مساحات

الحوار ...لغتنا الراقية
إعداد: الدكتور جورج شبلي

الكثير من المدركين يعي أن الشراكة الوطنية لا تُبنى على أساس المحاصصة الضيقة في إطار المكونات الطائفية والمذهبية في الوطن، وإنما على أساس المواطنة بمدلولاتها الثقافية والسياسية والقانونية، مما يعطي المواطن، أي مواطن، الحق المطلق في المشاركة الفاعلة في شؤون البلاد، بصرف النظر عن انتماءاته التقليدية.
من هنا، يبدو أن ترقّي مفهوم الشراكة الوطنية يكمن في الانتقال من مساحة الأرباح والمنافع التي يسعى كل فريق إلى وضع اليد عليها، إلى معادلة الحقوق والواجبات. وإذا ما تحقق هذا الأمر، يتسنى لكل الشرائح في النسيج الوطني العمل والتنافس للقيام بالواجبات الوطنية من جهة، والحصول على الحقوق المشروعة من جهة ثانية.
إن المدخل الآمن لإنجاز مفهوم الشراكة الوطنية هو تأصيل فكرة المواطنة بحمولتها الحقوقية والقانونية. أمّا الإشكالية التي تطرح نفسها في هذا المجال فهي: هل يمكن الانتقال من حالة التنوع والتعددية (الاختلاف والتشرذم) إلى حالة المواطنة الجامعة؟ هل تستطيع القيم الوطنية أن تصون الوحدة والعيش المشترك؟ هل بإمكان مشروع وطني أن يتجاوز الحساسيات والانقسام السياسي، ويرتفع فوق المزايدات الايديولوجية، ليحقق واقع الانتماء والولاء؟
إن المطلوب، لإزالة الرواسب التي عملت ولما تزل على تفسيخ المجتمع اللبناني وضعضعة البناء الوطني، هو الحوار الجدّي والمتواصل بين مكوّنات الوطن المتعددة. هذا الحوار الراقي الذي لا يتّجه إلى المساجلة بقدر ما يسعى إلى الفهم والتفاهم، ويؤسس لحالة من التلاقي وتنمية المشترك الوطني والاجتماعي والإنساني. فالحوار مع الآخر يهدف إلى توسيع المساحات المشتركة وفتح مجالات جديدة للعمل بما تقتضيه متطلّبات الوحدة الوطنية وشروط التقريب بين مكوّنات الوطن.
إن الوحدة هي خيارنا وهي ليست مجرد يافطة أو شعارًا فارغًا، بل هي رسالة ينبغي العمل على تجسيدها بالفعل في واقعنا. ويستحيل الوصول إلى هذه الحالة المتقدمة إلا بالحوار والتواصل. إنّ التجارب الماضية في موضوع الحوار، وعلى الرغم من فشلها على المستوى التنفيذي، ينبغي أن تحمّلنا مسؤولية اضافية على مستوى الإصرار على إنبات تجربة وطنية متميزة يُكتب لها النجاح. والنجاح الذي نشير اليه يقتضي:
أ- ضرورة وجود برنامج وطني ناضج يبلور خيار الوحدة الوطنية والعيش المشترك، ويعمّق قواعدهما في الوسط الاجتماعي عن طريق قوى وطنية اجتماعية متقاربة ترى في الوحدة الوطنية مشروع حاضرها ومستقبلها.
ب- ضرورة تبديل منطق النظر إلى الأمور والقضايا، بمعنى الابتعاد عن منطق التصادم والقطيعة، والعمل على تبنّي منطق سلمي موضوعي يعالج الشؤون الخلافية بوعي، بعيدًا من عقلية الإلغاء والتميّز.
ج- ضرورة التخلّي عن النظرة المسبقة الخاطئة التي يحملها الأطراف بعضهم عن بعض، والتي تشكّل عاملًا اساسيًا للتباعد والتناقض. وفي هذا المجال، ينبغي أن نختار وسائل ديموقراطية تجعلنا نرسم صورة واقعية صحيحة للآخرين، وغير مشوّهة.
د- الانخراط في مشروع الإصلاح الشامل، انطلاقًا من إصلاح مكوّنات الثقافة التي تحمل في داخلها عناصر سلبية وخلفيات تقيّد سعينا إلى التغيير، للوصول إلى الانخراط الجدّي في عملية النقلة النوعية من موروثاتنا وقناعاتنا التي ساهمت في القطيعة والتباعد.
وهذا يستوجب حوارًا نقديًا متوازنًا، لا نحمّل فيه الآخرين مسؤولية واقعنا الراهن، بل نشاركهم في هذه المسؤولية أيضًا.
إن الحوار هو السبيل الوحيد لإفشال كل المخططات الساعية إلى الفتنة والتجزئة. فغياب الحوار كاستراتيجية لتنظيم العلاقات بين مكوّنات الوطن يهدد الجميع بتشظيات حالة العنف المتبادل. والضرورة الحضارية تفرض علينا وعيًا لعملية الحوار، وسعيًا إلى تخطّي ما يعترض هذه المسيرة الوطنية التي ينتظرها الجميع.
ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ الجولات الماضية من الحوار قد حققت الكثير على الصعيد النظري. من هنا، فالخلل الحقيقي الذي يمكن أن يعترض هذه التجربة الوطنية، هو غياب البعد التنفيذي والتطبيقي لما يمكن أن يتوصل إليه الأطراف، أو لما تمّ الاتفاق عليه سابقًا. ففاعلية الحوار تتطلب البدء بعملية ترجمة الأفكار والتصورات التي يتمكن المتحاورون من انضاجها وبلورتها، وذلك عبر أطر ومؤسسات ومشاريع وبرامج وطنية تستهدف التطوير الدائم.
إن الانطلاق من قناعة مفادها أنّ المواطن يحتضن شعورًا وطنيًا صافيًا تجاه أرضه ودولته، يمكن أن يشكّل حافزًا اساسيًا لوجوب تمتّع أهل الشأن بإرادة الحوار الراقي البنّاء بهدف الوصول إلى حلول لا لبس فيها، تنقل الوطن إلى حالة القيامة المرجوة.