هو وهي

الحب هو الحب فما الذي تغيّر في أيامنا؟
إعداد: ريما سليم ضوميط

التقيا صدفةً أو بتدبيرٍ من الأصدقاء، تبادلا نظرات الإعجاب، ثم تحادثا، فتواعدا والتقيا عدة مرات قبل أن يتم التعارف بين عائلتيهما واتخاذ القرار بالارتباط رسميًّا. تزوجا بعد أن تعاهدا على الحب والاحترام والإخلاص. أنجبا وعاشا سعيدين معًا (أو على الأقل مكتفيين) إلى نهاية العمر. هذه باختصار قصّة معظم العاشقين في ما مضى.


في النسخة الحديثة للقصّة: يلتقيان، يتبادلان النظرات ثم أرقام الهاتف، يتحادثان عبر التطبيقات الهاتفية، يخرجان معًا عدة مرات قبل أن يقررا أن يبتعدا لفترة كي يتأكدا من مشاعرهما. يعودان إلى بعضهما، يتفقان على الارتباط، فيُعلمان والديهما بقرارهما. يتزوجان بعد أن يضعا شروطًا لعيشهما معًا، ينجبان الأولاد وهما ما زالا يتساءلان ما إذا كان قرار زواجهما صائبًا!
ما سر التغيّر الكبير بين الأمس واليوم؟ ماذا أصاب الحب والعاشقين؟ هل تغيّر مفهوم الحب أم أنّ أساليب التعبير هي التي تبدّلت؟ أسئلة تجيب عنها الاختصاصيّة في علم النفس العيادي السيدة إنغريد سعادة.
تشير السيّدة سعادة إلى أنّ الحب هو عاطفة تجذب شخصًا نحو الآخر، فتولّد في داخله مجموعة متنوعة من المشاعر الإيجابيّة وتضعه في حالة ذهنية معينة. والحب بمفهومه هذا لا يتبدّل عبر الزمن، وإنّما العنصر المتبدل هو المرء الذي يتأثر ببيئته وبالتغيرات التي تطرأ على عالمه، وهذا ما يمكن ملاحظته ببساطة حينما نقارن بين الغزل في الأدب الجاهلي وفي الشعر الحديث، حيث الشعور بالحب واضح في الحالتين، أما أسلوب التعبير عنه فيختلف وفق بيئـة الشاعـر وعصره.


تأثير الضغوطات الاقتصادية
من هنا يمكن تفسير حالة العاشقين في عصرنا الحالي، حيث يرزح المرء تحت ضغوطات اقتصادية واجتماعية من جهة، ويتمتع من جهة أخرى بكل ما تقدمه التكنولوجيا الحديثة من رفاهية و سهولة في الاتصالات والتواصل الاجتماعي. وتوضح سعادة بالقول: الضغوطات الاقتصادية «تجمّد» عمل القلب، وتدفع المرء إلى التفكير مليًا بعقله وتجعله مترددًا أمام التزام علاقة جدية، فالحب لا يشتري منزلًا ولا يدفع قسط المدرسة، ولذلك نجد العاشقين مترددين وخائفين من الإقدام على الزواج وحتى من الإفصاح عن حبّهم في بعض الأحيان، ونراهم يكتفون بعلاقات عابرة، فيما يتهمهم المجتمع بعدم الوفاء وعدم القدرة على الالتزام. ورب قائل: «ألم يكن المتزوجون في الماضي يحتاجون إلى منزل ومال للإنفاق على عائلاتهم؟»، والجواب هو نعم، ولكن المرء قديمًا كان يرث منزلًا أو أرضًا من ذويه يبني عليها بيتًا، وكان هناك ما يعرف بالعونة، حيث يتعاون الجيران والأقارب والأهل في عملية البناء فلا يتكبد المرء مبالغ طائلة لبناء منزله. كذلك، فإنّ مصاريف العائلة والأولاد والأقساط المدرسية لم تكن على ما هي عليه اليوم، وكان من الممكن تأمينها مما هو متوافر.

 

...والاجتماعية
في إطارٍ مماثل، تبرز الضغوطات الاجتماعية التي تفرض على المرء الظهور بمظهر معيّن، لأنّ الإنسان بات يُقاس بما يملك وبما يظهر من مظاهر البذخ والنعمة، لا بأخلاقه وقيمه. وفي حين أنّ الزوجين كانا يعيشان في الماضي «على الخبز والزيتون»، وكان الأولاد يتربون على «البركة»، فإنّ مجتمع اليوم مختلف تمامًا. فالماركات العالمية باتت موضوعًا يتداوله طلاب المدارس، والويل لمن يلبس حذاءً لا يحمل توقيعًا عالميًا، إذ ستلاحقه سخرية رفاقه، والويل أيضًا للموظف الذي لا يقود سيارة جديدة ولا يحمل هاتفًا حديثًا فلن ترحمه تعليقات زملائه. أمّا الزوجان اللذان لا يخرجان مع الأصدقاء إلى المطاعم والمقاهي، فسيخسران حياتهما الاجتماعية. هذا التوجه المادي الذي يسود المجتمع، يضع العلاقات الزوجية في خطر، فالمجتمع الاستهلاكي يفرض على الزوجين ضغوطات هائلة تفوق أحيانًا قدرتهما على الاحتمال، فتبدأ الخلافات التي قد تنتهي إلى الانفصال، وهنا يُتّهم أحد الطرفين أو كلاهما بالتطلّب وعدم الاكتفاء، والواقع أنّهما جزء من مجتمع متطلب لا يرحم.

 

حرية المرأة واستقلاليتها
وتضيف سعادة: لا بد من التطرق إلى تأثير حرية المرأة واستقلاليتها على مفهومها للحب. كثيرًا ما نسمع من يقول إنّ المرأة في الماضي كانت تحب زوجها بصدقٍ وكانت تسعى جاهدة لإرضائه والعيش بسلام معه، ولذلك كان الزواج يدوم طوال الحياة. أما نساء اليوم، فيُتّهمن بالأنانية وحب الذات، ولذلك باتت الزيجات مهددة في كل لحظة. والواقع أنّ عواطف المرأة ومشاعر الحب لديها هي نفسها لم تتغير بين الأمس واليوم، وإنما تبدلت نظرتها إلى نفسها. فالمرأة باتت تدرك قيمتها الذاتية، كما تدرك أنّ الحب هو تضحية مشتركة وعطاء متبادل، وبالتالي لم تعد تقبل بالتضحية بكرامتها في سبيل إرضاء الرجل. ولذلك لا تسكت عن فعل الخيانة أو عن العنف الممارس ضدها، وتفضل إنهاء زواج لا يحترم مشاعرها وإنسانيتها حتى ولو اتّهمها المجتمع بالأنانية وحب الذات.

 

«نشر الغسيل»
من جهة أخرى، تتحدث الاختصاصية في علم النفس الاجتماعي عن تأثير التطور التكنولوجي على العلاقات العاطفية. وتشير في إطار التأثيرات السلبية، إلى غياب مبدأ الخصوصية في العلاقات بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، موضحةً أنّه في الماضي، كان الطرفان يحرصان على احترام خصوصيّة العلاقة، فإذا تخاصما، يُبقيان الأمر سرًّا ويحاولان إيجاد حلٍّ لخلافهما من دون الإعلان عنه. أمّا اليوم، فحين يتخاصم الشريكان، يعلنان الأمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يتبادلان الاتهامات والتجريح في العلن أيضًا، إمّا بشكلٍ مباشر أو عبر التلميح من خلال صورةٍ أو عبارةٍ ما. ومن الملاحظ أيضًا أنّ البعض يطرح موضوع الخلاف عبر وسائل التواصل الاجتماعي طالبًا من الآخرين إبداء رأيهم وتقديم نصيحتهم أو حتى تحديد مسؤولية كل من الطرفين في أسباب الخلاف.

 

الخيانة باتت أسهل
كذلك، توضح السيدة سعادة أنّ وسائل التواصل أثّرت سلبًا على عدّة مفاهيم وقيم اجتماعية ومن بينها الإخلاص الزوجي. وتضيف: صحيح أنّ فعل الخيانة ليس أمرًا مستجدًّا في العلاقات العاطفيّة، إلّا أنّه لم يكن «ميسّرًا» في السابق كما هو الآن بسبب وسائل التواصل الاجتماعي. فالتطبيقات الهاتفية تتيح التواصل بالصوت والصورة مع أي شخص كان وفي أي زمان ومكان، ما يسهّل عملية المغازلة وتبادل الاتصالات السرية بين مطلق شخصين في أي بقعة على الأرض يمسكان هاتفًا ذكيًا ولديهما الاستعداد لذلك.

 

العواطف تتخطى الحدود
في المقابل، فإنّ التطبيقات نفسها، تسهم في تمتين العلاقة بين الزوجين أو الحبيبين البعيدين عن بعضهما بداعي السّفر. فهي مثلًا تتيح للزوج الذي يعمل خارج الوطن أن يحادث زوجته يوميًا بالصوت والصورة وأن يتبادل وإياها مشاعر الوجد والاشتياق، ما يبقي نار الحب مشتعلة بينهما.
في إطار مماثل، تشير السيدة سعادة إلى أنّ الانفتاح على الخارج الذي أتاحه التطور التكنولوجي أثّر إيجابًا لجهة الانفتاح الفكري الذي يتميز به جيل اليوم والذي يجعله متقبّلًا للآخر بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو دينه، وهذا ما يعطي الحب بعدًا آخر يتخطى الحدود الضيّقة التي رسمها المجتمع في الماضي، ويسمح للعواطف أن تجتاز حدود البلدة والوطن والدين، لترفرف حيث تجد الانسجام الفكري والروحي.