الإعلام الأمني

الحرب على الإرهاب مستمرة

ثمة اعتقاد لدى الكثيرين أنّ الحرب على الإرهاب انتهت مع انسحاب إرهابيي النصرة وداعش من الجرود الشرقية. قد يكون ذلك صحيحًا من الوجهة العسكرية، حيث أدّت معركة «فجر الجرود» إلى إنهاء الاحتلال العسكري لتلك الجماعات للأراضي اللبنانية، وإسقاط حلمها بإقامة إمارتها فوق اراضيه، مع تحوّله من أرض نصرة إلى أرض جهاد.
غير أنّ الوقائع التاريخية تبيّن واقعًا مختلفًا، وإذا ما عدنا إلى التجربة الأفغانية، نرى أنّ الأفغان العرب - أي المقاتلين الذين يحملون جنسيات عربية والذين حاربوا إلى جانب «المجاهدين» ضد الجيش السوفياتي - شكّلوا نواة للحركات الأصولية والإرهابية، عند حصول هجرتهم المعاكسة إلى بلدانهم الأصلية، فكانوا عامل تخريب ولا استقرار فيها. ولعل أبرز مثال في هذا السياق ما شهدته الجزائر مع بداية التسعينيات، من انتشار المجموعات الأصولية، التي استفادت من أوضاع سياسية معينة يومها، وعملت على نشر الفوضى والرعب في أنحاء مختلفة من البلاد، من خلال وحشيتها في إبادة العائلات وذبح الأطفال والنساء والتنكيل بالجثث وقطع الرؤوس.
الشبح المحبوس في قمقم قد ينفلت
بناءً على ما تقدّم يمكن الجزم بأنّ حرب الدولة اللبنانية مع الإرهاب بمختلف أجنحته ما زالت في منتصفها، وإن كانت الدفة تميل لمصلحة هذه الدولة على حساب الجماعات الإرهابية، التي ما زالت تملك بعض الحاضنات الاصطناعية، الخارجة عن الإرادة اللبنانية، في المخيمات الفلسطينية ومراكز وجود النازحين السوريين.
صحيح أنّ الأجهزة الأمنية اللبنانية، قد نجحت في تحقيق خطوات كثيرة إلى الأمام، منجزة عشرات العمليات الأمنية، قاطعة دابر العديد من الشبكات والخلايا الإرهابية، في إطار حربها الاستباقية، التي حرمت تلك الجماعات حرية الحركة والقاعدة اللوجستية الأساسية لشن هجماتها الإرهابية، إلّا أنّها في المقابل لم تعلن النصر الكامل عليها. وهذا ما يشدّد ويُجمع عليه القادة الأمنيون والعسكريون، الذين يذكّرون في كل مناسبة بضرورة البقاء على أهبة الاستعداد في مواجهة عدو لا متماثل يشكّل شبحًا محبوسًا في قمقم، وهو قادر على الانفلات في أي لحظة، ما يوجب تعزيز التعاون مع الأجهزة الخارجية الصديقة، ورصّ الصفوف الداخلية.
وإذا كانت تجربة الجزائر تشبه إلى حد كبير الواقع اللبناني الحالي، في ظل الأزمات السياسية التي تتخبط بها البلاد، والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر فيها، فإنّ ذلك يعني من بين ما يعنيه أنّ الساحة اللبنانية وفي ظل الأوضاع والتطورات على الساحة السورية والوقائع الميدانية في إدلب، مرشّحة للعودة إلى ساحة نصرة وجهاد، في حال نجاح الإرهابيين الموجودين في تلك المنطقة في العودة إلى لبنان، سواء اللبنانيين منهم والمقدّر عددهم بالمئات، أو الأجانب الذين قد يتخذون من لبنان محطة ترانزيت، قبل توجّههم إلى دولهم الأم، عبر مطار بيروت أو عبر البحر.


استراتيجية المواجهة
هذا الملف توليه الأجهزة الأمنية، وفي مقدّمها مديرية المخابرات، أولوية قصوى في هذه المرحلة، ومن أجل ذلك وضعت استراتيجية عمل تقوم على مجموعة من العناصر، كفيلة في الحد من تداعيات هذا التهديد، أبرزها:
- حماية الحدود اللبنانية وتأمينها ومنع أي محاولة تسلّل إرهابية إلى داخل الأراضي اللبنانية. وفي هذا الإطار اتُخذت جملة من الإجراءات منها: تفعيل العمل وتحديث برامج المكننة والتأليل على المراكز الحدودية، إغلاق المنافذ غير الشرعية وقد نجح الجيش بنسبة ٨٠٪ في انجاز ذلك، إقامة شبكة من أبراج المراقبة مجهزة بأحدث الوسائل التقنية وذلك بمساعدةٍ غربية.
- مداهمات دورية للأماكن التي يمكن أن تشكل حاضنة للإرهابيين، بغض النظر عن موقعها الجغرافي، وتوقيف أبرز المشبوهين والمطلوبين.
 - ملاحقة شبكات التهريب وتفكيكها وتوقيف أبرز الناشطين والمسؤولين فيها، وهو ما سمح بتكوين صورة واضحة عن المسالك والوسائل المستخدمة.
- توقيف المطلوبين بجرائم تزوير ومن بينهم بعض المتوارين داخل المخيمات الفلسطينية، كما حصل في العملية النوعية التي نفذتها مديرية المخابرات داخل عين الحلوة وأدت إلى إلقاء القبض على المزوّر حسن نوفل.
- تعطيل وشل نشاطات الخلايا المتطرفة الناشطة وبخاصةٍ داخل المخيمات الفلسطينية ومخيمات النازحين السوريين.
- تفعيل المراقبة والمتابعة لعائلات وأقارب الذين غادروا للقتال في سوريا والعراق.
- التعاون مع الأجهزة المعنية الصديقة، خصوصًا وأنّ الدول الأوروبية والعربية معنية بهذا الملف.
 

عوامل غير مساعدة
غير انّه في المقابل ثمة عوامل أخرى تعوّق تأمين النجاح الكامل لهذه الاستراتيجية، وهي تتمثل في صعوبة ضبط الحدود نظرًا للحاجة إلى قوى عسكرية ضخمة لتامين ذلك، وهذا غير متوافر حاليًا، خصوصًا بعد وقف التطويع وترشيد الإنفاق في المؤسسة، أضف إلى ذلك الطبيعة الجغرافية للمناطق الحدودية والعوامل المناخية القاسية.
 

معلومات ثمينة لدى المخابرات
وإذا كانت مديرية المخابرات قد استطاعت تكوين ملف كامل ومفصّل عن الذين غادروا إلى الخارج مع عائلاتهم للقتال، واستطاعت تحديد مصير العدد الأكبر منهم، إلا أنّ ثمة معضلة بيّنتها المتابعة تمثّلت في أنّ عددًا من هؤلاء قد تزوج وأنجب أولادًا في الخارج، وهو ما أضاف بعض التعقيدات.
في كل الأحوال نجحت مديرية المخابرات حتى الساعة في توقيف جميع المشتبه بهم العائدين والعائدات من الخارج والتحقيق معهم، وليس آخرهم المدعوة غنوة نواف الأحمد الملقبة «أم معاذ اللبنانية»، بتاريخ ١٧/٧/٢٠١٩ على أثر دخولها خلسة من سوريا، حيث كانت برفقة زوجها الإرهابي محمد أحمد الصاطم الذي كان ينتمي إلى داعش، وقتل بغارةٍ جوية استهدفت السيارة التي كان يستقلها برفقة أحد الإرهابيين بتاريخ ٨/١٠/٢٠١٩. وقد أدلت الموقوفة بمعلوماتٍ عن عدد من اللبنانيين الذين غادروا إلى سوريا، وكذلك عن طريق دخولها إلى لبنان وكيفية تنقلها داخل الأراضي السورية.

 

المواجهة صعبة
تقوم الأجهزة الأمنية بواجباتها على أكمل وجه وكذلك القوى العسكرية، إلا أنّ ذلك يبقى بحاجةٍ إلى تعاون المجتمع كركيزةٍ أساسية في أي عمل أمني استباقي، فاحتمالات الخرق تبقى قائمة في كل لحظة. والحرب التي تخاض هي من أصعب الأنواع لأنّها في مواجهة عدو غادر متخفٍ، لا يعتمد أيًا من قواعد الحروب التقليدية، وفي ظل تطوّر نظم استقاء المعلومات وسرعة انتشار الأفكار المتطرفة عبر انفلاش وسائل التواصل الاجتماعي.
وعليه فإنّ المواجهة صعبة لكنّها مستمرة بمزيدٍ من الإصرار على أكثر من صعيد وفي أكثر من ميدان، على ما يؤكد دومًا العماد جوزاف عون قائد الجيش.