الحرب السادسة بين "ثقافة الإنتظار" وفكرة "نهاية العالم"

الحرب السادسة بين "ثقافة الإنتظار" وفكرة "نهاية العالم"
إعداد: الدكتور نسيم الخوري
كاتب وأستاذ جامعي

أسئلة مشروعة تنتظر أجوبتها طويلاً!

كيف يقتنع العديد من اللبنانيون والعرب واليهود والعالم بأن اسرائيل دولة باتت خاضعة للهزيمة مثل باقي الدول في الحروب؟ ما هي تداعيات حرب 12 تموز 2006 على اسرائيل وعلى لبنان والعالم؟ ما هي الأبعاد الموضوعية والدينية والخرافية في هذا الصراع الذي شكّل محطة أساسية ونبعاً جديداً للدروس والعبر؟ ما هي حجم هذه الهزّة التي أصابت المجتمع الإسرائيلي الذي لم يمس منذ إنشائه فوق أرض فلسطين بطبق من ورد لكنه بدا مؤخّراً وكأنه طائر يلامس برأسه قبّة السماء يمتلك أقوى الأسلحة وأفتكها وأكثرها "ذكاءً" يسقطها من منقاره، كما هو معتاد في الحروب العربية الإسرائيلية الخاطفة، بينما بدت قوائمه متعثرة خائرة أمام مقاومي حزب الله في أرض الجنوب اللبناني؟ هل سقطت مقولة أنه لا جدوى بعد من القصف الجوي تحضيراً للدخول الفعلي الى أرض المعارك للتنظيف فقط وفقاً للحسابات العسكرية الشائعة والمعروفة تقليدياً؟ وما هو مستقبل الجندي الإسرائيلي الرقمي أو ال Numérique المزوّد بأدق أنواع الأسلحة ووسائل الإتّصال العالية في فعاليتها؟ ما هو هذا التخبط العسكري والمخابراتي الإسرائيلي الذي تصاعدت أخباره في وسائل الإعلام العالمية الإسرائيلية والحليفة لإسرائيل قبل المعادية منها والتي تورث تداعيات على مستوى إعادة التشكيلات العسكرية والسياسية وما هو أبعد من ذلك بكثير؟ وما هو حقيقة ما حصل في الجنوب بالضبط؟

هل ما حصل كان يستهدف حزب الله حصراً ولا يستهدف لبنان، وإذا كان الأمر كذلك فكيف نفسّر بالتالي مباشرة الطيران الإسرائيلي قصف مطار رفيق الحريري الدولي في اليوم الثاني للغارات الإسرائيلية على لبنان؟ ما هي أسرار هذا الصمود العسكري من مقاتلين خشي أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله من ذكر أعدادهم في القرى الحدودية في خطابه  في "مهرجان النصر"  في  الضاحية الجنوبية كما  أسمته  المقاومة( 22/9/2006)؟ وهل صحيح مثلاً أن ثلاثة من المقاتلين فقط صمدوا في مارون الرأس  وسبعين مقاتلاً فقط صمدوا في بنت جبيل وأنه كان بإمكانهم أسر مئات الجنود الإسرائيليين في أثناء المعارك لو كان هناك ظروف مؤاتية لامكانيات إخلائهم؟

كيف نفسّر القصص التي نسمعها وتدور حول توزيع المقاتلين لدبابات الميركافا وكأنها طيور في ما بينهم على قاعدة تناوب الصيادين: "هذه لي وتلك لك"؟ وتذهب الأخبار التي تختلط فيها الحقيقة بالخيال الى درجة يشعر فيها السامع وكأنه في رحلة صيد لطيور المطوق العالقة في الوسط حول آلة تسجيل موسيقى أصوات الطيور والمحاطة بالمنصات المجهزة آلياً بالقذائف؟ ما هي حقيقة الأنفاق التي خرطها المقاتلون في أرض الجنوب الحدودية في الأعماق المجهّزة التي تصل في أماكن كثيرة الى عمق عشرة أمتار وتحتاج الى عشرات السنين لتنفيذها بهذه الدقة والسرية والتمويه بما يعجز عنه جيش كبير ولو استغرق زمناً طويلاً ؟ بل ما هي حقيقة ذلك المقاتل الجنوبي الدمث المفرط التهذيب الذي كان يخرج من كوة مموّهة وراء فرن الغاز في بيته ليدخل نفقاً يلتفّ فيه على جنود العدو الإسرائيلي مسافة تصل الى 300 متر وأكثر؟ ما هي حقيقة تلك التسميات التي كنا نسمعها عن صواريخ رعد واحد وإثنان ووعد وزلزال وهل هي تسميات موجودة في القواميس والمقاييس العسكرية أم أنه جرى تحديث الكثير منها وتطويرمداها بما لم يعد يتناسب مع القواعد والأعراف العسكرية المعروفة؟

لماذا استدرج الجيش النظامي الإسرائيلي الى داخل المدن وما هي أهمية التركيز في المعركة على الخسائر البشرية واستيعاب الضربات النارية على قاعدة"دعه يقترب منك فتقترب منه أكثر"؟، وكيف نفسّر تلك المسارات المتعرّجة أو المتحيّرة للدبابات الإسرائيلية التي ما زالت ماثلة في سهل الخيام مثلاً والتي لا تعطي مؤشّرات قتالية أو هجومية فعلية؟ ما هي التداعيات النفسية والعلاجات التي تفترضها حالات القتال غير المتكافىء من هذا الطراز وفي ظروف شديدة الصعوبة ومفاجئة للعام؟

 

هذه الأسئلة الإخبارية التي تتضمن بعضاً من إجاباتها في استفهاماتها وآلاف الأسئلة الأخرى العسكرية والتقنية والعلمية والنفسية مطروحة الآن وستطرح الى أمد بعيد في الكثير من الدوائر المعنية وغير المعنية بهذا الصراع. ويخطىء من يتصوّر أن عاقلاً يستطيع الإجابة في عجالة صحافية أو بحثية على أسئلة متشعبة من هذا النوع. ويخطيء من يظن للحظة أو يساوره الشك أن هذه "الحرب السادسة" كما أسمتها قناة "الجزيرة"، والتي اندلعت في 12 تموز 2006الماضي  بين المقاومة واسرائيل في الجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبية أمر جاء بحجم لبنان. وقد يتعثّر بالمعنى العلمي أيضاً من يتسرّع حاملاً قواميسه العسكرية والمعادلات الحسابية التي يتعلمها العسكريون في المعاهد العسكرية وكليات الأركان ليفهم أو يفسّر بواسطتها هذا النصر الذي حققه لبنان على اسرائيل في مسار الصراع العربي الإسرائيلي المحفوف بالهزائم العربية الخمس المتتالية التي أعقبت حروب 1948و1956و1967و1973. وسواء اختلف اللبنانيون أو تباينت مواقف الأنظمة العربية والعالمية وشعوبها حول تسمية هذا النصر نصراً أو صمودا أو غير ذلكً، فإنّ ما حصل مرتكزاً الى النصر الأوّل والتحرير الذي حققه حزب الله على العدو في العام 2000 يجعل كلّ استنتاج في هذا المجال محفوفاً بانتفاء الموضوعية والصدقية. فالكل بحاجة الى زمن هاديء طويل لحسن قراءة هذه الأحداث، ومن المبكر جدّاً إذاً الكتابة في الدروس والعبر العسكرية والسياسية والنفسية وغيرها التي يمكن استخلاصها من حرب ال33 يوماً بين اسرائيل ومقاتلي حزب الله. السبب العلمي الأوّل الذي يحول دون ذلك هو أنّ الفاصل الزمني الذي يبعدنا عن وقف القتال لا يكفي بعد لارتخاء قسمات الدهشة التي انتفخت في كل الوجوه لا على المستوى اللبناني والعربي وحسب بل على المستوى العالمي بكلّ ما لكلمة العالمية من معان وأبعاد. ولا مغالاة في القول أن العالمية تلك مسألة بات يسهل تلمسها ببساطة كلية في هذا التقاطر أو التزاحم العسكري الهائل نحو لبنان والجنوب اللبناني تحت مظلّة القرار الدولي 1701. ألا يحق للباحث التساؤل بحق عن أسباب  هذا الإهتمام العسكري العالمي الذي يأتي لحماية اسرائيل بعدما سقطت في دائرة الهزيمة والخطر وهو تساؤل يستمدّ مشروعيته من تصريحات المانيا العلنية بضرورة هذه الحماية ؟  والسبب الثاني الذي يحول دون الإستنتاجات القاطعة هو أن هذه الحرب الشرسة لم تضع مع أوزارها بعد نهايات حاسمة مفهومة في مستقبل الصراع وتداعياته وأسبابه ولهذا بدت وكأنها "حرب عالمية" أو ذات أبعاد دولية شنت وتشن ربّما على لبنان ومقاومته كمقدمات صغرى لحروب كبرى متقدمة في الأفق تصاحبها وتمهّد لها تهديدات وضغوطات دموية جنباً الى جنب مع تصريحات السلام ونواياه وكلها أمور بالغة التعقيد لا يمكن التيقن من صحتها ومراميها.

يمكن الجزم إذاً بأنّ الضبابية وعدم الوضوح المترافقان مع دهشة النصر والصمود أوالهزيمة تورث بشكل متزايد مشاعر الإحباط والقلق وتخفف من وطأة العقل والهدوء لدى شرائح متنوعة من اللبنانيين الذين لطالما عايشوا الحروب وخبروها ودفعوا أثمانها باهظة وباتوا يكرهونها ويمجونها بالطبع. وقد تكون خطبهم ومواقفهم المنتقدة أو المحاسبة والمعادية أحياناً للمقاومة من ميراث هذه الضغوطات الدموية التاريخية أو من تداعيات ارتباطات وتعهدات مخفية مخيفة أخرى. وما يضاعف هذا الحال الجديد تلك الأزمة الإجتماعية والإقتصادية التي يعاني منها اللبنانيون في عيشهم ومستقبلهم والتي تجعلهم أصحاب خيال نشط في توقعاتهم وأحلامهم وتطلعاتهم وتقودهم الى حال من الإنتظار الممل في تحديد جغرافيتهم والتوافق حول مستقبلهم ومواقعهم ووطنهم.

 

لبنان بين النصر والصمود

لا يمنعنا كلّ هذا من السؤال عن الصورة التي بد فيها المشهد اللبناني منذ اندلاع حرب 12 تموز 2006 واستمرّ في تداعياته وهو مستمر حتّى وقت طويل؟ كان اللبنانيون منقسمين منذ قانون محاسبة سوريا مروراً بصدور القرار1559  وإخراج القوات السورية من لبنان وفشل الجلسات التسع للحوار الوطني اللبناني التي انطلقت في الثاني من آذار/مارس 2006 تحت قبة البرلمان في نزع سلاح حزب الله أو إيجاد صيغة مستقبلية لإستراتيجية خاصة بالدفاع الوطني اللبناني . وقد بدوا أكثر انقساماً حول الحرب في مستويات ثلاث: أصابهم الإنقسام في الإسباب المباشرة للحرب وفي أثناء المعارك كانوا أيضاً منقسمين وكذلك في التفاهم حول النتائج المباشرة للحرب. وعلى الرغم من أنّ حزب الله الطرف المباشر في الحرب قد ذكّر أسره للجنديين الإسرائيلين بتسمية " الوعد الصادق" حاسماً موقفه على لسان السيد حسن نصرالله بأنه "لوجاءت الدنيا الينا كلّها فلن تتسلّم الأسيرين إلآّ عن طريق التبادل" وهو ما حصل فعلاً، فإن شرخاً كبيراً كان يعمّق الهوة بين اللبنانيين الى درجة بات يتجرّأ المراقب فيها من القول بأن لبنان بدا بلداً خارجه أقوى من داخله بكثير أو أنه وطن يكاد يفتقر الى الداخل  الصرف  بالمعنى  السياسي . وما بدا أخطر من هذا الإنقسام تلك المزامير لإعادة الفتنة بين اللبنانيين على إيقاعات المثلث الدموي في أفغانستان وفلسطين والعراق كما على إيقاعات التنافر العربي العربي. والمعروف أن الموقع العربي تكاد لا تظهر فعاليته، بالمعنى التاريخي، في حال توحّد العرب فكيف به في حال تشرذمهم وتشتتهم؟ هذا المناخ جاء من أشرس المعضلات التي جهدت للتقليل من حظوظ النصر العسكري أو من أهميته على أعتبار أن معادلة التناغم بين السياسة والعمل العسكري معادلة ذهبية في الحروب وهو الأمر الذي لم يتوفّر فعلياً في لبنان كما أنه لم يتوفّر بشكل كامل وواضح في البلدان العربية واسرائيل أيضاً.

لقد انقسم اللبنانيون أوّلاً حول أسباب الحرب بين أن يكون حزب الله هو الذي جرّ على لبنان حرباً لم يكن يريدها أو ينتظرها ولم يشاطره في تقريرها الأطراف اللبنانيون الآخرون وبين أن تكون الحرب مسألة مقررة مسبقا اسرائيلياً واميركياًً وشكّلت بذرة ولادة الشرق الأوسط الجديد كما ألمحت اليها وزيرة الخارجية الأميركية بعد اندلاعها مباشرة. وعلى الرغم من التحليلات الكثيرة والمعلومات التي كانت تؤكّد القرار الإسرائيلي الأميركي في الحرب في الدوائر الأميركية والغربية السياسية والإعلامية بشكل عام فإنّ التسبث بالمواقف وتقاذف التهم المتبادلة بين الأطراف اللبنانية كان يغذّي جو الإنقسام الى التي كانت تصبّ في خانة المنتقدين لسلوك حزب الله. وما عزز الإنقسام بعض الإلتواء في السلوك السياسي لبعض السياسيين في أثناء اندلاع الحرب المدمّرة على مناطق محددة من لبنان سواء في المواقف والتصريحات المزدوجة بين ما هو معلن وغير معلن والذي وصل الى حدود الإتهام العلني لبعض المسؤولين بالإتصالات التحريضية المباشرة أوغير المباشرة على المقاومة الأمر الذي هزّ لبنان في جذوره الدستورية وثوابته واجماعه حول الطائف وهوية لبنان وانتماء أبنائه النهائي اليه، تضاف اليها وتعززها الهزّات الضخمة التي أورثها صمود المقاومة  والتي أصابت المجتمعات العربية والإسلامية المصابة بالركود بالفوران الشعبي والتظاهر كما ألحقت بالمجتمعات العالمية الخوف والذهول.

إن الخطر الماثل في الإنقسام حول الحرب تضاعف مع عدم اعتراف فريق من اللبنانيين أو إقراره بالنصر. وانقسم اللبنانيون حول نصر مقاومتهم على أعتى قوة قائمة في الشرق الأوسط ومن خلفها أكبر دولة في العالم فاستكثروا عليها أن تسمّي ما حصل نصراً وقالوا به صموداً وحسب . وأورث هذا الإنقسام المثلث حول أسباب الحرب وأحداثها ونتائجها سقوطاً ذريعاً للكثير من الثوابت والأفكار التي لم تأخذ ترجمتها في الواقع ووصل الإنقسام الى حدّ تخبّط لبنان السياسي والشعبي في مناخ من الجدل العقيم الخطير الذي بات يذكّر بحديث شريف:" إذا غضب الله على قوم أورثهم الجدل وجنّبهم العمل".، فانهارت مساحة الثقة الوطنية بين الأطراف والموالاة والمعارضة وسلك الإلحاح على حكومة الوحدة الوطنية طريقه بنبرة حازمة لا عودة عنها كانت توحي بمخاطر "الشوارع المتباينة كي لا نقول المتقاتلة" على حدّ تعبير رئيس مجلس النواب في التقاطه هذه المخاطر باعلان مبادرة التشاور في 25/10/2006 حول عنوانين إثنين: بحث موضوع حكومة الوحدة الوطنية وبحث قانون جديد للإنتخابات البرلمانية.

وبصرف النظر عمّا سيتداعى من هذا المناخ الجدلي المتنافر في لبنان والخطير الذي شارف في انقساماته العامودية والأفقية الى قراءة هزّات كبرى قد تحصل في لبنان المنتصر بعدما كانت منتظرة في اسرائيل المهزومة، فقد سجل بعض اللبنانيين بأنهم أول شعب مقاوم في التاريخ البشري يختلف أهلوه على مقاومتهم ويفاوضونها أو يهادنونها أو يدوارونها لمصلحة تصب في خانة الأعداء. تجدر الإشارة الى أن المقاومة في لبنان ليست هي الأولى في العالم كما لن تكون الأخيرة، لكن العودة الى عبر التاريخ ودروسه في مقاومة الإحتلال بصيغة الجمع تشير لا الى مأساوية الجهل اللبناني بالتاريخ وحسب الذي يبقى علماً خلافياً يحمل الكثير من التأويلات والحذف والإسقاطات، بل عدم أحقية التنكر لمسألة بقيت مستعصية على الفكر البشري حتى اليوم هي مسألة التراكمية في أحداث التاريخ من حيث عبره ودروسه وتسلسله المنطقي لرخاء البشر. والتاريخ على الرغم من مصطلحه الواسع الذي توسّع حقله ومعانيه مع مقولات العولمة والكونية، وعلى الرغم من سقوط الكثير من الحدود والخطوط بين الدول، فإنّ مسائل العلاقة بين الداخل والخارج بقيت قضايا مقدسة ثابتة لاتتهاون فيها الشعوب ولا يمكن بالتالي في علم استراتيجيات الدول قيام دول وأوطان وتأمين رخائها واستقرارها من دون احتفاظ بالداخل كمعطى ثابت مقدس وعلى مختلف المستويات. وهنا أمثلة غير حصرية:

عندما خرجت أميركا مثلاً مهزومة من أوحال حقول القصب في فيتنام، كانت تخرج من بين أيدي أعداء لها عجزت عن تمييزهم ومعرفتهم فعلياً لأن المواطنين هناك لم يكونوا هم الغرباء    Gooks كما كان الجنود الأميركيون يسمونهم بالإنكليزية كتعبير يحمل قسطاً من الإحتقار والعنصرية، بل لأنّ هؤلاء الجنود كانوا هم الغرباء الأصليون الذين يغزون بلاداً ليست لهم وخلافاً لكل المواثيق والأعراف الدولية السائدة. وأهمّ ما كانوا يحفرونه في الواقع هو المزيد من الحقد والكراهية لهم والتصميم على الموت والعمليات الإنتحارية ضدّهم مهما جاءت نتائجها. قد نجد مواطنين أو مسؤولين نادرين يلعبون دور الغرباء أو يميلون لمصلحتهم ولكنها أمور تدخل في باب الخيانات العظمى.

ومنذ مقاومة البروتون ضدّ جنود الرومان، ومقاومة بلاد الغال ليوليوس قيصر بعد غزوها، الى الحروب الهندية الشرسة في الولايات المتحدة نفسها الى الصراع الإيرلندي المفتوح أبداً ضد القوات البريطانية، ومنذ مقاومة منظمة" ايلاس" اليونانية في وجه الإلمان في البلقان الى تفجيرات المقاومين الباسك ضد الإسبان، ، ومقاومة ماوتسي تونغ ضد اليابانيين ثمّ ضد قوات تشان كاي تشيك في الصين، ودفع الجزائر أكثر من مليون جندي شهيد في مقاومة فرنسا التي لم تتخلص حتى اليوم من توشية أفلامها وأدبياتها من روح المقاومة لإلمانيا على الرغم من انخراطهما المشترك في الوحدة الأوروبية المعاصرة، ومنذ مقاومة الشيشان في وجه القياصرة والشيوعيين عبر تاريخ لا يحدّ، ومقاومة آسيا الوسطى ضدّ الروس وأيضاً مقاومة أفغانستان ضد الإتحاد السوفياتي، وصولاً الى المقاومة الفلسطينية الجرح العربي المنفتح أبداً من دون أن نعرف اسوداد الدم فيه، والمقاومة اللبنانية الأولى في وجه "اسرائيل" التي حققت النصر الأول في العام 2000، وتمكنت من تحرير الأرض اللبنانية وصولاً الى المقاومة العراقية التي لم يتردد الرئيس الأميركي جورج بوش من ربطها في ذاكرته بالمقاومة في  فيتنام ضد بلاده العظمى، كلها أمثلة ونماذج لا تنتهي على بطلان خيارات الغزو في التاريخ أو التصفيق للغزاة من داخل، ومهما اصطحب من شعارات، لأنها لا تتطابق مع الواقع وتورث الإنقسام والتفتيت والتخوين الذي يصعب محوه من أذهان الشعوب. فالإبادة والمذابح الجماعية وقتل الغرباء لا يفضي الى أي تغيير جذري، خصوصاً وإن كانت الشعارات التي ترتفع فوق الأساطيل أوراقاً مصطنعة في التنمية وتبطن القتل وتجدد الأفكار الإستعمارية وانتفاء الحرية والديمقراطية المتوخاة.

يشابه المقاومون الأسماك الذين سرعان ما يعومون في بحور الشعوب ومحيطاتها، ويصبحون أكثر قوة وبأساً ومتحصنون يمارسون فعل الموت بهدف الحق بالحرية والكرامة كما يمارس مطلقو الشعارات فعل الحياة، وتصبح حتى بعض النخب تستشعر أحياناً وكأنها جثثاً هامدة يفرحها موت مقاومتها بقوة الأعداء ولا ينقصها سوى التلذذ بثقافة الإنتظار السلبي الذي يقلق المقاومة ويؤرقها. وهنا يفترض القول أنه يستعصي على المحافظين من أهل المقاومة كما على الأمبراطوريات مهما عتت أن تقتلع المقاومين كلهم من أبناء الوطن أو تجتاح الأراضي كلها لأنّ الإمساك بكلّ الأسماك في البحار والمحيطات كلهاّ مسائل تدخل في وسائل الإعلام والأحاديث المرتجلة تماماً كالحقائق الخيالية الإنتحارية لتلك الدول والإمبراطوريات لا سيّما وأن تلك الأسماك لا تعود تكلّ عن الحركة والإبداع في فنون القتال والصمود التي لا تذكرها القواميس والشعوب. لن تخرج أميركا الدول العظمى بسهولة من الشعارات، ولن يكون ممكناً تلافي مآسي التاريخ إذ يصعب عليها التوفيق بين الدماء والنفط والماء ونقصد بها ماء العولمة عبر وسائل الإعلام حيث أنها تشابه المطر في التمكن منه وفي مفاعيله. تقف أميركا في الطليعة فوق زوايا مثلث تشغله بالكامل أي مواصلة القتال وتكرار التجربة الفيتنامية والإنسحاب وهي لن تخرج منه إن لم تعد قراءة مثلث المقاومة في العراق وفلسطين وبينهما لبنان والعديد من مدن الشرق الأوسط! وبالعودة الى دوائر الأسئلة التي تخرج عن أيّ منطق فترتبط بالعقيدة والإيمان تتغيّر مقاربة الموضوع إذ يمكن طرح لون آخر من المسائل التي تعمّق معنى النصر فيبدو نصراً آلهياً مضاعفاً حافلاً بالخوارق والأعاجيب وكأن الإنقسام حوله ولّد غضب الله فعلاً.

 

الإنتظار والنصر الآلهي

ما هو المعنى الحقيقي للنصر الآلهي وما هو الرابط الفعلي بين تسمية حزب الله ونصر الله؟ وهل يجوز أن يهزم مقاتلو حزب الله وما معنى أن يقاتل الله أو يساعد في القتال حزباً مقاتلاً؟ وكيف نفهم هذا المدى الإيماني الأساسي والقوي الذي يضاعف الصمود والإستبسال؟ غالباً ما تسقط المعاني الحقيقية للمصطلحات والتسميات لكن التمعن في التسمية وتحتها خط عريض: "حزب الله" تجعلنا نستعيد المضمون ونفهم المعنى الثمين لمصطلح النصر الآلهي كما نفهم أو نستشرف،على الأقل، بالتالي الأبعاد الدينية والإيمانية الحقيقية التي تنطوي عليها الحرب الأخيرة في الجنوب. وقد يكون الإيمان من أصلب الأسلحة وأقواها في فهم ما حصل! كان المقاتلون في حزب الله وما زالوا خارج حدقة العين إذ لم نتمكن من رؤيتهم أو لمحهم على الشاشات إلاً بشكل غامض  مموّه يقبلون في خلاله المصحف الكريم ثم يمرّون تحته نحو الشهادة أو نحو النصر في أرض الجنوب الوعرة. وكنّا في المقابل نرى الجنود الإسرائيليون يعتلون الدبابات حاملين كتبهم الدينية كلازمة أساسية في تحركهم. وكي نستدرك نشير الى أن المرّة الوحيدة التي ظهر فيها مقاتلون من حزب الله وتفرّس المشاهدون في وجوههم عندما ظهر إثنان منهم على الفضائيات بعدما وقعا أسيرين في قبضة العدو الإسرائيلي في الحرب الأخيرة.

ويمتد الكلام في معاني النصر الآلهي ليصل في جذوره الى الفكرة المهدوية، فنجد من يقول بعلامات عودة المهدي المنتظر أو علامات الظهور التي وردت في العديد من الكتب وتطرّق اليها الكثير من الباحثين ورجال الدين المسلمين وبالأخص الشيعة منهم الذين يؤكدون على وجود علامات ومظاهر للإمام الأثني عشر حيث أن الظروف من حيث العدة والنتائج تتهيأ الى جانب الظروف العالمية الصعبة تمهيداً لظهوره على شكل قائد ربّاني عالمي سيدعو الى ثورته الإسلامية الكبرى محققاً أهداف الدين الحق. والمعروف بأن المهدي المنتظر يأخذ حجمه الفكري والشعبي الواسع في إيران خصوصاً في العامين المنصرمين على اعتبار أن الشيعة في لبنان هم كربلائيون أكثر منهم مهدويون. وهكذا نسجّل بأن ايران تقيم مثلاً  للمرّة الثانية على التوالي مؤتمراً عالمياً حول المهدوية( آب/2005) يرعاه مباشرة الرئيس الأيراني محمود أحمدي نجاد رئيس بلدية طهران السابق ورئيس المؤسسة المهدوية ومؤسسها التي تستقطب الكثير من المفكرين ورجال الدين الشيعة والمتشيعين سواء في ايران أو في بلدان العالم قاطبة. والأمام المهدي هو أبو القسم محمد بن الحسن، ولد في العام 255 للهجرة في سامرّاء وتوفي والده الحسن العسكري وله من العمر خمس سنوات، فأتاه الله الحكمة كما يعتقدون وأخفاه والده عن أعين الناس فلم يعرف به سوى خواص شيعته خوفاً عليه ثم جعل منه آية للعالمين وإماماً للمسلمين،تماماً مثلما جعل عيسى ابن مريم وهو في المهد محط رعاية آلهية. لا يمكن حصر الأحاديث والدراسات التي تتطرق الى المهدي المنتظر والحكومة العالمية وربطه بكلّ فلسفات الإنتظار ومعالمها وأنبيائها وكلها تتناول أوصافه وتعاليمه ومنها مثلاً قول النبي محمد في حديث ورد في صحيح الترمذي قال:" لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً من آل بيتي يواطيء اسمه اسمي". ويقول ابن تيمية بصحة الحديث الذي نقله عن ابن عمر عن النبي(ص) وجاء فيه:" يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً كما امتلأت جوراً وذلك هو المهدي". وفي رواية أخرى تنتهي بسندها الى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله(ص) قال:" إن علي بن ابي طالب إمام أمتي وخليفتي من بعدي ومن ولده القائم المنتظر الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً إن الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر".

ونجح المهدي في تبديد الشكوك حول ولادته ووجوده وإمامته، فأمسك بزمام الأمور وقام بالمهام الكبرى وكان في الغيبة الصغرى في خفاء عن عيون الحكام. وبدأت غيبة المهدي الكبرى سنة 329 هجرية ولا زالت هذه الغيبة مستمرة حتّى اليوم. وهناك اعتقاد راسخ لدى الكثيرين من الشيعة أن المهدي لم ينقطع عن مهامه، بل استمرّ بالقيام بمهام في ما يسمى مرحلة الغيبة الكبرى الى حين توافر مقدمات الظهور بهدف الإصلاح الشامل الذي وعد الله به الأمم.( من المقالات المنتخبة في المؤتمر العالمي الثاني للنظرية المهدوية، 6-8 أيلول 2006، ص 151 وما بعدها). قد نجد فكرة المهدي عامل اتفاق أو عامل شقاق بين المسلمين وفقاً لترقب الظهور الذي يمكن أن يتّخذ صفتي السلبية والإيجابية. والسلبية في ثقافة الإنتظار الشيعية تعني انتظار المهدي بمعنى الإبتعاد عن مواجهة الواقع الفاسد والتصدي للظلم، وهذا ما يجسّد العقلية المسترخية الكسولة التي تساهم في تكريس الظلم والتخلف والجور. ولا يعني هذا النوع من الإنتظار سوى التعبير الفاقع عن اليأس والخيبة والإحباط والضعف والخنوع لواقع الهزائم. وهذا النوع من الإنتظار يحول دون ظهور المهدي كونه لا ييسر أجواء مؤاتية لهذا الظهور وهو ما يخالف المنهج القرآني في الإصلاح والتغيير الذي يقوم على دعائم دفع الفساد من الأرض لقوله:" ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين"( البقرة، 251)، كما يقوم على دعامة مجاهدة النفس وتهذيبها وتطويرها والبحث الدائم عن التغيير نحو الأفضل وذلك بقوله تعالى:" أن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"( الرعد،11). لقد أورث الموقف الإنتظاري السلبي ببعض فرق الشيعة الى تعطيل الفرائض والأحكام الشرعية والجهاد وصلاة الجماعة والجمعة بحجة أن القيام اليها رهن بخروج المهدي.

ويحكى بأن الشيعة في إيران كانوا يطلبون من الله بأن يحفظ لهم الإمام الخميني حتى ظهور المهدي، ولكن مع موت الخميني وعدم ظهور المهدي اصيب العديد من الشيعة في ايران والعالم بالصدمة الكبرى، ومع ذلك  فقد  كرم  الشيعة الإمام  الخميني  فأقاموا له مقاماً خاصاً به في قم. وهذا يذكرنا بالطبع بمفهوم الشهادة بين الفرق الإسلامية كما بين الأديان لأن الشهيد مع فكرة البعث هي غير الشهيد مع عدم الإيمان بفكرة البعث. ولأن البعث غير موجود في الإسلام لأن النبي الكريم قد مات فجاء القول لأبي بكر:" من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" نفهم مثلاً قيمة تبادل أسرى أحياء من الفلسطينيين أو المقاتلين الجنوبيين مقابل رفاة مقاتلين من الجيش الإسرائيلي أو مسجونين يعدّون أحياء حتى تثبت البراهين الحسية لموتهم. ونفهم بالتالي معنى تقديس رفاة الميتين الإسرائيليين الذين يجب أن تعود جثامينهم الى أرض الميعاد تقديساً لكتابهم القائل بانتظار البعث الوحيد الذي لم يحصل بعد. وبذلك وأفضل ما يمكن الإشارة اليه هو الطيّار الإسرائيلي رون آراد الذي سقط في الأسر بين أيدي المقاومة الإسلامية في لبنان وانتفت أخباره وآثاره وبقي نقطة الإلحاح والإهتمام الذي أولته وما زالت توليه إسرائيل الإهتمام الكبير. ليست المرّة الأولى التي تظهر فيها  فكرة ظهور المهدي دون أن تتحقق. ولقد اصيب المسلمون أيضاً بالخيبة الكبرى في إمارة بني الأحمر في الأندلس آخر معقل اسلامي لهم هناك حيث سيطرت على أذهان المسلمين فكرة انتظار المهدي المنتظر إذ باتوا يترقبون خروجه لينصرهم على المقاتلين الإسبان ويثأر لهم، ولكن النتيجة كانت وضع رؤوس كبارهم تحت مقصلة محاكم التفتيش وطرهم من الأندلس شرّ طردة وفقد المسلمون بذلك فردوسهم من دون أن يظهر للمهدي أثر.

 

وأما الموقف الإيجابي من الإنتظار أو ما يعرف بالإنتظار الإيجابي فهو من مكملات الإيمان الذي يفرض على المؤمن ألاّ يقف مكتوف الأيدي أمام الواقع المستشري والمنحرف، بل عليه أن يقاوم ويجاهد ممهداً الطريق لظهور المهدي وصولاً الى الوظيفة الآلهية التي يعتقد بها والتي سيضطلع بها المنتظر في آخر الزمان.

وينسحب لون آخر من المعتقدات في المجتمع الإسرائيلي الذي يتمسك على الرغم من الديمقراطية المعلنة بالطقوس والأعياد القديمة التي لا تزول ولا تتغير والتي تجعل المجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر تجذراً في الدين .ويحكى في المجال نفسه أنه عندما هدد الرئيس العراقي بضرب اسرائيل بالصواريخ في آب/ أغسطس 1990، قام كبير حاخامات اسرائيل عوفاديا يوسف بركوب الطائرة ورقى اسرائيل برشّها بالماء ثلاث مرّات في دورات ثلاث ارتقاء وهبوطاَ فوقها منعاً لصواريخ صدّام! وعندما قررت القيادة الإسرائيلية بتوسيع عملياتها في جنوب لبنا ن ، قررت الحاخامية العسكرية اللجوء الى شياطين سليمان ليقاتلوا معهم في جنوبي لبنان ضد رجال المقاومة في حزب الله، وفرزت في كلّ وحدة عسكرية ضابط حاخام يعمل في التعبئة والتوجيه، وبكلّ ما يتعلّق بالجنود من الناحية الدينية.

وجاء على لسان حاخام مخاطباَ الجنود:" انتبهوا لأن الشياطين تسكن دائماَ في جبال الشرق المظلمة الملبدّة بالأرواح، وأوراق الشجر في الجنوب اللبناني تنظر وتنتظر... فلا بدّ من الإستعانة أمام هذه الورطة المتجددة من الإستعانة بالشياطين والشيطانات المسماة "ليليت" لتعوي مثل الكلاب المسعورة في الوديان وتصحب معها" آذا وآذائيل" لمساعدتكم ، وخصوصاً ليالي الخميس والسبت. ولكن أنبهكم عدم الخروج من أمكنتكم مدّة تزايد الهلال أو نقصانه أو وضوحه، وأن لا تحيّوا أحداَ بتحية مع هبوط الليل لأنه من المحتمل أن يكون أحدكم قد وجه التحية الى شيطان حاقد على اليهود، وعدم التقيد بهذا يجعلنا نتحمّل زيادة الإصابات كما حصل معنا قبل العام ألفين...".

ولم ينس الحاخام تذكير جنوده بالقدرات الهائلة التي يتمتع بها مقاتلو حزب الله في تلك الأودية المسكونة التي ذكرها السيد حسن نصرالله ، مشيراً خصوصاَ الى وحدة التمويه الرائعة الإبداع التي تجعل المقاتلين مقاتلين يتكومون أحياناً على شكل صخرة أو شجرة أو كومة تراب أو تلّة متحركة، قد تلامسها أو تمرّ فوقها ولا تعرف أنها مجموعة متأهبة متجذرة في تربتها جاهزة للدفاع والفتك والقتل وفقاً للعقيدة الدفاعية الدينية. وختم الحاخام بقوله:" فلتحلّ البركة على آله القوة الذي يدرب أيديكم على الحرب وأصابعكم على القتال، ولا تنسوا الشريعة التي تفرض عليكم القتال ضدّ الجميع أطفالاَ ونساءً وشيوخاَ... ولتحل كلّ وحدة منكم تابوتاً وفيه نسخة من التوراة، وعليه نقش: انهض بالله ودع أعداءك يتشتتون (وفي هذا بعث لجماعة موسى الذين كانوا يحملون تابوت العهد أينما حلّوا اعتقاداً منهم بأن روح الله تحلّ فيهم وتحمي دماءهم). وإذا ما أطلق النار من منزل، فإن العقل السليم يقول بوجوب هدم المنزل على من فيه وتدمير المنازل المجاورة له لإنهاء القصة.." لا "لن تنتهي القصة" كما يقول الشاعر اليهودي فينا حاييم جودي"لأن الإنسان الإسرائيلي يولد وفي داخله السكين الذي سيذبحه".

ولا يعني هذا سوى الإستغراق بالإستعانة بالأبعاد والمعتقدات الدينية لتفسير العنف وتداعيات الحروب التي جاءت في هذه الجولة على إيقاعات المشاهد الحية والصور التلفزيونية التي عبّأت عيون المشاهدين في العالم ولياليهم ونفسياتهم بالدم والعنف والحقد اليهودي الذي لم نشهده حتّى في الأفلام المستوردة من الإبداعات السينمائية الأميركية. لقد أصيب المشاهد بالقرف أمام قتل الأطفال الوحشي والمدنيين الأبرياء والتدمير المنظم والإبادة والإقتلاع وقصف النعوش والمشيعين لضحاياهم في لبنان، كما أصيب بمشاعر لا نجد ما يعبر عنها في أية أبجدية من أبجديات التاريخ أمام هذا الصمت والمماطلة الكريهة التي كانت تغطس بها المحافل الدولية، والتي تطويها تلك الإبتسامات الشيطانية الصفراء التي كانت تبين في وجوه كومة من السياسيين المرضى الذين يحكمون هذا العالم ويديرونه الى وجهة تقوّي الدين ولا ريب.

ربّما يكمن السبب في استمرار القصة الى أن ما نسمعه ونتابعه من تحليلات ومشاريع قرارات وتمنيات تؤشر الى أن الحروب باتت لعبة يلعبها الكبار كما يلعب أولادهم لعبة الصغار أمام الشاشات التي عصر فيها الذهن الأميركي حروبه في كمبوديا وفيتنام والعراق وحوّلها الى أقراص مدمّجة وألعاب يتسلّى بها أطفالنا وعليها يقبلون، محققين بذلك ما سبق وأن اكتشفه سيغموند فرويد عالم النفس اليهودي النمساوي قبل عقود كثيرة بحيث باتت الشخصية البشرية مسكونة بهاجسين أساسيين هما غريزة الموت وغريزة الحياة، وبمعنى أوضح مظاهر العنف واللذة أو اللذة في العنف والدم التي تملأ مخيلة القرن العشرين وتفور الى القرن الواحد والعشرين لتعيد الصور الأولى التي تحفل بها صورة الآله في الذهن اليهودي والكامن في التوراة التي يحاول اليهود إعادة عرضها في العالم! وقد يعود السبب الى عقدة نقص هائلة تسكن الشخصية اليهودية عبر التاريخ المعاصر. فمنذ أن أعلن الفيلسوف الإلماني فريديريك نيتشه في العالم 1900 عن موت الله مبشراً بأن الإنسان بات هو السوبرمان أو الإنسان الأعلى الذي ارتقى ووصل الى القمة، محققاً أقصى تجلياته بأن قتل الخالق، كان هتلر في طليعة من اعتنق هذه الفكرة وحاول تطبيقها في تجربته النازية بحثاً عن الدم الآري النقي، وطموحه منصب على خلق أجيال من الشباب والشابات النظيفي الأعراق والذين من أرحامهم وحيواناتهم المنوية يفترض تأسيس الشعب الأرقى والأنقى في التاريخ. طبعاً هذه الأفكار التي كانت تعصف في رأس مؤسس المانيا القوية جاءت محكمة بالطبع بتشاوف اليهود من نقاوة أعراقهم وبأنهم أول شعب كلّمهم الله في الدنيا موشوشاَ في أذن موسى. وقد تصفّت هذه الأفكار كلّها في صورة السوبرمان المقتدر الأميركي السينمائي والخرافي الذي يعشقه أطفال الدنيا، كما ولّدت فكرة الكيبوتزات في دولة العدو الإسرائيلي الذي يبدو فيه الجندي ملكاً لاسرائيل لا ملك والديه اللذين أنجبوه.

وإذا ما أضفنا هذا الكلام الى الأسطورة اليهودية التي تقول" بأن السيف والتوراة نزلا معاً من السماء"، والسيف جاء ترتيبه قبل كتاب دينهم كما نلحظ، يمكننا أن ندرك طبيعة تلك الدولة القائمة على الدم  ومستقبلها ومعنى السلام معها الذي يضغط فيه الغرب بكلّ قواه وذهنه وعزائمه وهو أمر لم يكن الكثير من اللبنانيين متيقنين منه بالمعنى السياسي ولهذا جاءت ملامح هذا المشهد لتظهر نوعاً من التعاطف الشعبي الذي لم نكن نعرفه في لبنان من قبل. وليس قليلاً أن تخرج امرأة من كسروان تتقلّد الصليب في عنقها لتقول في المظاهرة التي دعا اليها التيار الوطني الحر في 15/10/2006  بمناسبة ذكرى 13 تشرين:" بطلب من العدرا تحرس السيد حسن"! لن تنهي القصة مع من أتوا من مئة بلد وهم يتكلمون أكثر من ثمانين لغة ولهجة، وحشروا في أرض غريبة عنهم تماماَ، إلاَ في الأساطير الخاصة بهم. لا علاقة لهم بموسى ولا يربطهم سوى تنامي الدين وهم متباعدون في اللغة والثقافة والجنس، كما هم مجبولون بالخوف الدائم لأنهم جعلوا آلههم يحارب عنهم" فالرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون"( يش 10: 42، 23:3)، وهم لا يلتمسون سوى نصوصهم الدينية وعلى رأسها سفر يشوع أو سفر المذابح الذي أسس مجتمعاَ قائماً على العنف والإرهاب والنزوع الى القتل والدمار. لن تنتهي القصة؟ ربما تنتهي! قال ناحوم غولدمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، بعد نصف قرن من نضاله من أجل اسرائيل، مساهماً في إنشاء المؤتمر اليهودي العالمي، قال في كتابه "اسرائيل الى أين؟"الصادر عام 1975:" سيكون لإسرائيل، هذه الجزيرة الدموية وسط العالم العربي والإسلامي حظ ضئيل جدّاَ في البقاء. اسرائيل خطيئة والخطيئة تجرّ دوماً الى خطيئة أخرى أكبر، فالحرب الأولى تلتها ثلاث حروب ولم تحلّ شيئاً... لقد غرب عن أذهاننا القوة التي سيتمتع بها العرب والمسلمون، وبأنهم كانوا أكبر القوى في العالم، غزوا حتّى قسماَ من أوروبا، مبدعين الإسلام الديانة الأكثر انتشاراَ في العالم. إن الزمن يعمل لصالحهم، وإن دولة اسرائيل منعزلة في العالم وفي الفضاء وهي في موقف مزعزع بكلّ معنى الكلمة يجعلها مهددة بالزوال إن ثابرت على الدم والتوسع".

 

"نهاية العالم" وثقافة الإنتظار

لكل أمة من الأمم والشعوب معتقداته الخاصة وثقافاته الموروثة والمخلص الذي ينتظره ولهذا نجد بأن الأفكار والآراء والاتجاهات المرتبطة بمصير العالم تقوى مثقلةً بالأوهام والهواجس والأساطير التي تروّج لنهاية العالم والتاريخ والانسان . وتشاء الظروف أن تترافق هذه كلُّها في زمن تنتقل فيه البشرية مناخ الحروب في الألفية الثالثة، الأمر الذي طبع الفكر المعاصر بالمغالاة في نبش كل ما يتعلّق بالتداعيات الكبرى، إلى درجة بات فيه القول بأننا على حافة النهاية، "وأن نهاية العالم المحكوم بالشيطان قادمة لا محالة"(1)، وكأنه صحيح وواقعي على حد تعبير الرئيس ريغان. وتتكرّر الأقوال المشابهة مثل "الدينونة الكبرى" و"يوم الدينونة" و"تؤلّف ولا تؤلفان"(2) و"عودة المسيح" و"دنوّ الساعة"(3) و"اليوم الآخر" الذي "سيطبق على العالم كالطامة الكبرى"(4).

ليس جديداً هذا التبشير بالإنهيار الشامل الذي لازم وجود الإنسان واعتبر من مميزات الفكر البشري ومن مغذياته الأسطورية في أشكاله القديمة والحديثة. ذلك لأن الإنسان إذ يعتبر الدنيا فردوساً مفقوداً أضاعه نتيجة ذنوب اقترفها، كان يسعى جهده ليستحق العودة الى الله عبر صور ونماذج تملأ الكون عدلاً بعدما ملأته التجارب الإنسانية شروراً وأزمات. تُعتبر هذه الأفكار الحافلة بالتهويل والإنتظار والانهيار قديمةً جدا. نجدها قبل  ومع المسيحية وبعدها في الأديان التوحيدية الأخرى. وكما ينتظر المسلمون ظهور الإمام المهدي وينظر المسيحيون المسيح المخلص واليهود ينتظرون النبي الموعود، كذلك الذين يعتقدون بالديانات البوذية والصينية والهندية والزرادشتية وغيرها يؤمنون بوجوب ظهور مخلص في آخر الزمان. وتتحث كتبهم المقدسة عن ظهور من ينقذهم بعد أن يعم الظلم والجور في العالم الى درجة يمكن للمتبحر فيها أن يرى تاريخ الإنسان على الأرض حافلاً بالإنتظار. وتختلف التسميات لهذا المخلص المنقذ المنتظر الذي سيأتي ليخلص العالم من المحن والآلام، فنجد هذه الثقافة الإنتظارية مع الفلسفة الرواقية التي قال فيها الرواقيون بأنهم ينتظرون ناراً تلتهم العالم، ويذكر الهنود" السنوات الكبرى" حيث يظهر" سيفا" أو" تاراي ويشنو العاشر" حاملاً بيده سيفاً كما الشهاب المذنب ويضع في اليد الأخرى خاتماً برّاقاً. وحينما يظهر تكسف الشمس ويخسف القمر وتهتز الأرض وهكذا يباشر رسالته فيطهر العالم من أدرانه، وكذلك الأمر نفسه لدى الباطنيين. وما فكرة المخلّص أو"ميترا" في ايران إلاّ المنتظر الذي سينظم الكون وينقذه وليس هو سوى" الإفشتا" القديمة الذي سيعود يوماً فيضرم ناراً تلتهم الكون. وتتحدث الكتب عن "بوذا الخامس" مخلّصاً للعالم يتخذ شكل البشر إذ يعم الجور. وقد طرحت الديانة الزرادشتية موعودين ثلاثة يطلق على كلّ منهم اسم" سوشيانت" لكن أفضلهم الموعود الثالث الملقّب ب" سوشيانت المنتصر" المنقذ(5).
 وليس صحيحاً أن "المسيحية كانت أول من أدخل البشرية في المصير المكتوب لها، حيث صار التاريخ محكوماً بـِ"نهاية الأزمنة(6)، وتاريخ المؤمنين الأرضي محكوماً بالدينونة(7). أليس " ماني"الذي ادّعى بأنه المسيح الثاني هو نفسه صاحب ديانة الخلاص التي لا بدّ للمسيحيين من انتظارها؟

في ضوء ما تقدّم من ثقافات الإنتظار، قد لا يفاجأ  من هو على تماس مع مؤلفات الإنتظار ، كيف راح الناس تكراراً وخصوصاً الشيعة منهم المنتشين بالنصر الأخير في لبنان بعد12 تموز-14آب  كما ذكرنا2006 يقولون بقرب ظهور المهدي المنتظر( عجل الله فرجه) الذي وقف شعاعه الى جانبهم وهو سيظهر ليملأ الدنيا عدلاً بعدما طفحت بالظلم والجور، وهو لا يخرج بطريقة المعجزة المطلقة، بل أن خروجه يأتي مع استمرار القتال والإستشهاد حيث ستكون هناك حروب كثيرة وانتصارات منتظرة لا تخلو من نكبات وكوارث ومآسي.

لقد تنامت يقظة هذه الأفكار والأساطير واستعادتها الدول العظمى في زمن العولمة، ولأن ظواهر طبيعية وبشرية باتت شبيهة بما ذكرته الكتب القديمة والكتب المقدسة. وبدت الولايات المتحدة الأميركية على ارتباط بالفكر "الألفي" وهو مصدر انهيارات متجددة، وفي هذا قمة التلاقي بين الفكر السياسي العالمي والأساطير الخرافية. وإلاّ كيف نفسر قول الرئيس الأميركي: "حينما أتطلّع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلاقات المثبتة بـ"هرمجدون(8)، أجد نفسي متسائلاً عمّا إذا كنّا نحن مَن سنرى نهاية العالم واقعاً. إنها قطعاً تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه(9)

لا تعود الحروب من محصلات الدول في لحظة من لحظات تضخم قوتها وفيضها على العالم وحسب، وكما تبدو أميركا اليوم قوة عظمى وحيدة، بل ان حضوراً كبيراً للفكر الصهيوني في السياسة والاعلام في أميركا يبدو واضحاً مروّجاً للقيامة، محذراً من "أن العالم يتحرّك بسرعة كبيرة نحو "هرمجدون"، وأن جيل الشباب الحالي سيكون آخر جيل في التاريخ(10)". ولا يخرج التدفق العالمي على القدس بين الألفيتين عن الترويج لإعلان هذه القيامة التي يتزعمها المسيحيون الجدد(11) في الجامعات ووسائل الاعلام في الولايات المتحدة الأميركية، ويتسلحون في ترويجهم لها بالهزات الأرضية المتكاثرة والأمراض الجديدة والأخطار النووية وغيرها. يُضاف إلى هؤلاء، المجموعات المعمدانية والمنهجيون ومجموعات بيت دافيد المقتنعين أن فرسان القيامة الأربعة هم على وشك أن يمتطوا أحصنتهم في العام المقبل (2002)... ويقسم هؤلاء إلى نوعين: الانتحاريون الذين يعملون على تسريع حدوث القيامة من خلال تفجير الجوامع (الأقصى وجامع عمر في القدس...) والدعوة إلى هوس التدمير وإحياء المجموعات الأصولية اليهودية مثل "أمناء الهيكل" الذين يسعون إلى بناء هيكل ثالث في القدس(12).

تمثل هذه الأفكار في نهاية العالم من المواد الاعلاميّة المتنوعة والأدبيات المختلفة التي تطبع هذا القرن، ولا ينجو منها حتى العلم المحض والمظاهر التقنيّة الدقيقة. قد نجد مَن يعزو نهاية العالم إلى أسباب علمية، مرتبطة بالكشف عن الوجوه السلبية للعلوم. فيرى أن العالَم مهدّد في أجناسه بالانقراض التام، لأن الانسان دمّر الطبيعة وذاته في الوقت نفسه، وأدخل نفسه في جدلية "اليوم الأخير" ومخاطرها.(13) ويندرج في هذا الإطار، مظاهر كبرى من المخاطر مثل التلوث الذي يلف الكرة الأرضية، طبقة الأوزون، وجنون البقر(14)، والأسلحة الجرثومية والكيماوية والخوف من الحروب النووية، والليزر، ومرض الإيدز وأنفلونزا الطيور وغيرها الكثير. والملاحظ أن كل ما يرتبط بالنهايات والانهيارات يقدّم في مواد اعلامية مثقلة بالتشويق والأهداف التجارية، فتبدو شاشات العالم بمتناول الجميع ومتقدمة في خلق هذه الهواجس. وإذا كان ثمة مشكلة عالمية علمية، ففي بداية “فقدان الذاكرة التاريخية النابع من قدرات التكنولوجيا، إذ لم يكن هذا القرن هو الأكثر فتكاً وانهياراً رغم جرائمه الكبرى"(15).

ولا يعني فقدان الذاكرة سوى ضمور الانسان واستبدال سلطاته بسلطات معلوماتية هائلة مودعة في جهاز كومبيوتر خفيّ وشاشة متشظية على عدد مستعمليها ذات فعالية فائقة في أنظمتها الذكية الاصطناعية، تبشر بعصر الذكاء الذرّي.

يخضع هذا التوجه المعروف بالانكماش حتى درجة التلاشي مع إمكانية مضاعفات قدراته وسهولة استعماله، إلى ابتكار رقاقات الكومبيوتر التي تخضع بدورها لقانون مور(16) الذي ينصّ على أن الرقاقات هذه ستبقى تتضاعف كل ثمانية أشهر العمر المتعارف عليه في أحجام أجيالها، ثم تنخفض كلفتها مع انخفاض حجمها. وهكذا تبقى الأجيال تتلاشى وتنقرض إلى ما يفوق التصور. ويتوقع الخبراء أن يصبح الحاسوب أصغر حجماً، وأرخص ثمناً إلى الحدّ الذي يجعل الرقاقة الواحدة مماثلة لحجم الخلية الانسانية التي ستتمكن البشرية من زرعها في الأجسام أو الأدمغة والتحكم بها(17).

 

نحو حوار الحضارات

لا يتصور الباحث أن دروساً واضحة قد نهلتها البشرية من صراع الإيديولوجيات عنوان القرن العشرين أو حفظتها من صراع القوميات عنوان القرن التاسع عشر، بل يطغى على الدنيا تداعيات صدام الحضارات الراهن الذي قلب الصورة الوهمية التي كانت تطوي الألفية الثانية على السلام وانتفاء التاريخ أو الصدام المستقبلي العنفي والإنفعالي الذي يعني صراع الثقافات والديانات. وها نحن مجدداً نشهد بعث صور من الدماء التي لم تعرف اليباس في جسد الكوكب وكأن سقوط الجدران الكثيرة والهياكل والأنظمة واندثار الحرب الباردة واستشراف عالم حر مسائل ما زالت مستعصية فعلاً على العقل البشري.

يمكن الخروج من المثلث الفكري المتساوي الأضلاع الذي يشغل زواياه ثلاثة من المفكرين الغربيين الذين يحتلّون مساحات كبرى من نقاشاتنا ونصوصنا التي قد لا تضيف كثيراً الى ما نسميه حوار الحضارات. وهذا يعني الإبتعاد حكماً عن زاوية فرانسيس فوكوياما المفكر الياباني الأصل الأميركي الجنسية القائل بنهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية على الكوكب وفق ملامح الإنسان الأميركي الرقمي الأخير. وهذا يعني الخروج من زاوية روجيه غارودي المفكر الفرنسي الذي رغب في الجمع بين الحضارات منذ عقدين والخروج من الثنائية الحادة المدمّرة بزوال الغرب الى كوكب التفاهم والحوار بين شعوب مجتمعات العالم. كما يعني بالتالي الخروج النهائي أيضاً من مقولات صموئيل هتنجتون المفكر والنجم العالمي الأميركي في صراع الحضارات السبعة الصينية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية واللاتينية الأميركية والأفريقية التي ستزول لشرعة الأقوى ولن يستمر حتى النهاية منها سوى حضارات ثلاث الغربية المسيحية( مع أنها ليست مسيحية بالمفهوم المتعارف عليه) والإسلامية والكونفوشيوسية ، مع العلم أن هذا المفكر قد وشّى حبره بهاجس تحالف الحضارتين الصينية والإسلامية في تلميح الى تحالف نووي بين الصين وبعض الدول الإسلامية.

قلت نخرج من هذا المثلّث المقفل على مجموعات من المفكرين والسياسيين الذين يعارضون الصراع ويستبدلونه بالحوار وهذا يعني إخراجه من السياسة والقوة، وتركه للمؤتمرات والجمعيات والمؤسسات الداعية الى ترسيخ سياسة الحوار بين الغرب والعالم الإسلامي والتفاهم والتعايش السلمي بدلاً من الصدام الى درجة أن الأمم المتحدة حددت العام 2001 عاماً لحوار الحضارات. لا يمكن الخروج من السياسة، بل يمكن الخروج من المناهج التقليدية في تناول الأزمات والمعضلات، خصوصاً وأن السلطات في العالم بمعانيها التقليدية المعروفة تنهار لمصلحة الصورة والشاشة المتشظية التي تجعل لوسائل الإعلام سلطة السلطات المطلقة والخفية للحوار في الألفية الجديدة. هذا هو التاريخ إذن، من الصورة الهيروغليفية في مصر ومن الصور المسمارية في بلاد ما بين النهرين صعوداً نحو الكلام الضحل الكثير والفكر والحضارات أكثر من ألفيات خمس من التقهقر وتعثر البشر في تأسيس الحوار على السلام والكلام واللغات لا على الدم. لست من الذين يقدّسون الماضي في أبحاثه في المطلق أويرون في تقنيات العولمة، مثلاً، مصدراً لهزائمنا وأمراضنا، ولأنني أؤمن بالثنائيات في الفكر والحضارة وكنت من القائلين بنهاية العولمة أو حتى عدم حدوثها أساساً وذلك مع عزّ سقوط مصطلحات استراتيجية أساسية من أذهاننا من فوق القمم وسقوط مصطلح العالم الثالث في مناخات من ادانة العولمة والتهجم على مظاهرها وفعاليتها وقوتها وإطلاق مصطلحات مناقضة لها مثل العوربة حيث تنصب ثقافة في وجه ثقافة وديناً في وجه دين آخر.

قد يصح هذا الإستمرار في المواقف المتشنجة من العولمة والتلاقي على المستويات السياسية والإقتصادية، ولكنه لا يصحّ إطلاقاً على المستويات الثقافية واللغوية والحضارية والإتصالية الحوارية، لأنك لو دققت لرأيت فكراً مغمساً هو وأصحابه بمقتنيات الإتصال كضرورات للعولمة والعيش، لكنهم يتلهون عبر هذه المقتنيات إياها أي أدواتها بإدانة العولمة والحضارات الأخرى التي تبدو بهذا المعنى البرق أو الغيوم في الوقت نفسه الذي فيه تهبط النيران بدافع من التغيير!! التغيير! تلك هي معضلة قاطني هذه البقعة من الأرض المترددة بين التغيير والغير لأن الغير كان يغيّرها بالقوة على مدى التاريخ، وهي بقعة أصطفتها السماء لتمنحها كنوزها الدينية الصافية التوحيدية التي توزعت في الأرض، كما منحتها الأقدار زيت الأرض والزيت رمز سلام وحوار، ولهذا السبب نراها  حضارة مترددة بين ديانة الآباء وديانات الأبناء والأحفاد تديرها كلّها قوى خفية تشابه في سلوكها تخفّي العنكبوت خلف شباكه في صفحات الإنترنت. وعلى الرغم من المثلث الآخرالذي يحصر ردود فعل العرب والمسلمين بين رافض للحوار أي رافض للغرب المدمر والشرس  بكلّ ما يرمز اليه ويحمله وحجته تقول كيف نحاور من يشطبنا ويدمرنا وهو محق بالطبع، أو بين قابل بالحوار مندمجاً بالغرب ويدير ظهره للشرق الى ما يتجاوز طموحات هذا الغرب وأطماعه المتجددة أو بين منقب عن فكر حواري توفيقي بين الغرب والشرق على الرغم من السوء الذي يحمله الفكر التوفيقي في خلطه للأمور والأفكار وعدم تفاعلها، فإن المقام يسمح لنا بالدعوة أوّلاً للبحث عن إمكانية الخروج من هذه المساحات المثلثة ويسمح لنا ثانياً من القول:

إن العرب والمسلمين يحبون في عصر الفضاء والأقمار الإصطناعية مثل الأطفال، وإن ما حققته وتحققه تلك الخطوات البسيطة المتعثرة في الفضائيات يفوق ربّما في مجال وحدة العرب وحواراتهم وثقافاتهم أضعاف ما أنتجه مفكرونا ومؤسساتنا في خلال العقود الخمسة الماضية ودعوا اليه ونشطوا من أجله لتحقيق صورتهم وحضورهم في الشرق والغرب. لا يمكن الخروج من السياسة والعزف على حوار السلام بين حضارات في زمن نغرق فيه في الدم ، لذا يتقدّس السؤال : ما هو مستقبل الانسان في ضوء هذه الابتكارات والأساطير والأفكار؟ وهل نحن على أبواب متغيرات وتحولات كبرى في قدراته؟ وكيف تبدو أميركا اليوم؟

تبدو وقد ارتاحت أولاً من الخط الأحمر أو الخطر الشيوعي وساعد في ذلك المسلمون، فالبترول ماء العولمة وكلأ شعوبها الكثيرة الباسطة كفها على أرصفة التاريخ. ومع أن الشيوعية قد سقطت بشكل ذريع لكن لنا أن نحتفظ بجملة واحدة للينين تقول:" إن أياماً لا عقوداً تصنع التاريخ البشري" أليس مجدياً أن ننظر وننتظر كي نحسن قراءة ما حصل في لبنان في 33 يوماً! وتبدو الولايات المتحدة تهادن الخط أو الخطر الأصفر/ الصين الدولة القادمة عالمياً والتي بقيت مسيطرة في آسيا ألفي سنة. صحيح أن مجمل شعوب العالم تلهث نحو الإنكليزية وأن العولمة تعني الأمركة، لكن الصحيح أيضاً أن الأميركيين يلهثون لتعلم اللغات الصينية. وقد لا يطول الزمن الذي نجد فيه تلك اللغة القادمة تحتل المساحات الواسعة من الشاشات. وتبدو الولايات المتحدة ثالثاً تعلن الحروب المفتوحة على الخط أو الخطر الأخضر من وجهة نظرها أي على الإسلام والمسلمين تحت عنواني الشرق الأوسط الجديد الذي تمّت خربطته في لبنان وهي تلتمس مستمرة الفوضى الخلاّقة. وعلى الرغم من الطموح الأميركي في حروبها الجاهزة المتنقلة ترغب في التخلص من الأفواه الزائدة المهددة بالتهام موارد الكرة الطبيعية، تحقيقاً للمليار الذهبي الذي يفترض أن يحتكر الحياة وشروطها على الكرة على حساب المليارات البشرية الأخرى، فإنه طموح يفلش ثقافة الأطباق في المعمورة.

تعني الأمركة الطبق المغري والشعار. الأول مستورد لم يخسر هويته والثاني لا يقيم تراثاً إذ يساوي بين الصابون والحضارة! كيف؟ فقد أخذت أميركا ثقافة البيتزا عن إيطاليا وحاولت عبرها الدخول الى أفواه البشرية ودعمتها بالكوك والبيغ ماك وغيرها لتحولها عن طبيعتها الإيطالية، وكادت أن تقنع العالم بهويتها الأميركية لكنها فشلت فشلاً ذريعاَ. والمعروف بأن ايطاليا بلد اوروبي عريق قي الحضارة،يقف وراء هياكل روما وقببها كما يمشي أمام كسرة من الخبز المسيحية التي لا يفهمها الأميركيون قادرة أن تطعم شعوب الأرض بالمحبة والتضحية وأيضاً الإنتظار.

الحضارة إذن قطعة خبز عالمية يضع كل شعب فوقها ثقافته وذوقه وحشائشه، لكنها ستبقى فكرة ايطالية ذي هوية ايطالية الى الأبد مهما كانت هوية الموضوع فوقها. وعلى الرغم من أن أصحاب الخط من المسلمين والعرب وخصوصاَ المقاومين منهم لا يضعون فوق رغيفهم سوى السعتر البري المطحون والمجبول بزيت القدس وبيروت ودمشق وزعفران طهران وغيرها من المدن العربية والإسلامية المتوثبة بعد النصر في لبنان، فإن المنقوشة هو اسم هذه القطعة من الخبز التي ستبقى عربية وستبقى رمز المقاومة الى الأبد. إنهم يضعون فوق رغيفهم الكشك المستخرج من حليب الماعز الذي لا يرعى إلا فوق رؤوس التلال والجبال ولا يقضم سوى رؤوس الطرابين والحشائش الطرية. ويجفف الحليب طبيعياً تحت أشعة الشمس لا في المصانع والنشافات الكهربائية، ويجبل بالقمح الأسمر المدقوق الذي بات يباع في صيدليات الغرب وعياداته الطبية!

 

لأميركا السماء من أجل "حضارة" النار والحروب الخيالية، وللمسلمين الوعر من أفغانستان نزولاً نحو العراق وايران ولبنان وفلسطين. وشتان ما بين الوعورة الطبيعية والوعورة البشرية . مهلاً! لا يغرينك المظهر الخارجي ! المسألة هي في المضمون، فالغرب عاشق أشكال أكثر منه صاحب مضامين إنسانية وانتظارية. حالة من السقم والمرض البيئي والسيدا والسارس وجنون البقر وأنفلونزا الطيور وغيرها الكثير. صحيح أن ما حصل في 11 أيلول 2002 في أميركا قد يشابه الميلاد أميركياً، لكن الملاحظ أن كلَ ما في هذه الدولة كبير. اسمها أكبر أسم وسياراتها أكبر سيارات في العالم وبرّاداتها كذلك وأبراجها وشوارعها وأفكارها ومصيبتها. نعم حتى المصيبة في الولايات المتحدة الأميركية يجب أن تكوزن أكبر مصيبة مهما كانت أسبابها ومراميها وتداعياتها.

نعم مصيبة أميركا كبيرة جداَ، وستشغل الصورة التي رسمت نسف برجي التجارة العالمي في وسائل الإعلام، من دون تبيان قطرة دم واحدة، القرن الحالي ولربما أكثر من قرن مقبل. ومع انهيار البرجين وانهيار برج بابل قديماَ في بلاد ما بين النهرين تشابه كبير من حيث تبلبل الألسن واللغات. لم يصل أهل بابل ببرجهم الى الله الذي لربما انتظروه طويلاً، وهبطت أميركا مرغمة من عصرها الفضائي وكأنني كنت أسمع يومذاك وقع سقوط العولمة الذريع في وقت كانت أميركا تستمر في مسك أنامل البشرية لحسن القبض على الماوس/الفأرة مفتاح المعرفة المعاصرة،إذ يكفيك أن تنقر على رأس الفأرة الدقيق مرّات ثلاث لتنفتح أمامك سهول المعرفة الموضبة وخزائنها وتتركك وحيداَ منتظراً وكأن ألف يوم من حياتك الثقافية كأمس الذي عبر. طبعاً لم يفقه المفكرون في أميركا بأن حضارات عربية قديمة تدفقت من اليمن السعيد نحو الشمال، خرجت من بين أسنان فأرة صغيرة انتظرت مئات السنين قبل أن تقضم سدّ مأرب لتنهال من خلفه المياه والحضارات. كثيرة هي الأفكار والتحليلات والأساطير التي تتخفى وراء سقوط البرجين من دون ظهور الدماء كما قلنا . كان يمكن التيقن بأن دماء  عربية وإسلامية تنتظر في الأفق حيث الخميرة الأميركية المعجونة بالبترول السني الممتلىء بالسلطان /سلطان السماء وواجب الحفاظ عليه وعلى اكتنازه وكنوز السماء كما هي أو كما ظهرت، ولا بأس من أن تدمغ العجينة بأمن اسرائيل ولو طحنت غزة أو طحن الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت أو ولو نخل العراق وملأت جسده الثقوب والتفسخات، ولو واجه الغرب ذرائع الأخطار النووية المرسومة قنابل نووية متنوعة بألوان رجال الدين وتنوعهم وكلها ستفور لا خبزاً بل حروباً مخططاً لها على " الإرهاب" بين قوسين بالطبع، وترسيمات لا تنتهي لهذه المنطقة المنتظرة جدّاً من العالم، وتداعيات لمقولة كبرى مختصرها أن لا فعالية سياسية في العالم الجديد من دون فعالية دموية.

 ويصاحب هذه المقولة ذعر وتوجس دولي وكأننا على أبواب القيامة، والقيامة انتصار على الموت. يضع التفكير الأميركي وهو دون الفكر الغرب في موقع حضاري معاد للأفكار والحضارات الأخرى وفي رأسها الإسلام. وهنا يفترض التمييز بين الملوك والرؤوساء الذين يتسلون بلعبة البازل في رسم أوطانهم فيحرقون أصابعهم في الإرهاب كما يحرقونها في اندفاعهم في التعامل مع أميركا. وتبدو اسرائيل نقطة التوتر الأساسية بين العرب والمسلمين من ناحية وبين  أميركا من ناحية أخرى. بهذا المعنى تصل المخاطر الى حدود دفع المسلمين عن طريق قهرهم واضطهادهم زاستفزازهم في مقدساتهم الى الخروج من دائرة : " الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا آله إلا الله،.....حي على الصلاة " بعدما استغرقوا فيها منذ سقوطهم في الأندلس الى دائرة " حي على الفلاح التي كانت منسية أو مؤجل معناها. يخرج المسلمون اليوم نحو الشهادة أو نحو الإيديولوجيا أي يخرجون من الشهادتين نحو تعزيز الإستشهاد والحض على الفلاح بمعنى النصر والعمل الجهادي الرصين الذي هم ثمرة الثقافة الإتنظارية العظيمة. هكذا يتأسس النصر مجدداَ في قول الله وسلوك المسلمين /المقاتلين منهم.

نعم الكل في دائرة"حي على الفلاح" لا فضل فيها لعربي على أعجمي ولا لمسلم على مسيحي أو للبناني على سوري ولا لشيعي على سني أو أرتوذكسي إلاَ باحترام الكرامة والعزة والنصر تحقيقاَ للإنتظارية. فالوعد بالجنة مسألة فائقة الأهمية والدلالة خصوصاً عندما تتأهب أرحام الأمهات للقتال والإنجاب بهدف القتال نصراً أو موتاً كما حصل في جنوب لبنان. هنا يتساوى الفلاح بالموت من أجل الأرض والكرامة والحق وإلاّ ما معنى الإنتظارية وما قيمة الإيمان؟

وللقدس منزلة كبرى في تغذية اللاوعي الجماعي بثقافة الإنتظار إذ ما من مدينة في تاريخ العالم تمتعت بهذه القدسية المستمرة منذ أن أسسها اليبوسيون الكنعانيون قبل خمسة آلاف سنة مثل القس أو بيت المقدس وأسموها يروشالم وهو اسم آله كنعاني معناه السلام. إنها دار السلام كما أسماها الأقدمون، وقد حمل ملوكها عقيدة التوحيد لأول مرّة في تاريخ البشر وما زالت تقدس هذه المدينة الديانات السماوية الثلاث. وإذا كانت اسرائيل قد أسمتها أورشليم لمنحها كياناً عبرياً أي يهودياً استناداً الى التوراة فإنها جاءت في التوراة أيضاً شاليم وساليم. وعلى الرغم من احتلال اسرائيل للقدس الشرقية عام 1967 وتحقيق سياسة استيطانية داخل أسوار المدينة القديمة كما إقامة مستوطنات في ضواحيها من جهات الجنوب والشرق والشمال وبما يفصل القدس أيضاً عن باقي الضفة الغربية، فإنها لن تنتزعها من أفئدة المؤمنين، وستبقى معضلة كبرى سيناضل العرب والمسلمون والمسيحيون قرونا من أجلهاً إذا اقتضى الأمر. وتعتبر القدس المحور الأكثر تعقيداً الذي تدور حوله الصراعات لقيمتها الدينية الخالدة وإلاّ كيف نفسّر تسمية "جيش القدس" التي أطلقها صدّام حسين أو تسمية"سرايا القدس" لدى حزب الله والإحتفالات بيوم القدس من كلّ عام، والإصرار الإسرائيلي على القدس عاصمة أبدية لإسرائيل. إن القراءة المتأنية للقدس ماضياً وحاضراً ومستقبلاً تجعل الباحث يقرأ بتأن أكثر معاني الثقافة الإنتظارية والأبعاد المستقبلية في الصراع مع اسرائيل وأبعاد السلم والتسويات والحروب معها، كما يمكنه استشراف مستقبل حزب الله ولبنان والمنطقة المقبلة على السواء بحيث تبدو هذه المدينة المقدسة مفتاح التنمية لهذه المنطقة من العالم ويعني مستقبلها مستقبلاً للإستقرار في الشرق الأوسط وختم جروح الحروب العربية الإسرائيلية على قاعدة من السلام الشامل والعادل والدائم.

يمكن القول بأن حسابات الأرض هي غير حسابات الفضاء. وستبقى الأرض أغلى وأكثر أماناَ وعزَة للمسلمين والعرب ومسيحيي الشرق وسكان هذه البقعة من العالم. وخير مثال على ذلك دولة اسرائيل إذ يمكن لأي دولة مهما عتت وتجبرت أن تقيم تغييراً من فوق. وهل أن تدمير البيوت والدساكر والمدن والجسور والطرقات والأطفال والشيوخ والنساء يؤسس سوى لترسيخ الكره! إن المقاتل الذي يلتهم البيغ ماك أو البتزا ويحتسي الكوك ويقاتل الشعوب مقهقهاً من الفضاء ومن خلف الشاشات والنصوص والحسابات محاولاَ ترويض الشعوب المنتظرة وكأنها ما زالت عذارى فجّة لا تؤدي إلاّ الى العبثية والهزائم. وما صورة الطفلة العزلاء المنتظرة والدها المهدي وأمها فاطمة وقد غادرا تحت حمم الطيران الأميركي/ الإسرائيلي وتحت الأنقاض إلاّ صورة ستبقى لمئات السنين في المخيلة تتناقلها الأجيال: طفلة فقيرة متسخة الثياب تحمل بيد قطعة من الخبز المغطى بالسعتر والزيت، وبيد أخرى طائرة من الورق تلعب بهاعندما الطائرات الرقمية فوق مساحة أهلها فتؤسس كرهاَ ينزرع في الأرحام الصغيرة والمخيلات والأجنة الى ما شاء التاريخ من المطّ والتثاؤب. بين حتمية الموت واستحالة الخلود، تكر الأسئلة التي تقلق الإنسانية في كل زمان ومكان وكلها تعجز عن مجابهة الموت، وتقتنع بأن الوجه الآخر لكل حياة هو الموت لكن الوجه الأنقى لكل موت هو الإنتصار المعمم بإشاعة الثقافة العملية التجريبية ولو غرقت الشعوب كلها في الإنتظارية.

 

الهوامش

(1)    كرّر الرئيس الأميركي رونالد ريغان هذا القول في "الواشنطن بوست" Washington Post، 21 تشرين الأول 1984، وكان قد صرّح به لمجلة People الأميركيّة في 6 كانون الأول 1983، ونقلت التصريحين الصحافة العالمية.

(2)    ترتبط بالحركات الألفية Millénarisme بالأديان كلّها وتعني انتظار الخلاص الوشيك الذي يعمّ الأرض، وتضرب جذورها الفكرية في العهد القديم، وخاصة في سفر "الرؤيا" ليوحنا في العهد الجديد: يوحنا: الرؤيا، الآيات 1-15، وخصوصاً 4 و5 و6 وفيها ذكر واضح للقيامة الأولى.

(3)    "فأمّا ذلك اليوم وأمّا تلك الساعة، فما من أحد يعلمها". الكتاب المقدّس - العهد الجديد: مرقص، فصل 13؛ ومتى فصل 24.

(4)    القرآن الكريم (79: 34)

(5).راجع: Marguerite - Marie Thio-llier: Dictionnaire des religions, 3è éd., éd. Sycomore, Paris, 1980

(6)    دنا منه تلاميذه وسألوه: "قُلْ لنا متى تكون هذه الأمور، وما علامةُ مجيئك ونهاية العالم؟ فقال يسوع: ستقوم أمّة على أمّة، ومملكة على مملكة، وتحدث مجاعة وزلازل في أماكن كثيرة. وهذا كلّه بدء المخاض... ستحدث عندئذٍ شدّةٌ عظيمة لم يحدث مثلها منذ بدء الخليقة الى اليوم.

        وعلى أثر الشدة في تلك الايام، تظلم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه، وتتساقط النجوم من السماء، وتتزعزع قوات السموات... وينال الأممَ كربٌ في الأرض، وقلق من عجيج البحر وجيشانه، وتزهق نفوس الناس من الخوف... ويطبق على جميع من يسكنون وجه الأرض كلها". الكتاب المقدس -  العهد الجديد، إنجيل لوقا، فصل 21.

        وفي القرآن الكريم إشارات مماثلة: مارت السماء (52: 9) وانشقت الأرض (69: 16)، وطمست النجوم (77: 8) وانكدرت (81: 2)، وكورت الشمس (81: 1) وانشق القمر وخسف (54 :1)، وطويت السماء ورجّت الأرض (56: 4)، وسيرت الجبال (81: 3).

(7)    فرانسيس فوكوياما: نهاية التاريخ والانسان الأخير، ص 82.

(8)    هرمجدون موقع غربي الأردن، وهار معناها الجبل بالعبرية. ورد ذكره في التوراة حافلاً بالمعارك التي لم يعرفها أي موقع آخر في الأرض. ويسود اعتقاد أن من يستولي على هذا الموقع الذي يُسمّى أيضاً مجيدو والمجدل، فإنّه يحكم العالم. وسيكون هذا الموقع ساحة المعركة الأخيرة التي تعلن نهاية العالم مع إبادة إسرائيل ومجيء المسيح منقداً لما يتبقى منهم معلناً فجر العالم الجديد. راجع:

        غريس هالسل: النبوءة والسياسة، ترجمة محمد السمّاك، منشورات جمعية الدعوة الاسلامية العالمية، بيروت، 1991، ص 25-40.

        وتنتشر هذه الأسطورة في أميركا، ولها أتباعها من ملايين الأميركيين الذين يضغطون في أميركا للتعجيل في حدوثها من باب الصراع العربي - اسرائيلي... ويعتبر القس بيلي غراهام Billy Graham من أبرز الداعين لهذه الأسطورة، وهو صاحب فكرة الكنيسة الالكترونية Electronic Church أو الكنيسة المرئية أو الديانة في الوقت المناسب Prime Time religion لإعلان مجيء المسيح. للمزيد من التفاصيل، راجع:

        اسعد رزوق: إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني، مركز الأبحاث والدراسات الفلسطينية، بيروت، 1968، ص 52-70 و91.

(9)    ورد هذا التصريح للرئيس الأميركي رونالد ريغان في جيروزاليم بوست Jerusalem Post في 28 تشرين الأول 1982، نقلاً عن: يوسف الحسن: البُعد الديني في السياسة الأميركية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص 172.

(10)  جاء هذا القول للقس بيلي غرامام، أيضاً، وهو الوحيد والأخير الذي اختلى به الرئيس الأميركي جورج بوش قبل توقيع قرار الحرب على العراق: عارف العبد: "البيت الأبيض والخرافة الدينية"، السفير، 8/2/1991، بيروت.

(11)  وهناك عدد كبير من المؤسسات التي تربط دعوات الانهيار بإسرائيل مثل السفارة المسيحية الدولية في القدس (تأسست في 30 أيلول العام 1980)، المائدة المستديرة (1979)، مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل (1975)، المصرف المسيحي المركزي لأجل إسرائيل، ومئات غيرها تغرق الدوائر الأميركية الرسمية والرأي العام العالمي بالأساطير والخرافات: عارف العبد، المرجع نفسه.

 ويقود حركات المسيحيين الجدد الأخ دايفيد القادم إلى إسرائيل من الولايات المتحدة الأميركية: نداء الوطن: "مهووسو عام 2000"، ترجمة خالد صبّاغ، عن Nouvel Observateur، العدد 2129، 12/11/1999، بيروت، ص 10.

(12)  نداء الوطن: "مهووسو عام 2000"، ص 10.

(13)  "جدول اليوم الأخير" و"الأرض في الميزان"، عنوانا كتابين لألغور Al Gore نائب الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون Bill Clinton، تناول فيهما نظريات فتك المواد الكيماوية المركّبة بالنطف البشرية، وقد دمجهما عادل خيرالله ونشر مختصرهما في كتاب واحد بالعربية: "نهاية العالم هل ستكون عام 2001؟"، دار ملينيوم للنشر والترجمة، بيروت، 1999.

(14)  ظهر في بريطانيا، وهو مرض يتسبّب بغازات يتوقع أن تزيد حرارة الأرض 16 درجة عمّا هي عليه في الثلاثين سنةً القادمة.

(15)  أمبرتو إيكو: "في الذاكرة والنسيان ونهايات القرن والألفية الجديدة"، جريدة النهار، العدد 20531، بيروت، السبت 18 كانون الأول 1999. وأمبرتو إيكو فيلسوف بولوني معاصر، مقيم في باريس، من مؤلّفاته: "إسم الوردة" (1998)، و"من سوبرمان إلى الإنسان المتفوق"، وفيهما دعوة إلى التوبة، بسبب اقتراب الأيام الأخيرة.

(16)  Moore’s Law

(17)  Joseph F. Coates, John B. Mahaggie & Any Hines: Scenarios of US and global society Reshaped by  science and technology, Oakhill Press, Greenboro, U.S.A., 1997. in: Les Technologies de l’intelli-  .gence - L’avenir de la pensée à l’ère informatique, La Découverte, Paris, 1990, p. 15

The Sixth war between “the waiting culture” and the idea of “The end of the world”
How too many Lebanese, Arabs and Jews and the whole world are convinced that Israel is a state that turned subject to defeat in war, like all other states, what are the implications of the war of July 2006, on Israel, Lebanon and the entire world? What are the objective, religious and mythical dimensions of this conflict which formed a basic station and a new source of lessons and examples? What is the volume of this quake which hit Israeli society that has been intact since its establishment on the land of Palestine?

Do what happened targeted Hizbolla exclusively, and not Lebanon? Why the regular Israeli army was dragged to the cities and how important is to focus, in the battle, on human causalities, and to absorb the fire strikes? These informative questions include some of their answers, in their interrogation of inquiry, and thousands of other military, technical, scientific and psycho logic questions are put forth now, and will be laid in the long term, in many concerned and unconcerned circles in this conflict.
The researcher approaches, in his study, the idea of the true meaning of the divine victory, and the effective meaning of the link between the denomination of Hezbolla (Party of God) and Nasrullah (victory of God)? Is It allowed to defeat the fighters of Hezbolla, or does god fight or helps in the fight such a party? How can we understand this basic and strong belief extent, which multiplies the steadfastness and heroic courage? And the talking about the meaning of the divine victory reaches the roots of the Mahdi idea the minds of the Muslims are dominated by the idea of waiting for the “expected Mahdi”, who will lead them to victory over the “fighters”. In the end, between the inevitability of death, and impossibility of immortality, the questions which fighters the human beings in every time and place succeed one another and all of them are unable to confront the death.

La sixiéme guerre entre «la culture de l’attente » et l’idée de « La fin du monde »

Comment un grand nombre de libanais, d’arabes, de juifs et le monde pourront être convaicus qu’Israël est devenu un état soumis à la défaite comme le reste des pays qui ont subi des guerres ? Quelles sont les répercussions de la guerre du 12 juillet 2006 sur Israël, le Liban et le monde? Quelles sont les étendues objectives et religieuses de ce conflit qui a constitué un stade important pour en tirer les lecons ? Quelle est la dimension de ce tremblement qui a touché la société israélienne, qui resta intacte depuis son établissement sur le territoire de la Palestine ? Est-ce que les évennements qui ont eu lieu visent exclusivement le Hezbollah et non pas le liban ?

Pourquoi l’armée israélienne a été amenée à l’interieur des villes, et quelle était l’importance de mettre l’accent sur les pertes humaines dans la bataille et l’assimilation des frappes de feu ? Toutes ces questions, dont la réponse émane de l’interrogation, tout comme des milliers d’autres questions militaires, techniques, scientifiques et psychiques sont posées aujourd’hui, et seront posées pour longtemps chez tous les partis concernés par ce conflit. Le chercheur évoque dans son étude, l’idée liée au sens véritable de la victoire divine et quel lien existe-t-il entre le nom du Hezbollah et celui de Nasrallah ? Est-il possible que les combattants de Dieu connaissent la défaite et que Dieu offre l’aide à un parti combattant ?

Comment peut-on comprendre cette étendue religieuse fondamentale et forte qui renforce la tenacité et l’héroïsme ? Évoquer le sens de la victoire divine nous mène à parler de l’idée, qui a hanté la pensée des musulmans, c’est l’attente de l’Imam el Mahdi. Quel lien existe-t-il entre la mort inévitable et l’immortalité impossible ? Plusieurs sont les questions qui intriguent l’humanité, quelque soient l’espace et le temps, et tous sont incapables d'affronter la mort.