الجيوبوليتكا الإسرائيلية إزاء الضفّة الغربية وقطاع غزّة

الجيوبوليتكا الإسرائيلية إزاء الضفّة الغربية وقطاع غزّة
إعداد: د. معين حداد
استاذ جامعي.

إن تعبير الجيوبوليتكا والتعابير المرادففة مثل الجيو سياسة أو الجغراسيا وحتى الجغرافيا السياسية يجري استخدامها بكثافة ولكن بشكل يكتنفه الغموض والإبهام, وذلك في وسائل الإعلام كما في نصوص ومنشورات يتوهّم أصحابها أنهم يتناولون مفهوم الجيوبوليتكا (أو ما يرادفها) على نحو علمي وصحيح.
إن علم الجيوبوليتكا هو تيار بحثي أكاديمي يعنى بنزاع الجماعات (قوى سياسية, دول...) على أراضٍ, تعتبرها كلّ جماعة من هذه الجماعات ملكاً لها, وذلك انطلاقاً من أفكار وتصوّرات تتبناها وتصوغها هذه الجماعة أو تلك إزاء الأراضي المتنازع عليها وتشكّل هذه الأفكار والتصوّرات جيوبوليتكا خاصة بالجماعة المعنية بالنزاع, تحتوي حكماً على طموحات ومطالب أرضانية Territoriales تساهم في اختيار وتحديد السُبل والاستهدافات الآيلة إلى الاستثمار بالأراضي المتنازع عليها. وعليه فإن علم أو منهج الجيوبوليتكا يسعى إلى تحليل الأفكار والتصوّرات الأرضانية, أي الخاصة بالأراضي المتنازع عليها, مع الإحاطة بالمكوّنات الجغرافية لهذه الأراضي, وذلك بهدف تحديد محتوى وحجم النزاع, واستشراف مناحيه, والمساهمة في إيجاد الحلول له([1]).
بدأ الصراع على فلسطين, مطلع القرن العشرين, وتحوّل في نهاية هذا القرن إلى نزاع على قسم منها يتألّف من الضفّة الغربية وقطاع غزّة (رسم 1). جاء هذا التحوّل بعد تراكم هائل من الأحداث الحافلة والدرامية المثيرة, تقاطعت فيها الموجات العسكرية مع الأنشطة الديبلوماسية على المستويات الإقليمية والدولية؛ وأنتجت موازين القوى المتصارعة, قرار الأمم المتّحدة الشهير 242 عام 1967 الذي أيّد “حق إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة” اعترفت به الدول العربية ومنظّمة التحرير الفلسطينية, تباعاً, بالمقابل أنتجت موازين القوى عينها في ما بعد, مؤتمر مدريد, ثمّ اتفاقيات أوسلو عام 1993 بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينية, والتي بموجبها حصل الفلسطينيون, بتأييد من المجتمع الدولي, على “حق إقامة دولتهم في أراضي الضفّة الغربية وقطاع غزّة”.
منذ ذلك التاريخ, ما تزال عملية التسوية مستمرّة, ولا شيء يشير إلى توقّفها أو إلغائها, رغم العثرات المتكاثرة, والتردّيات المستفحلة. ذلك أن مجمل الأحداث مهما بلغت من الخطورة تبدو وكأنها عاجزة عن اختراق السقف المبني على ركيزتين: الأولى قبول الدول العربية بوجود إسرائيل “ضمن حدود آمنة” والثاني قبول إسرائيل بقيام “الدولة الفلسطينية” على الأراضي الفلسطينية (أي الضفّة والقطاع) التي احتلّتها إسرائيل عام 1967.
ولكن لما كانت إسرائيل هي التي تتمتّع بالتفوّق الستراتيجي الذي تؤمّنه لها الولايات المتحدة الأميركية, فإنّنا نحاول هنا الكشف عن الأوجه المتعدّدة للاستهدافات الإسرائيلية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة, إنطلاقاً من مقاربة الجدلية القائمة بين الجيوبوليتكا الإسرائيلية من جهة وأراضي الضفّة والقطاع من جهة أخرى. لذا فإن الإشكالية التي نعالجها تتراتب أسئلتها المحورية على النحو التالي:
­ كيف تبدو رؤية إسرائيل إلى أمنها وحدودها الآمنة بعد إقرارها بضرورة الإنسحاب من أراضي الضفة والقطاع مع ما يعترض هذا الإنسحاب مع تصوّرات وأفكار الإسرائيليين الخاصة بهذه الأراضي؟
­ ما هي الوقائع الميدانية والتطوّرات الموضوعية في كلّ من الضفّة والقطاع والتي تمنع الجيوبوليتكا الإسرائيلية من تحقيق وتنفيذ كامل استهدافاتها؟
­ كيف ينعكس مجمل هذه الأمور على عملية التسوية؟

جدلية الجيوبوليتكا الإسرائيلية والجغرافية الفلسطينية
الجيوبوليتكا بما هي نزاع متنوّع الأبعاد والأشكال على الأراضي, تجعل من جغرافية هذه الأراضي بمكوّناتها الطبيعة والبشرية عاملاً أساسياً في تحديد أطر ومناحي هذا النزاع.

1 ـ الحدود الآمنة
في حين شكّلت الجيوبوليتكا الصهيونية محرّكاً فاعلاً للعمليات الاستيطانية اليهودية في فلسطين, فإن الجيوبوليتكا الإسرائيلية تجد نفسها مضطرّة لإيلاء موضوع “الأمن” الأفضلية على موضوع “الاستيطان”. ذلك أن تطوّر العلاقة بين “الأمن” و”الاستيطان” قد دخل مرحلة جديدة بات فيها تغليب “الأمن” على “الاستيطان” أمراً لا مفرّ منه, بعدما وصلت الجيوبوليتكا الصهيونية إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه من تحقيق لطموحاتها الأرضانية Territoriales([2]).
بمعنى آخر لم يعد بالإمكان الأخذ بتلك المشاريع الطموحة التي حلمت بها الحركة الصهيونية في النصف الأوّل من القرن العشرين وأخذتها على محمل الجد مثل المشاريع التي توصي بإنشاء “إسرائيل الكبرى” الممتدّة حتى عمان وبيروت ودمشق أو الشعارات التي تقول “أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل”: هذه المشاريع والشعارات التي ما انفكّت بعض الأقلام العربية تذكر بها أو بما هو قريب إليها ظنّاً أنّها تحذّر من الخطر الصهيوني, لم يعد لها أيّ مصداقية, وهي في مختلف الأحوال تطلّعات صهيونية كان أصحابها يدركون أنّه لا يمكن لهم متابعتها ميدانياً. غير أن إطلاق آلية التداول بها أدّى في الجانب العربي إلى إنتشار نوع من الأدبيات السياسية التي تقف إلى هذه الدرجة أو تلك حائلاً دون اتساع المقاربات العلمية لهذا الموضوع الخطير. فالاستيطان, ومنذ الستينات من القرن العشرين كان قد استنفذ إمكانياته ذات المواصفات التوسّعية الكبرى. وهذا الاستنفاذ هو الذي وضع “الأمن” “والحدود الآمنة” في أولويات الاهتمامات الإسرائيلية.
ولكن في الواقع لا توجد على الأرض حدود آمنة بحدّ ذاتها, أو حدود أمنية بالمطلق, إذ ما قد يكون آمناً لفريق قد لا يكون آمناً للفريق الثاني, الأمر الذي من الممكن أن يهدّد أمن الفريق الأوّل. وعليه فالأمن إما أن يكون بالتوافق الكلّي والشامل, أو لا يكون. والمعروف أن ترسيم الحدود السياسية بين الدول يخضع لثلاث مراحل, تبدأ بالتعريف الذي يسمّي الأماكن الجغرافية ويحدّد المناطق التي تمرّ فيها خطوط الحدود, وفي المرحلة الثانية تُرسم الحدود على الخرائط, وفي المرحلة الثالثة يتمّ تعيين خطوط الحدود على الأراضي من خلال تثبيت نقاط مرقّمة ومعالم حدودية أو نشر أسلاك شائكة... وفق ما تقتضيه الظروف القائمة بين الدول المعنية بترسيم حدودها السياسية. هذا, ولمّا كانت خطوط الحدود تخترق مساحات جغرافية تتوزّع على الأفرقاء المتنازعين, فإن تقييم الميزات الستراتيجية لهذه المساحات تكون الشغل الشاغل لكلّ فريق على حدة قبل وأثناء وحتى بعد ترسيم الحدود, وذلك من خلال البحث عن العناصر التي تجعل من جغرافية المناطق الحدودية حليفاً موضوعياً على الأرض في حال المواجهة العسكرية أو التوتّرات الأمنية. لذلك فإن تعبير “الحدود الآمنة” ينطوي بالضرورة على معان مغايرة بالنسبة لكلّ فريق من أفرقاء النزاع. وقد تصل عند الشروع في تنفيذ وتحقيق ترسيم الحدود إلى مستوى مستعر من التناقض.
والحال, أن السلام أو الحرب بين الدول يبقيان مرهونين بموازين قوى شاملة تتجاوز خطوط الحدود المرسومة على الخرائط والمعيّنة على الأراضي؛ فهذه الموازين تأخذ بعين الاعتبار هيئة هذه الأراضي بمكوّناتها الطبيعية والبشرية. وعليه فإذا كان هذا حال الأمن بين الدول, فماذا تكون عليه بين الإسرائيليين والفلسطينيين بعد التوافق على قيام الدولة الفلسطينية, لا سيما وأن الفريقين يتقاسمان الأراضي ذاتها؟ من هنا صارت الجغرافيا تحتلّ الحيّز الأوسع في تحديد العلاقة الأمنية وفي عملية ترسيم الحدود بين الدولتين.

2- ­ الجغرافيا الفلسطينية
تصل مساحة فلسطين بحدودها الدولية التي وضعها الانتداب البريطاني (بالتوافق مع الفرنسيين في اتفاقيات سايكس بيكو) والتي جرى عليها الصراع بين الحركة الصهيونية والفلسطينيين, إلى حوالى 28 ألف كلم2, وهي تتوزّع على وحدات جغرافية طبيعية متنوّعة, (رسم 2) الضفّة الغربية (أي غرب نهر الأردن) تقوم على بنية جيولوجية تتشكّل من ثنية محدبة رئيسية ذات محور طولي, وهي على قدر كبير من الاتساع. تتميّز هذه الثنية بانحناء شديد لطبقاتها الجيولوجية نحو الشرق, تزيد من حدّته صدوع جيولوجية (رسم 3 مقطع-­ ج -­ د) تواكب حفرة الانهدام في غور الأردن, بينما تميل الطبقات الجيولوجية إلى الغرب على نحو معتدل نسبياً. وتتوزّع التضاريس الفلسطينية عموماً من البحر إلى نهر الأردن على الشكل التالي: سهل ساحلي, هضاب السفوح الغربية, المرتفعات الجبلية في الأواسط, ثم السفوح الشرقية ذوات الهضاب الضيّقة والمدرجة والتي يعود تدرجها إلى سلسلة الصدوع المواكبة لحفرة انهدام الأردن. فغور الأردن الممتد من بحيرة طبريا في الشمال إلى البحر الميت في الجنوب. ويبلغ متوسّط ارتفاع خط القمم أو خط توزيع المياه الذي يتواجد في الضفّة الغربية (رسم 3), نحو 100 م., ويصل في الجنوب إلى 1020 م. بالقرب من مدينة الخليل, وإلى 1040 م. بالقرب من مدينة نابلس في الشمال, لكنّه ينخفض بين الموقعين في ممر القدس إلى 650م.
ولمّا كان خط القمم يتوافق مع المحور الطولي للثنية الجيولوجية الرئيسة, المذكورة أعلاه, فإنّه نظراً للفروقات بين انحنائها نحو الغرب وانحنائها الآخر والأشد نحو الشرق, فقد بات خط القمم أقرب إلى غور الأردن منه إلى البحر المتوسّط بنسبة الثلث إلى الثلثين (رسم 3 مقطع أ -­ ب). وقد تموضعت على خط القمم أو خط تقاسم المياه وبالقرب منه مدن الضفة الغربية الرئيسة باستثناء مدينة أريحا, الأمر الذي جعل هذه المدن تشرف بشكل مباشر, لا على غور الأردن وحسب, وإنّما على السفوح الغربية والسهل الساحلي أيضاً, أي على المناطق الأكثر حيوية في إسرائيل حيث تتمركز الأنشطة الاقتصادية الأساسية المدينية الاستقطابية في شريط ضيّق جغرافياً وهش ستراتيجياً (رسم 4).

3- ­ الجغرافيا التوراتية وأمن إسرائيل
تنهض الجيوبوليتكا الإسرائيلية, كما الجيوبوليتكا الصهيونية من قبلها, على التصوّرات التوراتية للأراضي الفلسطينية المبنية على ذاكرة تختزن شتى ضروب الصراعات السياسية والعسكرية.
في التاريخ القديم كان اسم إسرائيل ينطوي على معان عدّة, ومنها ما كان يشير إلى المجال الجغرافي الذي توجد فيه الأسباط العبرية البالغ عددها 12 سبطاً, ويمتدّ هذا المجال من دان في شمال فلسطين إلى بئر السبع في جنوبها (رسم 5), كما أن من معاني اسم إسرائيل ما كان يشير إلى المجموعة اليهودية الموجودة في شمال فلسطين فقط, والتي كانت تشكّل مملكة تعرف باسم عاصمتها السامرة, وهذه المملكة كانت على خلاف مع المملكة اليهودية الأخرى في الجنوب والتي كانت تُعرف باسم مملكة يهودا. لكن “الملك داوود” تمكّن من تحقيق الوحدة بين “يهودا والسامرة”, تحت اسم مملكة إسرائيل, واتخذ من مدينة القدس ذات الموقع المحايد جغرافياً بين المملكتين عاصمة له. وقد تمتعت بعد ذلك مملكة إسرائيل بازدهار ملحوظ “وكان يهودا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة يأكلون ويشربون ويفرحون”([3]) هذا ويقوم المشروع الصهيوني برمّته على إحياء “مملكة داوود” وعاصمتها القدس. لذلك تحوّلت الضفة الغربية في مجمل المعاملات الإدارية والرسمية بعد احتلالها سنة 1967 إلى “يهودا والسامرة” في إشارة إلى أن اليهود قد استعادوا الأجزاء الأساسية من “أرض إسرائيل”.
لكنّ التسوية مع الفلسطينيين تقتضي الانسحاب من هذه الأجزاء, وعليه يصبح السؤال الشائك بالنسبة للإسرائيليين: كيف تنسحب إسرائيل من أرض إسرائيل؟ يبدو من طبيعة هذا السؤال أنه يصدم المفاهيم المنغرزة في التصوّرات الصهيونية لأراضي فلسطين, لذا فإن الانسحاب من الضفّة الغربية يؤسّس لتبدّلات جوهرية في العقيدة الصهيونية, وبالتالي في عقيدة دولة إسرائيل. إلى ذلك تحمل مسألة الانسحاب أيضاً على المستوى الستراتيجي بعداً آخر, إذ يدرك الإسرائيليون اليوم أن قدرة “أجدادهم” على الاحتفاظ بأراضي “يهودا والسامرة” خلال ثلاثة عشر قرناً لم تكن وليدة ذلك “التحالف الربّاني” أي تحالف “الله مع شعبه المختار” بقدر ما كانت مبنية على عوامل جغرافية طبيعية حليفة لهم في دفاعهم عن هذه الأراضي وحمايتهم لها. وهم يعتبرون اليوم أن “أجدادهم” لم يخسروا “يهودا والسامرة” أمام الجيش الروماني إلا بعد أن “تعاونت” عائلة الملك هيرودس مع هذا الجيش, والتعاون مع العدو يعني الخيانة.
ذلك أن “يهودا والسامرة” بما هي أراضي مرتفعة, تشرف على السفوح الغربية والسهل الساحلي وتتفوّق عليهما من الوجهة الستراتيجية. والمفارقة اليوم هي تموضع الإسرائيليين في الأراضي المنخفضة بينما يقطن الفلسطينيون الأعالي, فقد انقلب الوضع بالنسبة للتاريخ. كان اليهود في التاريخ يتمركزون في الأعالي ويتحيّنون الفرص للانقضاض على الكنعانيين “أجداد” الفلسطينيين في السهول الساحلية حيث كانت “مدنهم تفيض لبناً وعسلاً”(3) ونظراً إلى تداخل العناصر البشرية للفريقين ضمن مجال جغرافي واحد فإن الترسانات الصاروخية والنووية التي تملكها إسرائيل لن تجدي نفعاً في حال اختلال موازين القوى بالنسبة لما هو عليه اليوم. لذلك سيبقى النزاع الفلسطيني ­ الإسرائيلي محكوماً بالمفاهيم الجيوستراتيجية التقليدية. بينما اتخذ ويتخذ نزاع إسرائيل مع الدول العربية منحاً آخر يتشكّل من مفاهيم ستراتيجية عسكرية مغايرة للمفاهيم الأولى.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن انقلاب الأوضاع بالنسبة للتاريخ لا يقتصر على التوزيع الجغرافي لكلا الفريقين الإسرائيلي من جهة والفلسطيني من جهة أخرى, بل يتعدّاه إلى سبل المواجهة بينهما. ويفيد ما جاء في التوراة أن “النبي داوود” قد صرع “الفلسطيني” “غوليات” الجبّار المدجّج بالسلاح عندما تمكّن بمقلاعه من رمي غوليات هذا بحجر قاتل. وجاء مصرع هذا الأخير وظفر “النبي داوود” في المبارزة الحاسمة بين الاثنين ليحوّل سير القتال بين “الفلسطينيين” من جهة و”اليهود” من جهة أخرى ويتأمّن بذلك انتصار هؤلاء على أولئك. واليوم تنعكس الأدوار بين الفريقين, فالفلسطينيون هم الذين يواجهون بالحجارة اعتى آلة عسكرية في العالم, والتي تذكر إلى هذا الحد أو ذاك بغوليات الجبار([4]).
إلى ذلك تنفرد مدينة القدس بحالة خاصة في سياق التسوية بما تملكه من حدّة رمزية بالنسبة لكلا الفريقين, غير أنها لا تختلف في العمق عن سائر المناطق المتنازع عليها من حيث مكانتها الستراتيجية. في التاريخ دمّرها الرومان تمهيداً لسيطرتهم على “يهودا” أي الجزء الجنوبي من الضفة الغربية, لأنها تشكّل عقدة التقاطع بين الطريق الذي يربط الشمال بالجنوب (رسم 6) والممر الوحيد الذي يصل الغرب بالشرق في محاذاة البحر الميت, الذي يشكّل حاجزاً طبيعياً أمام حركة المرور البرية. لكن المدينة, فضلاً عن ذلك, ترمز بالنسبة لإسرائيل اليوم من بين ما ترمز إليه, إلى الوحدة السياسية التي أسّسها “الملك داوود” عندما جعلها عاصمة لمملكته. لذلك فإن تهويدها وامتلاكها من قبل إسرائيل في الوقت الراهن هما في اعتبار الإسرائيليين أساسيان لاستمرار إسرائيل كأمّة متجذّرة في المنطقة بشكل عام.
وقد نشأ عن مجمل التصوّرات للأراضي المحتلّة بعد عام 1967 حقل معرفي جديد في إسرائيل راح ينمو باضطراد وهو يشكّل أسلوباً خاصاً في مقاربة التاريخ يقضي باستغلال علم الآثار لأهداف سياسية, ودعي هذا الحقل المعرفي “علم الآثار السياسي” Archéologie politique([5]), ويرمي البحث فيه إلى تحديد وتعيين المواضع والمساحات التي كان يملكها “الأجداد”, ليصار إمّا إلى زرع المستوطنات فيها حيثما تسمح الظروف, وإمّا إلى إنشاء نقاط أمنية وعسكرية (تمهيداً أحياناً لإنشاء مستوطنات جديدة حولها) تمكّن الإسرائيليين من الإمساك بزمام الأمور والسيطرة على السكان الفلسطينيين.

4- ­ الحدود الشرقية: نهر الأردن ودوره الأمني
لما كانت الدروس المستقاة من الجغرافيا التوراتية, مضافة إليها المعطيات الجيو ستراتيجية, تعلن عن الهشاشة الأمنية للسهول الساحلية في غرب فلسطين حيث يتكاثف السكان الإسرائيليون اليوم, فإن القبض على نواحي المرتفعات لجهة الشرق يقضي بجعل نهر الأردن الواقع وراء هذه المرتفعات التي تتموضع على متونها مدن الضفّة الغربية وسائر المراكز السكنية الفلسطينية, حداً طبيعياً وسياسياً لدولة إسرائيل.
ويجمع الإسرائيليون على اختلاف انتماءاتهم السياسية على أن نهر الأردن يقع ضمن “أرض إسرائيل”, ولمّا كان معظمهم يعتبر أن “أرض إسرائيل” هي من حق دولة إسرائيل” فقد أقدمت هذه الدولة بعد سنة 1967 على زرع مستوطنات ونقاطاً عسكرية على طول المجرى الثاني للنهر لجهة ضفّته اليمنى بحيث باتت إسرائيل تشرف مباشرة على طول النهر وتتحكّم فيه في الوقت نفسه.
يبلغ طول النهر بين بحيرة طبريا في الشمال والبحر الميت في الجنوب 118 كلم. ويراوح عرض السرير الكبير لوادي النهر ما بين 10 و15 كلم, لكنّ منسوب النهر بحدّ ذاته متواضع, وتعتري مجراه أمكنة كثيرة تتميّز بالضحالة, ممّا دفع بالمستوطنين اليهود بالقرب منه إلى استثمار المياه الجوفية بواسطة الآبار لسدّ حاجاتهم نظراً لضحالة مياه النهر. ذلك أن مياه بحيرة طبريا التي تغذّي النهر قد تمّ سحبها نحو المراكز السكنية في إسرائيل (بنسبة 60 بالمئة من حجمها).

هذه المعطيات تفيد أن نهر الأردن لا يشكّل من الناحية الستراتيجية سوى حاجز طبيعي ثانوي أمام العمليات العسكرية الواسعة. لكن أصحاب القرار في إسرائيل, لا سيما الستراتيجيون منهم, يتمسّكون به, لا لأنّه يؤمّن لهم مواجهة أفضل للجيوش القادمة من الشرق وحسب, بل لأنّه يتيح لهم الاحتفاظ بالسيطرة العسكرية والأمنية على الضفّة الغربية من خلال تطويق مدنها الفلسطينية, بالإضافة إلى أنه في الوقت نفسه يؤمّن شروطاً فضلى للدفاع عن مدينة القدس.

تحدّيات في مواجهة الجيوبوليتكا الإسرائيلية
تعرّضت العمليات الاستيطانية (بما هي الأداة التنفيذية للجيوبوليتكا الصهيونية) لجملة من العوائق([6]) شكّلت كوابح حاسمة لها. وفي السياق ذاته واجهت وتواجه الطموحات الاستيطانية للجيوبوليتكا الإسرائيلية في أراضي الضفّة الغربية وقطاع غزّة أوضاعاً تجافي هذه الطموحات حتى الاستعصاء. ويمكن إيضاح ذلك عبر النقاط التالية:

1 ـ محدودية الموارد الديموغرافية
أثبتت التجارب الاستيطانية في العالم الحديث([7]) أن تكثيف الاستيطان وتمدّده عموماً يقومان على موجات كبرى ومتتالية من المهاجرين الوافدين الجدد بما يؤدّي إلى كسر التوازن الديموغرافي مع السكّان الأصليين, الأمر الذي يتطلّب فائضاً ديموغرافياً للمستوطنين يساهم في تأمين اتساع العمليات الاستيطانية والسيطرة على الأراضي الجديدة والتحكّم في مجالاتها الجغرافية لتنظيمها على نحو مجدٍ.
غير أن إسرائيل منذ نشأتها وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين لم تشهد سوى موجتين كبيرتين من المهاجرين الوافدين اليهود (رسم 7), الأولى جرت في مرحلة النشأة, أي في أواسط القون العشرين, والموجة الثانية في التسعينات من القرن المذكور, أطلقها انهيار الاتحاد السوفياتي وتمثّلت بهجرة اليهود من جمهوريات الكتلة الشرقية المفكّكة, لا سيما الروسية منها.
ما بين الموجتين, لم يكن الميزان الديموغرافي بين المهاجرين الوافدين إلى إسرائيل والمهاجرين المغادرين منها يتمتّع بذاك الفائض الذي يمكّن المجتمع الإسرائيلي والدولة الإسرائيلية, (وكلاهما في الأصل مجتمع استيطاني) من امتلاك دينامية تنحو تلقائياً باتجاه التوسّع. ففي عامي 1953 و1966 انخفض الفائض الديموغرافي إلى درجة الصفر. وبعد احتلال أراضي الضفّة الغربية وقطاع غزّة عام 1967, أي بعد أن اشتدّت حاجة إسرائيل إلى مهاجرين وافدين جدداً لتحقيق طموحاتها في الأراضي التي احتلّتها, شهد عاما 1975 و1976 انخفاضاً حاداً في حجم المهاجرين الوافدين, أمّا الأخطر من ذلك فهو ما جرى بين عامي 1980 و1988 عندما سجّل عدد المهاجرين المغادرين من إسرائيل تفوّقاً ملحوظاً على عدد المهاجرين الوافدين إليها, ممّا يعني أن دولة إسرائيل لم تتمتع بالقدرة الاستقطابية السكانية التي أمِلَت الحركة الصهيونية في أن تمارسها هذه الدولة على اليهود في العالم.
أمّا بالنسبة للموجة الأخيرة, أي التي عُرفت باسم “الموجة الروسية”, فعلى الرغم من أهميّتها العددية وخطورة تداعياتها, فإنها لم تؤدِ إلى ارتفاع وتيرة الاستيطان في أراضي الضفّة الغربية وقطاع غزّة. فقد قُدّر مجموع الذين وصلوا إلى إسرائيل بين 1989 و1995 بمليون نسمة([8]) ولكن غادر منهم حوالى 300 ألف باتجاه الولايات المتحدة والدول الأميركية الأخرى, كما تبيّن بعد مدّة أن مواطنين من الجمهوريات السوفياتية سابقاً, غير يهود, قد تمكّنوا من الاندساس في صفوف القادمين إلى إسرائيل. وقُدّر عدد “المندسّين” ما بين ثلاثين وخمسين ألف نسمة وهم بطبيعة الحال غير مبالين بالشؤون الإسرائيلية لا سيما الطموحات الاستيطانية والتوسّعية منها.
كان من المنتظر أن تؤدّي الموجة الروسية إلى تفعيل العمليات الاستيطانية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة على نحو واسع. غير أن الأكثرية الساحقة من الروس فضّلوا البقاء داخل الخط الأخضر, أي ضمن حدود إسرائيل 1948, ممّا يشير إلى أن إسرائيل لم تتمكّن خلال أكثر من ربع قرن على الاحتلال من خلق شروط استقطابية للاستيطان الواسع في الضفّة الغربية وقطاع غزّة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن إبرام اتفاقية أوسلو عام 1993 وإقرار إسرائيل بقيام الدولة الفلسطينية وما يستلزم ذلك من إنسحابات من الضفة الغربية وقطاع غزّة, قد توافق مع بدء انحسار الموجة “الروسية” من المهاجرين الوافدين, ممّا يعني أن إسرائيل تدرك أن أفق الاستيطان الواسع, أي الذي يحمل إمكانية الاستملاك التام للأراضي المحتلّة بعد عام 1967 تمهيداً لابتلاعها, قد بات مسدوداً.
وممّا يشير إلى عرقلة الطموحات الاستيطانية هو ما آلت إليه الأوضاع الديموغرافية عموماً في الضفّة الغربية وقطاع غزّة. ذلك أن إسرائيل قد زرعت خلال ربع قرن من الإحتلال 180 مستوطنة, يقدّر مدى استيعابها في حال توافر الشروط الملائمة بحوالى مليون نسمة. غير أن عدد المستوطنين بقي حتى عام 2001 في حدود 300 ألفاً, مع العلم أنه في مطلع الثمانينات جرى احتساب اسقاطات ديموغرافية مستقبلية أفادت بأنّ عدد المستوطنين اليهود في الضفّة الغربية وقطاع غزّة من الممكن أن يصل إلى مليون ونصف المليون نسمة في نهاية العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين([9]).
إلى ذلك بلغت تكاليف المستوطنات في كلّ من الضفة الغربية وقطاع غزّة حوالى ثلاث مليارات دولار. وقد ساهم ارتفاع التكاليف في جعل هذه المستوطنات عبءاً على الاقتصاد الإسرائيلي, ممّا حدّ من تمدّدها على نحو واسع, وساهم في الوقت عينه في شق المجتمع الإسرائيلي وإحلال خلافات في وجهات النظر على الصعيد السياسي الخاص بالتسوية مع الفلسطينيين, بين السكان داخل الخط الأخضر من جهة والمستوطنين المتشدّدين خارج الخط المذكور.
بالإضافة إلى ذلك, تعرّضت “الروح الريادية” التي تميّز بها المستوطنون اليهود خلال النصف الأوّل من القرن العشرين للتآكل والإنحلال([10]) وفقدت الأجيال الجديدة التي نمت في كنف الدولة الإسرائيلية حماس الأجيال السابقة في إقتحام الأراضي الجديدة. هذا من جهة, ومن جهة أخرى, عندما احتلّت إسرائيل الضفة الغربية, أطلقت عليها إسم “يهودا والسامرة”. كانت إسرائيل تريد من العالم أن يعترف أنها استردّت أرضاً ملكاً لها, ضاعت منها في التاريخ, غير أن هذه التسمية لم تتمكّن من شق طريقها في وسائل الإعلام الدولية, مع العلم أن للمتعاطفين مع إسرائيل من يهود وغير يهود نفوذاً ملحوظاً في هذه الوسائل, ومع ذلك بقيت “الضفة الغربية” تعرف في وسائل الإعلام الأنغلوفوني West Bank وفي الإعلام الفرنكوفوني بـ Cisjordanie. واستمرّت هذه التسميات في المحافل والأوساط الديبلوماسية الدولية, الأمر الذي يشير إلى عدم إقتناع العالم بملكية إسرائيل للضفة؛ وعدم الإقتناع هذا ساهم في إفقاد الاستيطان مبرّراته على الصعد الديبلوماسية الدولية.

2 ـ المواجهة الديموغرافية
تتميّز المواجهة الديموغرافية, إذا جاز التعبير, بين الفلسطينيين, من جهة واليهود من جهة أخرى, في أن التزايد السكاني الفلسطيني الطبيعي يتجاوز 4 بالمئة, بينما لا يتعدّى التزايد السكاني لليهود 2 بالمئة.
يُقدّر عدد الفلسطينيين في الضفّة الغربية وقطاع غزّة مع مطلع عام 2001 بثلاثة ملايين نسمة, مليونان في الضفة, ومليون في القطاع. ويُقدّر عدد الإسرائيليين بستّة ملايين نسمة, إنّما بينهم مليون نسمة هم من الفلسطينيين العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية, ممّا يعني أن فلسطين بحدودها الدولية الانتدابية تضمّ خمسة ملايين نسمة من اليهود مقابل أربعة ملايين نسمة من الفلسطينيين. ولمّا لم يعد في الأفق موجة كبرى من المهاجرين الوافدين اليهود إلى فلسطين على غرار الموجة الروسية, فإن الفارق العددي بين الفلسطينيين من جهة واليهود من جهة أخرى آخذ بالتضاؤل نظراً لارتفاع الزيادة السكانية الفلسطينية قياساً على الزيادة اليهودية, ممّا يجعل عمليّة “إغراق” الأراضي المحتلّة بعد 1967 بالمستوطنين اليهود كمقدّمة افتراضية لضم هذه الأراضي إلى الدولة الإسرائيلية أمراً مستحيلاً, مع العلم أن ضم الأراضي المحتلّة (بعد 1967) حالياً يؤدّي إلى اكتساب ثلاثة ملايين فلسطيني للجنسية الإسرائيلية, يضافون إلى المليون فلسطيني الموجودين داخل الخط الأخضر, ممّا يعني أن هذه الأعداد وما ستؤول إليه من ازدياد من شأنه أن يقوّض أسس الدولة الإسرائيلية برمّتها, إذ من المتوقّع أن يتجاوز عدد الفلسطينيين عدد اليهود في فلسطين بحدودها الدولية الانتدابية في أقل من عقدين من الزمن. وقد شاعت إزاء هذه المعطيات لدى الإسرائيليين فكرة ترحيل أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى الخارج دعيت الترانسفير Transfere([11]) كحل يريح إسرائيل من المواجهة الديموغرافية مع الفلسطينيين. غير أن الوقائع الميدانية والاقتصادية والظروف الدولية قضت على إمكانية وضع فكرة الترحيل هذه موضع التنفيذ بشكل جدّي أو منهجي.
لا شك أن المعطيات الديموغرافية وتطوّراتها لم تكن خافية على الإسرائيليين, وهم منذ نشأة دولتهم أدركوا خطورتها. ففي سنة 1949 عكس مسؤولون عديدون في الإدارة الإسرائيلية الشعور بأنه يوجد على أراضي دولتهم فلسطينيون أكثر ممّا ينبغي, مع العلم أن هؤلاء الفلسطينيين الذين مُنحوا الجنسية الإسرائيلية كانوا في حدود 150 ألف نسمة, إلا أن ارتفاع معدّل الولادات في صفوفهم كان ملحوظاً. لذلك حذّر نواب في الكنيست أن الفلسطينيين الإسرائيليين سيزدادون بسرعة. وقد دفع هذا القلق حكومة إسرائيل آنذاك إلى تقديم جائزة تهبها الدولة لكلّ أم تلد طفلها العاشر, في محاولة لحث اليهود على رفع معدّلات الولادات لديهم. لكنّ الحكومة بعد عشر سنوات ألغت الجائزة عندما تبيّن أن الجائزة التي كانت ترمي في الأصل إلى حض النساء اليهوديات على الإنجاب فازت بها نساء كثيرات عربيات. وللتخلّص من هذه المشكلة اقترحت الحكومة الإسرائيلية نقل مسؤولية التشجيع على الإنجاب من الدولة إلى الوكالة اليهودية([12]). وبذلك تنحصر الجائزة بالنساء اليهوديات دون الفلسطينيات من اللواتي يحملن الجنسية الإسرائيلية.
غير أن ما عُرف عن الإسرائيليين من دقّة في التخطيط وطول النفس في العمل على تحقيق ما يرمون إليه يتيح لنا التأكيد أنهم لم يفاجأوا بالتطوّرات التي أملت عليهم القبول بالدولة الفلسطينية على أراضي الضفة والقطاع, ومن بين هذه التطوّرات تلك المتعلّقة بالأوضاع الديموغرافية في فلسطين وتداعياتها على مختلف الصعد. وما يعزّز هذا التأكيد أنهم بعد عام 1967 ضمّوا إلى دولتهم في بداية الثمانينات كلاً من الجولان السوري المحتل ومدينة القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلّة, بينما استمرّت سائر الأراضي المحتلّة في عهدة الإدارة العسكرية دون إلحاقها بدولة إسرائيل, ممّا يعني أنهم أبقوا على إمكانية التفاوض عليها وبالتالي على إمكانية الإنسحاب من أجزاء منها, على أن يتم تعيين هذه الأجزاء بعد النظر بما ستؤول إليه عمليات الاستيطان في الضفة والقطاع وما ينتج عن هذه العمليات من وقائع ميدانية مستجدّة.

الاستيطان أدام متعدّدة الإستهدافات
إزاء الوقائع التي تمنع تحقيق طموحات الجيوبوليتكا الإسرائيلية في أراضي الضفة والقطاع عمدت إسرائيل إلى استخدام الاستيطان في استهدافات متنوّعة ومتعدّدة (رسم 8 و9).

1 ـ قطاع غزة
يأخذ قطاع غزّة شكل مستطيل يبلغ طوله حوالى 40 كلم وعرضه الأقصى عشرة كيلومترات, وهو مسطّح التضاريس لا يتجاوز أعلى الإرتفاعات فيه المئتين متر, يشكّل سهلاً ساحلياً إنّما مناخه شبه صحراوي([13]).
ولمّا كانت مساحة القطاع 370 كلم2 وعدد سكّانه حوالى المليون نسمة فإن الكثافة السكانية تصل فيه إلى أعلى المعدّلات في العالم حيث أنها تتجاوز 2700 نسمة في الكلم المربّع الواحد. هذا الاكتظاظ السكاني يتمحور حول ثلاث مدن رئيسية بمجمل صفات المدن الريفية في العالم النامي أو الفقير.
أمّا عن أسباب الحشد البشري على هذه المساحة الضيّقة فتعود إلى أن 800 ألف نسمة من سكان قطاع غزّة هم من اللاجئين الذين أنتجتهم المواجهات العسكرية المتكرّرة في فلسطين.
زرعت إسرائيل في قطاع غزّة 16 مستعمرة لكن عدد المستوطنين اليهود لم يتجاوز حتى عام 2000 الستة آلاف مستوطن. وقد صادرت إسرائيل 35 بالمئة من أراضي القطاع على نحو يمكّنها من محاصرة السكان, كما ربطت المستعمرات بشبكة من الطرق, يُمنع على الفلسطينيين ارتيادها, ممّا يعني أن إسرائيل قد وضعت في تصرّف المستوطنين الستة آلاف أكثر من 120 كلم2 من أراضي القطاع بينما لم يبق للمليون فلسطيني سوى أقل من 250 كلم2. وعليه فإن تقسيم الأراضي على هذا النحو يجعل ما معدّله 250 متراً مربعاً للفلسطيني الواحد مقابل 120 ألف متر مربّع للمستوطن اليهودي الواحد, مع الإشارة إلى أن هذا التفاوت الأرضاني إذا جاز التعبير, آخذ بالازدياد. فمعدّل التزايد السكاني للفلسطينيين في قطاع غزّة يصل إلى 4,3 بالمئة, وهو أعلى من معدّل التزايد الفلسطيني العام (أي في الضفة والقطاع مجتمعين).
هذه الأمور تنبيء بالتفاقم المتزايد للأوضاع في قطاع غزّة وبتصاعد التحدّيات التي يطرحها القطاع المذكور في وجه إسرائيل, لا بما يمنعها من إحكام سيطرتها عليه وحسب, وإنّما بما يجعلها عاجزة أيضاً عن استنباط وسائل التعامل مع السكان الفلسطينيين لتحافظ إلى هذه الدرجة أو تلك على صورتها “الديمقراطية” في العالم الغربي الحليف والداعم لها.
يضاف إلى ذلك انتفاء مختلف التبريرات الأمنية الستراتيجية أو “الدينية” لاحتلال قطاع غزّة والاستيطان فيه.
اسحق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق الذي قضى اغتيالاً على يد أحد معارضي سياسته في الأراضي المحتلّة, كان يردّد أمام وسائل الإعلام أثناء المواجهات الدموية المتواترة بين الجيش الإسرائيلي والسكان الغزاويين أن القطاع يشكّل له كابوساً يومياً وبالتالي كان يأمل قبل أن يأوي إلى النوم أن يستفيق في صباح اليوم التالي وقد وجد قطاع غزّة مغموراً بالبحر ومختفياً من الوجود.
بناء على ما تقدّم يبدو احتلال القطاع والاستيطان فيه عاملان لا يشكّلان ضرورة ستراتيجية بالنسبة لإسرائيل, وبالتالي فإن الاستيطان اليهودي تستخدمه إسرائيل لتعزيز موقعها التفاوضي على الحل النهائي مع الفلسطينيين.

2- ­ الضفّة الغربية
يختلف الوضع في الضفّة الغربية عنه في قطاع غزّة. ففي الضفة تبدو السياسة الاستيطانية أكثر تشدّداً, كما أن لكلّ مجموعة من المستوطنات وظيفة تختلف عن وظيفة كلّ من المجموعات الأخرى.
تصل مساحة الضفّة الغربية إلى حوالي ستة آلاف كلم2 ويقدّر عدد سكانها مع مطلع عام 2001 بمليوني فلسطيني وثلاثة آلاف مستوطن إسرائيلي أي بكثافة سكانية مرتفعة تتجاوز 380 نسمة للكلم المربع الواحد, (لكن معدّل الكثافة السكانية يبقى أقل بكثير من معدّله في قطاع غزّة), ويبلغ معدّل الزيادة السكانية الطبيعية بالنسبة للفلسطينيين 3,8 بالمئة, بينما لا يتعدّى معدّل الزيادة السكانية للمستوطنين اليهود فيها 2,2 بالمئة, مع الإشارة إلى أن معدّل الزيادة السكانية الطبيعية في إسرائيل داخل الخط الأخضر هو في حدود 1,8 بالمئة. أمّا المدن الرئيسية في الضفة فهي فضلاً عن القدس الشرقية, نابلس, جنين, طول كرم, قلقيليا, أريحا, بيت لحم, الجليل ورام الله, وهذه الأخيرة أهم المدن الفلسطينية في الضفة الغربية ويتجاوز عدد سكانها الخمسين ألف نسمة, وتعتبر العاصمة الاقتصادية لهذه الضفة ومركز المؤسّسات الرسمية للسلطة الفلسطينية ويؤمّها يومياً أكثر من مئتي ألف نسمة في النهار.
تبدو المستوطنات في الضفّة الغربية وكأنّها تنتشر في مختلف الاتجاهات, لكن خريطة الاستملاكات الإسرائيلية في الضفة, حيث تجاوزت مساحة الأراضي المصادرة من قبل سلطات الاحتلال 35 بالمئة من مساحة الضفة (رسم 9) تشير إلى سياسة استيطانية توزّعت معها المستوطنات على مجموعات متعدّدة الاستهدافات, فضلاً عن الوظيفة الستراتيجية لمعظم المستوطنات, وذلك بعد أن ربطت إسرائيل هذه المجموعات بعضها إلى بعض من جهة, ومع أراضي إسرائيل داخل الخط الأخضر من جهة أخرى, بشبكة من الطرق بلغ طولها 600 كلم.
وهذه المجموعات واستهدافاتها يمكن تربيتها على النحو التالي:
­ مستوطنات مجاورة للخط الأخضر وهدفها القضم والضم, أي إلحاق الأراضي المتموضعة عليها هذه المجموعة, بأراضي إسرائيل وبالتالي تقدّم الخط الأخضر باتجاه الشرق.
­ مستوطنات تحيط بالمدن الفلسطينية الرئيسية, وهدفها التحكّم الأمني بالمجمّعات السكّانية الفلسطينية الرئيسية.
­ مستوطنات متموضعة على خط تقاسم المياه, أي في أعالي الضفة, وهدفها ستراتيجي أمني بمعنى أن دور هذه المستوطنات هو منع المدن الفلسطينية من استغلال مواضعها المشرفة على السهل الساحلي حيث تتمركز الأنشطة الإسرائيلية الأكثر حيوية.
­ مستوطنات على طول نهر الأردن وهدفها ستراتيجي عسكري وأمني.
­ مستوطنات في القدس ومحيطها, وفي أحياء مدينة الخليل وهدفها التهويد والضم.
هذا التنوّع في استهدافات الاستيطان يؤدّي بطبيعة الحال إلى تعدّد في مستويات التفاوض الخاصة بالكيان الفلسطيني الموعود ويتيح لإسرائيل المزيد من الوقت للمناورة على الحل النهائي.
يضاف إلى ذلك ما يطرحه الاستيطان في القدس ومحيطها من أمور تتعثّر معها الإجراءات التي من المفترض أن تؤول إلى قيام الدولة الفلسطينية.

3 ­ القدس ومحيطها
بعد عدّة أيّام من انتهاء حرب 1967 (6 حزيران) والاحتلال الذي تلاه, أعلنت إسرائيل أن “القدس الموحّدة هي العاصمة الأبدية لإسرائيل”. وتتألّف “القدس الموحّدة” من القدس الغربية (الإسرائيلية) ومن القدس الغربية الشرقية الملاصقة لها والتي كانت حتى احتلالها, إحدى مدن المملكة الأردنية الهاشمية. والقدس الشرقية هي القدس الأصلية لما لها من مكانة مميّزة في الأديان الثلاثة, اليهودية, المسيحية والإسلام, وهي التي تريد إسرائيل الاستئثار بها.
غير أن إسرائيل لم تستتبع إعلانها عن أن “القدس الموحّدة هي عاصمتها الأبدية” بتدابير “تُشرع” توحيد المدينة المُعلن عنه, بمعنى آخر بقيت القدس الشرقية تُدار من قبل السلطات الإسرائيلية كسائر المدن المحتلّة الأخرى, إنّما بأسلوب لم يدخر وسيلة من الوسائل لتبديل معالم المدينة: مضايقات, أبعاد السكّان, هدم المنازل وهدم أحياء بكاملها... وذلك بهدف توفير الشروط الفضلى لهجمة استيطانية مركّزة.

في عام 1980, ضمّت إسرائيل القدس الشرقية إلى الأراضي الإسرائيلية وحدّدت إسرائيل المساحة المقدسية الملحقة بها بعد أن أنشأت ما دعته “بلدية القدس” (رسم 10) والتي تعطي مساحة تصل إلى 242 كلم2 معظمها من الأراضي المحتلّة بعد عام 1967([14]).
حتى ذلك التاريخ لم تشهد القدس الشرقية عمليات استيطانية يهودية واسعة, بينما شهدت القدس الغربية أي الإسرائيلية, نمواً سريعاً, عبّر عن دور استقطابي سكاني متصاعد لها, لكن تمدّد اتساع القدس الغربية وتمدّد أحيائها بقيا خلال السبعينات من القرن العشرين وقفاً على ضواحي المدينة داخل الخط الأخضر أي في الجهة الإسرائيلية (رسم 11).
مع إعلان ضم القدس والأراضي العربية من “بلديّتها” نشطت حمّى الاستيطان, ومارست إسرائيل شتى أنواع التدابير التعسّفية بحق السكان, في سبيل تهويد القدس ونزع المعالم العربية عنها. وعلى الرغم من كلّ الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لتحقيق أهدافها, فإنّها لم تتمكّن من كسر التوازن الديموغرافي في الجزء العربي من “بلديّة القدس” لصالح اليهود إلا في عام 1994, أي بعد سبعة وعشرين سنة على الإحتلال. في ذلك العام وصل عدد المستوطنين اليهود في الجزء المحتل (بعد 1967) إلى 180 ألف نسمة مقابل 170 ألفاً من الفلسطينيين. أمّا عدد المقدسيين مجتمعين أي في “القدس البلدية” بشقّيها اليهودي والفلسطيني فقد وصل إلى 580 ألفاً, 410 آلاف منهم يهوداً.
هذا وقد وضعت خطّة مواكبة “لبلديّة القدس” تقضي بإقامة “القدس الكبرى” أو “القدس الحاضرة”

Metropole)) . وتوصي هذه الخطّة بتوسيع مساحة “بلدية القدس” إلى خمسة أضعاف, أي بمساحة تتجاوز 1200 كلم2 (رسم 12) ألف كلم2 منها مقتطع من الضفّة المحتلّة, بما يجعل “القدس الحاضرة” تضمّ إليها مدينتين رئيسيّتين هما رام الله في الشمال وبيت لحم في الجنوب, على أن يجري العمل إلى إيصال عدد المستوطنين اليهود في الجزء العربي من “الحاضرة” إلى 750 ألفاً بحلول عام 2010, الأمر الذي لا طاقة ديموغرافية لإسرائيل عليه. والحال فإن اتفاقيات أوسلو وما تلاها من تسليم مدينتي رام الله وبيت لحم إلى السلطة الفلسطينية قد طوت نهائياً مشروع “القدس الكبرى”.

آفاق التسوية
بين الجيوبوليتكا الإسرائيلية والوقائع الميدانية وفي ظل موازين القوى الإقليمية والدولية, تمّ إبرام اتفاقيات أوسلو كمقدّمة للتسوية, أعقبها تنفيذ “غزّة أريحا أوّلاً” ثمّ أعقب ذلك في 1995 توزيع الضفّة وقطاع غزّة على “المناطق الثلاث” (رسم 12) أ, ب, ج, الأولى في ظل السلطة الفلسطينية والحكم الذاتي وتضمّ المدن الرئيسية, والثانية مشتركة بين الإدارة الفلسطينية والسلطة الإسرائيلية, والثالثة إسرائيلية, على أن يستمر العمل للوصول إلى الحل النهائي والذي من موجباته قيام الدولة الفلسطينية. في عام 1996 نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية خريطة الدولة الموعودة, (رسم 14) حيث يتبيّن أن حاصل تعدّد الاستهدافات الاستيطانية اليهودية في الأراضي المحتلّة بعد 1967 قد يؤول إلى إخلاء قطاع غزّة من المستوطنات والجلاء العسكري عنه, بينما تكون هذه الاستهدافات قد أدّت في الضفّة الغربية إلى تقدّم الخط الأخضر باتجاه الشرق واستمرار بقاء مستوطنات أخرى فيها لاعتبارات ستراتيجية إسرائيلية أمنية, الأمر الذي يستدلّ منه أن الحل النهائي لن يكون ناتج صفقة واحدة أو موحّدة, لا سيما وأن إسرائيل قد سعت بواسطة الاستيطان إلى تجزئة هذا الحل وتوزيعه على مراحل متراتبة المستويات, كلّ مرحلة تطلب صفقة خاصة لها بحيث تستطيل الإجراءات الميدانية, الآيلة إلى التسوية الشاملة في سياق من التجاذبات المتوتّرة حيناً والمتراخية أحياناً أخرى, هذا إذا لم تطرأ تحوّلات جذرية إقليمية أو دولية تبدّل مسار الأحداث وتقلب الأوضاع رأساً على عقب.
 

[1]  للمزيد من التفاصيل أنظر مقدّمة كتاب معين حداد: الشرق الأوسط, دراسة جيوبوليتيكية, قضايا الأرض والنفط والمياه, شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.

[2] معين حداد, المصدر نفسه.

[3]   التوراة, ملوك: 1: 4: 20.

[4]  المصدر نفسه, صموئيل 1.

[5]  Michel Fouchat: Israel - Palestine Quelles Frontières Herodote N°
 29 - 30, Paris 1983.

[6]  معين حداد, المصدر السابق.

[7]  المصدر نفسه.

[8]  إن الأرقام الواردة في النص هي مستقاة من: Conjoncture 1999, 2000, Bréal, les Paris. Echos- Etat du Monde 2000, Dunod Paris.

معهد الإحصاء الديمغرافي في مدينة بال ­ سويسرا بواسطة الانترنت, لكن الأرقام التي توردها هذه المراجع متباينة بعض الشيء لذا عمدنا إلى تبنّي متوسّطها.

[9]  المصدر السابق Michel Fouchet.

[10] المصدر نفسه.

[11]  يورد نورد الدين مصالحه في كتابه: “أرض أكثر عرب أقل”, سياسة الترانسفير الإسرائيلية في التطبيق 1849 ­ 1996 الصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية بيروت 1997, المقترحات المختلفة لسياسة الترانسفير.

[12]  نور الدين صالحه, المصدر نفسه ص 162 عن:Ian Lustick, Arabs in the Jewish state (Austin University of Texas Press) 1980 p. 258.

[13]  Alain Gresh - Dominique Vidables 100 portes du Proche-Orient – L’Atelier Paris 1496.

[14]  Philippe Le Marchand - Lamia Radi, Israel / Palestine Demain Atlas Prospectif, Ed. complexes Bruxelles 1996.