رحلة في الإنسان

الحياة من دون نزوات حلم...
إعداد: غريس فرح

لكن الأحلام تتحقق أحيانًا!

النزوات على العموم هي دوافع فطريّة تنبع من الميل إلى الحصول على مكافآت آنية تشبع رغباتنا، وتشعرنا بسعادة سرعان ما تزول، ليحلّ مكانها شعور شديد بالندم.
فالمكافآت التي نحصل عليها عن طريق تلبية الرغبات غير العقلانية، قد تلحق بنا أضرارًا جمّة، إن على الصعيد الصحي، أو النفسي أو المادي، فهي تحطّم حياتنا  كونها تحرمنا من فرصة التمهلّ بانتظار منافع مستقبلية كبيرة وطويلة الأمد. والسؤال المطروح: كيف نتخلّص من إلحاح رغباتنا، وما هي الطرق الممكن اتباعها من أجل ترسيخ الاستقرار الذي نحتاجه في حياتنا العصريّة؟

 

السعادة الآنية وتركيبة الدماغ
يرى الباحثون أن الإعتياد على تحصيل السعادة الآنية، وعدم التفكير بعواقبها، قد يعود إلى بدايات وجود الإنسان، وذلك لأسباب مختلفة أهمها، تأقلم دماغه البدائي وتطوّره وفق حاجات بيئته. وهذا يعني أن هذا السلوك المستهجن اليوم كان ضروريًا من أجل بقاء الجنس البشري، إلى حين بزوغ فجر الحضارات.
من أجل توضيح هذه النظريّة، راقب باحثون عمل أدمغة بعض الأشخاص عن طريق تقنيات تصوير حديثة، وذلك خلال شعورهم برغبة الحصول على أطعمة ضارة وضعت أمامهم. ونتيجة لذلك، تبيّن أن هذا الشعور قد تحرّك تلبية لأوامر منطقتين دماغيتين، إحداهما تتحكّم بالمشاعر والأحاسيس، والثانية تتلقى ومضات السعادة الناجمة عن المكافآت السريعة.
بالنسبة إلى القرارات العقلانيّة التي تقاوم الرغبات المتسرّعة، هي محصورة بعمل الجبهة الدماغية الأماميّة (pre frontal cortex)، وبمجموعة قواعد عصبيّة تنفيذيّة تسيّر عمل الذاكرة والإنتباه، والتحكم بالأمور الحياتيّة. وبما أن عمل هذه المناطق لم يتبلور إلاّ خلال عصور الحضارات، يصبح من البدهي القول، إن الرؤية المسبقة للخطأ والصواب وللنتائج المتأتية عن كليهما، لم تنضج إلاّ بعد تطوّر العقل وفق معطيات البيئة الحضارية.
اليوم تغيّرت الأمور بشكل ملحوظ بعدما شهد العقل تطوّرًا لافتًا. مع ذلك، وللأسف الشديد، بقيت النزوات الملازمة لتركيبة الدماغ البدائي، تتحكّم بحياة الإنسان، وتكدّر عيشه، والدلائل على ذلك كثيرة.

 

الإنسان وسلوكياته البدائية
إذا ما ألقينا نظرة على الناس في مطعم للمأكولات السريعة، يمكننا مراقبة ما يقومون به من ممارسات غير عقلانيّة. فهم يصرفون أموالهم على أطعمة تكسبهم أوزانًا زائدة وتضرّ بصحتهم وبشكلهم الخارجي.
والمعروف أن الرغبة في التهام ما يحلو لنا من طعام، وبكميات كبيرة، قد تجذرت في زمن شكلت فيه ندرة الموارد الغذائية تهديدًا للبقاء، حيث كان الإنسان يلتهم كلّ ما يصادفه أمامه مخافة الموت جوعًا.
اليوم تبدّلت المعطيات، فالطعام أصبح متوافرًا بكميات كبيرة، وبات الإنسان قادرًا على الفصل بين ما يضرّ به وما ينفعه. لذا فإن الشراهة العصرية التي تلازم الكثيرين أصبحت من ضمن السلوكيات المستهجنة التي تستوجب التصحيح.
والمعروف أن الإقدام على التهام الطعام غير الصحي، لا يعتبر الدليل الوحيد على ملازمة الرغبات البدائية لحياة الإنسان المعاصر. فتعاطي الكحول والمخدرات هو دليل آخر واضح على سيطرة النزوات. ولا ننسى التهور في السلوك، والإسراف في صرف المال من أجل شراء أمتعة غير ضروريّة، لكنها تغري الأبصار، وترضي الرغبات.

 

كيف نتحكّم بهذه الرغبات؟
إن الميل إلى الإستمتاع بما يرضي حواسنا يعتبر متأصلاً في جذورنا. لكن هذا الواقع لا يرغمنا كأشخاص عصريين على القيام بما يؤذينا. فالسلوكيات التي اعتبرت سابقًا ضروريّة للبقاء، أصبحت اليوم تهدد البقاء على أكثر من صعيد. لهذا السبب ينصحنا الإختصاصيون بمراقبة تصرّفنا من أجل تقويم ما يعتبر اليوم عملاً بدائيًا، وهذا لا يتمّ إلاّ عن طريق تحكيم العقل من أجل إعطائه فرصة الإختيار الصحيح. ويبقى السؤال: كيف نحكم العقل في شؤون حياتنا؟
إن تقييم الفرق الشاسع بين نتائج المكافآت الآنية وتلك المستقبليّة، يجعلنا نستخدم الوقت الكافي من أجل الترّوي، قبل تنفيذ أوامر الرغبات. وبهذا نعتاد تدريجًا على التمهلّ والتفكير قبل الإستسلام لمشيئة النزوات الطارئة.
في هذا السياق ينصحنا الإختصاصيّون باتباع الآتي:
- إذا كنت على وشك الدخول إلى مطعم للمأكولات السريعة، وتنوي التهام ما يحلو لك من طعام، تمهّل من خمس إلى عشر دقائق، وفكر مليًا بالوزن الزائد الذي سوف تكسبه وبالضرر الذي ستلحقه هذه المأكولات بصحتك.
- في حال شعورك بالرغبة الملحّة ولم يفلح معك الإنتظار، من الأفضل عدم المرور لاحقًا من أمام مصادر المأكولات غير الصحيّة، فهذا قد يكسبك المزيد من الوقت للتفكير.
- حاول أن تحصر تفكيرك بالفوائد المستقبليّة التي سوف تجنيها من جراء الإقلاع عن تنفيذ الرغبات الآنية، وتخيّل نتائج هذه الفوائد وكأنها في متناول يدك.
- إذا كنت ضعيف الإرادة ولا تتحلّى بالتفكير العقلاني، إبتعد عن مصادر وجود الكحول والمخدرات، وابتعد أيضًا عن رفقة السوء حتى لا تخضع للتجربة.
- راجع حساباتك جيدًا قبل الإقدام على شراء ما هو غير ضروري بناء لنزواتك.
- في حال عدم المقدرة على المقاومة، فكّر بحسابك المصرفي وتخيّل رصيدك وهو يرتفع ليؤمن مستقبلك، بدلاً من أن تغرقك نزواتك بالديون.
إن الرغبة في تحكيم العقل تعتبر قائمة لدى الجميع، لكن تطبيقها يحتاج إلى الكثير من الوعي والتعقل. وفي حال تجذّرت هاتان الميزتان في سلوك الإنسان المعاصر، فإن المجتمع البشري سيشهد بدون شكّ تغييرًا جذريًا.
فهل سيقدّر للإنسان أن يعيش في مجتمع خالٍ من العنف والكحول والمخدرات، أو من البدانة والأمراض والديون؟
إن القضاء على النزوات البدائية يعتبر حلمًا، لكن الأحلام تتحقق أحيانًا!