تاريخ عسكري

الجيوش القديمة وأنظمتها
إعداد: د. شادية علاء الدين

شهد التاريخ قيام إمبراطوريات ضخمة وعريقة دامت آلاف السنين تميزت بقوة جيوشها ومقدرتها على التصدي للأعداء وغزو بلدان أخرى، وكان لكل منها أنظمة ترعى قضايا التجنيد وتعيين القادة وتحديد المكافآت...

 

الأشوريون والحثيون
إعتمدت الامبراطورية الأشورية على تجنيد الأشوريين الذين عرفوا بالقوة وشدة البأس في المعارك. وكان القائد العسكري للجيوش يتقاسم الغنائم مع عسكرييه بغية كسبهم، ويستعين أحيانًا بفرق مرتزقة من أهل البلاد التي احتلها، فضلاً عن الفرق التي كان يقدمها الولاة آنذاك. وقد اعتمد الأشوريون على الجواسيس لأغراض عسكرية وكلفوا الفينيقيين بصناعة الأساطيل الحربية، كما اتبعوا عادة تدمير المدينة التي سيطروا عليها والمبالغة في حرق معالمها واتخذوا من الأسرى عبيدًا باستثناء الأشراف منهم الذين تلقوا شيئًا من المعاملة الخاصة. وارتكب الأشوريون المجازر في المعارك وكوفئ الجندي على كل رأس مقطوع للعدو يحمله من ساحة المعركة.
وأسس الحثيون إمبراطوريتهم بعد طردهم الأشوريين من آسيا الصغرى وسيطرتهم على البلاد وإنتصروا على الدول المجاورة لهم وكسبوا إحترام ملوك مصر وبابل. واعتبر الملك القائد العسكري للجيوش التي تشكلت من العناصر الحثيين الأصليين بالإضافة إلى المرتزقة من شعوب البلدان المغلوبة، فضلاً عن العناصر الذين كان يرسلهم الأمراء في حالة الحرب.

 

البطالمة ونظام الإقطاعات العسكرية
اعتمد البطالمة (خلفاء الإسكندر المقدوني في مصر) على العنصر المقدوني واليوناني بشكل أساسي في الجيش والإدارة خلال حكمهم مصر، أمّا المصريون فقد اقتصر دورهم في الجيش على الأعمال البحرية (كبحارة ومجدفين) لكن العام 218 ق.م. جنّد بطليموس الرابع عشرين ألفًا من المصريين الذين كان لهم الفضل الأكبر في التصدي للغزو السلوقي لمصر والقضاء عليه في معركة رفح (217 ق.م)، وترتّب على هذه المعركة إستعادة المصريين الثقة بأنفسهم ومطالبتهم بتولي جميع مناصب الدولة.
وعرف البطالمة سياسة الإقطاعات العسكرية إذ منحوا الجنود الاغريق والأجانب بعض الأراضي البور التي اختلفت مساحتها حسب رتبة الجنود والضباط، كمكافأة، وعاملوا بالطريقة نفسها الجنود المصريين عند انضمامهم إلى الجيش البطلمي. وقد حقق الملك فائدة مزدوجة بإتباعه هذه السياسة فهو منح الأراضي البور إلى الجنود لإصلاحها وإستغلالها بدلاً من إعطائهم رواتب نقدية منتظمة موفرًا بذلك قدرًا كبيرًا من العملة الفضة ومحققًا في الوقت نفسه زيادة في مساحة الأراضي المزروعة في مصر. والجدير بالذكر أن الملك كان يمنح الجندي الأرض مدى الحياة ولكنه يستردها متى شاء وذلك لعدة أسباب منها: وفاة الجندي المالك الأرض، أو عدم دفعه الضرائب المترتبة على الأرض عند استحقاقها.
وقد تحولت هذه الإقطاعات العامة التي منحها البطالمة إلى الجنود إلى ملكية خاصة في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد.
وطبق ملوك بلاد ما بين النهرين سياسة الإقطاعات العسكرية بدلاً من الراتب النقدي، وزوّدوا الجنود اليد العاملة اللازمة لمساعدتهم على زراعة أراضيهم، ومنع الجندي من حق التصرف بالأرض ولكنها كانت تنتقل إلى ورثته.

 

الأكثر تخلّفًا الأعلى رتبة!
المعروف أن بعض الإمبراطوريات أصدر قوانين لم يكن لها مثيل آنذاك وانفرد كل منها بقانون خاص. وكان الإمبراطور القائد الأعلى للجيوش، كامبراطور روما دقلديانوس (284 - 305 م.) الذي عرف عنه بأنه كان حاكمًا دكتاتوريًا منح نفسه صفة الالوهية، معتمدًا في ذلك على شجاعته وقوة شخصيته التي أثرت في نفوس رعاياه آنذاك. وقد عمل على تقوية نفوذه وتجديد نظام الجيش الروماني، فاعتمد تجنيد العناصر الذين يعود أصلهم إلى الشعوب الأكثر تخلّفًا وعلت مرتبة الجندي وأهميته بما يوازي نسبة تخلّفه. فكان البرابرة هم الأساس، إعتمد عليهم الإمبراطور في تكوين جيشه وحماية الإمبراطورية. كما فرض على الشبان الخدمة العسكرية لزيادة عدد العسكر وقسم الجيش الروماني إلى قسمين:
- جيش مركزي إحتياطي ومهمته التدخل السريع لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية.
- جيش مهمته حماية حدود الإمبراطورية.

 

فرق تعيّن قادتها
أقام الامبراطور دقلديانوس التحصينات وشيّد القلاع والحصون وعمل على شق الطرق التي تسهّل على الجيش التحرك السريع. كما أقال الحرس الجمهوري الذي كان له دور مهم في تعيين الأباطرة الرومان. والمعروف أن نقاط الضعف في الامبراطورية الرومانية بدأت بالظهور في القرن الثالث م. حين اقدمت القوة العسكرية على تعيين الأباطرة الرومان وعزلهم، وعملت الفرق العسكرية على تعيين قادتها حسب رغبتها من دون الأخذ برأي هؤلاء الأباطرة.
والجدير بالذكر أن الرومان تميّزوا في بداية العصر الامبراطوري، بإعطائهم «الخوذة الحربية» لجيوشهم والتي هي عبارة عن راتبهم ونصيبهم من الغنائم والهبات من الرفاق في الجندية، وكان ذلك في عهد الامبراطور «أغسطس». وقد كانت هذه الخوذة عبارة عن تشجيع للشبان كي ينخرطوا في صفوف الجيش خصوصًا بعد إلغاء نظام الخدمة العسكرية الإجبارية في نهاية العصر الجمهوري.
ونجد في المقابل جانكيزخان يحث شعبه على التقشف في المعيشة والإبتعاد عن حياة الترف التي تؤدي إلى الضعف وإفساد الروح العسكرية، إذ كان يدفع عسكرييه إلى ارتداء ملابسهم حتى تبلي ويمنعهم من غسلها. والمعروف أن النظام العسكري المغولي ضمّ العناصر المغول الأصليين وفرقًا من المرتزقة المؤلفة من الترك والتركمان والباشقر وغيرهم، بالإضافة إلى فرقٍ من المهندسين والاختصاصيين في فن قذف المنجنيق وآلات الحصار وإصلاح مختلف أدوات القتال. وقضى هذا النظام بتجنيد الجميع من رجال ونساء (كنّ يحملن أطفالهن حول أعناقهن لخوض الحرب). وكان هذا كله وليد «اليساق أو الياسا» (وهو دستور أقرّه جانكيزخان) وجعل من المغول جيوشًا منظمة.

 

الفاطميون والمماليك
ضمّ الجيش الفاطمي جنودًا من أهل البلاد وفرقًا مرتزقة من الصقالبة والمغاربة والسودانيين وحتى الروم والأرمن وغيرهم من المقاتلين. ومن الأنظمة التي انفردت بها بعض الجيوش في الدول القديمة كالدولة الفاطمية والأيوبية والإخشدية، اعتمادها على فرق عسكرية من المماليك لخوض الحروب أو لحراسة الخلفاء والملوك.كان الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء يختارون فئة من الرقيق الأبيض من الأسواق أو من أسرى الحروب وهم لا يزالون صغارًا ويتميّزون بالذكاء والصحة والنجابة، ويضعونهم في أبراج خاصة لتلقينهم الدروس لحين بلوغهم درجات عالية من الثقافة، ليتولى بعد ذلك أمرهم مدربون وعسكريون يتعهدونهم ليشكلوا فرقًا عسكرية. يضاف إلى هؤلاء نوعان آخران من المماليك هما، البحرية (الفرق التي كانت تخوض الحروب البحرية) والبرجية (الفرق التي سكنت ابراج القلعة). وكانت الدولة العباسية أول من استخدم المماليك في الوظائف الكبرى فيما كان الفاطميون هم أول من وضع النظام التربوي للمماليك في مصر.
واتبع بعض الجيوش القديمة أنظمة مشابهة إلى حد ما، إذ نجد أن النظام العسكري اليوناني اعتمد على التدريب الرياضي بشكل أساسي، واعتبر هذا الأمر من أهم أسباب انتصار الجيش اليوناني على الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد أقرت اثينا حينها نظامًا اشترط على الشاب عند بلوغه سن الرشد متابعة التدريب الرياضي للحصول على المواطنة.

 

الفيّالة
عرف الفرس نظام «الفيالة» في نظامهم العسكري الذي كان قائمًا على ركوب الجنود على الفيلة والإصطفاف خلف الفرسان أو التوزع بينهم، ومهمتهم استخدام سكاكين طويلة المقابض لطعن الفيلة طعنة قاتلة في رقبتها حينما تذعر وترتد نحو صفوف الجيش خشية أن تدوس الجند وخيلهم. والمعروف أن الفرس استخدموا الفيلة كـ«دبابات ومدرعات» الجيش في ذلك العصر. وفي معركة القادسية (أيلول 636 م) حشدوا ثلاثين فيلاً للقتال، من بينها «سابور الأبيض» الذي كان أهمّ هذه الفيلة وأعظمها وأقدمها، وثلاثة أفيال أخرى يركبها ملوكهم. وقد أدت الفيلة دورًا مهمًا في القضاء على بعض فرسان الطرف الآخر.
واعتمد الفرس في تنظيماتهم العسكرية على فرقة من المشاة تشكل مؤخرة الجيش، وهي تضمّ الفلاحين الفقراء الذين يصطفون خلف المحاربين في المعركة ويقومون بخدمة الفرسان وهدم الأسوار، ولم يكونوا بارعين في القتال بل يهربون عند المواجهة مع العدو على عكس الفرق العسكرية الفارسية الأخرى، كالفرسان الدارعين وفرقة الفدائيين الذين تميّزوا بالجرأة والقوة والشجاعة واقتحام المخاطر.
وكان العثمانيون يجندون الشبان في المناطق الخاضعة لهم للمحاربة إلى جانب جيوشهم النظامية في المعارك التي تخوضها الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. وبينما نجد أن معظم الأنظمة العسكرية القديمة قد فرضت التجنيد الإجباري، إنفرد العثمانيون بنظام خاص بهم إذ استعانوا بالعلماء والأطباء لفحص الشبان ومعرفة مقدرتهم الصحية على الانخراط في الجيش، وهذا النظام ما زال ساريًا حتى يومنا هذا.

 

المراجع والمصادر:
- سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس الشام، رقم 50، ص14 .
- د. لطفي عبد الوهاب يحيى، اليونان، مقدمة في التاريخ الحضاري، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت.
- د. فاطمة هدى نجا، المشرق العربي منذ ضعف الخلافة العباسية حتى ظهور الخلافة العثمانية، دار الايمان، طرابلس 1993.
- د. ياسين سويد، الفن العسكري الاسلامي أصوله ومصادره، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 1990.
- د. حسن المبيض: أسباب انهيار الامبراطورية الرومانية، دار ومكتبة الجامعة اللبنانية للطباعة والنشر والتوزيع، طرابلس 1990.
- تاريخ الشرق الأدنى القديم، دار ومكتبة الجامعة اللبنانية للطباعة والنشر والتوزيع، 1991.
- د. أحمد ابراهيم حسن، تاريخ النظم القانونية والإجتماعية، الدار الجامعية، بيروت 1995.