الحرب الأميركية على العراق: الأسباب والأهداف

الحرب الأميركية على العراق: الأسباب والأهداف
إعداد: د. حسن كريَّم
أستاذ محاضر في العلوم السياسية المقارنة في دائرة الدراسات السياسية والادارة العامة في الجامعة الاميركية في بيروت.

لقد أصبح أكثر وضوحاً خلال الأشهر الماضية, ومنذ أحداث 11 ايلول في العام المنصرم, أن هناك تحولاً في السياسة الاميركية حول العراق. وجوهر هذا التحول يكمن في التراجع عن سياسات الاحتواء والردع التي مارستها الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة وامتداداً الى ما بعد حرب الخليج الثانية عام 1991, نحو سياسات هجومية تدخلية تهدف الى إسقاط نظام صدام حسين في العراق وإحلال نظام حليف للولايات المتحدة مكانه يقوم بتلبية مطالب واشنطن في تصوّرها لترتيب أوضاع المنطقة بشكل إجمالي.
لقد استفادت الولايات المتحدة من المناخ الذي خلّفته أحداث 11 ايلول داخل الولايات المتحدة وخارجها لكي تقوم بتبنّي سياسات تدخلية عسكريتارية في الخارج في حربها ضد الارهاب في افغانستان وسواها, كما في الداخل في إنشاء منظومة أمنية متكاملة, واستحداث وزارة للأمن القومي, وصعود التيار المحافظ والمتشدد وإمساكه بزمام الأمور الداخلية.
إلا أن هذه النظرة تظل قاصرة عن فهم هذا التحول لأن السياسات في الولايات المتحدة لا تُرتجل, بل هي تكون امتداداً وتطويراً لسياسات قائمة وتعبيراً عن مصالح استراتيجية ثابتة.
لذلك فإن مراجعة السياسات السابقة تجاه العراق, وخصوصاً في ضوء فشلها في إنتاج الأهداف المرغوبة للولايات المتحدة, ثم أهمية العراق وموارده وموقعه الاقليمي, وخصوصاً النفطي, إضافة الى اتصال موضوع ترتيب وضع العراق بترتيب أوضاع المنطقة بشكل عام, والصراع العربي­الاسرائيلي بشكل خاص, كلها أهداف ثابتة للولايات المتحدة الاميركية وتجيب عن السؤال المحوري: لماذا الهجوم على العراق الآن؟
ولكن على الرغم من ذلك, لا بد من معاينة اسئلة اخرى متصلة بهذا السؤال, وهي: هل الحرب حتمية على العراق؟ وماذا سيحدث للعراق بعد تغيير النظام؟ وما هو مستقبل العراق والمنطقة في ضوء هذه التغييرات؟

أولاً: السياسة الأميركية تجاه العراق منذ عام 1991 وفشلها
بعد هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية تم إخضاعه عبر قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي وحسب الفصل السابع الذي يسمح باستخدام القوة لتطبيق القرارات, إلى نظام كامل من الوصاية طويلة الأمد من جهة, وعبر تدخل عسكري أميركي­بريطاني في شماله وجنوبه, وإعلانهما مناطق محظورة على الطيران العراقي.([1]) كان يمكن للقوات الاميركية وقوات التحالف الغربي أن تستمر بحربها عام 1991 لإسقاط نظام صدام حسين, لكنهم اختاروا أن يفرضوا نظام الوصاية هذا عوضاً عن ذاك. وحين قامت انتفاضة شعبية عفوية ضد النظام في مناطق الجنوب والشمال, سُمِح للنظام باستخدام طائرات الهليكوبتر, كونها كانت جزءاً من الاتفاق حول وقف إطلاق النار, من أجل نقل الضباط والجنود, وقام النظام بقمع الانتفاضة وأعاد سيطرته المطلقة على مناطق الجنوب, بينما حمت الأمم المتحدة المناطق الكردية في الشمال بموجب نظام خاص ودعمتها بالأموال اللازمة عبر إعطائها حصة 13% من مداخيل بيع النفط في صفقة “النفط مقابل الغذاء” التي بوشر العمل فيها عام 1996.
وفي القرار الصادر عن مجلس الامن رقم 661 عام 1990 وضع العراق تحت عقوبات كانت الأقسى في تاريخ الأمم المتحدة, رداً على غزوه واحتلاله الكويت. وخلال السنوات الأولى لتطبيق هذه العقوبات التي أغلقت العراق عملياً وأبعدته عن العالم, بدأت ملامح الكارثة تظهر في التدمير المنهجي لقطاعات العراق الاقتصادية وبنيته التحتية وأجياله الطالعة في صورة تزايد وفيات الأطفال وغياب الأدوية والحليب ونقص النمو فضلاً عن التشوّهات والأمراض الناتجة عن الحرب والتلوّث. تحت هذا الضغط, وافق العراق على صيغة النفط مقابل الغذاء التي تسمح له ببيع النفط عبر الموانئ التركية مقابل الدفع لحساب تتحكم به الأمم المتحدة وتوزّعه على الشكل التالي: 59% من اجل تلبية المطالب الانسانية من غذاء ودواء وحاجات اساسية للسكان في وسط وجنوب العراق؛ 13% لثلاث محافظات في الشمال؛ و25% لدفع التعويضات لمتضرري الحرب العراقية على الكويت (ولقد كانت 30% في السابق)؛ و 2و2% لإدارة الأمم المتحدة لهذا البرنامج, و 0,8% لإدارة لجنة التفتيش عن الاسلحة. لكن أثر العقوبات على الشعب العراقي والأطفال لم يتراجع, وازداد احتجاج العالم والرأي العام العربي والدولي وتقارير المنظمات المختصة في الأمم المتحدة, كاليونسيف وغيرها على هذه السياسات التي أدّت الى وفاة نصف مليون طفل عراقي خلال هذه السنوات, ولم تُضعف النظام على الاطلاق, بل انه استغلّها لمصلحته([2]).
واذا كانت قرارات مجلس الأمن 661 و 665 و 666 و 678 قد فرضت عقوبات إقتصادية وتجارية على العراق لإرغامه على الانسحاب من الكويت, فأن القرار رقم 687 في نيسان عام 1991 يعتبر القرار الاساسي لعقوبات ما بعد الانسحاب من الكويت, والذي ينصّ على تدمير أسلحة الدمار الشامل من أجل رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية. ولتحقيق هذا الهدف قامت لجنة مختصة من الأمم المتحدة بإرسال خبراء تفتيش عن أسلحة الدمار الشامل هي لجنة “أونسكوم”. وقامت هذه اللجنة بعملها حتى نهاية عام 1998. وبعد ما تبيّن للعراق أن تعاونه مع اللجنة لا أفق له, وليس هناك نية بإغلاق هذا الملف وإنهاء العقوبات, إضافة الى كشفه لمحاولات تجسس وتعاون مع استخبارات أميركية وبريطانية واسرائيلية من قبل أعضاء في هذه اللجنة, بدأ بعدم التعاون مع اللجنة التي لم تلبث أن انسحبت في كانون الأول 1998 ليتبع ذلك غارات جوية قامت بها القوات الاميركية والبريطانية على مواقع عراقية.
وعلى الرغم من تسليم اللجنة وثائق مهمة من قبل منشقّين عراقيين كانوا في موقع المسؤولية المباشرة مثل حسين كامل المجيد مسؤول برنامج أسلحة الدمار الشامل, ووفيق السامرائي رئيس المخابرات العسكرية عام 1995, واضطرار العراق لتسليم وثائق في غاية الأهمية, عقب ذلك, وتعاونه مع اللجنة لأكثر من ثلاث سنوات, وصدور تقارير عن اللجنة تقر بتدمير الجزء الأعظم من قدرات العراق في مجالات التسلح البيولوجي والكيميائي والنووي والقدرات الصاروخية([3]), فإن الولايات المتحدة استمرّت في تصعيد الموقف, فقامت بتوسيع منطقة حظر الطيران واستمرت بغاراتها على العراق وقامت بإصدار قانون تحرير العراق عام 1998 لدعم المعارضة العراقية المقيمة في واشنطن بمبلغ 97 مليون دولار من أجل الإعداد لإسقاط النظام, واستمرت بتصريحاتها الرافضة لإزالة العقوبات عن العراق.
وبدأ نظام العقوبات ينهار ويفقد مبرراته, واندفعت الدول المجاورة للعراق والدول العربية عموما في إقامة اتفاقات تجارية مع العراق, واندفعت روسيا وفرنسا والصين الى توقيع عقود عمل مع العراق, وبدأت علاقات العراق مع جيرانه تتحسن تدريجياً, وأعلنت تركيا والسعودية رفضهما استخدام أراضيهما للقيام بغارات جوية على العراق عام 1998. وأوضحت دول الخليج, بما فيها الكويت, انها لا تؤيد الحرب على العراق, وفعلت مثلها بقية الدول العربية, إضافة الى اعتراض العديد من الدول الأوروبية, إلى الصين وروسيا, وبدء تغير موقف الرأي العام الأوروبي والعالمي والعربي ومطالبته برفع العقوبات عن العراق. كذلك فإن خسائر العراق التي تجاوزت المئة ألف انسان جرّاء حرب الخليج الثانية, وسياسة العقوبات كما التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل, والتطورات الداخلية العراقية التي قسّمت العراق عملياً, وانخفاض حجم الجيش العراقي الى أكثر من النصف, وضعف تجهيزاته وقدراته, كلها بدّلت النظرة الى العراق, فلم يعد مقنعاً او مبرراً القول أن العراق يهدّد جيرانه والسلم الاقليمي, ناهيك عن السلم العالمي([4]).
لقد وصلت سياسات الاحتواء والردع الى نهاياتها ولم يعد مقبولاً الاستمرار فيها كما هي, لذلك ارتفعت الأصوات([5]) المطالبة بتغيير هذه السياسات حتى قبل 11 ايلول 2001, وطالب وزير الخارجية الاميركي في إدارة جورج دبليو بوش, الجنرال كولن باول باستبدال سياسة العقوبات بسياسة العقوبات “الذكية”, ولكن اقتراحه كان صعب الهضم في المنطقة وفي العالم([6]).
أمام هذا الواقع تبنّت الولايات المتحدة سياسة إسقاط صدام حسين, أي تغيير النظام وإحلال نظام صديق وحليف للولايات المتحدة مكانه.
 

ثانياً: 11 ايلول وسياسة الأمن القومي الأميركي الجديدة
تنازع التوجه الأميركي في السياسات الخارجية توجهان, أحدهما عبّر ولا زال يعبّر عنه وزير الخارجية كولن باول, ويدعو الى الاستمرار بسياسة الاحتواء والردع والاعتماد على الحلفاء الدوليين والأمم المتحدة في إطار إدارة النزاعات وحلها, والآخر يعبّر عنه نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوفيتز, والى حد ما مستشارة الأمن القومي كونداليسارايس, والذي يدعو الى سياسة ردعية هجومية تدخلية عسكرياً حتى لو كانت وحيدة الجانب, ودون الاعتماد على الأمم المتحدة. ولقد عززت أحداث 11 ايلول والمناخات التي خلقتها, هذه النزعة التدخلية تحت عنوان الحرب على الإرهاب, ابتداءً من الحرب على أفغانستان وحركتي طالبان والقاعدة.
في ما يخصّ العراق, فإن رامسفيلد وزير الدفاع الحالي مع نائبه وولفوفيتز كتبا عام 1998 الى قيادة الحزب الجمهوري يحذران من إمكانية استخدام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل لكي يصبح القوة الفاعلة المحرّكة للمسار السياسي في الشرق الأوسط. وفي عام 2000 كشف تقرير كتبه رامسفيلد وتشيني وولفوفيتز ونشر في “مشروع القرن الاميركي الجديد” أن هناك حاجة لنشر قوات أميركية واسعة في الخليج([7]).
ولقد عيّن رامسفيلد بعد تولّيه وزارة الدفاع كلاً من ريتشارد بيرل, وهو عضو مجلس ادارة جريدة جيروزاليم بوست الاسرائيلية اليمينية, في منصب رئيس مجلس ادارة لجنة سياسة الدفاع في الولايات المتحدة, ودوغلاس فايت, وهو مقرّب من بيرل, وكيلاً لوزارة الدفاع للسياسات.
وفي أيلول من العام الحالي أصدرت الإدارة الأميركية إعلانها عن استراتيجية الأمن القومي الجديدة أو ما اصطلح على تسميته بـ”عقيدة بوش”, وأهم ما فيها انها تستبدل سياسة الاحتواء والردع بسياسة الضربة الاستباقية(preemption)  للتهديدات المحتملة أولاً, وهي تعتمد القوة العسكرية الاميركية لتطبيقها, مما يعني أن إعادة هيكلة العالم ليصبح مكاناً آمناً للولايات المتحدة ولحماية مصالحها, يستدعي فرض الهيمنة الاميركية على العالم عبر القوة العسكرية, حتى ولو كانت منفردة, وعبر ترتيب أوضاع المناطق بضربات “وقائية” لتهديد محتمل مستقبلي([8]).
ولا تقول هذه الاستراتيجية بتفعيل المعاهدات الدولية أو الالتزام بها من أجل الحدّ من انتشار اسلحة الدمار الشامل التي ينظر اليها بأنها هي التهديد الأكبر([9]).
لقد ساعدت أحداث 11 أيلول من العام 2001 في تغيير المزاج الشعبي الأميركي الذي أحس بتهديده في أمنه في نيويورك وواشنطن, وأصبح أكثر تقبلاً ودعماً للسياسات التدخلية العسكرية تحت حجة القضاء على الإرهاب, واستغل اليمين الجمهوري المتشدد هذا التغير لصالحه فانتقل الى سياسة الضربات “الوقائية” والتغيير المنهجي وترتيب أوضاع المناطق الملتهبة, بدءاً من أفغانستان. وعلى الرغم من عدم انتهاء هذه المرحلة التي حققت نجاحات أكيدة ضد حركتي طالبان والقاعدة, فقد انتقل الحديث الى “محور الشر” الذي تمثّله الدول التي تسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل, وهي ايران والعراق وكوريا الشمالية وسوريا. ولقد ساعدت اسرائيل واللوبي الصهيوني هذا الجناح المتشدد في الادارة الاميركية بحملات إعلامية صاخبة ضد الفلسطينيين وسوريا والعراق. والتقت مصلحة اسرائيل بقيادة شارون مع المصلحة الاميركية في الحرب على العراق, وفي ربط هذه الحرب بالحرب على الإرهاب, لا بل في ربط الفلسطينيين ونضالهم من أجل تحرير أرضهم مع الإرهاب. ولإسرائيل مصلحة أكيدة في ضرب العراق وإضعافه كونه يعتبر في نظر محلليها العسكريين, العمق الاستراتيجي لسوريا ولبنان وفلسطين, وبالتالي فإن إضعافه وإخضاعه سيسهل مهمة إخضاع الأطراف الأخرى. كما ان مسألة توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق مسألة لا تغيب عن بال الاسرائيليين, ولا عن بال صنّاع القرار الأميركيين أنفسهم, وهذه المهمة تصبح أكثر واقعية عقب ضرب العراق وإخضاعه([10]).
أما الدافع الاميركي الأهم فهو تحقيق هيمنة سياسية وعسكرية على منابع النفط وسيطرة فعلية على انتاجه وتسويقه وأسعاره.
ولا يتم ذلك دون إقامة قواعد عسكرية ووجود مباشر في المنطقة بدأته الولايات المتحدة عام 1991 في الخليج والجزيرة العربية عموماً, بعد تركيا وبالطبع اسرائيل, ولا تستكمل حلقاته من دون إخضاع العراق أولاً ومن ثم ايران.

ثالثا: الدم مقابل النفط
يصل الاحتياط النفطي الاستراتيجي في العالم الى حوالي ألف مليار برميل تستحوذ خمس دول هي السعودية (265 مليار برميل) والعراق (115 مليار برميل) والكويت (98 مليار برميل) وإيران (95 مليار برميل) والإمارات العربية المتحدة (63 مليار برميل) على حوالي ثلثي هذا الاحتياط الاستراتيجي([11]). ويصرّح المسؤولون العراقيون, ويدعمهم بعض الخبراء, بأن حصة العراق قد ترتفع الى حوالي 300 مليار برميل في نهاية عمليات استكشاف الحقول النفطية في اراضي العراق. كما أن انتاج العراق حاليا لا يتجاوز ثلاثة ملايين برميل في اليوم وهو متوقع ان يرتفع مع ارتفاع الطلب على النفظ الى حوالي 6­8 مليون برميل في اليوم([12]). والأهم ان كلفة انتاج النفط من حقول العراق منخفضة للغاية بحيث لا تتعدّى 97 سنتاً للبرميل الواحد, مما يجعل العقود النفطية مع العراق مغرية للغاية للدول وللشركات النفطية العملاقة([13]). ومن المعروف ان نظام صدام حسين قد وقّع عقوداً مع شركات روسية وفرنسية وصينية لتطوير واستكشاف حقول نفط في الجنوب والشمال, يصل تقدير احتياطها الى أكثر من 44 مليار برميل, مما يعني حسب القيمة الجارية للبرميل الواحد حاليا وهو 25 دولاراً, عقوداً بقيمة 1100 مليار دولار.
ومن جهة أخرى يتزايد اعتماد الولايات المتحدة على النفظ المستورد إذ سترتفع الحاجة إليه لتلبية حاجات الولايات المتحدة المتضاعفة, فهو يغطي حاليا 50% من حاجاتها, لكن المطلوب منه سيرتفع حتى يغطي ثلثي حاجاتها عام 2020([14]), ولأن الحاجة ستزيد الى نفط الشرق الاوسط, كما يشير التقرير, فإن على الولايات المتحدة أن تؤمن وصول هذا النفط وتدفقه من المنطقة. كما أن أحداث 11 أيلول والخوف من اضطرابات في المملكة العربية السعودية وهي المصدر الرئيسي للحاجات الاميركية من النفط, سيزيد من أهمية العراق كمصدر احتياطي للنفط السعودي. كذلك فإن سيطرة الولايات المتحدة على حقول النفط في العراق سيضعف منظمة أوبك وسيؤدي حتماً, مع الوجود العسكري المباشر في الخليج والجزيرة والعراق, الى تقرير سياسة أسعار النفط بشكل مباشر من قبل الولايات المتحدة.
ولا يخفي الكثيرون من المحللين العسكريين اهتمامهم بالنفط في سيناريوهات الحرب المتعددة التي يطلقونها. فأحد هذه السيناريوهات يدعو الى احتلال حقول النفط أولاً, وذلك تحت ذريعة أن نظام صدام حسين قد يعمد الى وقف انتاج النفط بل حتى الى حرق الآبار لخلق أزمة طاقة عالمية, لذلك لا بد من احتلالها اولاً([15]). كما لا يغيب عن تلك السيناريوهات المحتملة لمرحلة ما بعد الحرب, وخصوصا في الفترة الأولى التي يخضع فيها العراق لحكم عسكري بقيادة جنرال أميركي, أن يتم استخدام أموال النفط لدفع كلفة الحرب, مما يستدعي استمرار نظام النفط مقابل الغذاء حتى بعد الاطاحة بنظام صدام حسين ولفترات زمنية قد تطول لسنوات([16]).
ومن المعروف أن برنامج النفط مقابل الغذاء بدأ في أوائل عام 1996, وقد أمّن للعراق من مبيعاته النفطية المشروعة حسب هذا البرنامج دخلاً وصل الى 58 مليار دولار, إلا أن العراق لم يستلم منها إلا 34 ملياراً, وتم اقتطاع الباقي لتمويل عمليات الأمم المتحدة في العراق ولادارتها وللغذاء للأكراد في الشمال وللإنفاق على التعويضات لمتضرري الحرب من جراء الغزو العراقي للكويت عام 1990([17]).
وبدأت الولايات المتحدة بالضغط على روسيا وفرنسا والصين عبر التهديد مباشرة, أو بشكل غير مباشر في تصريحات المعارضين العراقيين من واشنطن, أن على هذه الدول التعاون من أجل الإطاحة بصدام حسين وإلا فإن الحكومة التي ستخلفه لن تحترم العقود التي أبرمها نظام صدام حسين.
لقد أُعطيت شركة توتال الفرنسية حق تطوير حقل “مجنون” النفطي وهو أكبر الحقول في العراق, كذلك فقد وقعت شركة لوك أويل, وهي كبرى شركات النفط الروسية, عقداً بقيمة 20 مليار دولار عام 1997, وذلك لتطوير حقل غرب القرنة. كما أن الشركة العملاقة زاروبزنفت (Zaraubezhneft)حصلت على عقد بقيمة 90 مليار دولار لتطوير حقل بن عمار النفطي. وحصلت الصين على عقود لتطوير حقل الرميلة النفطي. هذا عدا عن العقود المتعلقة بالبناء والصناعة وما يسمح به نظام العقوبات من مواد يمكن استيرادها من هذه الدول([18]).
كذلك, يتعزز الاعتقاد بالاستهداف النفطي عبر قيام الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش بتعيين مهندس الحرب الافغانية زلماي خليل زادة كسفير لدى المعارضة العراقية, وهو الذي عمل لدى شركة النفط أونوكال"Onocal" التي ترعى مشروع خط أنابيب الغاز التركمانستاني عبر افغانستان الى باكستان في المحيط الهندي, وعمل كمبعوث شخصي للرئيس الاميركي الى أفغانستان وذلك بعد سبعة أيام من دخول قوات تحالف الشمال الى كابول. كما أن كونداليسارايس مستشارة الأمن القومي نفسها, معروفة بعلاقاتها مع شركات النفط, وقد عملت كمستشارة لشركة شيفرون(Chevron) في كازاخستان. هذا فضلاً عن تمثيل الرئيس بوش ونائبه تشيني لمصالح نفطية لا تخفى على أحد في جنوب وسط الولايات المتحدة الأميركية نفسها([19]).

رابعاً: إستهداف العراق والربط بين الحرب على الإرهاب والحرب على العراق
بعد ثلاثة أيام فقط من وقوع أحداث 11 أيلول, وقبل الوصول الى أية حقائق في التحقيق, قام نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز باستهداف العراق عبر قوله “ان مواجهة الإرهاب لا تعني اعتقال الناس فقط بل كذلك إنهاء الدول التي ترعى الإرهاب”, كما ان المدير السابق للمخابرات المركزية الأميركية جايمس وولسي تحدث عن “الزواج المثمر بين صدام حسين وأسامة بن لادن”.
وبعدها بأيام تسرّب تقرير (تبين أنه غير صحيح على الاطلاق), ونفته الحكومة التشيكية, عن اتصال محمد عطا, أحد خاطفي الطائرات, مع ضابط مخابرات عراقي في براغ, وعن احتمال ان يكون نظام صدام حسين قام بتمويل هذه العمليات.
وفي 20 ايلول قامت الطائرات البريطانية والاميركية بغارات جوية على مواقع دفاع أرضية عراقية في جنوب العراق, وفي اليوم التالي كتبت صحيفة الواشنطن تايمز عن مسؤولين أميركيين قولهم أن صدام حسين اتصل بأسامة بن لادن قبل هجوم 11 أيلول بأيام. وفي أول تشرين الأول أعلن الملك الأردني عبدالله بن الحسين أن الرئيس جورج بوش وعده بعدم مهاجمة العراق كردّ على هجمات 11 أيلول. وفي التاسع من تشرين الأول هدّد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بمهاجمة العراق إذا ثبت أن له علاقة بظاهرة انتشار فيروس الانثراكس.
ولمّا لم تكن هناك دلائل مقنعة بتورط العراق وصلته بأحداث 11 أيلول أو بالقاعدة, ولعدم اقتناع الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم, ناهيك عن العالم العربي بهذه الحجج, انتقل المحافظون الجدد في الادارة الأميركية الى حجة جديدة في 19 تشرين الثاني من العام المنصرم, وهي امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. وبدأت تصريحات الرئيس بوش منذ ذلك الوقت تركّز على العراق وضرورة عودة المفتشين الى العراق. وشاركت بريطانيا في هذه الحملة عبر رئيس وزرائها ووزير خارجيتها.
وفي خطابه الى الأمة في 29 كانون الثاني من هذا العام أدرج الرئيس بوش العراق مع ايران وكوريا الشمالية وسوريا في ما أسماه “محور الشر” الذي يسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل([20]).

لقد بدأت الولايات المتحدة بالتحضير للحرب على العراق منذ ذلك الوقت بحملات دعائية واسعة وبجولات سياسية عسكرية, يساعدها في ذلك طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الذي تحول للعب دور المبعوث الخاص للرئيس بوش الى روسيا والدول الأوروبية والعربية. وبدأت تقارير المعاهد الاستراتيجية عن العراق بتضخيم الخطر العراقي, واستخدمت الحكومة البريطانية تقارير منظمات حقوق الانسان بشكل سياسي لخدمة الغرض الأميركي بتبرير استهداف العراق الآن. وأخذت الصحف الأميركية والبريطانية بالكلام عن الديمقراطية وحقوق الانسان وتحرير الشعب العراقي من الاضطهاد والتسلط الذي يعاني منهما. ووجدت هذه الحملة مادتها الدسمة في ممارسات النظام العراقي في بغداد منذ عام 1968, على الرغم من ان الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص قد دعما النظام ومدّاه بكافة الأسلحة والتكنولوجيا الضرورية لتطوير ترسانته خلال حربه مع ايران, كما ان الولايات المتحدة سكتت على قمعه لانتفاضة آذار عام 1991 في الجنوب والشمال وعلى هجومه على المناطق الكردية عام 1996. إلا أن سجلّ النظام العراقي في خنق الحريات, وعدم احترام حقوق الانسان والعنف المبالغ به في مواجهة معارضيه, وتهجيره القسري للسكان وتهجير أكثر من ثلاثة ملايين من الشعب العراقي الى خارج العراق, واستخدامه الفعلي للأسلحة الكيميائية ضد ايران وضد الأكراد في حلبجة في شمال العراق, واغتياله لأهم المعارضين الدينيين والعسكريين والمدنيين, واعتقاله لعشرات الآلاف من أبناء شعبه في السجون, كلها ساعدت في محاولة خلق تبرير أخلاقي لاستهداف العراق([21]). لكن الولايات المتحدة الأميركية كانت وما تزال تقول “كلام حق يُراد به باطل”. ذلك ان الخيار الأميركي يُسقط على العراق وعلى المنطقة وعلى العالم وكأنه “الديمقراطية”, بالقوة وبالإكراه لا بل أنه “الديمقراطية” بالاحتلال والسيطرة.
وفي هذا الوقت عملت ادارة الرئيس بوش على تجميع المعارضة العراقية في محاولة للاستفادة من تعاونها, ومن اجل ضمان نتائج عملية لمصالحها في العراق, ووضعت وثيقة “مبادئ” طلبت من المعارضة تبنّيها في مؤتمرها المزمع عقده في لندن (بعد أن تأجل عدة مرات), في العاشر من كانون الأول 2002. وتنص وثيقة المبادئ على تشكيل “مجموعة استشارية”, وعلى الالتزام بالقرار 687 في ما يخص أسلحة الدمار الشامل, وكل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بحق العراق, لكنها لا تحبذ قيام حكومة مؤقتة في المنفى, ولا برلمان, ولا يذكر شكل النظام المستقبلي أو الفيدرالية كحل, بل يدعو الى عراق متعدد الاثنيات وديمقراطي([22])  . وعملت الادارة الاميركية على الحصول من مجلس الشيوخ والكونغرس الأميركيين على تفويض باستخدام القوة ضد العراق, وحصلت عليهما بأغلبية واسعة ومريحة. ودار جدل واسع بين وسائل الاعلام وفي داخل الادارة الأميركية حول سبل تغيير النظام القائم في بغداد. فيما دعى الجناح المحافظ والعسكريون من نائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع ونائبه ومستشارة الأمن القومي الى استخدام الحرب واللجوء الى أعداد ضخمة من الجنود قد تصل الى أكثر من ربع مليون رجل. كان وزير الخارجية كولن باول ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) جورج تينيت يحاولان كبح جماح هذا الجناح بمعلومات وتقارير تسعى الى إضعاف التوجه الحتمي نحو المواجهة والحرب. كما أن الحرب كمواجهة عسكرية ليست هدفاً بحدّ ذاتها, والمطلوب إيجاد أساليب أخرى للإطاحة بنظام صدام حسين والذي هو الهدف الرئيسي المتفق عليه.
ولقد بيّن هذا النقاش ضعف الحجج والبراهين, أو حتى غياب الاثباتات عن الخطر الذي قد يمثّله العراق ضد الولايات المتحدة. لا بل ان جورج تينيت ناقش في شهادته أمام الكونغرس كيف أن الهجوم على العراق قد يعرّض الولايات المتحدة لخطر استخدام أسلحة دمار شامل من العراق أو عبر تسرّبها الى مجموعات إرهابية, بينما ردع العراق حتى الآن قد نجح في احتواء هذا الخطر([23]). كذلك فإن الادارة الأميركية وجولات بلير على العواصم لم تقنع روسيا وفرنسا والكثير من الدول الأخرى, (ولا حتى الرأي العام البريطاني الذي أخذ موقفاً ضد الحرب على العراق وانطلقت مظاهرة من أكبر المظاهرات التي شهدتها لندن تهتف ضد الحرب). ولاعتبارات داخلية ولخوف من التأثيرات الاقتصادية والإقليمية, عارضت تركيا وايران والدول العربية خيار الحرب على العراق. هذا بالإضافة الى الموقف الفرنسي والروسي والصيني المعترضة كلها على استخدام القوة من قبل الولايات المتحدة بهذا الشكل الأحادي.
وارتفعت أصوات كثيرة الى جانب وزير الخارجية كولن باول تدعو الى العودة الى الأمم المتحدة ومجلس الأمن, والى عدم استخدام القوة من طرف واحد, لأن ذلك سيؤثر على برنامج الحرب على الإرهاب والتحالف الدولي في مواجهته, وهي معركة لم تنته بعد لا في أفغانستان ولا في المناطق الأخرى, وما يزال أسامة بن لادن يرسل تهديداته عبر وسائل الاعلام, ولا يزال خطر القاعدة ماثلاً, وهناك مؤشرات على استعادتها المبادرة في عمليات ضد الأميركيين في الكويت والأردن واليمن, وضد المصالح الاسرائيلية في كينيا.
ونظراً لاختلاف الوضع بين أفغانستان والعراق, حيث العراق أكبر وأقدر على المقاومة من أفغانستان من جهة, وحيث ان المعارضة العراقية أضعف من تحالف الشمال في أفغانستان, فإن التورّط العسكري يستدعي جيشاً كبيراً وميزانية قد تصل الى تريليون أو ألف مليار دولار, بعد حساب الخسائر المباشرة وغير المباشرة, هذا إضافة الى الخسائر التي قد تتحملها تركيا([24]) والأردن والمنطقة بشكل عام ولا طاقة لها على تحمّلها, مما يعرض المنطقة الى حالة عدم الاستقرار ومن الاضطرابات الداخلية. في هذه الأجواء خاضت الولايات المتحدة معركة ديبلوماسية لانتزاع قرار من مجلس الأمن عدّلت في صياغته فرنسا وروسيا بعد معارضة مديدة.

خامساً: القرار 1441 وعودة المفتشين الى العراق
بعد ثمانية أسابيع من المفاوضات الصعبة بين أعضاء مجلس الأمن وخصوصاً الاعضاء الدائمين, وبالأخص بعد الدور الذي لعبته كلّ من فرنسا وروسيا, تمّ تعديل المشروع الذي تقدمت به الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل ينزع تلقائية الحق في استخدام القوة من قبل الولايات المتحدة, ويطالبها بالرجوع الى مجلس الأمن في حال أقر المفتشون في تقريرهم أن العراق قد أخلّ بمسؤولياته.
وحصل القرار 1441 الذي يطالب بعودة المفتشين الفورية الى العراق, وينصّ على إزالة أسلحة الدمار الشامل من العراق, وعلى موافقة بغداد خلال اسبوع, وتقديمه تقريرا وافياً عن أسلحة الدمار الشامل وبرامجه خلال شهر وتعاونه الوثيق مع المفتشين, حصل على الإجماع في مجلس الأمن([25]).
ووافق العراق على القرار بعد خمسة أيام من صدوره وعاد المفتشون. ويتعاون العراق حالياً مع المفتشين في كل ما يقومون به, ولقد قدم تقريره الى لجنة المفتشين “أنموفيك” وهو تقرير يصل الى 12 ألف صفحة في يوم 7 كانون الأول 2002.
ويهدف العراق من وراء كل ذلك الى نزع فتيل الحرب وكسب الوقت لإبعاد شبح الحرب عنه. أما الولايات المتحدة فإنها تهدف من وراء تطبيق القرار 1441 الى إضعاف النظام العراقي وخلخلته من الداخل, وتشن حرباً نفسية وإعلامية متواصلة ضده من أجل الوصول الى غايتها وهي تغيير النظام العراقي. وقد تنتظر فرصة تلاعب النظام العراقي وخرقه المادي لبعض أجزاء القرار, أو فرصة استجواب علماء عراقيين في خارج العراق ليدلوا بشهاداتهم ضد النظام, أو فرصة غلطة يرتكبها النظام العراقي, لكي تقوم بهجومها عليه. وتقوم بتسريب سيناريوهات عديدة للهجوم والخطط العسكرية والتي تتضمن قوات ضخمة احيانا,ً وضربات سريعة احياناً أخرى, وقوات تدخل خاصة تقوم بتصفية صدّام شخصياً في بعض السيناريوهات الأخرى([26]).
إن التهديد بالحرب وممارسة الحرب الدعائية والنفسية ضد العراق يهدف الى الوصول الى النتائج المرجوة من دون الاضطرار الى خوض حرب واسعة. فهي من جهة تضعف معنويات النظام العراقي وتضعه تحت التهديد المستمر والضغط الدائم وتجرده من قدرته على الحركة والمقاومة. وفي النهاية إما أن يستجيب لمتطلبات تطبيق القرار 1441, ممّا سيساعد على بلورة قيام نظام عراقي جديد يتمتع بتسليح منخفض ويخضع للرقابة الدولية ولنظام وصاية صارم, ويفقد وسائل التهديد والسيطرة مما يسمح لحركات المعارضة العراقية داخل العراق وداخل الاجهزة العسكرية وخارج العراق الإطاحة بالنظام الحالي, أو ألاّ يستجيب النظام العراقي للقرار 1441 وتقوم الولايات المتحدة بتشكيل تحالف قد لا يكون كبيراً, وتعمل على استصدار قرار من مجلس الأمن أو توصية باستخدام القوة لإجبار العراق على الإذعان, وبالتالي تقوم بشنّ حربها من أجل تغيير النظام.
إن التحركات الحالية للقوات العسكرية الأميركية والتي وصلت الى حوالي 60 ألف عسكري في المنطقة, كما أن المناورات التي يقوم بها الجنرال تومي فرانكس و 600 ضابط من هيئة الأركان في قاعدة “العديد” في قطر, هما مؤشران على جدية الولايات المتحدة في التحضير لحربها على العراق. وإذا كان القرار 1441 قد أجّل الحرب فأنه لم يلغها تماماً. والنظام العراقي يدرك هذه الحقيقة ويتصرف على هذا الأساس([27]).
إن السيناريو المحتمل للهجوم على العراق قد وضعه الجنرال تومي فرانكس مع وزير الدفاع رامسفيلد ونائبه بول وولفوفيتز. وهو ينقسم الى مراحل ثلاث تبدأ بالقصف الجوّي والبحري المركّز للمواقع الدفاعية للنظام وأجهزة الاتصالات وقصور الرئاسة ومقرات الحرس الجمهوري, بشكل يقطّع أوصال النظام, وتبدأ المرحلة الثانية بالهجوم بالطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر على مقرات التحكم والقيادة في بغداد وتكريت ومراكز اختباء واحتماء صدام حسين والحرس الجمهوري, وستقوم بها القوات الخاصة. ويمكن أن تشارك في هذه المرحلة قوات معارضة عراقية في الشمال وفي الجنوب بانتفاضة ضد النظام تحميها القوات الأميركية وتحركها المخابرات المركزية, ثم يبدأ الهجوم البرّي في المرحلة الثالثة بشكل انقضاض سريع على المباني الحكومية والمنشآت العسكرية داخل بغداد وفي ضواحيها والمنطقة الوسطى, وتبدأ عملية الحصار والدعوة الى الاستسلام لإنهاء الحرب بأقل وقت ممكن. وقد تستغرق هذه العملية عدة أسابيع. إلا أن مقاومة النظام العراقي للاستسلام, وقراره بالحرب والمقاومة قد تؤدي الى اختلال السيناريو وتعرض الجيش الأميركي المؤلف من قوات خاصة لا تتجاوز الستين ألفاً الى خسائر, والى ضرورة نقل قوات أخرى, والى قصف مواقع مدنية وإيقاع خسائر بين المدنيين قد تثير غضب الرأي العام العربي والعالمي([28]).
كما أن اضطرار الولايات المتحدة الى انتظار تقرير المفتشين في نهاية شهر شباط من العام 2003, ثم نقاش مجلس الأمن للموضوع, وتحضيرها للحرب, قد يتعارض مع توقيت الربيع حيث ترتفع الحرارة وتؤثر على عمل الآليات والجنود, مما قد يستدعي تأجيلاً للحرب الى بداية الخريف, مع ما قد يصاحب هذا التوقيت من تغيرات في الخطط وفي المناخ العالمي والرأي العام العربي والعالمي([29]).
لكن ما يمكن الجزم به أن قرار الإطاحة بنظام صدام حسين قد صدر والعمل يجري على تنفيذه والتفكير بمرحلة ما بعد صدام.

سادساً: مستقبل العراق والمنطقة بعد الإطاحة بنظام صدام حسين
توقف الاندفاع الأميركي والغربي عسكرياً في حرب الخليج الثابتة عام 1991 عند نقطة إسقاط النظام في العراق, ولم يكمل لأنه كان لا يريد إدخال العراق والمنطقة في أتون صراعات داخلية يتورط هو بها وتضر بحلفائه. فتركيا لا ترغب في رؤية الأكراد يطالبون بدولة مستقلة, ولا كذلك ايران وسوريا, لأن المسألة الكردية لا تنتهي في العراق, وتخاف دول الخليج والجزيرة العربية من قيام نظام شيعي موال لإيران في جنوب العراق مما يزيد من حجم التهديد لها. لذلك وانطلاقا من هذه الاعتبارات تعمل الادارة الأميركية على إرسال تطمينات الى حلفائها من تركيا الى السعودية الى الأردن الى كل الدول المحيطة, بأنها لا تستهدف وحدة العراق ولا تسعى الى إنشاء دويلات فيه, ولا حتى الى فرض الفيدرالية عليه. ولكن المشكلة التي تواجه الولايات المتحدة هي ضعف المعارضة العراقية الموالية لها, وعدم قدرتها على القيام بإنجاز عملية التغيير بنفسها, والخوف من اندلاع اضطرابات داخلية يصعب السيطرة عليها. لذا فأن سيناريو ما بعد الاطاحة بصدام يبدأ في مرحلة أولى من الحكم العسكري بقيادة جنرال أميركي (يعتقد انه سيكون تومي فرانكس), وقد تمتد هذه المرحلة ما بين ستة شهور وسنة. ولكن ثمة خلاف حول هذه الفترة الزمنية, وثمة معارضة عراقية لها من قبل بعض أطراف المعارضة والشعب العراقي عموماً, ومعارضة عربية لإعادة الاستعمار بهذا الشكل المباشر. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة تدويل الأزمة وإعطاء إدارة دولية حق الاشراف على العراق وتحضيره ليحكم نفسه بنفسه, وقد تمتد لحوالي سنة كذلك. ثم تأتي الفترة الأخيرة حيث يتم اعتماد دستور جديد وتُنتخب حكومة جديدة متعددة الأثنيات وتلتزم بعراق خال من أسلحة الدمار الشامل([30]).
لكن استمرار نظام الوصاية على العراق والسيطرة على موارده, وخصوصاً النفط, وصعوبة السيطرة على الصراعات الداخلية العراقية, قد تؤدي الى تطور حالة من الفوضى والحرب الأهلية والمقاومة المتنامية للمشروع الأميركي. كما أن هذا التدخل بتحديد مستقبل العراق سيؤثر على استقرار الأنظمة المحيطة ويدفعها الى تصليب سياساتها, خصوصاً أن لهذا التغيير أثره على موازين القوى في الصراع العربي­الاسرائيلي. وستحاول اسرائيل الإستفادة منه الى أقصى الحدود على حساب الأطراف العربية وخصوصاً في صراعها مع الفلسطينيين وسوريا ولبنان.
كما أن هذا التغيير سيؤثر على إيران ويسعّر الصراع الداخلي الذي تعيشه, وستحاول الولايات المتحدة الانتقال الى إيران بعد العراق التي تعتبرها أخطر من العراق في محور الشر.
وفي ظل غياب ديناميكية عربية للتغيير نحو أنظمة ديمقراطية ومجتمعات متماسكة وموحدة, فأن برنامج “الديمقراطية” بالإكراه وبالاحتلال وبالقوة قد يمتد الى غير أنظمة عربية أخرى من أجل إطباق الولايات المتحدة على المنطقة, وتأمين سيطرتها على مواردها, وتأمين أنظمة تناسب مصالحها وقيمها. وهكذا تستكمل دورة ترتيب أوضاع المنطقة بكاملها.
ولكن عودة الاستعمار والاحتلال العسكري والهيمنة المباشرة على الموارد, ستلاقي حتما مقاومة شديدة قد تبدأ ضعيفة وغير منظمة, وتنتهي الى حركة عامة متصلة مع قوى وحركات اجتماعية وأنظمة في كل العالم تقاتل ضد هذا التسلط وهذه الهيمنة المتعجرفة للامبراطورية الأميركية المتوسعة.


[1] بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بالاعلان من جانب واحد, عن تطبيق مناطق حظر الطيران جنوبي خط عرض 32 وشمالي خط عرض 36, ثم جرى توسيع المنطقة الى جنوبي خط عرض 33 عام 1996 تحت حجة حماية السكان المدنيين من قمع النظام في كل من الشمال الكردي والجنوب الشيعي, خصوصا بعد فشل انتفاضة آذار 1991 وقمعها كلياً من قبل النظام. وهذا الحظر لا سابق له في الممارسات الدولية ويتناقض مع القانون الدولي ولا يحظى بموافقة الأمم المتحدة, ولقد انسحبت منه فرنسا وبقيت الولايات المتحدة وبريطانيا مصرتان على تطبيقه.

[2] انظر الأمم المتحدة, مكتب برنامج العراق “النفط مقابل الغذاء”
 Internet, http://lwww.un.org.depts/oip/reports/basfact.

[3] لجنة اونسكوم أقرت بتدمير 38 ألف سلاح كيميائي و480 ألف ليتر من المواد الكيميائية و 48 صاروخ و 6 منصّات إطلاق صواريخ و30 رأس صاروخ معدلة لتحمل أسلحة كيماوية أو بيولوجية والمئات من التجهيزات ذات العلاقة. كما أن ريتشارد بتلر مدير الأونسكوم صرّح في نهاية عام 1997 بأن اللجنة حققت تقدما مهما وبأن 817 من أصل 819 صاروخ روسي الصنع طويل المدى قد تمّ تدميرها. وبأنه يعتقد أنه ما زال هناك حوالي 12 صاروخاً عراقياً لكن هذه الصواريخ مشكوك بقدراتها.
راجع: المرجع السابق نفسه.
كذلك راجع:

Bymar Daniel “After the Storm. U.S. Policy Toward Iraq since 1991î, political science quarterly, winter 2000, v.115,4,p.493-501.

[4] حتى أن بعض المصادر تقدر بأن القدرات العسكرية العراقية لا تتجاوز 20 بالمئة من قدرتها عام 1990. راجع Bymar, المرجع السابق, ص 499ز

[5] ­وهذا ما كتبه عسكريان رفيعان يعملان مع وزارة الدفاع الأميركية.

Donaher, William F. and De Blois, Ross B., "Is the Current UN and US Policy toward Iraq Effective", parameters, winter 2001, v 31, 4, p. 112-125.

[6] كولن  باول تحدث امام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في 8 آذار من عام 2001 فأقر بأن النظام العراقي لم يعد يمثل تهديداً للولايات المتحدة الأميركية.

Internet, http: //usinfo. State. Qov/ regional/ nea/ iraq/ offtsts/ Iraq policy mar 0810. Htm.

[7] أهدافف سويف “نهاية مغايرة لرواية حول نظام عالمي جديد من أصحاب القلوب الكسيرة” الحياة, 3/11/2002, ص 10.

[8] Hertzberg, Hendrik. Maniferto. The New York oct. 14, 2002, v18, #31.

[9] Wright, Robert. The New York Times, Sept. 29, 2002, p.13.

[10] مرزوق الحلبي, “اسرائيل وحرب (ها) على العراق, الحياة, 24/11/2002. ص 9.

[11] ادارة المعلومات في وكالة الطاقة الاميركية, كانون الثاني 2001

[12] AlNasrawi, Abbas. Oil, Sanctions, Debt. And the Future, Arab Studies Qwarterly, Fall 2001, v23, #4, pp. 1-14.

[13] Cholomondeley, Tom. ìOver a barrel" The Guardian, 22/11/2002.

[14] وذلك حسب التقرير الوطني للطاقة المعروف بتقرير تشيني نائب الرئيس الاميركي, والذي اصدره البيت الأبيض في شهر أيار من عام 2001

[15] هذا ما كتبه كينيت بولاك وهو عضو رئيسي في مجلس العلاقات الخارجية ونائب مدير دراسات الأمن الوطني.

Pollack, Kenneth M."Next Stop Baghdad" Foreign Affairs, March-April. 2002, v81, #2, p. 37.

[16] Kevin Shitelaw; Thomas Omestad; Mark Mazzetti. After the Fall U.S. News and World Report, 2/12/2002. P.18.

[17] انظر, الحياة, 24/11/2002, ص 11.

[18] انظر: The Guardian مرجع سبق ذكره 22/11/2002.
The observer, 6/10/2002 and 3/11/2002

[19] السفير, 5/12/2002, ص 13.

[20] Jeffery, Simon. Iraq: Countdowns to War? The Guardian, 30/7/2002.

[21] من أجل مزيد من التفاصيل عن سياسات النظام العراقي راجع كتاب Tripp, Charles. A History of

Iraq, Cambridge; Cambridge University press, 2000. Pp.193-284.

[22] الحياة, 19/11/2002 ص 2.

[23] The Middle East, November 2002 p.6.

[24] تعتبر تركيا ان خسارتها من حرب الخليج الثانية عام 1991 والعقوبات التي فرضت على العراق أحد أهم شركائها في التجارة والأعمال وخصوصا تدفق النفط عبر خط الأنابيب التركي قد وصل الى مئة مليار دولار وانها قد تخسر 150 مليار دولار في حال وقوع حرب جديدة.
The Middle East, Nov. 2002, p.10

[25] الحياة 9/11/2002, ص 2.

[26] بدأت خطط الهجوم على العراق بالتسرب الى الصحف الأميركية بعد أيام على صدور القرار 1441 ودعا رامسفيلد الى حرب قد تدوم 5 أيام او 5 أسابيع أو 5 أشهر ولكنها لن تطول أكثر من ذلك. الحياة, 16/11/2002, ص 2.

[27] Klare, Michael T. "War plans and pitfalls, The Nation, 21/10/2002, v 275, #13, p. 14-15.

[28] المرجع السابق ص 16.

[29] The New York Times, 10/11/2002, p.13.

[30] World News & World Report Dec, 2, 2002 p. 18-20.