قضايا إقليمية

الحركة الصهيونية في تعقيداتها وتداعياتها الراهنة
إعداد: إحسان مرتضى

تمر الحركة الصهيونية في المرحلة الراهنة بحالة مخاض عسير، تتجلى في تفرعاتها وتقلباتها ما بين ثلاثة تيارات اساسية، لكل منها وجهة نظره الخاصة وحججه ومبرراته. التيار الاول هو تيار الصهيونيين الجدد في اتباع اليمين المتطرف؛ والتيار الوسطي هو تيار الصهيونية الكلاسيكية التي يتحدث عنها الكاتب دافيد اوحانا في كتابه "آخر الاسرائيليين" ويصفها بانها تمثل "حملة انقاذ" للصهيونية بأبعادها ومقوماتها البراغماتية اما التيار الثالث فو ما يسمى بتيار "ما بعد الصهيونية" وتنتمي اليه نخبة الناشطين اليساريين من المتحمسين للتسوية والحلول الوسط وممن ينعتون بالرومانسية السلمية.

في ما يتعلق بتيار الصهيونية الوسطية الكلاسيكية، فإنه ينادي بتكريس الحركة الصهيونية كحركة قومية انسانية "ليبرالية واشتراكية في جوهرها جلبت التقديم الى فلطسني البدائية المتخلفة.. وهي عمرت الصحراء واعادت بناء المدن الخربة في البلاد وادخلت زراعة وصناعة عصرية لما فيه مصلحة الجميع يهوداً وعرباً على حد سواء". الا ان هذا التعريف لا يعدو كونه نظرياً فقط لان الصهيونية الكلاسيكية كغيرها من التيارات انما تنطلق من منطلقات اتنية وعنصرية استعلائية وتميز تمييزاً مطلقاً بين مواطن وآخر وبين عربي ويهودي بل وبين يهودي ويهودي (صراع السفاراديم في الاشكيناز). وبالتالي فالصورة المثالية التي تحاول الصهيونية الكلاسيكية ان ترسمها لنفسها سبق لها ان تهشمت وتشوهت في اعقاب النتائج المعقدة سياسياً وعسكرياً ونفسياً وتربوياً التي تمخضت عنها حرب عام 1967 والذي اتى بحزبي حيروت والليكود الى السلطة. وقد تطورت الافكار والرؤى السياسية لدى الحزبين الكبيرين (العمل والليكود) بحيث كانت تتلائى الفوارق الايديولوجية البسيطة ما بينهما، حتى قيل ان احدهما هو نسخة طبق الاصل عن الآخر. وبالتالي حصل التزاحم الحزبي والسياسي على موقع الوسط في الخارطة الداخلية الإسرائيلية. وقد ادى هذا التزاحم الى افراز توجهات سلبية جداً مثل شهوة التوسع الاقليمي والتعصب الديني والقومي في اوساط اليمين. وايضاً الى حالة من الشرذمة وكره الذات في اوساط اليسار. مما استوجب حصول عملية انقاذ تحولت عملياً الى صراع حول انماط ومفاهيم جيوسياسية وديموغرافية وجيوستراتيجية. وقد اشتد هذا الصراع بمرور الوقت نتيجة للعلاقة المباشرة ما بين النظرة الى الماضي وبين المفاوضات الديبلوماسية الخاصة بالتسوية الإسرائيلية العربية والاسرائيلية الفلسطينية في الحاضر.

وقد نجم عن هذا الصراع العسكري والسياسي والعقائدي ما بين تيارات الصهيونية المختلفة. بعض النتائج الايجابية من اهمها طرح مواضيع كانت حتى وقت غير بعيد بمنزلة المحرمات في المجتمع الاسرائيلي. ومن بينها على سبيل المثال. البحث في طابع الصهيونية المعاصرة وانسجامها مع مستلزمات الواقع المتغير والتطرق ايضاً الى السلوك غير الاخلاقي وغير الانساني للجيش الإسرائيلي والقوى الامنية المرافقة له منذ العام 1948 وحتى اليوم، بما في ذلك البحث في قضية اللاجئين وامكانية عودتهم الى اراضيهم وبيوتهم المسلوبة والمهدمة وامكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة الى البحث في قضايا وشؤون داخلية ايضاً مثل سوء معاملة اليهود الشرقيين وسوء معاملة العرب الموجودين داخل حدود الخط الاخضر اي داخل حدود عام 1948. وما الى ذلك من مشاكل واشكالات من هذا القبيل.

وللمرة الاولى في تاريخ الكيان الصهيوني تتم في الكنيست مناقشة اقتراحات حتى ولو من الوجهة النظرية الصرفة فقط. بتحويل إسرائيل من دولة يهودية الى دولة كل مواطنيها على الرغم من عدم وجود امل في تحقيق هذا الاقتراح ومهما يكن من امر فان الصهيونية الكلاسيكية التي ما تزال تدير اللعبة السياسية داخل إسرائيل تعاني على مدى ثلاثة عقود حالة من التخبط وعدم الوضوح في الرؤية بالنسبة لكل ما يتصل بالصراع في المنطقة بجهة الربط ما بين الماضي والحاضر ولهذا السبب رفضت الصهيونية الكلاسيكية سواء بقيادة اليمين او اليسار او كليهما معاً في حكومات الوحدة الوطنية اي بحث في نتائج حرب عام 1948 وبناء عليه رفضت اي بحث جديد في مصير اللاجئين الفلسطينيين او في دور إسرائيل في حل مشاكلهم كما رفضت اشراك عرب 1948 باي شكل من اشكال الحوار في تقرير مستقبل إسرائيل، ممثلما رفضت مشاركتهم في الخدمة العسكرية، وكانت في منتهى القسوة في معاملتهم عندما خرجوا للتعبير عن تضامنهم مع معاناة اخوانهم الذي يواجهون القتل اليومي جراء انتفاضتهم التي تطالب بالحربة والسيادة والاستقلال للشعب الفلسطيني باكمله داخل الاراضي المحتلة وفي الشتات. الامر الذي اودى بحياة 13 مدنياً فلسطينياً عزلاً في ظل شعارات الديموقراطية المزيفة والعنصرية المتعصبة العمياء. في هذا المجال ايضاً نجد ان الصهيونية الكلاسيكية تتفق على ان اطار التسوية يبقى محصوراً ضمن الضفة الغربية وقطاع غزة. باستنثناء القدس الشرقية ومحيطها التي تسعى إسرائيل الى ضمها وتهويدها بصورة نهائية وايضاً باستثناء المستوطنات ذات الفائدة الامنية حسب المصطلحات الإسرائيلية وباستثناء خطوط التماس مع نهر الاردن والهضاب المحيطة به وهذا الحل الذي تقدمه الصهيونية الكلاسيكية انما يعيد الى الحياة مشروعين اسرائيليين للتسوية هما مشروع يغال آلون ومشروع موشيه ديان. وكان المشروعان قد طرحا منذ اوائل السبعينات من القرن الماضي عندما بحث آلون تسوية اقليمية مع الاردن تقوم على التقاسم الديموغرافي في المناطق الفلسطينية اما ديان قد اقترح تقاسم الصلاحيات بين إسرائيل والاردن بحيث تتولى إسرائيل مسؤولية الوظائف الامنية في الضفة الغربية ويتولى الاردنيون ما تبقى.

هاتان الخطتان وبعدما حل الفلسطينيون محل الاردنيين كشركاء في مفاوضات التسوية منذ العام 1988 تحولتا كأساس للمقترحات الحالية لحزبي الليكود والعمل بشأن التسوية الدائمة في واقع ما بعد اوسلو وانتقلت الخطتان في ما بعد لتشكلا الى حد كبير الاساس المعتمد لما يسمى خطة السلام الى تبنتها حكومة ايهود باراك ومن بعدها حكومة ارييل شارون.

من ناحية اخرى تسعى الصهيونية الكلاسيكية التي تمثل السلطة الحاكمة في إسرائيل الى املاء شروط التسوية باكملها بصورة حصرية احتكارية ومنع كل الاطراف الاخرى بمن فيها الولايات المتحدة واوروبا والدول العربية من التدخل في نص او تعديل هذه الشروط ومفهوم إملاء الشروط هذا برز بصورة واضحو منذ توقيع اتفاقات اوسلو عام 1993, واعتمد بحذافيره من قبل جميع الحكومات التي اتت بعد حكومة إسحاق رابين الذي اغتيل عام 1995 على ايدي احد الاصوليين اليهود المتطرفين احتجاجاً على اي تنازل عن الاراضي المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة.

والامر الذي يدعو الى الاستغراب هو ان دماء رابين ذهبت هدراً بسبب سوء فهم او سوء تفاهم بين اليهود ما لبث ان تبدد وزال حسبما اظهرت نتائج انتخابات عامي 1996 و 2001 حيث عادت الاغلبية اليهودية للالتفاف حول سياسة فرض المفهوم الاسرائيلي للتسوية بشروط اكثر تصلباً مع ارييل شارون والواقع ان سقوط نتنياهو عام 1999 لم تكن له اية علاقة على الاطلاق بالانتقادات التي وجهت الى سياسته "السلمية" اذا صح التعبير، بل ان سقوطه يعود بشكل اساسي الى غطرسته وانانيته وتجاوزاته القانونية والاخلاقية وعندما جاء ايهود باراك لم يغير اي شيء من استراتيجية الاملاء المستمدة من المفهوم الإسرائيلي العام للصهيونية الكلاسيكية. وهي الاستراتيجية نفسها التي يديرها شارون اليوم بأسلوبه العسكري الغوغائي الدموي المعروف. من دون اي اعتبار او إكتراث بإنتقادات العالم المتمدن من السويد وحتى إسبانيا.

 

باحث في الشؤون الإسرائيلية