قصة قصيرة

الحربوق
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

لو كان أبواه يعلمان ما سيكونُ عليه من سيّئِ الصفاتِ وشنيعِ العاداتِ، لما أسمياه «نزيه»؛ ذلك أنّ الأسماءَ الحُسنى إذا أُعطيت لغيرِ مستحقّيها، كانت لهم مذمّةً وشتيمة.
نزيهٌ، صاحبُنا، لم يُسئْ أبواه تربيتَه، ولم يقصّرا في محاولةِ زرعِ الخصالِ الحميدةِ فيه. لكنّهما كانا يلقيان البذورَ على قارعةِ الطريقِ لا في أرضٍ خصبة. وها هو أبو العلاء يخطئُ حينَ قال:
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ فينا      على ما كانَ عوّدَهُ أبوهُ.
أبو نزيهٍ وأمُّه جهدا في تعويدِ ولدِهما أحسنَ العاداتِ وإسماعِه خيرَ العظاتِ؛ لكنّه كان يضربُ بها عُرضَ الحائط؛ فشبَّ عنِ الطوقِ ومثَلُه مثَلُ ثعلبٍ أُمسكَ صغيرًا، ووُضعَ في قفصٍ محاذٍ لخمِّ الدجاجاتِ تراه ويراها ليلَ نهار. وكان الطعامُ والماءُ يؤتى بهما إليه بانتظامٍ، حتى كبرَ؛ فظنَّ صاحبُ المزرعةِ أنه نجحَ في تطبيعِه وتغييرِ عاداتِه. فلمّا أطلقَه، أمسكَ دجاجةً وهرب.
كانَ والدا نزيهٍ يزعلان ممَّن يقولُ لهما: ابنُكما كذبَ علينا أو احتالَ علينا، ويردّان بالصوتِ العالي والفمِ الملآن: ابنُنا ليس بكاذبٍ ولا محتال. إنه «حربوق». و«الحربقة» في معجمِ الناسِ صفةٌ محمودةٌ فهي تعني الذكاءَ، والنباهةَ، والمهارةَ في اقتناصِ الفرص. مرادفُها «الشطارة». يقولون: «الشاطر ما يموت». ويقولون أيضًا: فلانٌ ينزعُ الدبسَ عنِ الطحينة. ومَن كان فصيحَ اللسانِ، قال: هو يعرفُ من أين تؤكَلُ الكتف.
كان لنزيهٍ في تكميليةِ القريةِ الرسميةِ معلّمةٌ بيروتيةٌ تدرّسُ اللغةَ الفرنسيةَ اسمُها دلال. وهذه الأخيرةُ كانت قد دقّتْ بابَ الخامسةِ والثلاثينَ منَ العمرِ من غيرِ أن يخطبَ ودَّها أحدٌ لأنّ مقسّمَ النِعمِ وموزّعَ العطايا على البرايا أغدقَ عليها فهمًا وذكاءً، وقتّرَ عليها بالجمال.
كانت دلالُ تبيتُ أيّامَ الإثنينِ والثلثاءِ والأربعاءِ مع رفيقةٍ لها في بيتٍ صغيرٍ استأجرَتاه في القريةِ، وتنزلُ عصرَ الخميسِ إلى بيروتَ لأنّ الجمعةَ كان، آنذاك، يومَ عطلةٍ، أمّا السبتُ فكان يومَ تعليمٍ عاديًّا. لذلك أصبحتِ المعلّمةُ تعرفُ كلَّ الأهالي تقريبًا، خصوصًا أولئك الذين كانوا يكلّمونها بشأنِ أولادِهم. وأكثرُ مَن كان يأتيها موصيًا إيّاها بابنِه، سلمى أمُّ نزيهٍ لأنّ ولدَها كان يكرهُ اللغةَ الفرنسيةَ التي لم يعلقْ بذاكرتِه منها كلمةٌ واحدة. أمّا الموادُّ الباقيةُ فكان يحصّلُ المعدّلَ في بعضِها، ويرسبُ في بعضِها الآخَر. وأمّا النتيجةُ في آخِرِ السنةِ فالرسوبُ غالبًا، ما جعلَ نزيهًا، وهو في الصفِّ الثالثِ التكميليِّ، يكبرُ أكبرَ رفاقِه بسنتين تقريبًا.
في أحدِ الأيّامِ قالت له المعلّمة: إسمعْ يا نزيه. أنا أشفقُ على أمِّك وأبيك حقًّا. يريدانك أن تتعلّم، وأنت لا تريد. لذلك أنصحُك بأن تمتهنَ مهنةً تأكلُ منها في المستقبلِ خبزَك. وأضافت ضاحكة: لمَ لا تقتني قطيعَ غنمٍ ترعاه مثلَ قيصرَ ابنِ ضيعتِك؟! عندئذٍ لمعت فكرةٌ جهنّميةٌ في رأسِ نزيهٍ؛ فقالَ جادًّا: لا تستهيني بقيصرَ يا معلّمتي. قطيعُه سبعونَ رأسًا كلُّها نافعةٌ، وصفُّك عشرون تلميذًا وفيهم مَن ليس ينفعُ بشيءٍ مثلي. وإذ ضحكتِ المعلّمةُ، تابعَ نزيهٌ يقول: وأنتِ تمسكين صفَّك بالصراخِ والوعيدِ، وهو يمسكُ قطيعَه برميةِ حصاةٍ وهدوءِ أعصاب. لا أدري. ربّما كانتِ الغنمُ أسهلَ قِيادًا منَ البشر.
- لا أشكُّ في ذلك قالتِ المعلّمةُ مبتسمة.
- جيّدٌ أنكِ أتيتِ على ذكرِ قيصرَ اليومَ؛ فثمّةَ أمرٌ كنتُ، منذُ مدّةٍ، أودُّ إطلاعَك عليه، غيرَ أنّ الحياءَ منعَني.
- وما هو هذا الأمر؟!!
- في الحقيقةِ إنّك تروقين الرجُلَ. لكنه يستحي أن يكلّمَكِ، قالَ وخفضَ رأسَه. يخشى أن تصدّيَه. ولمّا لاذتِ المعلّمةُ بالصمتِ وطأطأت، تشجّعَ نزيهٌ، وأضاف: لا تقولي راعي غنم. إنّه يجني منَ المالِ أكثرَ ممّا تجنين، ويملكُ كرْمًا منَ الزيتونِ، وآخَرَ منَ اللوزِ والعنبِ والتين.
عندئذٍ رنَّ الجرسُ؛ فدخلَ التلامذةُ الصفَّ، ودخلتِ المعلّمةُ صفًّا آخَرَ وهي تفكّرُ في كلِّ كلمةٍ قالَها لها نزيه. وبعدَ غيابِ شمسِ ذلك النهارِ، أتى نزيهٌ قيصرَ في بيتِه، وساقَ الحديثَ رويدًا رويدًا حتى وصلَ به إلى المدرسةِ ومعلّمةِ اللغةِ الفرنسيةِ، قال: الآنسةُ دلالُ معجَبةٌ بك أشدَّ الإعجاب.
- أمعلّمةُ لغةٍ فرنسيةٍ من أهلِ بيروتَ تعجَبُ براعي غنمٍ في القرية!! قالَ ضاحكًا، ثم طأطأ رأسَه يهزُّه إنكارًا وقدِ اكتسحَ الحزنُ وجهَه.
- ألا تروقُك؟!
- إنّه حلمُ إبليسٍ في الجنّة.
- إن جمعتُك بها، فماذا تعطيني؟ سألَ بينَ جِدٍّ ومُزاح.
- أيَّ شيءٍ تريدُه.
- حمَلًا ابنَ سنتِه.
- ليكُنْ ذلك. ولكنْ كيفَ وأين؟!!!
- دعْ هذا لي.
صبيحةَ اليومِ الثاني راهَنَ نزيهٌ الحربوقُ نصفَ رفاقِه على عشرةِ آلافِ ليرةٍ يدفعُها له كلٌّ منهم إن ذهبتِ المعلّمةُ معه إلى بيتِه مقابِلَ أن يدفعَ هو المبلَغَ إيّاه لكلِّ رفيقٍ إن لم تذهبْ؛ فوافقوا شريطةَ أن ترافقَه سيرًا على الأقدامِ لا بالسيّارة. وذاتَ صباحٍ قالَ نزيهٌ للمعلّمةِ إنّ قيصرَ سيأتي قبَيْلَ غيابِ الشمسِ للسلامِ على أبيه، وعرضَ عليها مجيئه إليها لاصطحابِها؛ فتكونُ فرصةٌ ليلتقيا ويتعارفا. وأضافَ مزاحًا: لن تخسري شيئًا: إن لم يعجبْكِ الرجُلُ، فأمّي صنعتِ الكثيرَ منَ الكعكِ الطيّبِ، وثمارُ المشمشِ أينعت على أغصانِها؛ فضحكت ووافقت. ولمّا طلبتْ إليه أن يستقلَّ السيّارةَ إلى جانبِها، قال: لا. أريدُ أن نذهبَ سيرًا على الأقدامِ لتعرفي كم أعاني من تعبِ الطريقِ كلَّ يومٍ، وأضافَ ضاحكًا: وأريدُ، أيضًا، أن يراني الناسُ أسيرُ إلى جانبِك؛ فضحكت ووافقت على هذا أيضًا.
الرابحُ الوحيدُ من هذه الزيارةِ كان بالطبعِ نزيهًا الحربوقَ؛ ففي غداتِها أخذَ من قيصرَ الحمَلَ الموعودَ، وقبضَ من رفاقِه مائةَ ألفِ ليرةٍ، وتحسّنَ معدّلُ علاماتِه في اللغةِ الفرنسية. قيصرُ لم يحالفْه الحظُّ في استمالةِ قلبِ المعلّمةِ، لكنّه لم يعرفْ ذلك إلا بعدَ حينٍ، ودلالُ لم تربحْ سوى قطعةِ كعكٍ وحبّتَي مشمش. وهكذا تجاوزَ نزيهٌ الصفَّ الثالثَ التكميليَّ بصعوبةٍ ليصطدمَ بجدارِ الشهادةِ المتوسّطةِ؛ فتركَ المدرسةَ، وعملَ مع أبيه في بيعِ إطاراتِ السيّاراتِ وتلحيمِها. ولمّا علمَ الناسُ أنه كان ينثرُ المساميرَ على الطريقِ وخفّتِ الرِجْلُ إلى المحلِّ، استغنى أبوه عنه، ومنعَه من دخولِ محلِّه؛ فراحَ يبحثُ عن عملٍ يرتزقُ منه.
زارَ القريةَ مرّةً جارٌ لهم مقيمٌ في بيروتَ، وسألَه جزَّ الأعشابِ الربيعيةِ من حديقتِه لقاءَ أجرٍ، كي يتمكّنَ من تكليفِ أحدِهم حراثةَ الأرضِ، ثم عادَ إلى بيروت. فما كان منَ الحربوقِ إلاّ أن عرضَ على قيصرَ إدخالَ غنمِه إلى الحديقةِ؛ فترعى أعشابَها الخضراءَ الطريّة. وبالطبعِ سُرَّ قيصرُ بذلك سرورًا عظيمًا لأنّ المرعى كان قد عزَّ بفعلِ الحرِّ والجفاف. وأدخلَ قطيعَه الحديقةَ لمدّةِ يومينِ كاملَينِ عمدَ نزيهٌ بعدَهما إلى تكسيرِ بعضِ الأغصانِ الواطئةِ وخرْطِ أوراقِ عددٍ من قضبانِ الدوالي، وقالَ لقيصرَ إنّ الرجُلَ غاضبٌ جدًّا، ويريدُ أن يخاصمَه إلى القضاء.
- لماذا؟!! سألَ قيصر. ألم تدعُني إلى حديقتِه بعِلمِه!!
- بلى. لكنّ غنمَك، بغفلةٍ منك، أكلتْ أوراقَ الأشجارِ والدوالي.
- وما العملُ الآن؟!! أعتقدُ أنّه يَحسُنُ بي أن أكلّمَه وأعتذرَ إليه.
- لا، لا. واللهِ قد يطلقُ النارَ عليك لشدّةِ غضبِه إذا رآك قادمًا نحوَه... هاتِ مئةَ ألفِ ليرةٍ، وأنا أُسكتُه بها.
قبضَ نزيهٌ من قيصرَ المئةَ ألفٍ، وأخذَ منَ الرجُلِ أجرَه وحلوانَه أيضًا لأنه «قلّمَ الأغصانَ التي كادت تلامسُ الأرض».
وتابعَ صاحبي روايتَه، قال: مرّتِ الشهورُ والسنون. وكان يومٌ دعاني فيه الحربوقُ لمرافقتِه إلى الجردِ العالي؛ فرافقتُه بعدَ تردُّد. وفي الطريقِ قال لي: متى رأيتَني أكلّمُ الرجُلَ، اذهبْ إلى السيّارةِ فورًا، واطلبْني من هاتفِك الجوّالِ، حتى إذا رنَّ جرسُ هاتفي رنّتَين، أقفلِ الخطَّ، وعُدْ في الحال.
- ولكن لماذا؟! سألت.
- سأقترضُ منه بعضَ المال. إنه ثريٌّ جدًّا، ولا يحتاجُ إلى كلِّ مالِه. أللهُ يطعمُ الذين لا أضراسَ لهم.
بلغْنا المحلّةَ المقصودةَ، تابعَ صاحبي، وأوقفْنا السيّارةَ في باحةِ دارٍ فخمةٍ جميلةِ الهندسة. وما وطئت أقدامُنا الأرضَ حتى أشرفَ علينا رجُلٌ في أواخرِ العقدِ السابعِ منَ العمرِ بملابسَ أنيقةٍ، وبادرَ نزيهًا بالقول: لا تقُلْ لي، هذه المرّةَ أيضًا، إنك نسيتَ محفظةَ نقودِك في البيت.
- لا. إنّها معي، أجابَ نزيهٌ ضاحكًا.
صعدنا الدرجَ، وسلّمنا وجلسنا؛ ففتحَ نزيهٌ محفظتَه، وعدَّ بضعَ أوراقٍ من فئةِ المئةِ دولارٍ دفعَ بها إلى الرجُلِ: «تفضّل».
- كم هذه؟ سألَ من غيرِ أن يمدَّ يدَه.
- سبعماية. ويبقى ثماني مئة. أليس كذلك؟
- يا نزيهُ، يا ابني، لقد وعدتَني أن تسدّدَ دينَك دفعةً واحدةً لا بالتقسيط.
- أُقسمُ بشبابي وبصحّةِ أولادي أنْ ليس معي في الوقتِ الحاضرِ إلا ما يشتري لعائلتي رغيفَ الخبزِ حتى آخِرِ الشهر.
- متى ستدفعُ إذًا؟
- ثمّةَ صفقةٌ تجاريةٌ صغيرةٌ تُربحُني ثلاثةَ آلافِ دولارٍ بكلِّ سهولة. لو كنتُ أستطيعُ إتمامَها، رددتُ لك مالَك في الحال. ولكن أنّى لي ذلك وجيبي خالٍ خاوٍ!!
وتابعَ صاحبي حكايتَه، قال: نسيتُ أن أذهبَ إلى السيّارةِ وأطلبَ رقمَ نزيهٍ الحربوقِ كما أوصاني، حتى داسَ قدمي بخفّة. ساعتئذٍ تذكّرتُ، وعدتُ إلى السيّارةِ بحجّةِ أنني نسيتُ فيها شيئًا، وطلبتُ الرقم. وما رنَّ الجرسُ مرّتين حتى أقفلتُ الخطَّ، وعدتُ لأشاهدَ نزيهًا يتكلّمُ عبرَ هاتفِه الجوّالِ، وأسمعَه يقول: يا أخي، واللهِ لا مالَ معي. كان عليّ دينٌ وفيتُه اليوم. إن كنتَ تستطيعُ أن تصبرَ عليَّ حتى أبيعَ البضاعةَ فأدفعَ لك مالَك، اشتريت... آهٍ، عليك أن تسدّدَ أقساطَ مدرسةِ أولادِك؟!... ما بإمكاني أن أفعل! العينُ بصيرةٌ واليدُ قصيرةٌ، كما يقولون.
أقفلَ نزيهٌ الخطَّ؛ فسألَه مضيفُنا: كم تريدُ لشراءِ البضاعة؟
- ألفين وخمسمايةَ دولارٍ فقط.
- حسنًا. سأعطيك المبلغ. متى تردُّه لي مع الثماني مئةٍ الباقية؟
- في خلالِ ثلاثةِ أيّام. وحتى لا أكونَ كاذبًا، في حلولِ العيدِ على أبعدِ تقدير.
أخذَ نزيهٌ المالَ، وانصرفنا. ولمّا ركبنا السيّارةَ، سألتُه: مع مَن كنتَ تتكلّمُ عبرَ الهاتف؟
- معك، أجابَ ضاحكًا.
- معي!!!
- طبعًا. ألستَ أنت مَنِ اتّصلَ بي!
- لا أعرفُ كيف لعبتَ بعقلِ الرجُلِ حتى أعطيتَه سبعمايةَ دولارٍ؛ فأعطاك ألفين وخمسماية! لَهذه، واللهِ، أربحُ تجارةٍ رأيتُها في حياتي.
- ألم أقُلْ لك إنني آتٍ لآخذَ بعضَ المال!!
- صحيحٌ أنك ستردُّ مالَه إليه قبيلَ العيدِ كما وعدتَه؟
- بالتأكيد. لكنني لم أحدّد له أيَّ عيدٍ وأيَّ سنةٍ، قالَ وقهقهَ عاليًا.
وتابعَ صديقي حكايةَ الحربوقِ، قال: قرأتْ زوجتُه مرّةً، وبغفلةٍ منه، على شاشةِ هاتفِه هذه الرسالة: حبيبي، أنا لا أستطيعُ أن أعيشَ من دونِك. فسألته زوجتُه: ممّن هذه الرسالة؟!
- من شركةِ ألفا، أجاب.
- يا سلام!! أإلى هذا الحدِّ شركةُ ألفا مغرمةٌ بك حتى لا تستطيعُ العيشَ من دونِك!!
- لقد هدّدتُها أمسِ بالتخلّي عنها، والانتقالِ إلى شركةِ أم تي سي تاتش.
* * *
ماتَ والدُ الحربوقِ بعدما وعظَ ابنَه عظةَ أحيقارَ الحكيمِ لابنِه. لكنْ لا ذاك اتّعظَ، ولا هذا اهتدى. فما كادَ أبوه يردُّ الأمانةَ إلى باريها، حتى أخذَ معولًا ورفشًا، وراحَ يحفرُ بئرًا إلى جانبِ البيتِ ليملأَه من مطرِ الشتاءِ، ويرويَ الحديقةَ به في فصلِ الجفاف. وإذ أتاه زائرٌ منَ القريةِ، تظاهرَ بأنه يخبئُ الرفشَ والمعولَ، وجلسَ ماسحًا عرقَه بطرفِ كوفيّتِه.
- أكملْ عملَك أرجوك فأنا لستُ بغريبٍ، قالَ الزائر.
- لستُ مستعجلًا البتّة. ما دُفنَ في الترابِ دهرًا، لينتظرْ بعدُ شهرًا.
- علامَ تتكلّم؟!! ما هو هذا الذي مرَّ عليه دهرٌ مدفونًا في التراب؟!!
- لا شيءَ، لا شيء. إنسَ الأمر. لقد زلَّ لساني. آخٍ من زلاّتِ اللسان!!
- أتخفي شيئًا عنّي!! لقد زعلت. ما هكذا يكونُ الأصدقاء.
- هل للسرِّ مكانٌ في صدرِك؟
- كيف تسأل!! ألا تعرفُني بعد!!
- إحلفْ لي أن تُبقيَ ما سأخبرُك به، بيني وبينَك.
- برحمةِ أبيك وأبي.
- الآنَ صدّقتُك. إسمعْ. أبي، رحمَه اللهُ، قالَ لي وهو على فراشِ الموتِ إنه تركَ لي كنزًا دفنَه على عمقِ ثلاثةِ أمتارٍ حيثُ رأيتَني أضربُ بالمعول.
- آهٍ! كنتَ تعملُ على نبشِه إذًا. ولكن لمَ كلُّ هذا العمق؟!!
- كان، سامحَه اللهُ، يعتقدُ أنّ الذهبَ، كلّما كان الترابُ سميكًا فوقَه، بقيَ محفوظًا بشكلٍ أجود. مسكين! ما زلتُ أذكرُ كم تعبَ في دفنِه يومذاك. ولكنْ كيفَ لي أن أُخرجَه الآنَ وحدي! فذراعاي بهما ألمٌ يعاودُني شديدًا كلّما هممتُ بعملٍ شاقّ. ولا أستطيعُ أن أكتريَ أحدًا لمساعدتي. الحكومةُ، كما تعلمُ، لها حصّةُ الأسدِ في الكنوزِ المدفونة.
- إسمعْ. كم تدفعُ لي في اليومِ الواحدِ إذا ساعدتُك وكتمتُ سرَّك؟
- واللهِ لا قرشَ موجودٌ في جيبي لأدفعَ لك. ولكن سأعقدُ معك اتّفاقًا: أنت تحفرُ وتُخرجُ الكنزَ، وأنا أعطيك رُبْعَه.
- لا. أريدُ الثلث.
- لا تكنْ طمّاعًا... على أيِّ حالٍ أخرجِ الكنزَ منَ الظلمةِ التي يقبعُ فيها، ولن نختلف.
- على برَكةِ اللهِ إذًا.
وتابعَ صديقي يقول: أمضى الرجُلُ في حفرِ التربةِ عشرينَ يومًا منَ الفجرِ حتى النجر. وبالطبعِ لم يعثُرْ على شيءٍ؛ فذهبَ غيرَ مشكورٍ ولا مأجور. أمّا الحربوقُ فحصلَ على بئرٍ عميقةٍ وواسعة. وهذا ما كان مبتغاه. ولمّا لم يكن قادرًا على صبِّ أرضِها ومجنباتِها وسقفِها بالإسمنتِ في ذلك الوقتِ، غطّاها بألواحٍ من خشبٍ وأغصانِ أشجارٍ وقطعةِ نايلون وطبقةٍ رقيقةٍ منَ الترابِ ليخفيَها عن أنظارِ مراقبي البلدية. ومرّتِ الشهورُ، وأقبلَ الربيعُ؛ فنبتَ العشبُ فوقَ الترابِ، واختفى أثَرُ البئر. وإذ نزلَ الحربوقُ يومًا إلى الحديقةِ ببندقيةِ الصيدِ لينتقمَ منَ العصافيرِ التي كانت تسبقُه فجرًا إلى شجرةِ التينِ، رأى دُوْرِيًّا يُعملُ منقادَه في ثمرةٍ يانعة. مشى صوبَه على رؤوسِ قدميه وعيناه عليه وفوهةُ بندقيّتِه مصوّبةٌ إليه؛ فقفزَ العصفورُ إلى غصنٍ آخَرَ، ثم إلى غيرِه فغيرِه. ومع كلِّ قفزةٍ كان نزيهٌ يضطرُّ إلى خفضِ رأسِه أو رفعِه، أو الانحرافِ ذاتَ اليمينِ أو ذاتَ اليسارِ بخفّةٍ ورشاقةٍ لتظهرَ عليه طريدتُه. وفي عزِّ المناورةِ بينَ «الحربوقَين»: الدوريِّ ونزيهٍ، داستْ قدَمُ الأخيرِ سقفَ البئرِ؛ فتحطّمَ لوحُ الخشبِ الرقيقُ الذي اهترأ بفعلِ المطرِ، وسقطَ نزيهٌ إلى القعرِ متسبّبًا بكسرٍ في ساقِه، وتحطُّمِ ضلعَين من أضلُعِ صدرِه. ولم يتمَّ إنقاذُه إلا بعدَ عدّةِ ساعاتٍ وهو بينَ الموت والحياة.