قضايا إقليمية

الحرب الإسرائيلية على الوعي العربي وتداعياتها
إعداد: إحسان مرتضى - باحث في الشؤون الإسرائيلية

في دراسة له حول الحرب النفسية والتأثير على وعي الخصم في الحروب المعاصرة، يخلص اللواء غابي سيبوني (خبير عسكري في معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، والقائد السابق في لواء غولاني)، إلى القول: «إنّ إسرائيل تريد من معركة الوعي توجيه الخطاب المباشر للجماهير في الدول والكيانات المعادية، بما في ذلك استهدافها من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، إلى جانب الأنشطة العسكرية التقليدية».

 

تتمّ هذه المعركة وفق سيبوني من خلال مجموعة متنوعة من العمليات العلنية والسرّية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي للتحريض وإثارة النعرات، في أثناء مخاطبة الجماهير المستهدفة في المنطقة والعالم، لتبرير أي خطوات عسكرية قد تنفّذها إسرائيل ضدهم في المستقبل. وهو يثني على «الدور الكبير الذي يقوم به المتحدّثون باسم الجيش الإسرائيلي، عبر أنشطتهم على شبكات التواصل الاجتماعي الناطقة باللغة العربية، للوصول إلى مختلف الفئات المستهدفة في الدول المعادية»، مشيرًا إلى أنّ الحرب على الوعي ليست جديدة، بل هي جزء من حروب العصور القديمة. فضرب الوعي والروح المعنوية، إنّما هو مقدمة استباقية للضربة القتالية العسكرية ضدّ الخصم، ما يعني أنّ المعركة الميدانية يجب أن تتداخل وتتكامل مع عمليات الحرب النفسية الرامية إلى التأثير على عقل العدو وعزيمته.
وقد أكد سيبوني أنّ إسرائيل تدرك أنّ التطور التكنولوجي الحاصل في العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ خاص، قد خلق ساحة أخرى للحرب، إلى جانب ساحة المواجهة العسكرية الكلاسيكية. فالدول والجيوش وجدت نفسها أمام ضرورة استغلال فضاء السايبر وشبكات التواصل الاجتماعي لتحقيق الإنجازات المعنوية والسياسية، وهذا يتطلب من الجيوش الحديثة السعي لتحقيق أهدافها عبر التأثير على معنويات العدو المستهدف وإرادته، بما في ذلك صنّاع القرار والقادة والمقاتلون، وكذلك الرأي العام المحلي والدولي.
الدراسة التي شارك في إعدادها غال فينكل (خبير إسرائيلي في حروب السايبر، وباحث في مجال العلوم الأمنية، وضابط سابق في سلاح المظليين)، قسمت معارك الوعي إلى ثلاث فئات: أوّلها عمليات سرّية، وتعني شنّ إسرائيل الحرب على عدوها من دون علمه، وثانيها الدعاية الكاذبة، وثالثها شنّ الحرب المباشرة على وعي العدو، كاستخدام الإعلانات والدعايات والإشاعات المفبركة والرسائل النصّية المدروسة. ويقول فينكل، إنّ شنّ إسرائيل لهذه الحروب يتطلّب توفير كمّ متراكم من المعلومات الاستخبارية، وإجراء البحوث الأمنية والاجتماعية حول الجماهير المستهدفة، كي لا تشكّل خطرًا مستقبليًا عليها، كما يتطلّب توافر مهارات متقدمة في علم النفس وتحليل ثقافة الجماهير ونفسيّتها في الدول المعادية، حتى يصبح من المجدي شنّ حملات تؤثّر على مجموعة واسعة من الجمهور المعادي. وهذا ما يدفع الجيش الإسرائيلي للاستعانة بمتخصصين وخبراء، علمًا أنّ معارك الوعي التي تشنّها إسرائيل في المنطقة تشمل ثلاث مراحل، قبل الحرب، وخلالها، وبعدها، وهذه المراحل جميعها ترفد المعركة وتدعمها في ميدان القتال.

 

هل تكسب إسرائيل الحرب؟
الآن، وبموجب «قانون القومية» الإسرائيلي، لم يعد لغير «الشعب اليهودي» الحق بإقامة دولة في فلسطين التاريخية، لأنّ هذا القانون ينص على أنّ حقّ تقرير المصير حصري لـ«الشعب اليهودي» في موطنه «أرض إسرائيل»!! أي إنّ إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين للتوصل إلى حلّ الدولتين بات خطوة «غير قانونية». على ضوء ذلك ترى إسرائيل أنّ حدودها لم ولن يتم ترسيمها على الأرض والخرائط قبل أن تضع «حرب الاستقلال التوراتية المقدسة»، كما تسميها، أوزارها. هذه الحرب قادها بدايةً دافيد بن غوريون ومن بعده القادة الإسرائيليون الحالمون بإنجاز المهمة كلهم، ومنهم موشيه ديان الذي قاد حرب احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء والجولان السوري في العام 1967، ومعه رئيس أركانه إسحاق رابين. وقد أنهى أرييل شارون عمره العسكري والسياسي وهو يتطلّع إلى إنجاز هذه المهمة، وكذلك يفعل نتنياهو اليوم. لكنّ كلمة السر في إنفاذ الخطط واستكمالها في الوقت الراهن والمستقبل، إنّما تتعلّق بطبيعة اللحظة التاريخية المؤاتية أو غير المؤاتية لإطلاق شارة الهجوم النهائي. سلكت إسرائيل الطرق كلّها لبلوغ أهدافها المرسومة، وفي مقدمتها طريق المناورة بالحرب والسلام والإعلام والسياسة والمفاوضات والحرب النفسية، وهي حققت من خلالها بعض النتائج الحاسمة. وفي عملية تقييم وغربلة للمكاسب والمغانم التي جنتها إسرائيل، بسبب ما يحصل في المنطقة، يقول رئيس أركان جيش العدو بيني جانتس: «في ضوء ما يحدث الآن في العالم العربي لم تعد المسألة الفلسطينية موضوعًا محوريًا يستحق الاهتمام من قبل العالم. إنّ التطورات المحورية التي تشهدها المنطقة دفعت هذه المسألة إلى الهامش، ولم تعد تشغل بال القيادات ولا الشعوب في العالم العربي. فالعالم العربي يتعرّض لعملية انهيار قيَمي ومفاهيمي وليس تغييرًا أو تحوّلًا شكليًا، ولننظر إلى ما يجري في سوريا والعراق ومصر وليبيا وتونس».
ويتابع قائلًا: «لقد تراجع ترتيب المسألة الفلسطينية على أجندة الأنظمة العربية الرسمية، والجامعة العربية لم تعد تعقد اجتماعًا واحدًا لهذه المسألة، بينما تعقد منذ اندلاع الأزمة السورية اجتماعًا كل شهر. بناءً عليه، فإنّه بإمكان الدروع الإسرائيلية والقوات الخاصة اقتحام قطاع غزة من دون أن يتمخّض عن ذلك أي أصداء أو ردود فعل عربية أو إقليمية أو دولية. أمّا الضفة فتتحوّل سريعًا إلى منطقة يهودية بسبب الاستيطان، لذا فإنني أرى أنّ الوضع الإقليمي يسمح ولأول مرة بعد حرب الاستقلال بإعادة هندسة الجغرافيا والديمغرافيا في المنطقة بما يتيح توطين الفلسطينيين جميعًا الذين سيتم تهجيرهم إلى الدول العربية، بمن فيهم العرب داخل إسرائيل في بلد كالأردن. إنّها اللحظة المناسبة لتغدو دولتنا كيانًا يهوديًا بهويّته وسكانه وثقافته، كيان يخلو من الأغيار (الجوييم). لقد تغيّر الوضع الدولي ولن تُوصم إسرائيل بالعنصرية إذا ما عملت على إشهار هويّتها اليهودية، بل بإمكانها أن تستخدم أساليب شتى من أجل هذه الغاية، كالأسلوب القسري والأسلوب الطوعي الناعم لتنفيذ مشروع التهجير، ولن يحرّك العالم ساكنًا حول هذا الأمر. فالعالم بات متكيفًا مع مشاهد حركة نزوح السكان وتحرّكهم بالملايين عبر حدود الدول المحيطة بإسرائيل، ولو قارنّا عدد الفلسطينيين الذين سيهجرون من الضفة الغربية وغزة ومن داخل إسرائيل، مع عدد اللاجئين السوريين والعراقيين في الأردن وتركيا ودول أخرى في المنطقة، لوجدنا عدد اللاجئين العرب الذين تركوا منازلهم وخرجوا من العراق إلى سوريا والأردن ومن سوريا إلى لبنان والأردن وتركيا، يفوق عدد الفلسطينيين الذين سيخرجون من الضفة الغربية وغزة وداخل إسرائيل بمقدار الضعف».
لقد تطورت إلى جانب هذه الرؤية داخل إسرائيل أفكار واستخلاصات سياسية أخرى تصبّ في خانتها تمامًا، وفي طليعتها تخلّي بنيامين نتنياهو عن خيار حلّ الدولتين واستبداله بخيار اللاحلّ، وهو استكمال لمنهجه السابق الذي تمكّن معه من استبدال مبدأ الأرض مقابل السلام بمبدأ الأرض مقابل الأمن والاقتصاد في مفاوضات واي ريفر. تلا ذلك دفع نتنياهو العديد من وزرائه للإفصاح عن مواقف تجريبية وذات مرامٍ تكتيكية ماكرة من نوع الترحيل والتهجير بسبب استحالة قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية، ووصول حلّ الدولتين إلى طريق مسدود. وقد جاء ذلك على لسان وزير الاقتصاد الإسرائيلي وزعيم حزب «البيت اليهودي» نفتالي بنيت يوم 17-6-2013 فقد قال: «إنّ مشروع حلّ الدولتين بإقامة دولة فلسطينية على أرض إسرائيل دخل في مأزق عميق، ومن اليوم فصاعدًا علينا فحص كيف ستسير الأمور كي يكون هذا المشروع من خلفنا».
في ظل هذا الواقع المتردّي، لم يعد أمامنا كشعوب عربية سوى الأمل بالأجيال الصاعدة التي لم يمت ضميرها ولا وعيها، والتي تمثّلت في فتاة صغيرة كعهد التميمي التي رفضت بعزيمة فولاذية الإقرار بموت حقّها وموت شعبها.