دراسات وأبحاث

الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين: نفوذ أم مصالح أم حسابات انتخابية؟
إعداد: د.أحمد علّو
عميد متقاعد

في العام الثاني من ولاية الرئيس دونالد ترامب، فرضت الولايات المتحدة مزيدًا من الرسوم على المنتجات الصينية، وردّت الصين بإجراءات مماثلة، وهذا ما دفع بعض المحلّلين الاقتصاديين إلى التحذير من مخاطر اندلاع حرب تجارية شاملة بين البلدين، قد تعصف بالشركات وأسواق المال في مختلف أنحاء العالم.


بينما تبادل الطرفان التحذيرات والإجراءات، قال الرئيس ترامب إنّ بلاده لا تخوض حربًا تجارية مع الصين، ذلك أنها قد خسرت تلك الحرب منذ سنوات بسبب «حمقى» غير مؤهلين لتمثيل الولايات المتحدة، حسب تعبيره. في المقابل قال وانغ شوفين نائب وزير التجارة الصيني إنّ بلاده لا تريد حربًا تجارية مع الولايات المتحدة، لكنّها مستعدّة لها إذا أرادت واشنطن ذلك.
الحرب التجارية هي نزاع اقتصادي ناتج عن إجراءات حمائية مبالغ فيها، تنشئ الدول بموجبها (أو ترفع) تعريفات جمركية أو غيرها من الحواجز التجارية ضدّ بعضها بعضًا. ويكون ذلك إمّا ردًّا من طرف على الحواجز التجارية التي وضعها الطرف الآخر، أو بداعي حماية منتجاته الوطنية.

 

التجارة الصينية - الأميركية البينية
يميل الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والصين لمصلحة الأخيرة، التي تجاوز فائضها التجاري مع الولايات المتحدة الأميركية في العام 2017 375 مليار دولار، مع العلم أن حجم التبادل التجاري بينهما كان قد بلغ 600 مليار دولار في العام 2016. وقد وصلت صادرات الولايات المتحدة إلى الصين في العام 2017 إلى 116.2 مليار دولار، بينما بلغت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة نحو 492 مليار دولار في العام ذاته. كذلك وصلت الاستثمارات المباشرة بين الصين والولايات المتحدة في العام 2017 إلى ستين مليار دولار، وبلغت حصة الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة نحو 46 مليار دولار، في حين لم تتجاوز قيمة الاستثمارات الأميركية في الصين 14 مليار دولار. ويعود العجز التجاري بين البلدين إلى ارتفاع وتيرة الواردات الأميركية من الصين بنسبة أكبر من صادراتها إليها. تستورد الولايات المتحدة من الصين الألمنيوم والصلب والإلكترونيات والملابس والآلات، بينما تعتبر الصين أكبر مستورد لفول الصويا ولحم الخنزير وغيرها.

 

التسلسل الزمني للأزمة
من المعروف أن الولايات المتحدة والصين تملكان أكبر وأقوى اقتصادَين في العالم، وتتنافسان على المرتبة الأولى فيه. ومن المعروف أيضًا أن الصين تعتبر أكبر مستثمر في السوق الأميركي، وأن الخزانة الأميركية مدينة للصين. كما تعتبر الصين أكبر حائز أجنبي في العالم للسندات المالية الأميركية، بما في ذلك السندات التي تصدرها الشركات العقارية المدينة للصين، وهذه الالتزامات مضمونة بالعقارات. ما يعني أنّه في حال عدم تمكّن أي من الشركات من تسديد التزاماتها حيال الطرف الصيني تصبح العقارات المرهونة ملكًا للصين. في المقابل يستثمر الأميركيون المال في الصين ويشترون الممتلكات المنقولة وغير المنقولة، ولكنّ زيادة الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة منذ سنوات على مثيلتها الأميركية في الصين، وازدياد الارتباط المتبادل بين الاقتصادَين الأول والثاني في العالم، وهو أمر يدخل في أساس الاستراتيجية الجيوسياسية الصينية، دفع الولايات المتحدة نحو توخّي الحذر، وبخاصة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، وبعد وصول الرئيس ترامب إلى سدّة الرئاسة.
تعهّد الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية في العام 2016 باتخاذ التدابير اللّازمة لاستعادة الوظائف الأميركية المفقودة بسبب ما سمّاه التغلغل الصيني، ووعد بفرض ضرائب جمركية على المنتجات الصينية، وبممارسة المزيد من التدقيق في استثمارات الشركات الصينية العاملة في الولايات المتحدة. وتعهّدت الصين في المقابل باتخاذ خطوات مماثلة تقضي بفرض ضرائب مرتفعة على البضائع والمنتجات الأميركية في الصين، تشمل السيارات وأجهزة التقنيات العالية والأجهزة الذكية.
في كانون الثاني 2017 دعت الصين الولايات المتحدة لاحترام القواعد التجارية الدولية وأعلنت أنها لا تريد حربًا تجارية معها، وحثّت على إجراء محادثات بين الجانبين للوصول إلى أرضية مشتركة.
في 22 آذار من العام 2018، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مذكرة تنفيذية لفرض رسوم جمركية على الصين، بسبب ما وصفه بممارساتها التجارية غير العادلة وسرقة الملكية الفكرية، وبموجب هذه المذكرة فرضت السلطات الأميركية رسومًا جمركية بنسبة 25% على قائمة بنحو 1300 منتج صيني.
وقال الرئيس ترامب، لدى توقيع المذكرة، إنّه طلب من الرئيس الصيني تخفيض العجز التجاري للولايات المتحدة مع الصين بمقدار مئة مليار دولار فورًا، مشيرًا إلى أنّ العجز التجاري الإجمالي للولايات المتحدة يبلغ ثمانمئة مليار دولار. في 23 من الشهر ذاته، حثّت سفارة الصين في واشنطن الولايات المتحدة على التراجع عن قرارها، ودعتها لاتخاذ قرارات حذرة وتجنّب تعريض العلاقات التجارية بين البلدين للخطر.
وحذّرت السفارة من أنّه «إذا كانت هناك حرب تجارية من جانب الولايات المتحدة، فإنّ الصين ستقاتل حتى النهاية للدفاع عن مصالحها المشروعة بكل الوسائل الضرورية. وفي اليوم ذاته أعلنت وزارة التجارة الصينية خططًا لفرض رسوم «انتقامية» بقيمة ثلاثة مليارات دولار على الواردات الأميركية.
في 2 نيسان، وكردّ انتقامي على رسوم فرضتها الولايات المتحدة على واردات الألمنيوم والصلب الصينية، فرضت السلطات الصينية رسومًا جمركية بنسبة 25% على 128 منتجًا أميركيًا، بما في ذلك الفواكه والمكسرات ولحوم الخنزير».
وبعد يومين قالت وزارة المالية الصينية إنّ الصين ستفرض رسومًا إضافية نسبتها 25% على 106 منتجات أميركية، من بينها فول الصويا والسيارات والكيماويات وبعض أنواع الطائرات والذرة، بالإضافة إلى منتجات زراعية أخرى. وبحسب بيانٍ مفصّل من وزارة التجارة، فإنّ حجم المنتجات الأميركية المستهدفة بالرسوم الجمركية بلغ خمسين مليار دولار في العام 2017.
في المقابل، أمر الرئيس ترامب المسؤولين في إدارته بدراسة مشروع فرض رسوم جمركية إضافية بقيمة مئة مليار دولار على المنتجات الصينية. وردّت الصين بالقول إنّها مستعدة لدفع «أي ثمن» في حرب تجارية محتملة مع الولايات المتحدة. وقالت وزارة التجارة الصينية في بيانٍ «إذا تجاهل الجانب الأميركي معارضة الصين والمجتمع الدولي، وأصرّ على تطبيق الأحادية والحمائية، فإنّ الجانب الصيني سيذهب حتى النهاية مهما كان الثمن».

 

ردود فعل وتوقّعات حول الأزمة
في 21 حزيران 2018 صرّح المتحدث باسم وزارة التجارة الصينية قاو فنغ قائلًا: «إنّ الصين لاحظت أنّ الإجراءات الأحادية التي قامت بها الولايات المتحدة لزيادة الرسوم الجمركية، عملت على زيادة القلق داخليًا. وأوضح فنغ أنّ الإجراءات الأميركية التي تناقض نفسها قولًا وفعلًا، لم تتسبب فقط في خيبة أمل للصين والمجتمع الدولي، بل أثارت معارضة قوية داخل الولايات المتحدة ذاتها». وتابع: «إنّ الممارسات الأميركية الأحادية والحمائية ستضرّ في النهاية بمصالح الشركات والعمال والمزارعين في الولايات المتحدة، وستضرّ كذلك بالرفاهية الاقتصادية العالمية، وستؤدي إلى معارضة أشد». وأضاف: «إنّ موقف الولايات المتحدة متقلّب وقد أثار استفزازات حرب تجارية، ما أجبر الصين على الردّ بقوّة. لقد أصبح الجانب الأميركي معتادًا على حمل الهراوات الكبيرة في المفاوضات، وهذا لن يفيد في التعامل مع الصين. وتلك الممارسات غير العقلانية لن تساعد في حل المشكلات».
تحت عنوان «هل تذهب أميركا إلى حرب مع الصين؟» كتب سيرغي غولوفتشينكو في مجلة «سفوبودنايا بريسا» الروسية مقالًا جاء فيه: بدأت أميركا حربها التجارية مع الصين. والبيت الأبيض تحديدًا، مستعد لاستهداف الصينيين لأي سبب ومن دون أي سبب. فالقواعد الصينية العسكرية في جزر بحر الصين الجنوبي تسبّب هاجسًا مؤرقًا لواشنطن... لقد ظهرت في بكين فكرة «حزام واحد - طريق واحد» والتي يتمّ الترويج لها بنشاط، وهذا المشروع لا يعني تدميرًا كاملًا وكارثيًا للنظام العالمي القديم. فالمطلوب منه إصلاح المشهد السياسي والاقتصادي العالمي المعاصر على قاعدتين جديدتين: العدالة والعقلانية. العقلانية بالذات، موضوعة في أساس «حزام واحد - طريق واحد»... فيما القواعد العسكرية الصينية على جزر بحر الصين الجنوبي تشكل نوعًا من «حاملات طائرات غير قابلة للغرق»، وظيفتها حماية الاتصالات العالمية الجديدة بشكل موثوق من هجوم أي معتدٍ، بخاصة الأميركي... وأضاف كاتب المقال: «إنّ رفض واشنطن الشراكة عبر المحيط الهادئ إلى الشراكة عبر الأطلسي يعني أن الخطة السابقة للنخبة الأميركية لتنظيم جولة جديدة من العولمة باستبعاد الصين وروسيا والهند قد فشلت، ما ضاعف الأهمية العالمية لـ«حزام واحد - طريق واحد». وهذا الأمر لا يُسعد الولايات المتحدة على الإطلاق»...

 

حرب تجارية عالمية أم حسابات انتخابية؟
تتمحور هواجس الرئيس ترامب حول اتفاقين يراهما غير عادلين بالنسبة للولايات المتحدة، أولهما اتفاق التجارة الحرة في أميركا الشمالية (نافتا)، وثانيهما اتفاق سمح بانضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية. ويعتقد ترامب أن هذين الاتفاقين، إلى جانب اتفاقات تجارية أخرى، قلّصا الكثير من مكاسب الصانعين الأميركيين، ودمّرا الملايين من الوظائف في المصانع الأميركية.
يبرّر الرئيس ترامب فرض التعريفات الجديدة على أوروبا والمكسيك وكندا، بالتأكيد على أن ممارسات حلفاء واشنطن باتت تشكّل كما ممارسات الصين، تهديدًا للأمن القومي الأميركي. لكنّ خبراء أميركيين يرون أن لا أساس لهذا المبرر على أرض الواقع.
يرى بعض السياسيين الأوروبيين والأميركيين وغيرهم أن سياسة الرئيس دونالد ترامب الاقتصادية والتجارية حيال أوروبا وكندا والصين، توشك على إشعال حرب عالمية ثالثة، أدواتها البضائع والخدمات والمنتجات، بدلًا من الطائرات والمدافع والصواريخ والأسلحة النووية. وتختلف هذه الحرب عن الحربين العالميتين السابقتين، عندما كان المعسكران واضحين ومنقسمين، وكانت دول المعسكر الغربي المدافع عن قيم الديمقراطية تحظى بدعم الولايات المتحدة من دون شروط. وبالتالي ثمة ما يوحي بتشكّل ديناميكية جديدة لإدارة منظومة القيم الغربية التي باتت على شفير الانهيار، ويعكس مُضيّ الولايات المتحدة في طريقها بعيدًا من قيادة «العالم الحر» أو الدفاع عن مصالحه، طالما يؤثر ذلك على رؤية «أميركا أولا» التي بنى ترامب عليها كل رهانات مستقبله السياسي.
لكن يبدو اليوم أن الولايات المتحدة تقف وحدها في مواجهة الجميع. وأول هؤلاء هم أقرب حلفائها في أوروبا وكندا والمكسيك، الذين فرضت تعريفات جمركية على وارداتهم من الصلب بقيمة 25 بالمئة، والألمينيوم بقيمة 10 بالمئة وهذه الرسوم، دخلت حيّز التنفيذ مطلع شهر حزيران المنصرم.
وفق بعض المحللين السياسيين يعوّل الرئيس ترامب كثيرًا على سياسة «الضغط على الصين» لحصد المزيد من أصوات الناخبين في القاعدة الداعمة له، كما يأمل أن تقود هذه السياسة إلى فوز الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، المقرر إجراؤها في تشرين الثاني المقبل. لكن محللين آخرين يقولون إنّ الرئيس الأميركي سيكون في سباق مع الزمن حتى لا تتزامن الانتخابات مع بدء تأثّر داعميه اقتصاديًا بشكل سلبي جرّاء سياسات التجارة التي يتبناها. وإذا حدث ذلك فثمة احتمال كبير أن يتحوّل إلى مثل تلك «الدبة التي قتلت صاحبها» كما في الروايات الشعبية... أو أن يتراجع عن كثرة من قراراته التصعيدية ضد الصين، ويعود إلى التفاوض معها للوصول إلى حلول منطقية ومعقولة تجنّب البلدين والعالم حربًا تجارية لا تُعرف نهاياتها.. وربما هذا ما سيحصل بعد ذاك التصعيد، فالولايات المتحدة دولة عظمى، وهي ليست شركة تجارية كإحدى الشركات التي يمتلكها أحد الأشخاص ويتصرف بها منفردًا وعلى هواه...