في منطقة يحظر على الأجهزة الأمنية دخولها.

 

رابعاً: تشكل العمليات الإرهابية والجرائم التي ارتكبها "فتح الإسلام" وجهاً آخر من وجوه هذا المخطط الإرهابي الذي يستهدف لبنان، حيث أخفى التنظيم هويته الحقيقية ودوافعه والجهات التي تقف وراءه من خلال حلوله مكان تنظيم "فتح الانتفاضة" في مخيم نهر البارد. وعندما انكشف أمر ضلوعه في المخطط الإرهابي حاول التخفي من خلال الإدعاء بأنه تنظيم جهادي أصولي، وبأنه أحد منتجات تنظيم "القاعدة"، وذلك من أجل استدرار عطف التنظيمات السنية الأصولية والإسلامية اللبنانية والفلسطينية، ودعوتها لنصرته في مواجهة القوى الأمنية والعسكرية. كان الهدف من استعمال "فتح الإسلام" مزدوجاً: أولاً: المشاركة في عمليات إرهابية سرّية على غرار جريمة عين علق، أو تنفيذ جرائم اغتيال وبطرائق مختلفة عن الجرائم التي نفذت في المسلسل الإرهابي المتمادي، وثانياً، من خلال العمل على إثارة الفتنة، وإقامة إمارة إسلامية في شمال لبنان وذلك ضمن مخطط إسقاط الدولة اللبنانية على مراحل، وتمهيداً لشرذمة المجتمع والتهيئة لحرب أهلية جديدة بدءاً من الشمال هذه المرة. 

خامساً: تؤكد مجريات الأحداث التي أحاطت بتنظيم "فتح الإسلام" منذ دخوله إلى لبنان وحتى سقوطه في مخيم نهر البارد أن المخطط الذي عمل التنظيم على تنفيذه قد اعتمد على فرضيات خاطئة وتوقعات مغلوطة ومضخّمة. ومن أبرزها أنه يمكن أن يتحوَّل "فتح الإسلام" إلى حالة إسلامية – فلسطينية يمكن توسيعها لتصبح حالة إسلامية سنيّة (لبنانية – فلسطينية) من خلال استغلال حالة الانقسام التي تسبَّبت بها عملية اغتيال الرئيس الحريري، وما نتج عنها من انقسامات سياسية في الصف الإسلامي، والتي كادت أن تؤدي إلى فتنة مذهبية في أكثر من محطة.

 

اعتقد "فتح الإسلام" أن بإمكانه استغلال الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس، وأيضاً استغلال وجود جماعات إسلامية متطرِّفة داخل المخيمات من أجل التمدد نحو المخيمات الأخرى بسهولة، وأن المنظمات الإسلامية الأصولية ستدخل معه في تحالفات وتفاهمات يمكن أن تقدم له الحماية المعنوية والمادية لمواجهة الحالات الطارئة التي تهدد وجوده سواء كان مصدر هذه التهديدات فلسطينياً أو لبنانياً. وفي هذا السياق توقَّع "فتح الإسلام" نشوء موقف إسلامي مؤاتٍ لانتشاره في المدن ذات الأكثرية السنية كطرابلس وصيدا وبيروت ما يفتح أمامه إمكان إقامة مراكز لخلايا قوية يصعب على القوى الأمنية الانقضاض عليها بسبب تعاطف التنظيمات الإسلامية المحلية وبعض الأحزاب معها.

توقع "فتح الإسلام" أن بإمكانه تنفيذ مسلسل من الأعمال الإرهابية من أجل زعزعة الاستقرار العام في لبنان من دون أن تكتشف مسؤوليته عن مثل هذه المؤامرة الإرهابية، خصوصاً أن هذه الأعمال الإرهابية ستشكل امتداداً لمسلسل التفجيرات والاغتيالات الذي بدأ منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في خريف العام 2004، وتكثَّف بعد اغتيال الرئيس الحريري وخروج القوات السورية من لبنان العام 2005.

كما راهن بعدما اكتُشف ضلوعه في المسلسل الإرهابي على عدم قدرة حكومة فؤاد السنيورة في ظل الانقسام السياسي الحاد الحاصل في لبنان على تحمل مسؤولية النتائج السياسية والأمنية لأي قرار تتخذه لمهاجمة قواعدها في مخيم نهر البارد. وتوقع أن ترفض المنظمات الفلسطينية دخول الجيش والأجهزة الأمنية إلى مخيم نهر البارد، لأن للمخيمات حرمتها من جهة، ولأن الدخول إلى هذا المخيم سيفتح إمكان المطالبة بدخول قوات الشرعية اللبنانية إلى المخيمات الأخرى، بحجة سقوط كل مفاعيل الاتفاقيات بين منظمة التحرير والدولة اللبنانية. وتوقع كذلك أن تهب المخيمات الفلسطينية إلى التحرك من أجل التعبير عن رفضها لدخول القوى الأمنية إلى مخيم نهر البارد. وكان هناك رهان على مشاركة التنظيمات الإسلامية الأصولية في المخيمات الأخرى في عمليات ونشاطات تهدِّد الاستقرار العام كوسيلة للضغط على الحكومة اللبنانية وإجبارها على التراجع (أو عدم اتخاذ) أي قرار بالحسم العسكري والبحث عن تسوية تضمنها المنظمات الفلسطينية تحمي "فتح الإسلام" من هجمة عسكرية كاسحة. ويبدو أنه قد توقع أن لا يكون الجيش جاهزاً للقيام بعملية عسكرية خطيرة ومكلفة في ظل ظروف انتشاره الواسع، وافتقاره إلى الأسلحة والذخائر والتجهيزات اللازمة لمثل هذا القتال الضاري المتوقع حدوثه في بيئة صعبة ومعقدة مثل مخيم نهر البارد. وتأتي في هذا المجال الفرضية التي تقول بعدم قدرة قيادة الجيش على اتخاذ قرار بشن هجوم حاسم ضد المخيم، وبالتالي تحمل مسؤولية مقتل عدد كبير من المسلحين السنَّة في ظل الحساسيات المذهبية الراهنة، ولا بد في هذا المجال أن يساور قيادة الجيش بعض الهواجس حول وحدة الجيش وتماسكه، وأيضاً حول إمكان توسيع الاشتباكات لتشمل مخيمات فلسطينية أخرى، ووقوع عمليات إرهابية في مناطق عديدة. ويمكن أن تؤدي كل هذه العمليات إلى خلق إرباكات أمنية واسعة لا يستطيع الجيش حسمها أو السيطرة عليها.

لا يستبعد أيضاً (من خلال بعض الاتصالات التي أجراها "فتح الإسلام" بعد بدء الهجوم على معاقلها في طرابلس) أن يكون التنظيم الإرهابي قد راهن على موقف داعم له تعبّر عنه قوى إسلامية محلية وفلسطينية.

وهكذا أثبتت معركة مخيم نهر البارد خطأ كل الفرضيات والتوقعات التي بني عليها "فتح الإسلام" خططه لتنفيذ المسلسل الإرهابي الذي اعتمده، والاحتماء في المخيم الفلسطيني مع إمكان تلقي الدعم السياسي والمساندة الميدانية من المخيمات الفلسطينية الأخرى، من أجل منع أو تفشيل أي هجوم عسكري لتدميره.

لم تقتصر نتائج المعركة الحاسمة في مخيم نهر البارد على تدمير التنظيم بل امتدت هذه النتائج لتشمل أيضاً انهيار كل ما بنته التنظيمات الإسلامية الأصولية من ركائز شعبية لها منذ أواسط الثمانينيات، وذلك بسبب "الموقف السلبي الحاد الذي اتخذته العامة من الملتزمين بسبب غلو وتطرف جماعة فتح الإسلام"(31). وأدَّت الاتهامات الموجهة إلى "فتح الإسلام" حول ارتباطاته الأمنية بجهات محلية وإقليمية إلى إعادة نظر بمواقف كل الحركات الإسلامية والشرائح المتعاطفة معها تجاه الدولة اللبنانية والتعبير عن دعمها غير المشروط للعملية التي نفذها الجيش.(32)

 

الاستنتاجات الأولية

من هذا التقويم العام يمكن تسجيل الاستنتاجات الأولية الآتية:

1- لم تنجح الصدمة التي تلقَّاها الجيش في طرابلس ومخيم نهر البارد مع كل ما ترتَّب عليها من خسائر فادحة في صفوف الجيش، حيث بلغت الخسائر بالأرواح 32 شهيداً، في رأب الصدع السياسي الداخلي من خلال إطلاق أي مبادرة سياسية للتلاقي حول طاولة حوار تقرب بين مواقف الموالاة والمعارضة. وذهبت كل فئة تبحث عن وسيلة لاستغلال انتصار الجيش لصالح مشروعها السياسي، وكان من نتيجة لعبة شد الحبال السياسية هذه بين الموالاة والمعارضة تشديد الضغوط الدولية والإقليمية على الاستحقاق الرئاسي ما أدَّى إلى تعطيله وحدوث فراغ في رئاسة الجمهورية.

2- لم يتبلور على المستوى الوطني أو السياسي موقف موحد في مواجهة التهديد الإرهابي، على غرار الموقف الجامع الذي واجه به اللبنانيون العدوان الإسرائيلي في تموز/يوليو وآب/أغسطس 2006. حاول بعض الفئات بالمناورة والمداورة و"المكر الإعلامي" إخراج العملية العسكرية من كونها رد فعل طبيعي على هجمات "فتح الإسلام" ضد مراكز الجيش.

3- حاول بعض الفئات السياسية اللبنانية والفلسطينية وبعض القوى الإقليمية التأثير على موقف القيادات الفلسطينية التي أدانت "فتح الإسلام" حيث اعتبرته جسماً غريباً ودخيلاً على مخيم نهر البارد، كما أيّدت عمليات الجيش للاقتصاص من الإرهابيين. لكن حكمة القيادات اللبنانية والفلسطينية حالت دون نجاح هذا المخطط المشبوه لتوظيف الشعب الفلسطيني من أجل تغطية إرهاب "فتح الإسلام".

4- حقق الجيش نصراً كاملاً على المستويين التكتي والعملاني وذلك على الرغم من صعوبة البيئة التي قاتل فيها، وصعوبة المراس التي أظهرها الإرهابيون. كان لهذه التعقيدات الميدانية بالإضافة إلى النقص الكبير في الأسلحة والذخائر والتجهيزات والتدريب انعكاسات سلبية على مسار القتال سواء لجهة ارتفاع عدد الإصابات أو لجهة الوقت الطويل الذي استغرقته عملية تنظيف المخيم من الإرهابيين.

5- تظهر عملية مخيم نهر البارد أهمية القرار السياسي في تحقيق الأمن. لقد تأخر القرار السياسي في اتخاذ القرار في تدمير "فتح الإسلام"، ويعتبر هذا التأخير قصوراً وطنياً في إدراك حجم التهديد الإرهابي وخطورته، وهو يعود لأسباب عديدة: أولاً، غرق السلطة التنفيذية في تعقيدات الأزمة السياسية، وتجنبها اتخاذ قرارات أمنية حاسمة في هذا الخصوص. ثانياً، تصعيد في الانشقاق والخلاف السياسي حرم الحكومة من القدرة على ضبط الحدود، وضبط الوضع الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها، ما سمح "لفتح الإسلام" بالتسلل عبر الحدود، وتحويل مخيم نهر البارد إلى قاعدة عسكرية له. ثالثاً، انتشار الجيش بشكل واسع في الجنوب وعلى الحدود مع سوريا وفي مهمات حفظ الأمن في الداخل، والذي شكل أحد الأسباب العسكرية المباشرة لتأخير استئصال "فتح الإسلام".

6- وحّدت عملية مخيم نهر البارد بين الشعب والجيش، وتجلَّى خلال هذه المعركة مدى ثقة اللبنانيين بالجيش وقيادته، وقد عبّر الناس عن ذلك من خلال الاحتفالات الكبيرة بالانتصار الذي حقَّقه الجيش. لم يخض هذا الأخير في مخيم نهر البارد أكبر المعارك وأقساها منذ تأسيسه فحسب، بل استطاع أن يثبت أن لدى اللبنانيين المنضوين تحت رايته الإرادة والقدرة للدفاع عن لبنان وتحقيق نصر مبين في مواجهة جماعة إرهابية ارتكبت أفظع الجرائم، وعملت على زرع الفتنة. ويعتبر هذا الإنجاز، في نظر الخبراء الأجانب والمحليين نصراً كاملاً، عجزت عن تحقيق مثله جيوش حديثة كالقوات الأميركية في العراق، والقوات الإسرائيلية لدى اجتياحها الأراضي الفلسطينية.

7- إن انتصار الجيش في مخيم نهر البارد لا يعني الانتصار الحاسم والنهائي على الإرهاب أو على المؤامرة التي تستهدف لبنان. وأظهرت عملية اغتيال اللواء الركن فرنسوا الحاج – مدير العمليات - بوضوح قدرة الإرهابيين وقدرة الجهة التي تحرِّكهم على شنِّ هجمات داخل المنطقة الأمنية في بعبدا.

تبرز الحاجة لعمل استخباري وعسكري متواصل لمواجهة هذا المخطط الإرهابي المستمر. لقد منعت الانقسامات السياسية الجيش والأجهزة الأمنية من استغلال النصر الذي تحقَّق في مخيم نهر البارد من أجل القضاء على كل القواعد والبؤر التي يحتمي فيها الإرهابيون. إن المطلوب من القوى العسكرية والأمنية والأجهزة وضع خطة جديدة لمواجهة التهديدات كلها وذلك بالعمل على تدمير بنيتها العملانية وقواعدها اللوجستية والكشف عن الخلايا الإرهابية النائمة، والاقتصاص حتى من المتعاونين معها.  

8- كاد النقص في الذخائر والأسلحة والمعدات (وخصوصاً معدات المراقبة الليلية، والسترات الواقية، وقاذفات اللهب وغيرها) أن يؤثر سلباً على العملية، وأن يتسبَّب بتراجع نمط القتال، ووقوع المزيد من الإصابات في صفوف القوى المهاجمة. وكان يمكن أن يتأخر القرار بالانقضاض على المخيم القديم لو لم يلبِّ بعض الدول العربية والصديقة حاجات الجيش وخصوصاً الذخائر المدفعية من عيار 155 ملم وذخائر مدافع الدبابات.

9- أظهرت العملية الهجومية أهمية دور القوات الجوية والبحرية وسلاح الهندسة في تأمين المساندة اللازمة لنجاح العملية البرية. وكان للمبادرة التي قامت بها القوات الجوية لجهة تطوير قنابل وحملها بواسطة الطوافات لمساندة القوات البرية الأثر الفعّال في تدمير المعاقل والمخابئ التي لجأ إليها الإرهابيون، كما كان لها تأثير معنوي كبير على مسار العملية، ويمكن الاستنتاج بأن القصف بواسطة الطوافات قد ساعد على تقصير زمن المعركة وزاد من الإصابات في صفوف الإرهابيين، وخفَّف الخسائر في صفوف القوى المهاجمة.

يمكن لقيادة الجيش أن تضع تقويماً تفصيلياً بكل الدروس والعبر التي استقتها القوى المهاجمة من خلال التجربة الميدانية التي واجهتها، ومنها ما يعود إلى النقص في التدريب الفردي أو تدريب الوحدات لمواجهة هذا النوع من القتال. ولا يمكن إخفاء حقيقة وجود نقص في التدريب لمواجهة متطلبات هذا النوع من القتال.

10- برزت الحاجة خلال أكثر من محطة إلى وجوب أن تهتم القيادات الميدانية بأمن منقطة العمليات الأوسع (كامل منطقة الشمال)، وأمن محاور الانتقال والتموين، منعاً لأيّة مفاجآت قد تحضّر لها الجماعات الإرهابية، والتي يمكن أن تحتفظ بالمبادرة لإقامة كمائن وتحضير تفجيرات من أجل قطع طرق التموين أو قتل أو أسر عسكريين ومدنيين تستعملهم للمساومة على وقف العملية العسكرية.

 

ثامنا": الانتصار على الإرهاب

تحدثنا عن انتصار الجيش في مخيم نهر البارد، ولكننا أشرنا إلى أن الحرب غير التقليدية التي يشهدها لبنان لم تنته. في المفهوم التقليدي، يعني الانتصار في الحرب إنزال هزيمة بالعدو، وإجباره على قبول الشروط السياسية التي نفرضها عليه. لكن الحرب في مخيم نهر البارد لم تكن حرباً تقليدية، بل كانت شكلاً من أشكال "الحروب الحديثة" التي يمتزج فيها الإرهاب بالحرب الثورية، وبقتال العصابات في الأماكن الآهلة. وينتج عن مثل هذه الحرب إشكالية حول تعريف الانتصار. وهذا يطرح أسئلة هامة: متى تنتهي هذه الحرب؟ ما هو الإطار الزمني اللازم لإنهائها؟ وهل يمكن بالفعل إعلان الانتصار فيها؟ من الضروري أن نفكر ملياً قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، وذلك انطلاقاً من صعوبة تحديد الأهداف التي كان يسعى تنظيم "فتح الإسلام" إلى تحقيقها في لبنان، في وقت تبقى فيه الأهداف المرجوّة من مسلسل الاغتيالات أكثر وضوحاً.

تؤكد العملية الإرهابية لاغتيال مدير عمليات الجيش اللواء الركن فرنسوا الحاج بعد أسابيع على انتهاء الحرب في مخيم نهر البارد، على أن النصر في هذه الحرب (على الإرهاب) لم يكن كاملاً لمجرد قتل واعتقال أكبر عدد من أفراد التنظيم وملاحقة الفارين وتدمير القواعد والمخابئ ومصادرة الأسلحة والذخائر. يمكن الاعتداد بتحقيق النصر على الإرهاب عندما ننتصر على الأيديولوجية والإستراتيجية التي يعتمدها الإرهابيون ومن يدعمونهم من أجل تدمير الحكم والمجتمع في لبنان. ربّ قائل بأنه لا يمكن استئصال الحركات الأصولية من المجتمعات الإسلامية أو غير الإسلامية، وهذا قول صحيح، ولكن يمكن احتواء المد الأصولي والأعمال الإرهابية بحيث لا يعود يشعر المواطن بخطرها الداهم. ويمكن الاكتفاء بمثل هذه النتيجة لإعلان الانتصار على الجماعات الإرهابية. هناك شرطان: الأول، أن لا يشعر المواطن بأنه مهدد، وبأنه يستطيع ممارسة حياته اليومية باطمئنان. والثاني، أن تشعر الجماعات الإرهابية بأن ما تقوم به هو عديم الفائدة، وبأنه شكل من أشكال الحرب العبثية.

 

لكن تبدو الأمور أكثر تعقيداً إذ تعدَّت دوافع وأجندة الجماعات الإرهابية الإطار الاجتماعي للبنان، حيث أنها تموّل وتجهّز وتعمل لصالح قوى خارجية، على غرار ما هو الأمر بالنسبة إلى تنظيم "فتح الإسلام" أو بعض التنظيمات الأصولية الأخرى التي تتبع فكر "القاعدة". تصبح الحرب في مثل هذه الحالة أكثر صعوبة، ويتوقَّف النجاح فيها في الداخل على مدى قدرة الدولة على مواجهة التدخل والدعم الخارجيين والذي يعني أن تحشد الدولة كل طاقاتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية من أجل احتواء التدخل الخارجي. وقد لا تنجح كل هذه الطاقات في احتواء التهديد في حالة مثل الحالة التي يواجهها لبنان، خصوصاً أن الإستراتيجية التي يعتمدها الطرف الخارجي تستند أساساً على حلفائه (الأقوياء) في المجتمع السياسي اللبناني. وتؤكد تعقيدات الوضعين السياسي والأمني في لبنان عدم جدوى الاعتداد بنتائج معركة مخيم نهر البارد لإعلان الانتصار على الحرب الإرهابية التي يواجهها لبنان، وأن هذه الحرب ستكون طويلة ومضنية ومحفوفة بكل أنواع المخاطر في ظل الانقسامات التي تشل جميع المؤسسات الرئيسة للقرار. في المقابل لا يمكن التقليل من قيمة قدرة لبنان وحجمها على مواجهة التهديدات الإرهابية ببعديها الداخلي والخارجي.

يواجه لبنان التدخلات الإقليمية الداعمة للتنظيمات الإرهابية كتنظيم "فتح الإسلام" وغيره من الخلايا الأصولية، وأيضاً مسلسل الاغتيالات السياسية بواسطة قواه الأمنية والعسكرية والمحكمة الدولية، والقرارات الدولية الخاصة بلبنان. كما يستفيد في هذه المواجهة من دعم محور عربي ودولي واسع جداً، ويقدم له هذا المحور الدعم السياسي والديبلوماسي بالإضافة إلى الدعم العسكري والمالي لتدعيم صموده. واستطاع لبنان منذ اغتيال الرئيس الحريري الصمود في هذه المعركة المتعددة الوجوه، ولم يستسلم للضغوط الداخلية والتي أدت إلى شل عمل المؤسسات التنفيذية والتشريعية.

صحيح أن لبنان لم ينجح في وقف التدخل الخارجي أو وقف عمليات الاغتيال والتفجير، ولكنه استطاع أن يدمّر تنظيم "فتح الإسلام" وأن يكشف ويوقف مجموعة كبيرة من الخلايا الإرهابية. واستطاعت الأجهزة الأمنية بناء قاعدة معلومات تسمح لها بتعقب الإرهابيين، والبدء بإطلاق عمليات أمنية وقائية لوقف مسلسل الاغتيالات والتفجيرات.

يشكِّل المجتمع اللبناني بتعدُّد طوائفه وأثنياته حالة ممانعة قوية في وجه التطرف والأصولية. وأظهرت أحداث مخيم نهر البارد مدى رفض الناس والبيئة الإسلامية السنّية للجماعات المتطرفة لدرجة دفعت بأحد خطباء المساجد في مدينة طرابلس إلى إجازة مهاجمة الإرهابيين داخل مساجد المخيم إن هم لجأوا إليها للحماية(33). أدى الموقف الشعبي والإسلامي إلى إحراج بعض الفئات اللبنانية والفلسطينية التي كانت تعارض الهجوم على المخيم، وأجبرها على الانكفاء عن مواقف كانت قد بدأت بالجهر بها عبر وسائل الإعلام. يمكن لبنان الانتصار في الحرب على الإرهاب إذا خاضها موحداً وبصبر وبقرار صادر عن سلطة سياسية مدعومة من أكثرية اللبنانيين، وانطلاقاً من إستراتيجية قادرة على دحر الأيديولوجية الإسلامية الجهادية التي تتغطى بها التنظيمات الإرهابية والتي تدعي إتباع خط "القاعدة". ولا يمكن تدمير هذه الأيديولوجية عن طريق القوة العسكرية، بل من خلال مجموعة من السياسات المرافقة للعمل الأمني والعسكري، والتي تقنع أفراد هذه التنظيمات بأن الخط الذي يتبعونه لن يوصلهم إلى الأهداف التي يطمحون إلى تحقيقها. لكن إذا صدقت الفرضيات القائلة بأن سوريا تقف وراء "فتح الإسلام"، فإنه لم يكن بمقدور السلطة اللبنانية إقناع سوريا بالتخلي عن دعم هذا التنظيم، أو الطلب إلى حلفائها في لبنان بذل الجهود اللازمة في محاولة لحماية التنظيم من خلال ممارسة الضغط لمنع دخول الجيش اللبناني إلى المخيم. ولا تتوافر لدى لبنان القدرة على إقناع دمشق بضرورة التخلي عن محاولاتها لإضعاف السلطة اللبنانية أو تفكيكها، وبأن مثل هذه المحاولات ستنعكس سلباً بفرض المزيد من العقوبات الدولية عليها، والاستمرار في عزلها، لكن يبقى من الصعب إثبات مسؤولية سوريا المباشرة عن جرائم هذا التنظيم.

 

ما زال لبنان يواجه خطر الاغتيالات أو تنفيذ هجمات إرهابية على غرار العملية التي استهدفت اللواء الركن فرنسوا الحاج، أو تلك التي استهدفت القوات الإسبانية قرب نبع الدردارة، أو على طريق القاسمية أو الرميلة ولكن لن تؤدي هذه الهجمات الإرهابية إلى زرع حالة من الرعب في المجتمع، أو تفكيك الجيش والقوى الأمنية، أو تعطيل مجلس الوزراء أو التسبب بانسحاب القوات الدولية من الجنوب، أو تهديد الحريات العامة كما يحدث في بعض الأنظمة الاستبدادية. يمكن تشبيه مواجهة لبنان التهديد الإرهابي بالسلوكية التي كانت متبعة من قبل سكان شمالي أيرلندا في مواجهة عمليات الجيش الجمهوري الأيرلندي، حيث حافظ الناس على ممارسة حياتهم وأعمالهم اليومية. انطلاقاً من هذا التحليل نرى أن الإرهاب لم يعد يحتل الأولوية في اهتمامات اللبنانيين، لقد تحوّل إلى واحد من الهواجس التي تؤرق حياة اللبنانيين، فيما تحتل الأزمة الاقتصادية والمعيشية مركز الصدارة لمشاعر القلق التي تشجع على الهجرة. لكن لا يؤدي التبدل في الأولويات الى التراجع عن ضرورة الاستمرار في استئصال التنظيمات والخلايا الإرهابية، وتفشيل المخططات الساعية إلى إشعال نار الفتنة على غرار المخطط الذي حمله "فتح الإسلام" إلى شمال لبنان.

لا تقدِّم الحركات الأصولية الإسلامية رؤية أيديولوجية واسعة وذات أفق سياسي مستقبلي. ويمكن أن تنجح هذه الحركات في استقطاب عدد كبير من الأتباع والمجندين، ولكنها لا تشكل لمعظم هؤلاء المشروع البديل لحياة أفضل أو لضمان مستقبل مزدهر. من المحتمل أن يؤيد كثير من الناس العمليات التي تشنها "القاعدة" ضد أميركا أو مصالحها حول العالم، ولكن لا يعني ذلك إطلاقاً أن بن لادن وأيديولوجيته يشكلان النظام الذي يرتضونه لأنفسهم أو لأولادهم. وهذا ما يؤكد على إمكان العمل على عزل الإرهابيين والتنظيمات الأصولية تمهيداً للقضاء عليها أو تفكيكها. لكن تبقى الإشكالية في إيجاد الوسائل لوقف الدعم الذي تتلقاه من قوى خارجية، والذي يسمح لها بالمقاومة والاستمرار لفترات طويلة. وهذا ما يجيز التساؤل حول نهائية أو شمولية الانتصار على "فتح الإسلام"؟ يمكن الاطمئنان إلى تحقيق الانتصار الشامل أو النهائي إذا كان بإمكان لبنان إقناع أي طرف داعم للتنظيم بفك ارتباطه به، والتوقف عن تقديم الدعم المالي والعمق الإستراتيجي له.

لو أجرينا مراجعة عامة لتاريخ كل الحركات الأصولية التي ظهرت في لبنان لوجدنا أنها حركات صغيرة لم تستطع التخفي طويلاً لتتحول إلى تنظيم سري متجذِّر في المجتمع بشكل يصعب اقتلاعه على غرار ما هو عليه تنظيم القاعدة في المملكة العربية السعودية أو التنظيمات الإسلامية المسلحة في الجزائر أو الصومال. وشكلت هذه التنظيمات في لبنان ظواهر مؤقتة، قادرة على خطف بعض الشبان المغامرين من المتديِّنين، ولكن بنيتها التنظيمية بقيت هشّة أمام أي عمل أمني يستهدفها. ورأينا أيضاً مدى حرص الناس واستعجالهم استعادة الدولة للمبادرة الأمنية وإنهاء عملية الخطف المؤقت للشبان المغرر بهم في أثناء عملية مخيم نهر البارد.

 

تبقى الصعوبة في تحقيق النصر المطلوب أن يعمل لبنان على أربع جبهات:

1- ملاحقة الإرهابيين والعملاء المأجورين أينما وجدوا، وذلك ضمن عملية متواصلة لاستغلال الانتصار الذي تحقق على "فتح الإسلام".

2- العمل على إلغاء كل البؤر الأمنية الخارجة عن سلطة الدولة، وإيجاد نظام لبناني – فلسطيني للسيطرة على المخيمات الفلسطينية، ومنع استعمالها كملجأ آمن لكل الهاربين من وجه العدالة، وبالتالي ضبط السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها.

3- التوافق على إنهاء الأزمة السياسية الراهنة والانطلاق في عملية قيام دولة قادرة. وتبرز في هذا الإطار الحاجة الماسة لتقوية الجيش والأجهزة الأمنية، وتعزيز سلطة القضاء من خلال سن تشريعات جديدة خاصة بمكافحة الإرهاب، وتفعيل عمل النيابات العامة والجسم القضائي الجزائي.

هذه هي خارطة الطريق التي يجب أن يعتمدها لبنان لتحويل النصر الجزئي الذي تحقق في مخيم نهر البارد إلى نصر عام وشامل.

إن الطريق شاق وطويل ولكنه ليس بالمستحيل، ونحن نملك القدرة اللازمة لتحقيق مثل هذا النصر، شرط أن تتوحد رؤيتنا لمستقبل لبنان، وأن تصفو نوايانا ونتكاتف للخروج من المنزلق الخطير الذي يهدد صيغة الحكم وسلامة المجتمع.  

 

تاسعا": التوصيات

1- توافق قوى 14 و 8 آذار على إنهاء الأزمة السياسية الراهنة وانتخاب رئيس للجمهورية تمهيداً لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتفعيل عمل الأجهزة الأمنية من خلال توحيد الرؤية والقرار.

2- تعاون المجلس النيابي والسلطة التنفيذية من أجل وضع وإصدار تشريعات وقوانين جديدة تتعلق بتحديث وتفعيل كل الإجراءات لما يعود للأمن الوطني، ونذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: قانون المواطنة والذي ينبغي أن يحدد بالتفصيل جميع واجبات وحقوق المواطنين كأفراد وجماعات، وتحديث القوانين الجزائية العائدة للأعمال الإرهابية والإعتداء على أمن الدولة والمجتمع، وقانون التوقيف الاحتياطي، وقانون التنصت على الاتصالات، وقانون دخول وإقامة الأجانب، وقانون جديد للجمعيات والأحزاب.

 

3- على الصعيد العسكري:

أ - في المدى البعيد:

إعداد خطة للإصلاح الأمني، تتضمن إعادة تنظيم الجيش وتسليحه وتدريبه وفق عقيدة تؤكد على دوره في حماية الوطن من التهديد الإسرائيلي ومن التهديدات الخارجية والداخلية على اختلافها. ولا بد أن تتضمن خطة الإصلاح الأمني عملية إصلاحية شاملة لكل الأجهزة الأمنية والاستخبارتية، مع التأكيد على تكاملها وتعاونها واخضاعها عملانياً لسلطة مركزية مرتبطة مباشرة بمجلس الوزراء.

يبقى الاستقرار السياسي والأمني رهناً بتطوير نظام الحكم من خلال تعديل صيغة الطائف، بإلغاء صيغة المحاصصة بين الطوائف، وأن المدخل لذلك إيجاد محطة مرحلية ما بين الصيغة الراهنة وإلغاء الطائفية السياسية بانتخاب رئيس مسيحي للجمهورية وانتخاب رئيس مسلم للحكومة، من دون تحديد مذهبهما، وترك الحرية للنواب في تحديد هوية رئيس المجلس بعد إعادة النظر في صلاحياته انطلاقاً من الدروس المستقاة من المرحلة الراهنة.

 

ب - في المدى القصير:

أ- الحاجة لاستدراك جميع حاجات الجيش الملحة بما فيها رفع مخزون الذخائر الثقيلة والمعدات الأساسية اللازمة للألوية والأفواج الخاصة لخوض عمليات ضد العصابات والجماعات الإرهابية.

ب- إعادة النظر في التدريب على المستويين العملاني والتكتي والفردي، والإعداد المعنوي اللازم للأفراد لخوص هذا النوع من القتال وذلك استناداً إلى الدروس والعبر المستقاة من تجربة مخيم نهر البارد والتجارب السابقة التي واجه فيها الجيش عصابات أو إرهابيين داخل المناطق الآهلة أو في الجبال.

ج- إنشاء كتيبة خاصة لتنفيذ المهمات المعقدة، والتي تتطلب مهارات قتالية متفوقة وخاصة في عمليات مكافحة الإرهاب على اختلافها.

د- شراء سرب من الطائرات النفاثة الخاصة بمهمات المساندة المباشرة للعمليات البرّية، وذلك نظراً إلى أهمية وفعالية الدور الذي يمكن أن تقدمه في حسم المعركة بالسرعة اللازمة.

 

المراجع والهوامش

1- طلال سلمان في "النصر المهرب" جريدة السفير، العدد 3 أيلول 2007، ص1.

2- العماد ميشال سليمان في تصريح لصحيفة السفير بتاريخ 3 أيلول 2007، ورد في المقال الرئيس "انتصار بالدم على الإرهاب في البارد"، ص1.

3- بيان مديرية التوجيه في قيادة الجيش الذي أوردته صحيفة الحياة في "الجيش ينهي معركة البارك منتصراً..." في الصفحة الخامسة من عدد 3 أيلول 2007.

4- طلال عتريسي، من بحث معد للنشر في مجلة الدفاع الوطني بعنوان "البيئة التي جذبت القاعدة وأخواتها إلى لبنان". تشرين ثاني 2007.

5- نزار عبد القادر، تحليل الديار تحت عنوان "هواجس أمنية وخطط مشددة لمواجهة مخاطر تفجيرات مرتقبة"، ص3، تاريخ 9 أيار 2007.

6- راجع تحليل الديار، في صحيفة الديار، صفحة 3، عدد تاريخ 9 أيار 2007 بعنوان "هواجس أمنية وخطط مشددة لمواجهة مخاطر التفجيرات المرتقبة".

7- طرحت سؤالاً على مرجع عسكري رفيع حول أسباب تأخر قيادة الجيش في اطلاق عملية عسكرية لاستئصال "فتح الإسلام" خصوصاً بعدما أدركت مستوى التهديد الأمني الذي يشكله تمدده إلى مخيم نهر البارد الجديد، حيث أصبح يمثل خطراً على اللبنانيين المحيطين بالمخيم وعلى مستعملي الطريق الدولية، وتبين لي أن ذلك يعود إلى أسباب تقنية بحتة أبرزها يعود إلى تغيب بعض القيادات العسكرية عن مواقعها لأسباب طارئة.

8- التقيت في أثناء زيارتي لواشنطن بالمسؤول عن الملف اللبناني والسوري والأردني في مجلس الأمن القومي، والذي عبَّر عن رؤية تشاؤمية حول تطوارت الوضع الداخلي في لبنان.

9- صحيفة السفير، 28 تشرين الثاني 2006.

10- صحيفة الحياة 23 آذار 2007.

11- صحيفة نيويورك تايمز "وجه جديد للجهاد يتوعد بشن هجمات ضد أميركا"، 16 آذار 2007.

12- المصدر نفسه

13- المصدر نفسه بالإضافة إلى تقرير سيمور هيرش في النيويوركر The Redirection.

14- صحيفة واشنطن تايمز "وكالة الأمم المتحدة علمت بوجود مسلحين أغراب في المخيم في لبنان"، 24 أيار 2007.

15- صحيفة لوفيغارو الفرنسية، 16 نيسان 2007 "فتح الإسلام: الخطر الإرهابي الجديد الذي يخيم فوق لبنان".

16- موسوعة ويكيباديا المجانية "فتح الإسلام"

Mhtml:file://c:\Document and setting\user1\Desktop\fatah al-Islam wikipedia.

17- وكالة رويترز، 20 أيار 2007 "حقائق عن مجموعة فتح الإسلام المسلحة".

18- FACTBOX، حقائق عن مجموعة فتح الإسلام.

19- Evelyn Leopold "سوريا تقول بأن المقاتلين في لبنان يعملون لصالح القاعدة". Alert net.

20-  مقابلة سيمور هيرش مع قناة (CNN)، والتي نقلها معظم الصحف اللبنانية وغير اللبنانية في 24 أيار 2007 "هيرش: فتح الإسلام تتلقى دعماً أميركياً". أنظر أيضاً مجلة "Reason Magazine" الأميركية.

21- Sally Buzlee – في صحيفة الغارديان في 22 أيار 2007 "حزب الله يدعم الجيش اللبناني في المواجهة".

22- وكالة رويترز 19 أيار 2007 "الجيش اللبناني يشتبك مع مسلحين في مخيم فلسطيني".

23- صحيفة السفير، 8 أيلول، الصفحة الخامسة.

24- مصدر هذه المعلومات مسؤول عسكري كبير فضل عدم كشف هويته.

25- في شريط تلفزيوني بثته قناة تلفزيون الجديد تحدث الشيخ داعي الشهال عن هذه الاتصالات المسجلة بين أحد مساعديه وأبو هريرة.

26- نورد الشرح الذي قدمه مدير عمليات الجيش العميد الركن فرنسوا الحاج عن مراحل الهجوم على المخيم، وفق ما أوردته جريدة السفير بتاريخ 5 أيلول 2007.

27- شكر وزير الدفاع الياس المر هذه الدول على تقديمها مساعدات تتضمن ذخائر ومعدات بما فيها طوافات الغازيل إلى الجيش، وقد ساهمت هذه المساعدات في تحقيق الانتصار في مخيم نهر البارد. مؤتمر صحافي في اليرزة بتاريخ 4 أيلول 2007 تحت عنوان: "الجيش يقدم جردة حساب" حضره إلى جانب وزير الدفاع اللواء الركن شوقي المصري رئيس الأركان، ومدير المخابرات العميد الركن جورج خوري ومدير العمليات العميد الركن فرنسوا الحاج. راجع عدد السفير بتاريخ 5 أيلول 2007، الصفحة 4.

28- المصدر نفسه

29- المصدر نفسه

30- المصدر نفسه

31- محمد أحمد عبد الغني، "من أثار الفكر التكفيري على مخيم نهر البارد".

32- المصدر نفسه

33- خطيب جامع طيلان في طرابلس في صلاة يوم الجمعة في 1/حزيران/2007.

 

الجدول التفصيلي ملحق رقم (1)

بيان عددي بالعسكريين الشهداء والجرحى خلال المعارك في منطقة الشمال مع تنظيم (فتح الإسلام)

 

 

 

 

المجموع

مفقود

جريح

شهيد

القطعة

 

 

 

 

رتباء

أفراد

مجندون

ضباط

رتباء

أفراد

مجندون

ضباط

رتباء

أفراد

مجندون

ضباط

 

 

 

 

 

 

 

 

بيان عددي عام

8

 

 

6

2

 

 

اللواء الأول

مفقود

جريح

شهيد

الصفة

11

 

 

10

1

 

 

اللواء الثاني

 

168

14

ضابط

28

 

 

23

3

2

 

اللواء الثالث

 

590

68

رتباء

742

 

 

655

34

47

6

اللواء الخامس

 

1131

32

أفراد

13

 

 

11

2

 

 

اللواء السادس

 

971

54

مجندون

44

 

 

33

2

9

 

اللواء السابع

 

2860

168

المجموع

94

 

 

84

5

5

 

اللواء الثامن

3028

المجموع العام

9

 

 

9

 

 

 

اللواء التاسع

 

14

 

 

13

1

 

 

اللواء العاشر

بيان عددي (نهر البارد)

9

 

 

8

1

 

 

اللواء الحادي عشر

مفقود

جريح

شهيد

الصفة

75

 

 

70

4

1

 

اللواء الثاني عشر

 

167

14

ضابط

528

 

 

474

30

21

3

فوج المغاوير

 

588

66

رتباء

314

 

 

276

16

20

2

فوج مغاوير البحر

 

1126

32

أفراد

2

 

 

2

 

 

 

مدرسة القوات الخاصة

 

963

54

مجندون

703

 

 

637

27

38

1

الفوج المجوقل

 

2844

166

المجموع

5

 

 

4

1

 

 

فوج التدخل الأول

3010

المجموع العام

11

 

 

9

2

 

 

فوج التدخل الثاني

 

 

 

 

64

 

 

52

9

3

 

فوج التدخل الثالث

 

 

 

 

7

 

 

5

2

 

 

فوج التدخل الرابع

بيان عددي (عين الحلوة)

4

 

 

3

1

1

 

فوج التدخل الخامس

مفقود

جريح

شهيد

الصفة

142

 

 

129

9

3

1

فوج الهندسة

 

1

 

ضابط

22

 

 

21

1

 

 

فوج المدرعات الأول

 

2

2

رتباء

59

 

 

54

5

2

 

فوج المدرعات الثاني

 

5

 

أفراد

19

 

 

16

2

 

1

فوج المدفعية الأول

 

8

 

مجندون

7

 

 

7

 

 

 

فوج المدفعية الثاني

 

16

2

المجموع

26

 

 

24

1

1

 

فوج الأشغال المستقل

18

المجموع العام

4

 

 

3

1

 

 

فرع مخابرات الشمال

 
 

 

المجموع

مفقود

جريح

شهيد

القطعة

 

رتباء

أفراد

مجندون

ضباط

رتباء

أفراد

مجندون

ضباط

رتباء

أفراد

مجندون

ضباط

 
 
 

5

 

 

5

 

 

 

مقر عام منطقة الشمال

 

1

 

 

1

 

 

 

الشرطة العسكرية

 

7

 

 

5

2

 

 

سرية شرطة الشمال

 

34

 

 

30

3

1

 

مديرية المخابرات

 

2

 

 

2

 

 

 

المركز العالي للرياضة العسكرية

 

1

 

 

1

 

 

 

القوات البحرية

 

6

 

 

5

1

 

 

الطبابة العسكرية

 

2

 

 

2

 

 

 

فوج النقل

 

1

 

 

1

 

 

 

فوج المضاد للدروع

 

1

 

 

1

 

 

 

مدرسة التزلج

 

1

 

 

1

 

 

 

معسكر عرمان

 

3028

 

 

2692

168

154

14

المجموع العام:

 

 

 

 

جدول يبين توزيع الشهداء بالمناطق والفئات

 

 

            المذهب

 

الفئة الثانية

المجموع

الفئة الأولى

المجموع

العام

المجموع

أقلية

إسلامية

درزي

شيعي

سني

أقلية

مسيحية

كاثوليك

ارثوذوكس

ماروني

المنطقة

2

1

 

 

1

 

1

1

 

 

 

بيروت

13

11

 

5

 

6

2

 

1

1

 

جبل لبنان

100

79

6

 

 

73

21

 

 

10

11

الشمال

36

26

 

1

17

8

10

 

4

 

6

البقاع

14

10

 

 

10

 

4

 

 

1

3

الجنوب

165

127

6

6

28

87

38

1

5

12

20

المجموع

 

 

جدول يبين توزيع العسكريين المصابين بالمناطق والفئات

 

 

            المذهب

 

الفئة الثانية

المجموع

الفئة الأولى

المجموع

العام

المجموع

أقلية

إسلامية

درزي

شيعي

سني

أقلية

مسيحية

كاثوليك

ارثوذوكس

ماروني

المنطقة

41

28

2

1

9

16

13

3

3

3

4

بيروت

248

125

 

60

17

48

123

7

8

15

93

جبل لبنان

1601

1217

92

 

24

1201

284

6

10

128

140

الشمال

717

594

1

54

378

161

123

4

46

19

45

البقاع

249

200

 

12

142

46

49

1

11

6

31

الجنوب

2856

2264

95

127

570

1472

592

21

78

171

322

المجموع

 

 

 

ملحق رقم (2) خريطة مخيم نهر البارد

The Army Triumphs in Nahr El Bared
The victory in one battle doesn’t mean the end of the war against terrorism

The researcher began from the fact that  the Army’s triumph over terrorism in the Palestinian camp of Nahr El Bared then he shed light on the emergence of this organization and its conditions and resorted to information which he drew from what he considered as “a senior security official”. Afterwards he described the battle which stretched for 106 days. He also showed the military forces which participated in the battle. Then, the researcher started analyzing the mission commissioned by the Army Command to the soldiers after receiving an authorization from the cabinet to annihilate the organization of “Fateh El Islam”. Later on, the researcher elaborated on the execution of the military operations which took place and divided them into seven stages, shedding light on the role of the Air Forces and Naval Forces and came up with practical conclusions concerning the readiness of the Army for such a battle which was a very dangerous and new experience that the Army engaged in since its reorganization in 1991. The researcher considered that the Army succeeded in an unconventional battle and managed to achieve a decisive victory.
In conclusion, the researcher confirmed that this victory doesn’t put an end to the war against terrorism which means that there is a necessity to be constantly ready. Therefore he suggested a series of recommendations on both the mid term and the long term and in his opinion, these recommendations can enable the Army to be permanently ready to face the threats. Finally, he displayed a list of martyrs and wounded Lebanese soldiers, noncommissioned officers and officers in addition to a map of the camp of Nahr El Bared.

L’armée remporte la victoire à Nahr el-Bared « La victoire dans une bataille ne veut pas dire que la guerre contre le terrorisme est terminée »

Le chercheur commence par la victoire que l’armée a remportée dans la bataille contre le terrorisme dans le camp palestinien de Nahr el-Bared, pour mettre en évidence ensuite la fondation de cette organisation et les circonstances qui l’ont entourée, tout en se basant sur des informations requises d’un «haut responsable sécuritaire». Le chercheur décrit la bataille prolongée tout au long de 106 jours, ainsi que les forces armées qui y ont participé. Il analyse ensuite la mission que le commandement, chargé par le Conseil des ministres de battre « Fath el-Islam », a confiée aux militaires, pour passer ensuite à la description des opérations militaires réparties sur sept phases, et insister sur le rôle des forces aériennes et maritimes. Le chercheur cite ensuite des conclusions opérationnelles concernant la disponibilité de l’armée pour affronter une bataille de ce genre; c’était une expérience dangereuse, on peut dire que c’est la première bataille dans laquelle l’armée se lance depuis l’an 1991, date de sa réorganisation. La victoire de l’armée fut grande dans une bataille non conventionnelle.

Le chercheur conclut en assurant que cette victoire ne veut pas dire que la guerre menée contre le terrorisme est terminée, ce qui veut dire qu’il est impératif de préserver la disponibilité de l’armée. Il a établi des recommandations pour assurer la sécurité au court tout comme à long terme et qui permettront à l’armée de rester disponible pour affronter les difficultés qui peuvent surgir.

Le chercheur établit enfin des tableaux citant les noms des officiers, des sous-officiers et des soldats martyrs et blessés, avec une carte du camp de Nahr el-Bared.