الحسابات الجيوستراتيجية في العلاقات الإسرائيلية ­ الهندية

الحسابات الجيوستراتيجية في العلاقات الإسرائيلية ­ الهندية
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

ينطلق الكيان الصهيوني في العلاقات التي ينسجها على الصعيدين الاقليمي والدولي, من منطلقين أساسيين هما: أولاً أنه كيان وظيفي من حيث المبدأ يكرس جهده في خدمة القوة الكبرى التي ترعاه, وهي الولايات المتحدة في الظرف الراهن, وثانياً أنه ذو نزعة توسعية ترمي إلى الهيمنة وإلى أداء دور “إمبريالية صغرى” في سياق الإمبريالية العالمية العامة.
وهذان المنطلقان يحكمان بالضرورة دور الكيان تجاه قارة آسيا حيث عمل ويعمل باستمرار على زرع قاعدة وجود ونفوذ له فيها, إما لمجابهة قوة إسلامية صاعدة مثل الباكستان وإيران, وإما لإحباط ومحاصرة إمكانية بروز هذه القوة والتحكم في مسار حركتها المستقبلية مثلما هي الحال بالنسبة لدول آسيا الوسطى الإسلامية المتحررة من ربقة الاتحاد السوفياتي السابق. وفي هذا المجال تسعى إسرائيل لتوظيف إمكانياتها الخاصة والإمكانيات التي ستحصل عليها من الدول الداعمة, خدمة لأغراضها الصهيونية التوسعية في فلسطين أولاً و في سائر الدول العربية ثانياً, في إطار مشروعها الممتد من الفرات إلى النيل مستفيدة من النسيج الأيديولوجي المتعدد الألوان الذي تتشكل منه الفكرة الصهيونية, من أجل الدخول في علاقات مرحلية مع الدول الآسيوية وفي مقدمتها الهند, وذلك ضمن رؤية جيوستراتيجية شاملة تنسجم مع نظرية “دول المحيط” او “السنتو”, أي الدول المحيطة بالعالمين العربي والإسلامي, التي كان ينادي بها الزعيم الصهيوني دافيد بن غوريون منذ مطلع الخمسينات, والتي ترمي إلى محاصرة أو احتواء قوة أية دولة عربية أو إسلامية تقوم سياستها على رفض المشروع الصهيوني التوسعي الإمبريالي. وحري بنا أن نتذكر أنه من المستحيل على الإسرائيليين أن يثقوا حقيقة بنوايا أية دولة عربية أو إسلامية مهما أظهرت من نوايا حسنة, ولهذا نجدهم يعملون على تطويق بل وتهديد حتى الدول التي لهم معها اتفاقيات سلام مثل مصر, من خلال توثيق علاقاتهم مع دول أفريقية عديدة تحيط بمصر ويمكن أن تؤثر عليها في أمنها القومي مثل أثيوبيا وإريتريا وأوغندا وجيبوتي. والإسرائيليون يعملون لتكون لهم حصة واضحة ومهمة في صياغة الأمن الإقليمي وذلك على أساس قواعد ثابتة تخدم أمنهم القومي وتقوم على القواعد التالية:
 1­- التفوق العسكري والاستراتيجي على الدول العربية كافة من اجل ضمان التوسع الاقليمي, ولهذا ترفض اسرائيل الاشارة الى اية حدود في وثائقها الرسمية. وقد عبر دافيد بن غوريون عن ذلك بقوله: “ان الحرب سوف ترسم حدود الدولة, وستكون هذه الحدود اوسع من تلك التي خصصتها الامم المتحدة”. وفصل موشيه ديان هذه الفكرة عام 1967 بقوله: “ان الهدف الاول للطريق الذي ننهجه هو ان نضع خريطة جديدة, ونهاية الصراع سوف تتحقق في التحليل الاخير الذي يتضمن الحقيقة الشاملة لوجود دولة يهودية هنا تكون من القوة والاهمية بحيث يصبح من المستحيل تدميرها وسيكون من الضروري التعايش معها”.
2­-  قطع الطريق على نمو الإمكانيات التسليحية للدول العربية ولأية دولة إسلامية تجاهر بالعداء لمشروعهم التوسعي مع احراز تفوق علمي وتكنولوجي اسرائيلي يصل الى حدود الاكتفاءالذاتي.
3­-  المساهمة في بناء حوض جيوستراتيجي متكامل يضم عدة دول ذات مصلحة مثل الهند وتركيا وأثيوبيا )وفي الماضي ايران (لتطويق الدول العربية وتهديد أمنها الوطني والقومي, مع إمكانية توسيع هذا الحوض ليطال دولاً أخرى مثل الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى, وفقاً للمصالح المتحركة التي باتت الحركة الصهيونية تتحكم بالأهم فيها, على ضوء أحادية القطبية الأميركية, وهذا كله بما ينسجم مع المصلحة الصهيونية في إدارة الصراع مع الفلسطينيين أولاً والعرب ثانياً.
4­-  ان نظرية الامن القومي الصهيونية تقوم, فيما تقوم عليه, على اتخاذ الاحتياطات الواجبة كافة بغرض تكريس السيادة اليهودية على الدولة ذات الحدود الزاحفة وحماية مصالحها الداخلية والخارجية المرتبطة ببنائها القومي والثقافي والعقائدي الخاص, ومن هنا فهي لا تتضمن تعزيز القوة العسكرية فحسب, بل تشمل ايضا السياسة الخارجية والتقدير الاستراتيجي للواقع الجيوبوليتيكي المحيط بالدولة ­ الكيان, ومدى التناقض او التقارب الايديولوجي بينها وبين جيرانها الاقليميين, ودراسة امكانيات الدول ذات المصالح المتعارضة او المتوافقة وكيفية الاستفادة من قدراتها العسكرية والبشرية والاقتصادية والجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية, لاسيما وأن اسرائيل تعاني من افتقار كبير, حسب اطماعها الى العمق البشري والجغرافي والامني والاقتصادي, الذي تعمل على توفيره من خلال العمل الديبلوماسي الدؤوب والتنسيق الاستراتيجي المناسب.
في هذا البحث سنركز اهتمامنا على العلاقات الإسرائيلية الهندية, وما تنطوي عليه من أبعاد جيو ستراتيجية, تصب في النهاية في حساب المخططات الصهيونية البعيدة المدى والرامية الى حرمان العرب والمسلمين من أية عوامل قوة يمكن أن تخدمهم في التصدي لأطماع المشروع الصهيوني ­ الإمبريالي, الرامي إلى أحداث متغيرات دراماتيكية في هوية المنطقة الجيو سياسية والثقافية والحضارية, خاصة في ظروف من العولمة والأحادية القطبية, وضمن معطيات كارثية تحيط بواقع العالمين العربي والإسلامي في أعقاب تداعيات حرب الخليج الثانية, وأحداث الحادي عشر من أيلول-سبتمبر في الولايات المتحدة الأميركية.

نظرة في إشكالية العلاقات الهندية مع العرب و إسرائيل
خضعت الهند للحكم الإسلامي زمناً طويلاً. وقد صرف البريطانيون مائة عام للقضاء على هذا الحكم منذ عام 1757 وحتى عام 1857 م. )[1] (فإذا بمأساة فلسطين استلاباً وتقسيماً تتكرر في الهند, حيث تمكن الهندوك أو الهندوس من السيطرة عليها بمساعدة الاستعمار البريطاني, وحاصروا المسلمين وناصبوهم العداء, و ذلك انسجاماً مع القاعدة الاستعمارية المعروفة “فرق تسد”.
ويعود الفضل في فشل الإنكليز في تسليم كامل الهند إلى الهندوس إلى زعامة العلامة محمد إقبال, والكفاءة القيادية للزعيم محمد على جناح.)[2] (وهكذا تمتعت المناطق ذات الأغلبية الإسلامية بالسيادة والاستقلال. ولكن الهندوس بمساعدة البريطانيين عادوا للمطالبة حتى بالمناطق الإسلامية فتمكنوا من أن ينتزعوا من المسلمين مناطق هامة وحساسة مثل حيدر آباد وكشمير وجامو وجوناكد[3].
وقد ساهم المستعمرون البريطانيون بتعزيز قوة الهندوس سياسياً وعلمياً وعسكرياً وساعدوهم في تأسيس حزب المؤتمر, تماماً كما حصل مع حزب مباي الصهيوني في فلسطين. وقد تنبه المسلمون الهنود منذ البداية للعداء البريطاني ضدهم, فوقفوا يتحدون هذا العداء في بلادهم كما في فلسطين, حيث رفضوا التدفق اليهودي غير الشرعي على فلسطين الانتدابية.
وقد حذر الزعيم الإسلامي الهندي محمد علي جناح من عواقب التحالف الإنكليزي اليهودي بقوله: “إننا نواجه اليوم مشكلة خطيرة أخرى, ألا وهي المسألة اليهودية في فلسطين. وإذا عمد الرئيس الأميركي روزفلت, بضغط من اليهودية العالمية, إلى خطأ إرغام الحكومة البريطانية على ظلم العرب في فلسطين فسوف يتسبب في اشتعال العالم الإسلامي في كل أقطاره”. وأضاف: “لقد ارتكبت مظالم عدة بحق العرب, وإذا سمح لليهود بالاستمرار في الهجرة إلى فلسطين, فإنه لا يخالجني أدنى شك بأنه لن تكون الرابطة الإسلامية مدفوعة لوحدها على الثورة من جراء ذلك, بل سيثور العالم الإسلامي كله”[4].
في مقابل ذلك كان البريطانيون يدعمون الهندوس لتحويلهم الى قوة عسكرية طاغية في منطقة المحيط الهندي, فساهموا في تدريبهم العسكري بل وأهدوهم أول حاملة طائرات من صنع بريطاني[5]. وكما فعلوا مع الحركة الصهيونية في فلسطين صنعوا كذلك أيضاً في القارة الهندية, من ضمن فكر استعماري عدواني واحد, يشمل العالمين العربي والإسلامي من حدود الصين وحتى شمالي أفريقيا. ومن هنا نشأت الأجواء الاستراتيجية المشتركة ما بين الهند وإسرائيل في ظل رعاية استعمارية بريطانية, مهدت لاعتراف بومباي بتل أبيب عام 1950. وعلى الرغم من حرص السياسة الهندية على إلقاء ستار من التعتيم والسرية على علاقاتها مع إسرائيل, إلا أن هذه الأخيرة كانت حريصة على كشف أبعاد هذا التعاون في كل مرحلة من مراحل تطور العلاقات بين البلدين, لاثبات قدرتها على الحركة الواسعة حتى في جنوب آسيا, ولإظهار أنها تتمتع دون غيرها من دول المنطقة العربية بما يمكن أن يسمى “القوى المضافة” التي تدخل في حساباتها الجيو ستراتيجية كعناصر دعم ومساندة, سواء على صعيد التسليح أو على صعيد الدعم اللوجستي السياسي والديبلوماسي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أدبيات الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي تؤكد على أن “التفوق المطلق” على دول العالمين العربي والإسلامي, المعنية بصورة مباشرة بحيثيات مكافحة المشروع الصهيوني وأطماعه, يعتبر أمراً لا بد من تحقيقه دائماً والمحافظة عليه في مختلف تجلياته المحلية والإقليمية. ومن أجل هذا حذر بن غوريون قادة إسرائيل من مغبة تجاهل آسيا بعد أن كانوا يعولون على الموقف الأوروبي, ونصحهم بألا يغمضوا عيونهم عن نهوض آسيا وأهلها[6]. ومن الامور الواجب تذكرها في هذا المجال, مساهمة اسرائيل الحثيثة في مساعدة الهند لتقطيع اوصال باكستان عبر مد الهند بكل اسباب القوة العسكرية والدعم السياسي, مستغلة في ذلك نفوذها الكبيرفي الولايات المتحدة, بهدف اشغال باكستان ومنعها من الاستفادة من الخيار النووي الذي احرزته.
بعد اغتيال غاندي عام 1950 حدث تغيير في مواقف الهند من قضية الصراع العربي ­الإسرائيلي, حيث اعترف نهرو نتيجة الضغوط الخارجية والداخلية, بالكيان الصهيوني وفتح له مكتبا تجارياً في بومباي ما لبث أن تحول الى قنصلية في شهر حزيران-يونيو عام 1953.
وشرعت الهند منذ عام 1952 بمناقشة الخطوات المطلوبة لإقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين, إلا أن المتغيرات الإقليمية والدولية حالت دون ذلك, وخصوصاً مشاركة الهند مع مصر ويوغوسلافيا في حركة عدم الانحياز, والصداقة الشخصية التي ربطت نهرو بعبد الناصر, وحالة الانقسام الدولي بين المعسكرين الشرقي والغربي, والعلاقات الطيبة بين الهند والإتحاد السوفياتي ثم العدوان الثلاثي على مصرعام 1956 والذي نددت به الهند وأخيرا حرب عام 1967, الأمر الذي منع قيام تفاهم علني بين الهند وإسرائيل, خوفا من تأثر المصالح الهندية سلبا في العالم العربي. ومع ذلك فإن هذه المعطيات لم تمنع حصول تعاون خفي وسري بين البلدين خصوصاً في المجالات الأمنية والدفاعية, على غرار صفقة الأسلحة التي حصلت عليها الهند من إسرائيل أثناء حرب التيبيت التي خاضتها ضد الصين عام 1962, وكذلك حصلت الهند على مساعدات عسكرية إسرائيلية أثناء حربها مع باكستان ما بين عامي )1965-1971(. وردت الهند هذا الجميل لإسرائيل في حرب 1967 بإرسالها كميات ضخمة من قطع غيار مركبات القتال لا سيما الدبابات )م. إكس13( إلى إسرائيل.[7]
وفي أعقاب حرب 1973 تعددت زيارات الوفود العسكرية الهندية لإسرائيل للحصول على خبرتها خاصة في مجال الحرب الإلكترونية, ومقاومة الصواريخ المضادة للدبابات. وفي أعقاب حرب عام 1982 على لبنان حرصت الهند على الاستفادة من الخبرة الإسرائيلية في مجال تشغيل طائرات الاستطلاع والإنذار المبكر, وكذلك في مجال تنظيم وإدارة الحزام الأمني في جنوب لبنان لمحاولة تطبيقها في منطقة الحدود في كشمير و مكافحة عمليات التسلل عبر الحدود[8]. في العام 1975 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها التاريخي رقم 3379 والذي أدان الصهيونية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. ونقل هذا القرار القضية الفلسطينية من قضية صراع عربي ­إسرائيلي الى قضية صراع ضد الصهيونية العالمية وتحالفها الإمبريالي. إلا أن هذه الإدانة الدولية لم تستمر طويلاً إذ استطاعت الصهيونية العالمية والولايات المتحدة أن تجبرا الجمعية العامة على إعادة النظر في هذا القرار عام 1991, وهي المرة الأولى الذي يحصل مثل هذا الأمر في تاريخ المنظمة الدولية, حيث تم إلغاء القرار بأغلبية كبيرة واعتبرت الصهيونية بالتالي “حركة تحرر وطني”[9]. وكانت الهند من بين الدول التي صوتت إلى جانب إلغاء القرار. وشكل هذا الموقف أول خطوة في مسيرة العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية العلنية في عقد التسعينات, والتي تطورت إلى إقامة علاقات ديبلوماسية وإجراءات مشتركة في شتى مجالات التعاون الأمني والعسكري لتتوج أخيراً في تعاون نووي, أدى الى قلب الكثير من المعادلات والحسابات القديمة, التي كانت تستفيد منها الهند في علاقاتها مع الدول العربية, بسبب مواقفها المتعاطفة مع القضية الفلسطينية, إذ حصلت منذ السبعينات على عقود أفضلية في تعاملها النفطي مع العراق وليبيا والامارات العربية, بالاضافة الى تشغيل آلاف الهنود في مختلف دول الخليج النفطية, والحصول على الكثير من العقود الاستثمارية والإنشائية[10].
إلا أن العلاقات العربية الهندية ما لبثت أن تعرضت لنكسات وتراجع في أعقاب تزايد الوزن السياسي المؤثر في البرلمان والحكومة للأحزاب اليمينية والقومية الهندوسية المعارضة التي كانت تطالب باستمرار بإقامة علاقات وطيدة مبكرة مع إسرائيل, ناهيك عن أن تضعضع أركان حركة عدم الانحياز, بغياب قادتها التاريخيين, وشق وحدة الصف العربي باتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 ثم اتفاقية اوسلو عام 1993, قد ساهمت ليس فقط في تراجع الموقف الهندي عن ثوابت سياسته العربية وإنما في تزايد خطوط الاتصالات السرية مع إسرائيل بوتائر متصاعدة وخصوصاً مع تصاعد حدة الخلاف الهندي ­ الباكستاني ذي الامتدادات الإسلامية والعربية. ولقد كان هاجس الأمن في إقليم كشمير يسيطر على عقول السياسيين الهنود من مختلف الأحزاب السياسية, ولا سيما بعد حرب أفغانستان التي استهدفت حركة طالبان وتنظيم القاعدة, والتي كانت قد اتخذت في الماضي من باكستان مقراً لها, وتحولت فيما بعد الى قلق دائم للأمن الهندي في كشمير.
ونتيجة ذلك نشأت بين إسرائيل والهند, برعاية أميركية, علاقات ودية سياسية وأمنية تستهدف ما اصطلح على تسميته في الإعلام الغربي بأنه “الإرهاب الأصولي الإسلامي”, وفي هذا السياق تمت عملية إعادة تقييم مشتركة للعلاقات الهندية ­ الأسرائيلية بحيث تم تحييد كل ما من شأنه أن يشكل خطراً على الأمن القومي الإسرائيلي. وقد أعلن الأستاذ دان هوروفيتش, أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية: “أن إسرائيل تستطيع من خلال فهمها واستيعابها للدروس المستخلصة من تعاظم قدرة الهند الاستراتيجية والسياسية, تحقيق ما هو مفيد لها ولمصالحها الاستراتيجية والسياسية”[11]. لكن في الوقت الذي تسعى الهند لتحسين علاقاتها مع العالم العربي من منطلق براغماتي, فإنها لا تبدو مستعدة لان يكون ذلك على حساب علاقاتها مع إسرائيل التي وقعت معها في 16 تموز-يوليو 2001 اتفاقاً بمبلغ 2 مليار دولار يقضي بتوريد إسرائيل طائرات الفالكون المتطورة للهند. وهناك اعتقاد لا يزال سائداً رغم تطورات الصراع العربي الإسرائيلي منذ أواخر السبعينات في اتجاه التسويات السليمة, بأن إقدام أية دولة من دول العالم الثالث على تطوير علاقاتها باسرائيل سوف يؤدي تلقائيا الى اهتزاز علاقتها مع العالم العربي, وهذا يعني عملياً أن الاتجاه الصاعد حالياً في الهند نحو تطوير وتدعيم علاقاتها بإسرائيل سيؤدي منطقيا الى إضعاف فرص تطوير علاقاتها مع الأقطار العربية. والجدير بالذكر ان عقد التسعينات يعتبر قمة ازدهار العلاقات الهندية الإسرائيلية. ففي هذه الفتره قفز حجم التبادل التجاري بين الهند وإسرائيل من 202 مليون دولار عام 1992 إلى 993 مليون دولار عام 1999,[12] والمفارقة أن هذا التطور لم يؤثر كثيراً على العلاقات الهندية العربية, بعد أن أصبح من الصعب على العرب مطالبة الآخرين بتحجيم علاقاتهم مع إسرائيل في حين يقيم العديد من الدول العربية علاقات سياسية واقتصادية بل وأحياناً عسكرية معها, لا سيما في أعقاب اتفاقي أوسلو مع السلطة الفلسطينية ووادي عربة مع الأردن واتفاق كمب ديفيد مع مصر من قبل.
ويضاف الى هذه المعطيات السلبية لغير صالح العرب, والتي تشجع الهند على الذهاب عميقاً في علاقاتها مع إسرائيل, أن هذه الأخيرة طورت بصورة لولبية قدراتها المخابراتية والعسكرية والنووية وحسنت نفوذها لدى الدول الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة, كما وأنها استفادت من أحداث 11 أيلول-سبتمبر كثيراً, وتعاونت مع الولايات المتحدة ضد التنظيمات الأصولية الإسلامية والعربية, فوسعت نشاطها ليطال كشمير الهندية وباكستان وأفغانستان ودخلت على خط الفتن الطائفية والمذهبية هناك, مما أعطاها وزناً أكبر وأهمية أوسع على صعيد حاجة الهند إليها في مجال حماية أمنها القومي.

تقاطع الأهداف الهندية ­الإسرائيلية:
تعددت الأهداف والغايات الهندية من وراء تعاونها مع إسرائيل وتوزعت على أهداف استراتيجية وأمنية وعسكرية واقتصادية وسياسية يمكن اختصارها بالنقاط التالية:
1­-  رغبة الهند في تطوير وتحديث قدراتها العسكرية ببعديها التقليدي وفوق التقليدي بما يدعم نفوذها ودورها الإقليميين في مواجهة باكستان خاصة في ظل سباق التسلح القائم بينهما والذي يمتد الى السلاح النووي. ومن المعروف أن الهند كانت قد اعتمدت لفترة طويلة على موسكو كمصدر رئيس لتوفير احتياجاتها التسليحية المتطورة, مستفيدة في ذلك من طبيعة العلاقة الاستراتيجية التي كانت تربطها بالاتحاد السوفياتي السابق. وبعد انهيار هذا الآخير, ومن أجل تلبية رغبة الهند المسلحة في استكمال مشاريعها الخاصة بتطوير الصناعات العسكرية, التي من دون مساعدة خارجية ستتطلب استنزاف الكثير من الوقت والكلفة )بل وحتى في حال استكمالها, سيكون من الأرجح أن عهدها التكنولوجي سيكون قد تقادم بوتيرة متسارعة ومن ثم ستصبح هناك ضرورة للاستعانة بدولة أخرى متقدمة تكنولوجياً ( فان الهند حلت هاتين المشكلتين, أي مشكلة الوقت والمستوى التكنولوجي الرفيع, بأن لجأت الى إسرائيل, خصوصاً في ضوء اتفاق الدول الصناعية الثماني الكبرى على تقييد نقل التكنولوجيا العسكرية إلى الدول الأخرى, اثر قرارات الحظر التي فرضتها الولايات المتحدة على كل من الهند وباكستان في أعقاب تجاربهما النووية والصاروخية عام 1998, هذا بالإضافة إلى أن الصناعة العسكرية الإسرائيلية تتميز باعتمادها الأساسي على التكنولوجيا الأميركية.

2­-  الأحداث الطائفية التي شهدتها وما تزال تشهدها الهند وباكستان في السنوات الاخيرة مما جعل الهند تشعر بأنها ليست بمنأى عن خطر الحركات الأصولية الإسلامية الموسومة بالإرهاب والتي تحولت إلى أحد أهم الموضوعات التي بوسع إسرائيل أن تستغلها في اتجاهات متعددة تحت عنوان مكافحة ما يسمى “الإرهاب الإسلامي”, مما وفر الأرضية المشتركة للتعاون الاستراتيجي والجيو ستراتيجي بين البلدين, الأمر الذي تحدث عنه السفير الهندي في القاهرة عندما قال: “إن إسرائيل لديها خبرة يمكن الاستفادة منها في مقاومة المرتزقة الذين يتسللون من جامو وكشمير ويقاومون السلطات الهندية هناك”[13].
ولقد قامت إسرائيل بتزويد الهند بمعلومات استخبارية عن باكستان مصدرها قمر التجسس الصناعي الإسرائيلي )أفق ­ 3( وفي المقابل سمحت الهند لخبراء من الموساد الإسرائيلي باستخدام أراضيها لتنفيذ مهام خاصة بهم ضد باكستان.
3­-  تنظر الهند إلى إسرائيل على أنها بوابتها العريضة إلى الولايات المتحدة. وهي تسعى من خلالها لتوثيق وتطوير علاقاتها بهذه الاخيرة في شتى المجالات.
4­-  تعتبر الهند أن تعاونها مع إسرائيل يصب في رصيدها الاستراتيجي العام في صراعها الدائر مع باكستان بشأن قضية كشمير, كما وفي ميزان القوى ما بينها وبين الصين في صراع الزعامة والسيطرة على آسيا. وهنا يقوم الإسرائيليون بدور أكلة الجبنة في هذا الصراع مستفيدين من الطرفين, حيث نجد الحاجة الصينية الماسة أيضاً, لولوج المنافذ الإسرائيلية للوصول إلى التكنولوجيا الغربية[14]. كما وأنهم يلعبون أيضاً على سباق التسلح النووي الهندي ­ الباكستاني الذي وضعته الهند وباكستان معاً, تحت الرقابة المشددة[15]. وقد أعلن وزير الداخلية الهندي أل. كي. أوفاني عن التعاون الإسرائيلي ­ الهندي عندما استطاعت الهند أن تجري في صيف عام 1998 خمس تجارب نووية دفعة واحدة, حتى أن هناك من أشار إلى أن إحدى هذه التجارب حصلت لحساب إسرائيل بالذات. وهنا تدخل خشية الولايات المتحدة الأميركية من قيام إسرائيل ببيع تكنولوجيا أميركية لكل من الصين و الهند, الأمر الذي تجلى في صفقة بيع إسرائيل للصين طائرة التجسس أواكس بقيمة 250 مليون دولار, في حين أن العرب فقدوا أي مبرر لانتقاد الهند في علاقاتها المشبوهة مع إسرائيل, اثر انشغالهم بصراعاتهم وخلافاتهم الجانبية, واثر تورطهم في علاقات مباشرة وغير مباشرة معها.

 

الحوض الجيو ستراتيجي الإسلامي ­ العربي و الاستهدافات الإسرائيلية تجاهه :
أ-­ تعريف هذا الحوض و ملابساته:

من المستوى الجيوبوليتيكي إلى مستوى الاعتبار الجيوستراتيجي, يمكن النظر إلى بلدان العالم العربي كوحدة مستقلة على الصعيد القومي­الجغرافي­ السياسي, ضمن إطار العالم الإسلامي. ووفق هذا الاعتبار يتسم العالم العربي بتكامل جغرافي موحد ويظهر ككيان جغرافي متسق ومترابط و كأنه “بحيرة” قومية حضارية متجانسة داخل الرقعة الجغرافية السياسية للعالم الإسلامي[16].
وعبر هذا الاحتواء على الرقعة العربية, يغدو العالم الاسلامي كمفهوم جيوستراتيجي, أو مكان مؤهل للظهور استراتيجياً داخل الكيانات الدولية المعاصرة متضمناً إضافة إلى كينونته الجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية, على كيان جغرافي سياسي قومي آخر هو العالم العربي, كنواة ثنائية أخرى لتكوينه العام. وعبر هذه الرؤيا يكتسب العالم العربي صفته كوحدة جيوستراتيجية قائمة بذاتها ضمن الحوض الجغرافي السياسي للعالم الإسلامي, وبالتالي فالحركية السياسية والعسكرية لبلدان العالم الإسلامي, بما فيها الدول العربية, تغدو حركية فاعلة بشكل مضاعف في قوتها وتأثيرها على الساحتين الإقليمية والدولية, في حال ظهورها كقوة جيوستراتيجية تقف في مواجهة الكيانات الجيوستراتيجية الأخرى في العالم التي تناصبه العداء.
والملاحظ أن الكينونة الجيوستراتيجية العربية يمكن أن تبرز بقوة ووضوح في لحظات المواجهة العامة مع عدو خارجي تكون نواة التحدي فيه موجهة إلى العالم العربي ككيان قومي حضاري مستقل, ثم يختفي هذا البروز في لحظات المساومة السياسية وعدم المواجهات الحادة, وتحل محله أجواء من الخلافات البينية العربية حول مشاكل متباينة, الأمر الذي يهدد أو يبدد الطاقة الكامنة في العالم العربي أو التي يمكن أن تتمخض عنه ككتلة جيوستراتيجية متراصة.
وهذه النواة الجيوستراتيجية الخاصة بالعالم العربي تقع ضمن محيط أوسع لقوة جيوستراتيجية أشمل هي العالم الإسلامي الذي يمتلك مميزات جيوستراتيجية ضخمة لم يحسن استخدامها بعد, وهذه القوة تبقى كامنة ولا تظهر إلا في لحظات الصراع الحاسمة التي قد تهدد الشعوب الإسلامية بأكملها في حضارتها وهويتها الدينية والثقافية. وبالتالي فردات الفعل الحضارية ­ الجيوستراتيجية يمكن أن تظهر في لحظات التحدي الكبيرة الخاصة بالمسلمين كشعوب وكدول ذات انتماءات عرقية تعددية, لكنها تتجاوز هذه التعددية الأثنية في صياغة رد فعلها العام. وهنا يكون العالم العربي ببلدانه وبنيته القومية الثقافية الموحدة, كياناً جيوستراتيجياً قومياً مستقلاً عن العالم الإسلامي, لكنه في الوقت ذاته مندمج ومنصهر فيه على الصعيد الديني, ومن هنا يمسي الكيان الجيوستراتيجي للعالم الإسلامي كياناً مضاعفاً في قدراته وطاقاته إزاء التحدي الخارجي الذي يواجهه. وهكذا يتحول العالم الاسلامي ­ العربي, كوحدة جيوستراتيجية في معناها الإيجابي. وهنا تتبلور نواتان جيوستراتيجيتان: تضم الأولى كلاً من ايران والعراق والعربية السعودية, فيما تضم الثانية مصر والمملكة المغربية, بوسعهما التأثير في الساحة الدولية, أولاً كمجال جيوبوليتيكي فعال بوسعه الانتقال الى مرحلة أكثر فعالية على الساحة الدولية فيما لو تطور إلى كينونة جيوستراتيجية موحدة.
إلا أن هذه الكينونة واجهت ضربة شبه قاضية بهدف إنهائها واحتوائها تماماً, عبر حربي الخليج الأولى والثانية, مما أحدث تصدعات مصيرية قاسية على المستويين الإسلامي والقومي. بحيث وصف المشهد البانورامي السياسي المتولد عن هاتين الحربين المتعاقبتين بأنه “اهتراء جيوبوليتيكي”[17], لم يشهد له العالم الإسلامي مثيلاً من قبل.
وهكذا فقد العالمان الإسلامي والعربي قدرتهما على المواجهة وعلى ضمان الحد الأدنى من الاستقرار التاريخي, مما فتح امام دول كثيرة ذات مصالح انتهازية مثل إسرائيل والهند والولايات المتحدة وأوروبا وغيرها, فرصة الاستفادة من هذه البيئة المفككة, لضمان مصالحها المشتركة, وخاصة على صعيد تعميق حالة التفكك هذه, وترسيخ تبعية العالم العربي, واستنزاف طاقاته وقدراته المادية والجغرافية والبشرية سلماً أو حرباً. وهكذا سقط العالمان العربي والإسلامي في مستنقع من الضعف شمل البلدان الإسلامية الشرق أوسطية بما فيها دول الخليج وبلدان جنوب شرق آسيا )ماليزيا­إندونيسيا(, وتحول الحوض الحضاري القاري إلى منطقة مفتوحة, بعد تنامي العولمة واستشراسها في أعقاب أحداث 11 أيلول-سبتمبر, مما جعل الدول العربية والاسلامية تتلقى الضربات تلو الضربات, حتى كاد يغدو الخلل في الموازين حالة بديهية داخل وعي المجتمعات الإسلامية المعاصرة, يمكن أن تستمر وتتواصل إلى أمد زمني لامتناه.
وضمن هذه الأجواء تتلقى إسرائيل والهند كل عون وكل مساعدة لتطوير وتحسين قواهما النوعية العسكرية والأمنية والاقتصادية في مقابل عملية تهشيم تدريجية ومنهجية للكيان السياسي الحضاري للعالم العربي­الاسلامي, وهذا ما يحصل اليوم لكل من العراق ودول الخليج وأفغانستان وباكستان وإيران وسوريا ولبنان ومصر وفلسطين والسودان وليبيا وموريتانيا والصومال والجزائر وصولاً الى إندونيسيا وماليزيا...
وهكذا سقطت الجبهة الجنوبية المصرية والجبهة الشرقية السورية مثلما سقطت أيضاً رهانات وآمال الشعوب العربية بالتنمية والتطوير والتحرر, وتفاقمت حالات الفساد الإداري والسياسي وحالات الصراع البينية والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والامنية.
وما من شك في أن تصدع النظام الإقليمي العربي على أثر حرب عاصفة الصحراء عام 1991 وتلاشي الاتحاد السوفياتي في الحقبة ذاتها, قد فتح المجال أمام كل من الهند وإسرائيل لاعادة ترتيب أولوياتهما الإقليمية والدولية. فتقدمت الفئات الحزبية والسياسية اليمينية الشوفينية المتطرفة في كلا الدولتين )حزبا بهاراتيا جاناتا في الهند والليكود في اسرائيل (  لتحتل سدة السلطة, وبالتالي فإن إقامة العلاقات الديبلوماسية بين تل أبيب و نيودلهي عام 1992 لم تثر أية ردة فعل عربية حتى داخل الجامعة العربية, وبدأت الهند تراعي المشاعر الإسرائيلية فلم تصوت لصالح القرارات التي تصدرها مؤتمرات حقوق الإنسان الدولية لحماية الشعب الفلسطيني, كما أنها لم تصوت على القرار الذي أدان سياسة الاستيطان الإسرائيلية, الصادر عن مؤتمر السكان الذي عقد في نيروبي[18]. وقد دخلت إسرائيل هنا على خط تقديم المشورة للهند في نزاعها مع باكستان سواء كان الخلاف في السباق النووي أو الترسانة الصاروخية أو حول كشمير, حيث قدمت تل أبيب ومن خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيرس إلى الهند في شهر أيار-مايو 1992, النصيحة بشأن حل أزمة كشمير من طريق اتباع سياسة التغيير الديموغرافي والتطهير العرقي في كشمير, كما فعلت إسرائيل في فلسطين, و”بذلك تتحول الغالبية المسلمة هناك إلى أقلية”[19].
 
ب -­ الاستهدافات الإسرائيلية الجيوستراتيجية ضد الحوض الإسلامي:
توجد لإسرائيل من خلال توطيد علاقاتها بالهند استهدافات كثيرة منها ما هو خاص ومنها ما هو عام وذو طابع وظيفي. وما من شك في أن التقارب الإسرائيلي الهندي, إنما يأتي في سياق الحسابات الأميركية الجيوستراتيجية الرامية إلى الهيمنة على العالم تحت مظلة ما تسميه الحرب على الإرهاب ومتطلبات النظام العالمي الجديد. وتسعى الولايات المتحدة من رعاية وتأييد هذا التقارب إلى أكثر من هدف, وكلها تدخل ضمن دائرة المصالح المشتركة ومن أبرزها ما يلي:
 1­-  حصار روسيا وإضعافها بصورة تمنعها من استعادة دورها كقوة عظمى في المستقبل المنظور على الأقل وعزلها عن مجالها الحيوي وذلك من خلال إيجاد قوة نوعية موالية لواشنطن على حدودها.
 2­-  تطويق الصين, القوة المرشحة لمنافسة الولايات المتحدة خلال العقود المقبلة وضرب التحالف الناشئ بين بكين وموسكو والمناوئ لانفراد الولايات المتحدة بالسيادة والهيمنة على العالم.
3­-  استكمال تطويق ايران من الجنوب الشرقي تمهيداً لاخضاعها للسيطرة الاميركية او لضربها اذا اقتضى الأمر وتصفية برنامجها النووي الصاروخي.
4­-  منع تسرب التكنولوجيا والمواد والخبرات النووية وكذلك تكنولوجيا الصواريخ و غيرها من الأسلحة التقليدية المتطورة وتسربها الى الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة بأنها الدول المارقة أو حسب التعبير الجديد الذي أطلقه الرئيس بوش الابن بأنها “محور الشر” وكذلك منع تسربها الى البلاد العربية حتى وان كانت معتدلة حرصاً على احتفاظ اسرائيل بتفوقها العسكري النوعي بصورة مطلقة.
5­-  تصفية الحركات الأسلامية الراديكالية في المنطقة بما يضمن أمن الولايات المتحدة داخل أراضيها, ومصالحها في الخارج وكذلك أمن ومصالح حلفائها واستقرار النظم الموالية لها في المنطقة وهو الهدف الذي تضاعفت أهميته في السنوات الأخيرة وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول-سبتمبر.
وفي هذا الإطار تبرز المقارنة بين الموقفين الأميركيين من التعاون العسكري الإسرائيلي­الهندي والإسرائيلي­الصيني, حيث تغاضت واشنطن عن الأول بل شجعته بصورة مباشرة وغير مباشرة, في حين وقفت ضد الثاني, وهذا يشير الى محورية عامل ما يسمى “الخطر الأصولي الإسلامي” والخوف مما تسميه واشنطن “القنبلة النووية الإسلامية”, في دعم الولايات المتحدة لهذا التقارب[20] )وهذا ما سنبيّنه تفصيليا فيما بعد(.
يضاف الى ما تقدم أن إسرائيل ترمي بصورة حصرية الى تحقيق أهداف خاصة من تطوير علاقاتها بالهند, تدخل في خصوصيات حساباتها الجيوستراتيجية ومن أبرزها, رغبتها في تطويق كل من باكستان وإيران ومراقبة التطورات العسكرية والتسليحية في كل منهما وخاصة في المجال النووي. وتحرص إسرائيل على مساعدة الهند في تطوير برامجها النووية, ولكن بشرط عدم تسريب أي من الخبرات المنقولة في هذا المجال الى أية دولة من دول الشرق الأوسط للحفاظ على تفوقها النوعي, خصوصاً وأنه توجد علاقات تعاون ملحوظ بين الهند وإيران تمنع إسرائيل من الإطلاع عليها بصورة مباشرة, في حين أنه يسمح لها بالإطلاع على مستوى تطورها بطريقة أو بأخرى. ولا تخفي إسرائيل في هذا المجال نيتها لإقامة محطات تجسس إلكتروني في الهند من أجل الإستطلاع اللاسلكي والراداري على مقربة من حدود إيران الشرقية ومن حدود باكستان الشمالية مستغلة بذلك موقع الهند الجيوستراتيجي المتميز في القارة الأسيوية. ومعلوم أن اسرائيل تستغل هنا أيضا التدهور الحاصل في العلاقات الهندية الباكستانية والذي بلغ أوجه أثناء حصول الإشتباكات الحدودية المسلحة عام 1999 بشأن كشمير والتي كانت الأعنف منذ عام 1982, وذلك للتحريض على حرب حضارات بين المسلمين والهندوس باتت احداثها الرهيبة قتلا وحرقا تنذر باقبح العواقب, خصوصا على ضوء التعاون المخابراتي بين جهاز الموساد الاسرائيلي وجهاز المخابرات الهندي RAW. وجدير بالذكر ان وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريس قام في شهر نيسان-ابريل عام 1993 بزيارة للهند اعلن اثناءها عن استعداد بلاده لمساعدة الهند في قمع ما اسماه الارهاب والاصولية الاسلامية. وتبنى وجهة نظر الهند حيال مشكلة كشمير باعتبارها جزءاً من الاراضي الهندية. وقد ابرمت خلال هذه الزيارة اتفاقيتان ومذكرتان للتفاهم في مجالات الثقافة والسياحة والنقل الجوي والعلوم والزراعة والتكنولوجيا والاستشارات الخارجية والتعاون الاقتصادي.
وقد رأى الجانب الهندي أن الحكومة الباكستانية وحركة طالبان, التي كانت حاكمة في أفغانستان, كانتا تقفان وراء الأحداث الدموية في كشمير. وفي هذا المجال مارست الإدارة الأميركية برئاسة الرئيس كلينتون آنذاك ضغوطاً على باكستان من أجل وقف الصراع, مما أرغم رئيس الحكومة الباكستانية السابق نواز شريف على إصدار أوامره لإنسحاب عناصره التي كانت تسللت الى الجانب الهندي من كشمير. وانتقد رئيس الأركان برويز مشرف في حينه هذا التصرف مما حمل شريف على عزله وتعيين الجنرال ضياء الدين رئيس الإستخبارات بدلا منه, إلا أن الجيش رفض هذا التعيين وجاء بمشرف كرئيس للحكومة.
ومن الإستهدافات الإسرائيلية الخاصة من وراء توطيد العلاقة مع الهند ايضا, إنهاء حالة العزلة السياسية التي واجهتها إسرائيل, إثر تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط بسبب المجازر الإسرائيلية المرتكبة بحق الفلسطينيين في أكثر من قرية ومدينة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقد قام وزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريس بزيارة خاصة الى الهند في مطلع شهر كانون الثاني-يناير من هذا العام, من أجل إضافة لبنة جديدة أخرى الى لبنات التقارب المتنامي مع نيودلهي. وكلامه “أن الدولتين تنظران الى العالم بالعين ذاتها” يحمل أكثر من مغزى سياسي وحضاري واستراتيجي, خصوصاً إثر وصول القوميين الهندوس المتطرفين )المعتدل فيهم هو رئيس الحكومة أتال يهاري فاجباراي(  الى السلطة عام 1998, مما أدى الى ارتقاء العلاقات المشتركة من تبادل الاعتراف الديبلوماسي عام 1992 بعد مؤتمر مدريد, الى مستوى التناغم السياسي والعسكري والاستراتيجي.
ولم يخف بيريس رغبته في تحقيق أمرين من زيارته هذه و هما: الدمج بين الموقفين الهندي والاسرائيلي مما يسمى مكافحة “الارهاب الاسلامي”, وتجيير هذا الموقف لتحقيق المزيد من الحصار السياسي لانتفاضة الشعب الفلسطيني. والأمر الثاني هو رغبة اسرائيل في تغيير طبيعة المواقف التي تحدد كيفية تصويت الهند في الأمم المتحدة والمحافل الدولية التي هي حتى الآن “لاترضينا” كما قال.[21]
وظل الشق العسكري من زيارة بيريس الى نيودلهي طي الكتمان قدر المستطاع باستثناء ما تسرب الى الصحف من أخبار حول صفقة بقيمة 250 مليون دولار تشمل بيع الهند طائرات رادار اسرائيلية من طراز “فالكون” وطائرات انذار مبكر وطائرات مجهزة بأنظمة أواكس المتطورة, والمشابهة للطائرات التي اضطرت إسرائيل قبل عام ونصف الى عدم تسليمها الى الصين تحت ضغط الرفض الأميركي[22]. يضاف الى ما تقدم أن حقيقة العقود العسكرية المبرمة بين الدولتين تصل إلى ملياري دولار بحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية كما وصل حجم التبادل التجاري أيضاً إلى مليار دولار.
وما من شك أن حجم وطبيعة العلاقات الإسرائيلية الهندية, يثيران القلق والريبة لدى كل من باكستان وإيران. خاصة وأن إسرائيل تلعب على حبال مصالحها المشتركة مع الهند في موضوعي الصراع على كشمير وسباق التسلح النووي مع باكستان وموضوعي الإسلام الثوروي والأسلحة غير التقليدية مع ايران. وذلك من ضمن شعارات ومصطلحات مشوهة ومزيفة لا تسمي الأشياء بأسمائها فإذا بالإرهاب الصهيوني الإقليمي والدولي يسمى مساهمة في السلام, وإذا بالجهود الوطنية للدفاع عن الحق والحرية تسمى إرهاباً و خطراً على الديمقراطية.
والملفت أن بيريس قدم سلفاً للهند مواقف ديبلوماسية مجانية عديدة لاغرائها في التورط أكثر فأكثر في فوضى الشعارات المزيفة السياسية والعسكرية ضد “الإرهاب”, فأعرب عن تأييده لحصول الهند على مقعد دائم في مجلس الأمن ولانضمامها الى حلف شمالي الأطلسي, الذي لا يملك عدواً حالياً “فلماذا لا نجعله أداة لمواجهة أخطار اليوم عوضاً عن أعداء الماضي” على حد قوله. والمقصود طبعاً هو توجيه كل الجهد الحربي والديبلوماسي العالمي ضد كل من باكستان وإيران والعراق والانتفاضة الفلسطينية والمقاومة الإسلامية في لبنان, وأيضاً في مراحل لاحقة ضد جميع الدول العربية الأخرى وفي مقدمتها سوريا ومصر.
وبأسلوبه الميكافيلي المفضوح خاطب بيريس وزير الخارجية الهندي جاسوانت سينغ بقوله: “نقف اليوم في الجانب نفسه من الصراع. لا نقاتل ديناً أو شعباً بل الإرهاب, الإرهاب المعلن والمستتر. علينا أن نكون حذرين في عدم وصم أية ديانة أو أمة بالإرهاب. لكننا لن نسامح الديانة أو الأمة التي تغذي الإرهاب. وندرك أن الإرهاب ظاهرة عالمية مثل التكنولوجيا المتقدمة. وعلينا أن نتعاون معاً[23]. ووصف بيريس الإرهاب بأنه خطر على الديمقراطية وأنه لا فارق بين حصول الهجمات في نيويورك ونيودلهي. ولم ينسى بيريس حصة إيران إذ قال: “حان الوقت لتشعر إيران بالقلق )من التقارب الهندي الإسرائيلي( لأن هذا البلد متورط في الإرهاب وقدّم المال والسلاح لحزب الله, ولمنظمات إرهابية أخرى )ويقصد بالطبع المنظمات النضالية الفلسطينية التي تقاتل الاحتلال الصهيوني وتتصدى لإرهاب الدولة بامتياز في القرى الفقيرة المنكوبة مثل جنين ونابلس ورام الله وسواها(.
والجدير بالذكر أن كل هذه البروباغندا المزيفة تحصل في الوقت الذي ينفذ فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون أكبر مخطط استيطاني في أراضي الفلسطينيين الذين يجبرون على الترحيل القسري, في وقت تعمل السلطات الصهيونية على جلب أكثر من مليون يهودي جديد الى الكيان الغاصب من كل من فرنسا والأرجنتين وأفريقيا الجنوبية والهند.

وتؤكد الدوائر المختصة في الجامعة العربية أن زيارة بيريس الآنفة الذكر لم تكن تتعلق فقط باستغلال التوتر القائم بين نيودلهي وإسلام آباد, وإنما أيضاً بالترتيبات التي تجريها تل أبيب لنقل نحو مليون يهودي هندي. وتفيد تقارير الامانة العامة للجامعة العربية ان 500 يهودي من قبيلة شيفانغ في ولاية ميزورام القريبة من الحدود مع بنغلادش ومياتمار قد تم فعلاً ترحيلهم إلى الكيان الصهيوني فيما ينتظر الآلاف دورهم[24].
وتفيد المعلومات التي تضعها الجامعة العربية حالياً موضع الرصد والتحقق أن تقريراً قدم إلى السفارة الإسرائيلية في نيو دلهي وكذلك للأمم المتحدة, جاء فيه أن عدد اليهود في ولاية ميزورام الهندية هو نحو 800 ألف نسمة وإن 720 ألف يهودي آخرين يعيشون في ولايات مانيبور وآسام وتريبورا. وتفيد التقارير ذاتها أنه لم يتم حتى الآن التحقق من الأصول اليهودية للقبائل الهندية المستهدفة ومع ذلك تسير السفارة الإسرائيلية في نيودلهي في مخططها الرامي لإتمام ترحيل هؤلاء بدعوى أن المسألة معقدة. ونظراً لعدم معرفة أصول القبائل العشر اليهودية الضالة, فإن مسألة الهجرة تعود أحياناً لأسباب اجتماعية واقتصادية أكثر منها دينية[25]. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدد السكان في إسرائيل تضاعف حوالي ثماني مرات منذ قيامها, والخوف الإسرائيلي من التزايد السكاني الفلسطيني يجعلها في حالة سباق هستيرية مع الزمن لجلب المزيد من المهاجرين اليهود او حتى المشكوك في يهوديتهم, وابتلاع أكبر قدر ممكن من الاراضي الفلسطينية.

إسرائيل والهند والقنبلة النووية الإسلامية
لم تكن زيارة الأيام الخمسة التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلية شمعون بيرس إلى نيودلهي في مطلع هذا العام, وفي ذروة التوتر بين الهند وباكستان, لتغفل عن ضرورة التصدي للبرنامج النووي الباكستاني والعمل على تعطيله في حرب استخبارية معقدة ما بين القنبلة الهندوسية والقنبلة اليهودية من ناحية والقنبلة الإسلامية من ناحية أخرى. والواقع أن التعاون النووي الهندي الإسرائيلي لم يعد سراً على أحد, ولم يتردد الطرفان في تطوير هذا التعاون إلى مجالات واسعة تخطت الكثير من الحواجز والقيود التي كانت مفروضة في السابق, ومنها القيود السياسية, سواء أكانت في إطار الوضع الداخلي الهندي أم على مستوى علاقات الهند السياسية والديبلوماسية والاقتصادية مع العالم العربي. وتصريح وزير الداخلية الهندية )لال كريشنا أوفاتي( أثناء زيارته لتل أبيب في شهر تشرين الثاني-نوفمبر 1999, بأنه يؤيد “تعاوناً كاملاً مع إسرائيل في جميع المجالات, بما فيها المجال النووي إلذي ينبغي تعزيزه”[26] لم يكن تصريحاً ذا طابع إعلامي أو سياسي وحسب, بل كان يراد منه توجيه رسائل أمنية للعديد من الأطراف وفي مقدمتها باكستان وإيران.
الجدير بالذكر أن التعاون الذري الإسرائيلي­الهندي يعود الى العام 1947 حين بدأ الطرفان بإرساء حجر الأساس في مشروعيهما النوويين. وكان البرنامج النووي الإسرائيلي قد انطلق آنذاك بتخطيط وإشراف العالمين الأميركيين اليهوديين أوبنهايمر وتيللر. واستفاد البلدان الهند وإسرائيل من البرنامج الأميركي الذي أطلقه الرئيس أيزنهاور عام 1955 تحت اسم “الذرة من أجل السلام”. وبدأ التعاون بينهما عام 1962 عندما قام رئيس لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية د. أرنست برغمان بزيارة للهند ووقع اتفاقا للتعاون يشمل تبادل الخبرات والإحتياجات النووية في المواد والمعدات. ولقد برز التكامل في البرنامجين النوويين الهندي والإسرائيلي عندما سدت الهند حاجة إسرائيل من المواد الخام النووية إذ كان لدى الهند إحتياطات كبيرة من اليورانيوم والثوريوم, ولكن تنقصها التقنيات التي تملكها إسرائيل. وقد أثمر هذا التعاون بأن أجرت إسرائيل أول تجربة نووية لها تحت الأرض في صحراء النقب بتاريخ 3-10-1966[27].
أما الهند فأجرت أول تجربة نووية لها في شهر أيار-مايو 1974, وقد أتبعت الدولتان تكنولوجيا فصل البلوتونيوم 239 في صنع الأسلحة النووية, كما كان من ثمار هذا التعاون نجاح الهند في تشغيل مفاعلها )كالباكام(  بالقرب من مدينة مدراس, وتطوير محطة الطاقة النووية في )تارابور(. وقد شمل التعاون النووي ثلاثة مجالات هي:

1­-  تصغير الأسلحة النووية:
وهذا يعني إنتاج أسلحة نووية من أعيرة صغيرة )من 1 الى 15 كيلوطن(  يمكن إطلاقها من رؤوس صواريخ تكتيكية وتعبوية استراتيجية ومواسير مدافع وراجمات صواريخ متعددة الفوهات. وقد حصلت اسرائيل على النتائج الجاهزة لمئات التجارب التي أجرتها الولايات المتحدة وفرنسا بالاضافة للتجارب المعملية التي اجرتها بمساعدة السوبر كومبيوتر الذي حصلت عليه من أميركا في مطلع التسعينات.

2­-  تطوير القنبلة الإندماجية )الهيدروجينية(:
وهو ما نجحت فيه إسرائيل خلال الثمانينات طبقا لشهادة الخبير النووي الإسرائيلي فانونو في 15-10-1986 لصحيفة صاندي تايمز. كما أن التجربة النووية الهندية التي أجريت يوم 13-5-1998 كانت هيدروجينية. ولأن إسرائيل لم تستطع أن تجري تجربة ميدانية لهذا السلاح الإندماجي في أراضيها, فقد سعت الى الإستفادة من هذه التجارب الهندية بأن خصصت لنفسها تجربتين لصالحها حضرهما مسؤولون إسرائيليون, وكانت صحيفة معاريف قد ذكرت أن عالم الطبيعة النووية الهندي أي.بي.جي. رئيس المؤسسة الهندية للبحوث والتطوير الدفاعية DRDO والذي يعد أباً للبرنامج النووي الهندي, قد قام بزيارة إسرائيل عدة مرات أبرزها زيارتان في عامي 1996 و1998, وكانت هذه الاخيرة تمهيداً لهذه التجارب النووية وكان وزير خارجية باكستان )جوهر أيوب خان(  قد صرح في الوقت نفسه عن أن حكومته لديها معلومات عن تزويد إسرائيل للهند بأجهزة سوبر كومبيوتر المستخدمة في إجراء التجارب المعملية. وذكرت نشرة لطلبة جامعة بن غوريون أن نحو 20 عالماً هندياً موجودون في مركز الأبحاث النووية في النقب.

3­-  تطوير الصواريخ الباليستية حاملة الرؤوس النووية:
استفادت الهند من التقدم الذي أحرزته إسرائيل في برنامجها لانتاج صواريخ )أريحا(  الذي بدأته في الستينات على أساس تكنولوجيا الصواريخ الفرنسيةMD 620 و MD 660 والذي مكنها من تطوير الصواريخ أريحا واحد واثنين وثلاثة, والتي وصل أقصى مداها الى 2700 كلم والصاروخ شافيت الذي وصل مداه الى 4500­7500 كلم واستخدمته إسرائيل في إطلاق أقمارها التجسسية من نوع أوفيك الى الفضاء بالإضافة الى مشروع سري تجريه إسرائيل لتطوير صاروخ كروز يصل مداه الى 3000 كلم ذي أربع فوهات. لذلك حرصت الهند على اكتساب الخبرات الإسرائيلية لتطوير برنامجها لانتاج صواريخ بالستية متوسطة المدى I R B M والذي دخلته نيودلهي متأخرة عشر سنوات عن اسرائيل وقد أثمر في التسعينات انتاج الصاروخ )برثفي( 250 كلم والصاروخ )أجني 1( ­ 1500 كلم والصاروخ )أجني 2( ­ 2500 كلم ساجاريكا ­ ويطلق من الغواصات... وشملت ميادين التعاون بين البلدين تكنولوجيا تحميل الصواريخ البالستية في الغواصات الأمر الذي يمنح اسرائيل عمقاً جيوستراتيجياً حيوياً في المياه الدولية ولم يكن غريباً أن تجري إسرائيل تجربة لاطلاق الصاروخ )أريحا 3(  من غواصتها الألمانية الصنع دولفن في شهر أيار-مايو 2000 في منطقة المحيط الهندي القريبة من السواحل الهندية, وأصابت هدفاً على مسافة 1584 كلم, وهو ما يعني امتلاكها القدرة على توجيه الضربة الثانية من البحر في حال تعرض المنشآت النووية البرية للضربة الأولى من قبل الخصوم. وتشترك الهند وإسرائيل في موقف سياسي واحد من اتفاقيات الحد من الانتشار النوويN P T ووقف التجارب النوويةC T B T إذ ترفضان التوقيع عليها كما ترفضان اجراء أي تفتيش على منشآتهما النووية وبذلك تكون الهند قد حلت محل جنوب أفريقيا في التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل لا سيما في المجالين النووي والصاروخي بعد زوال الحكم العنصري هناك, وبعد ان أوقفت حكومة مانديلا الوطنية كل مجالات التعاون العسكري مع إسرائيل[28].
الجدير بالذكر أيضاً أن كلاً من الهند وإسرائيل على خلفية ما تقدم, إنما تسعيان الى إقامة هند عظمى واسرائيل عظمى, وهذا ما يدفعهما الى تطوير قوى عسكرية هائلة ونوعية يمكن أن تساعدهما في تنفيذ مخططاتهما التوسعية ان على حساب باكستان او على حساب فلسطين.
وقد لخص الكاتب الهندي باتوونت سينخ أهداف الهند القومية من خلال تعاونها العميق مع اسرائيل بقوله: “أن الروابط الوثيقة مع إسرائيل مهيأة لأن تثمر خدمات وفوائد جمة, منها مساعدة الهند للحصول على حاجتها من الأسلحة, واقامة علاقات مع اليهودية العالمية وخصوصاً اليهودية الأميركية ذات النفوذ الكبير في البنوك والأوساط المالية في الولايات المتحدة الأميركية, وحملها على تبني مواقف ودية متعاطفة مع القضايا الهندية. كل ذلك بالإضافة إلى ما تستطيع اسرائيل تقديمه من مساعدات في مجال العلم والتكنولوجيا والمهارات الزراعية. وهناك شيء آخر هام, وهو أنه بالتقرب الوثيق من اسرائيل, باستطاعة الهند عندئذ أن تحتل مركزاً مرموقاً بين الأمم. وبإمكان الديبلوماسية الهندية أن تحوّل مشاعر اسرائيل بعرفان الجميل ­ بنجاح ­ لصالح الهند ومنفعتها[29].

مخاطر العلاقة الجيوستراتيجية الاسرائيلية ­ الهندية على الأمن القومي العربي
لا شك بان ما بيناه آنفاً من بعض ملامح العلاقات الجيوستراتيجية المتعددة الوجوه ما بين إسرائيل والهند, إنما يشكّل رأس جبل الجليد فقط في هذه العلاقات الخطيرة ذات الابعاد التوسعية الامبراطورية والمرتكزة على بنية تحتية أيديولوجية وخلفية دينية معادية للإسلام وللعرب خصوصاً في العقدين الاخيرين من الزمن. واذا كانت اسرائيل توظف كل هذا الجهد المخابراتي والتقني والعسكري والديبلوماسي في الهند, فهذا لن يكون بلا مقابل, بل إن الهند تدرك ما يترتب عليها من واجبات أدبية واستراتيجية تجاه اسرائيل, بما يخدم الأمن القومي لكلا البلدين على المديين القريب والبعيد, وخصوصاً فيما يتعلق بمحاصرة الأهداف القومية العربية وأهداف الوحدة الإسلامية, على الرغم من وجود مصالح هندية متعددة الاوجه في الدول العربية الخليجية بنوع خاص, الأمر الذي يمكن أن يخدم أيضاً الأهداف الإسرائيلية في هذه المنطقة. وقد استفادت الهند في هذا المجال من أجواء قمة مدريد للسلام عام 1991 في أعقاب عاصفة الصحراء ضد العراق, بحيث تحول عقد التسعينات الى عصر ذروة ازدهار العلاقات الإسرائيلية­الهندية على حساب العرب.
فلقد قفز حجم التبادل التجاري بين البلدين من 202 مليون دولار عام 1992 الى 993 مليون دولار عام 1999[30]. في وقت وجد العرب صعوبة في الاعتراض على هذا التمادي بعد أن أقام العديد من الدول العربية علاقات متعددة الاوجه مع إسرائيل كما اشرنا آنفاً.
ولقد وجدت الهند ضالتها في اسرائيل اثر انهيار الاتحاد السوفياتي كبديل وكبوابة واسعة للانفتاح على الولايات المتحدة للحصول على المعونة التكنولوجية والمالية والسياسية لمخططاتها التوسعية الإمبراطورية. وهكذا مثلاً لم تقم الهند بأية خطوة تذكر في اتجاه إقامة علاقات مع السلطة الفلسطينية. وفي أثناء الزيارة الرسمية التي قام جاسواتت سينج, وزير الخارجية الهندي الى اسرائيل في شهر تموز-يوليو 2000 قضى الوزير بعض الوقت داخل الأراضي الفلسطينية من دون أن يتورط في أية تصريحات يمكن أن تغضب إلاسرائيليين واكتفى بالإشارة إلى اهتمام الهند بالقضية الفلسطينية تاريخياً, من دون الدخول في معترك الخلافات القائمة بين الجانبين على قضايا الحل النهائي[31].
إن العقود الماضية, وما طرحته من متغيرات إقليمية ودولية بالغة الأهمية, لم تكن لتأخذ قدراً كافياً من الاهتمام من قبل الأنظمة السياسية العربية, التي تخلت, وللأسف, عن اقتناص فرص هذه المتغيرات وتوظيفها لصالح الامن القومي العربي المشترك, وبدلاً من ذلك انشغلت بأزماتها الداخلية وصراعاتها الجانبية خصوصاً في أعقاب حرب الخليج الثانية وتداعياتها الخطيرة, التي عززت روح القطرية, وشجعت سياسات القمع الداخلية في كل قطر. وهكذا سجل عقد التسعينات أكبر انكشاف على مستوى الأمن القومي العربي أمام التحديات والأخطار الخارجية, وخصوصاً التحديات الصهيونية منها. ولا يخفى أن آرييل شارون كان قد أعلن عام 1982 عندما كان وزيراً للدفاع في حكومة مناحيم بيغن: “إذا كان علينا أن نشارك في تأمين منطقة الخليج ­كما تطلب واشنطن­ فإنه ينبغي أن يكون لنا نصيب في عائداتها النفطية”. و إذا كانت دائرة المجال الحيوي لاسرائيل حسبما حددها شارون نفسه في جلسة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست بتاريخ 21-12-1982 تمتد من باكستان وايران شرقاً الى ساحل المغرب في الأطلنطي غرباً, و من دول أسيا الوسطى الاسلامية شمالاً, حتى جنوب أفريقيا ومدخل البحر الأحمر جنوباً, فإن تالميز أحمد, المتحدث باسم الخارجية الهندية حدد دائرة المصالح الحيوية المباشرة لبلاده في أنها تمتد من منطقة الخليج غرباً مروراً بباكستان ووصولاً الى بنغلادش والنيبال شرقاً, وشدّد على أنها تشمل أيضاً شرق أفريقيا ومصر والجزيرة العربية غرباً مروراً بدول آسيا الوسطى ووصولاً الى جنوب شرق آسيا شرقاً[32], وبذلك نجد تطابقاً بين دوائر المجالات الجيوستراتيجية الحيوية والمصالح المشتركة لكل من الهند وإسرائيل.
ومن هنا نفهم مغزى اهتمام الهند بتطوير بحريتها باضافة حاملة طائرات جديدة, وقد علّل المسؤولون الهنود ذلك “بزيادة اعتماد الهند على نفط الخليج”. واذا ما وضع في الاعتبار ما يمكن أن يشكله التعاون النووي والمخابراتي والعسكري المتبادل بين الدولتين من إضافات استراتيجية لكل منهما, خصوصاً في مجال التجارب النووية ودمج الاستراتيجية النووية مع استراتيجية الهجوم التقليدية, فإنه يمكن استنتاج أن الهند أصبحت تشكل عمقاً جيوستراتيجياً حيوياً لاسرائيل تبرز خطورته أثناء الأزمات والصراعات المسلحة المحتمل أن تقع في منطقة الشرق الأوسط, الامر الذي يطرح علامات استفهام كبرى حول حجم الاخطار المحدقة بالأمن القومي العربي قطرياً و قومياً.
من هنا يتبيّن لنا أن العديد من المرتكزات الامنية والحضارية التي كان يتكئ عليها الأمن القومي العربي, قد بدأت تتفسخ أو تنهار, في حين استغلت إسرائيل المنافسة الهندية­الصينية على الزعامة الآسيوية والصراع الهندي الباكستاني على كشمير, وحرب التاميل في سريلانكا كقنوات تستطيع من خلالها تأكيد حضورها العسكري والأمني واللعب على كل الأطراف في منطقة جنوب شرق آسيا وتوجيه مجالات التعاون العلنية بالشكل الذي يخدم مخططاتها لبناء اسرائيل كبرى. وتعمل اسرائيل أيضاً على الاستفادة من الصين والهند معاً. وقد سبق لوزير الخارجية الإسرائيلية السابق دافيد ليفي أن أعلن أن العلاقات الصهيونية الصينية والصهيونية الهندية انما ترمي الى تجنيد الثقل السياسي لهذين البلدين في مصلحة المخططات الصهيونية من ناحية ولمراقبة حركة صفقات الأسلحة للعرب من ناحية اخرى. وقد استطاعت إسرائيل من خلال تعاونها العسكري مع الصين ان تجبر بكين على عدم التعاطي مع الطموحات الفلسطينية لاعلان دولة خاصة بالفلسطينيين, ومن هنا أبلغت بكين القيادة الفلسطينية بضرورة التوصل إلى اتفاق نهائي مع إسرائيل حول المسائل العالقة قبل الإعلان عن قيام الدولة[33]. وكذلك فعلت أيضاً الهند واليابان[34].

خلاصة واستنتاجات:
لاحظنا من خلال ما تقدم من محاور البحث في العلاقات الإسرائيلية الهندية, مدى الخطورة البالغة التي تنطوي عليها هذه العلاقات, كما لاحظنا مدى حيوية ونشاط الروح والعقل الانتهازي الصهيوني المتوثب لاستغلال الظروف والملابسات المحيطة بالتطورات الدولية خدمة لمصالح إسرائيل الحيوية في مشروعها التوسعي وفي توفير أفضل الشروط السياسية والاستراتيجية لهذا المشروع. وقد تمكنت السياسة الإسرائيلية من الإيحاء للدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية بأن دور إسرائيل وثقلها الاستراتيجيين في منع التغلغل الشيوعي سابقاً في المنطقة ما يزال قائماً ومستمراً ولكن هذه المرة في مواجهة التغلغل الإسلامي المناهض للعولمة الإمبريالية. وتؤكد اسرائيل أيضاً على أنها ما تزال الحليف القادر على الاضطلاع بمهمات استراتيجية بالغة الأهمية في كل من آسيا وافريقيا والشرق الاوسط, خصوصاً وأن المصلحة الاسرائيلية تكاد تتطابق مع مصلحة الولايات المتحدة في استهدافاتها الاستراتيجية الجديدة في عالم ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول, حيث سارعت إسرائيل الى توظيف تداعيات هذا الحدث لرفع وزنها الجيوستراتيجي في المنطقة بما يخدم مصالحها ومشاريعها ضد الشعب الفلسطيني أولا وضد العالمين العربي والإسلامي ثانياً, وللترويج لتماهيها مع الغرب في حضارته الديموقراطية ثالثاً. وفي هذا المجال يمكن الإشارة الى العديد من الخطوط الدعائية في الخطاب الإسرائيلي الذي يصف المقاومة الفلسطينية واللبنانية للإحتلال الإسرائيلي بانها “ارهاب” في حين ترتكب قوات الاحتلال الاسرائيلي أبشع المجازر والممارسات العنصرية من دون أن يكون هناك ثقل مضاد في الديبلوماسية والإعلام العربيين للرد على هذه الترهات والأباطيل.
ولاحظنا أنه في غياب المتابعة العربية المطلوبة, تواصل اسرائيل تطوير علاقاتها مع الدول البارزة ذات الثقل العالمي مثل الهند والصين وروسيا لمنعها من دعم القضايا العربية والإسلامية وتستغل الفوارق والإشكالات الدينية والأيديولوجية لإثارة حرب حضارات ضد العرب والمسلمين في العراق وفلسطين وفي باكستان وإيران, علماً بأن عدد اليهود في الهند مثلا لا يتجاوز الأربعين ألفا مقارنة مع عدد المسلمين الذي يصل الى الملايين. وقد تمكن الإسرائيليون من زرع الكراهية وعدم الإحترام للعرب والمسلمين في كل مكان ثبتوا نفوذهم فيه, تحت عناوين محاربة “الإرهاب” ومكافحة “الأصولية الإسلامية” التي حلّت محل الشيوعية في حملات التشويه والتحقير التي تشن ضدها.
وقد اجتمعت الهند واسرائيل في شن حملات تحريضية ضد الإسلام والمسلمين والزعم بأن الهندوس واليهود يتعرضون لحملات إبادة في فلسطين وكشمير في حين أن الدولتين تملكان ترسانتي أسلحة نووية وفوق تقليدية من شأنهما تعريض الدول المجاورة لهما لأكبر الأخطار, تحت عناوين نصرة الديموقراطية في وجه الديكتاتورية, فيما الهدف الحقيقي من هذا الحلف هو تشكيل فكي كماشة هندوسي ­ يهودي للإطباق على العالمين العربي والإسلامي على جميع الأصعدة الإقتصادية والعسكرية والأمنية والحضارية بإشراف ومباركة الراعي الأميركي, الذي يمثل رئيس مجلس إدارة هذا المشروع بأكمله.

 

[1] الحلف الدنس­ حامد محمد ­مجلس شؤون المسلمين في العالم­اسلام اباد باكستان ص 14.

[2] المصدر نفسه ص 16 .

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر السابق ص 17.

[5] المصدر نفسه.

[6] الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية لعام 1975 ­سلسلة­الكتاب السنوي القضية الفلسطينية 122 )بيروت مؤسسة الدراسات الفلسطينية 1978 ( ص 457.

[7] السياسات الدولية ­العدد 148­نيسان \ابربل 2002 ص 124.

[8] المصدر السابق.

[9] الغت الجمعية العامة قرارها المذكور بمبادرة الولايات المتحدة و بضغط منها تؤيدها 84 دولة ,و تغيب عن التصويت كل من مصر و البحرين و الكويت و المغرب و عمان و تونس و جيبوتي فيما صوت ضد القرار ,العراق و سوريا و لبنان و ليبيا و السعودية و الامارات و قطر ­انظر السفير 17-12-1991.

[10] الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية لعام 1975 ص 446- ­447.

[11] دراسات فلسطينية السنة 1929 العدد 1 -2001 ص 113 ­دور اسرائيل في دعم القدرة النووية الهندية ­ نظيرة محمود خطاب.

[12] مختارات اسرائيلية ­مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام ­العدد80 آب -اغسطس ­2001 ص75 ­منى عزت ­التعاون الهندي الاسرائيلي والوطن العربي.

[13] السياسة الدولية ­العدد 148 ص 125.

[14] حول السياسة الصينية في الحصول على التكنولوجيا المتقدمة ,انظرla chine a la recherche de la technologie "-problèmes politiques et sociaux (documentation francaise) no:537( mai 1986 p .30).

[15] المستقبل العربي العدد 275 كانون الثاني\يناير 2002 ص 106 و ما بعدها.

[16] العالم الاسلامي في الاستراتيجيات العالمية المعاصرة ­د.علاء طاهر­مركز الدراسات العربي الاوروبي ص107.

[17] المصدر السابق ص 651.

[18] السياسة الدولية السنة 29 ­ العدد 114 ت1 \ أوكتوبر 1993 ص 209 تطور العلاقات الهندية الاسرائيلية ­ هشام بدوي.

[19] الحياة 27-7-2000 ص 13 الهند تدير ظهرها للعرب ­علي محسن حميد.

[20] السياسة الدولية العدد 148 نيسان -ابريل -2002 ص 128 ­العلاقات الاسرائيلية الهندية و تداعيات 11 أيلول ­أحمد محمد طاهر.

[21] السفير 8-1-2002 .

[22] المصدر السابق .

[23] النهار 9-1-2002 .

[24] الشروق العدد 510 تاريخ 14­20 -1-2002 .

[25] المصدر السابق.

[26] السياسة الدولية السنة 36 العدد 142 مصدر سابق ص 241.

[27] المصدر السابق ص 244.

[28] المصدر السابق انظر ايضا الحلف الدنس, مصدر سابق ص 42 و ما بعدها ,و ايضا مجلة الارض العدد 11 \ ت2­نوفمبر-2000 ص 30.

[29] الحلف الدنس مصدر سابق ص 73.

[30] مختارات اسرائيلية مركز الدراسات السياسية و الاستراتيجية بالاهرام العدد 80 اب -اغسطس -2001 ص 75­التعاون الهندي الاسرائيلي و الوطن العربي­منى عزت.

[31] المصدر السابق.

[32] السياسة الدولية العدد 142 مصدر سابق ص245

[33] السياسة الدولية السنة 36 العدد 141 ص162 .

[34] المستقبل العربي العدد 275 ك2 يناير- 2002 ص 120 و ما بعدها.