قضايا دولية

الحرب غير المتوازية
إعداد: النقيب باسل الحجار

ما هو تأثيرها على زعامة الولايات المتحدة للنظام العالمي الجديد؟

بعد انتهاء الحرب الأهلية الأميركية بظهور الدولة الإتحادية القوية، وبعد استكمال توسّعها نحو الغرب بسيطرتها على ولايتي كاليفورنيا وتكساس، وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقع جغرافي فريد من نوعه، إذ تحوّل المحيطان (الأطلسي شرقًا، والهادئ غربًا) إلى حواجز أمن ضامنة له. فقد جعلت مساحات المياه الشاسعة من الولايات المتحدة، عصيّة على أي جيش غازٍ حتى بعد ظهور الطيران وتقدّمه.


القليل من التاريخ والكثير من الجغرافيا
لقد ظهر، لأول مرة في التاريخ العسكري، وطن يضمن له موقعه الجغرافي الأمن ويعفيه من أي تهديد خارجي، ما شكّل حدثًا استثنائيًا ومستجدًا في الفكر الاستراتيجي: وطن ضخم غني بموارده وثرواته، ومتقدّم في تكنولوجيته، وبالرغم من ذلك غير معرّض لعنصر المفاجأة والمباغتة من قبل أي عدو خارجي.
كل هذه المعطيات الجغرافية والاقتصادية ساهمت في الصعود الإقتصادي والعسكري للولايات المتحدة، ومن ثم عبورها المحيطات عائدة إلى العالم القديم لتفرض فيه سطوتها وزمانها ومبادئها وهيمنتها، حتى صدق القول بأن القرن العشرين كان قرنًا أميركيًا بامتياز.
والولايات المتحدة اليوم متفوقة بمراحل، وهذا التفوق مضمون في المستقبل القريب، والحفاظ عليه وتدعيمه يشكّلان الهدف الحقيقي لسياستها. لذلك من غير المتوقّع من أعداء وخصوم الولايات المتحدة مستقبلًا، أن يحاولوا مواجهتها في حرب تقليدية تعتمد على تشكيلات الدبابات والقوات الجوية والبحرية، كونها تتمتّع بتفوّق ساحق في موازين القوى في هذه الميادين. كما أن الولايات المتحدة اليوم مأمونة الجانب من أي حرب تقليدية تشنّ عليها بالأسلحة المتقدمة أو حربًا غير تقليدية بأسلحة الدمار الشامل، وذلك لتفوّقها التكنولوجي الساحق من جهة، ولأن الدول التي كان يخشى تهديدها كالاتحاد السوفياتي سابقًا لم تعد قادرة على شن مثل هذه الحرب.
لذلك فإن من يريد مواجهة الولايات المتحدة من الأعداء والخصوم، عليه أن يكتشف نوعًا آخر من الحروب يتضمن وسائل جديدة تمكّنه من تهديد المصالح الأميركية وقواتها وأمنها. وعليه التأكد من أن هذه الوسائل تستطيع تحقيق ميزات ينفذ منها إلى مواقع الضعف الخفية في النظام الأميركي. من هنا نشأ مفهوم الحرب غير المتوازية لمواجهة الجبروت والقوة الأميركيين.

 

التعريف الأميركي للحرب غير المتوازية
عرّف الجنرال شيلتون رئيس أركان حرب القوات الأميركية الحرب غير المتوازية قبل سنتين من أحداث أيلول 2001، بأنها «كل محاولة لطرف يعادي الولايات المتحدة (سواء كان بلدًا أو جماعة أو حتى فردًا)، للالتفاف من حول قوتها واستغلال نقاط ضعفها، معتمدًا في ذلك على وسائل تختلف بطريقة كاملة عن نوع العمليات التي يمكن توقّعها. وعدم التوازي يعني أن يستعمل العدو طاقة الحرب النفسية وما يصاحبها من شحنات الصدمة والعجز، لكي ينتزع زمام المبادرة وحرية الحركة والإرادة، وأن يستخدم وسائل مستحدثة وتكتيكات غير تقليدية وأسلحة وتكنولوجيات جرى التوصل إليها بالتفكير في ما هو غير متوقع وغير معقول، وما لا نستطيع تصوّره والتصدي له بالوسائل التقليدية».
هذا التعريف للحرب غير المتوازية ينطبق بالضبط على ما وقع في 11 أيلول 2001. فقد تمَّ خطف 4 طائرات في ظرف نصف ساعة من مطار واحد في بوسطن، وتم تحويلها إلى قذائف هلاك ضربت العمق الأميركي وأهم رموز اقتصاد الولايات المتحدة المتمثل ببرجي التجارة الشهيرين في نيويورك، وأهم رموز القوة العسكرية الأميركية «البنتاغون». أخذت الولايات المتحدة على غرة، فهي لم تكن مستعدة لهذا النوع الجديد من الحروب، وتحوّلت الأرض الأميركية نفسها إلى ميدان المعركة بعد أن كانت بمأمن طوال فترة طويلة. أصبح لزامًا عليها الآن أن تستعد لهذا النوع من الحروب، وهو ما سمّاه الرئيس جورج بوش الإبن بعد أحداث أيلول «حرب القرن الواحد والعشرين». فهي لن تواجه مستقبلًا حروبًا يحسمها مبدأ عدم التوازن لمصلحتها بل ستواجه أشكالًا من الحرب لم تتوقعها ولم تستعد لها كما حدث في 11 أيلول.

 

الاستعدادات الأميركية للحرب الجديدة
تحوّلت الحرب غير المتوازية إلى هاجس يؤرق راحة الولايات المتحدة، لذلك فقد أقرّ الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن توجيهًا رئاسيًا يحدد مجموعة من الإجراءات المضادة تقوم بها الولايات المتحدة في مواجهة خطر الحرب الجديدة. ولأن العدو في الحرب غير المتوازية يفكر في أساليب غير متوقعة، فالمكلّفون بمواجهته يجب أن يقوموا بالمثل. وهذا ما يتطلب قدرًا عاليًا من المرونة قد يصل إلى ضرورة التغاضي عن الإجراءات التقليدية المعمول بها عند اتخاذ القرار، بما في ذلك العودة إلى المؤسسات التقليدية للقرار.
لقد ساهم نشوء الحرب غير المتوازية في تحوّل الولايات المتحدة نحو «المخابرات الموجهة»، أي المخابرات التي تعتمد على العنصر البشري. فالخطأ الذي وقعت فيه بعد نهاية الحرب الباردة، كان الاعتماد الزائد على وسائل التكنولوجيا المتطورة التي أثبتت فعاليتها في متابعة ومراقبة حكومات أو هيئات أو منظمات لها أنشطة ملموسة يمكن رصدها، ولكن الحرب الجديدة تستعمل وسائل أكثر تعقيدًا. لذلك فالضرورة تقتضي العودة إلى مفهوم الجاسوس التقليدي الذي يمتلك القدرة على التحليل والوجود في المكان والزمان المناسبين. والجهد المخابراتي والمعلومات الاستخبارية، هما أول ما تطلبه الولايات المتحدة اليوم من حلفائها في كل أنحاء العالم.

 

إجراءات في الداخل... والخارج
لقد أدركت الولايات المتحدة أن أهم الإجراءات التي يجب اتخاذها للحد من الآثار السلبية لهذا النوع من الحروب، هو تغطية مواقع الانكشاف في النظام الأميركي، أي سد الثغرات من خلال تعزيز الرقابة بكل الوسائل، حتى لو أدى هذا الأمر إلى فرض حدود وقيود لم تعرفها التجربة الأميركية من قبل. وتغطية مواقع الضعف في النظام الأميركي تتطلب من السلطات الأميركية أمرين رئيسين:
• على الصعيد الداخلي، يجب الوصول إلى تحقيق أمن داخلي مندمج (Home Land Security)، لأن تحوّل أرض الولايات نفسها إلى ميدان المعركة، يحتّم وجود استراتيجية دفاعية صلبة ومتماسكة، تتولى تنفيذها مؤسسة أمن شامل مسؤولة عن حماية البنية الأساسية الإقتصادية للمجتمع الأميركي، وتقوم بعملها ضمن المؤسسات الشرعية بدون أية عوائق. وبالفعل فإن الرئيس بوش أعلن أمام الكونغرس في 19 أيلول 2001، أي بعد أحداث 11 أيلول بنحو أسبوع، تعيين وزير للأمن الداخلي في الولايات المتحدة.
• على الصعيد الخارجي كان ينبغي اتخاذ إجراء أكثر أهمية لتغطية مواقع الانكشاف. فلا بدّ أن يدخل في التخطيط لمواجهة الحرب غير المتوازية عنصر إثارة الخوف والذعر لدى مصادر التهديد المحتمل. وهذه السياسة التخويفية الاستباقية تستغل وسائل التهديد المتعددة، ابتداءً من التعليم إلى الثقافة إلى بث المعلومات، بحيث يفقد أي عدو محتمل إرادته قبل أن يبدأ نشاطه.

 

حلم أميركي أم كابوس؟
هذه الإستراتيجيات والسياسات والخطط لإدارة الحرب غير المتوازية كانت موجودة ومكتوبة قبل أحداث 11 أيلول؛ وبعد هذه الأحداث وانقضاض صواعق النار فوق نيويورك وواشنطن، بدأ التشدد في تنفيذها. ولكن من سوء الحظ أن هذه الأحداث تقضي، على المدى الطويل، على المميزات الرئيسة للحياة الأميركية، وتحوّل المجتمع الأكثر تحررًا إلى مجتمع بوليسي. فعندما تنشأ مثل هذه السلطة المهيمنة على الأمن، والتي تملك وكالات مخابرات من أضخم ما عرف التاريخ، سوف تتحول الولايات المتحدة في الداخل كما في الخارج، إلى ديكتاتورية عسكرية تتنازل عن مركزها كأكثر القوى تقدمًا وتحضرًا، وتنحدر إلى مستوى واحدة من دول العالم الثالث التي تحكمها قوانين الطوارئ وأجهزة المخابرات. كل هذه الأمور كفيلة بتحويل الحلم الأميركي في القرن الواحد والعشرين إلى كابوس تصل ارتدادته السلبية إلى جميع أصقاع العالم.