رحلة في الإنسان

الحياة من منظار المتقدمين بالسن
إعداد: غريس فرح

شعور بالاكتفاء واقتناص السعادة من اللحظة الحاضرة

 

من المعروف أن النظرة إلى النفس وإلى الحياة تسهم إلى حد كبير في صياغة المشاعر والميول وأنماط التفكير. والمعروف أيضاً أن هذه النظرة قد تتطوّر وتتبدّل عبر مراحل العمر، بتأثير التجارب وما يرافقها من ردّات فعل إدراكية متناقضة. من هنا، التغيير الذي يطاول مع الوقت إطار الشخصية، ليحيط كبار السن بهالة من الوضوح والإيجابية والاستقرار النفسي. وهذا التغيير الذي تتسبّب به انعكاسات الإدراك اللاواعي للمفاهيم الحياتية الثابتة، يحصل تدريجاً بشكل يؤمن لأصحاب العلاقة فرصة التأقلم مع الواقع الجديد بدون معاناة أو حرج.
فكيف يتأقلم الدماغ السليم مع الواقع في شتى مراحل العمر، وكيف يكتسب المعرفة الحسية التي تمكّنه من التشبّث بالواقع على حساب الأحلام والتوقعات؟

 

التواصل بين المراحل

تبين دراسة أجريت مؤخراً في جامعة ستراتفورد الأميركية، أن الشعور بالاكتفاء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالملاحظة الحسية لسرعة مرور الزمن، وبفقدان التواصل الملموس بين كل من المراحل الزمنية الماضية والحاضرة. وهذا مردّه إلى أن الإنسان عموماً يخطئ في تقييم أحاسيسه خلال المراحل الزمنية المرتبطة بالماضي، ويفشل في تحديد توقعاته المستقبلية، وذلك بسبب عجزه عن الاستفادة من وقع مشاعره تجاه الأحداث المنصرمة.
فالذاكرة البشرية، كما تؤكد الدكتورة ليندا كارستنسن، صاحبة هذه الدراسة، تعجز عن استعادة المشاعر المرتبطة بحادثة سابقة، حتى ولو تمكنت من تسجيل صور أحداثها بدقة ووضوح. بمعنى أن الذاكرة لا تتمكن من تسجيل دقائق الأفكار والأحاسيس الماضية بالدقة التي تسجل بها الصور، الأمر الذي يحدث فراغاً بين الحدث وبين كيفية التفاعل تجاهه في الذاكرة. لذا فعندما يتكرر هذا الحدث لاحقاً، فإن الانفعالات الآنية تجاهه، تكون بنفس حدة الانفعالات السابقة، لأن ذاكرتنا لا تكون قد حصّنتنا بالمناعة الكافية لمواجهة وقعه. وعندما يطلب منّا أن نتوقع ما قد نشعر به، في حال واجهنا الظروف نفسها في المستقبل، فإن أدمغتنا تعجز حتماً عن إمدادنا بالجواب الصحيح.
من هذا المنطلق، ومن خلال مواجهتنا المستمرة للأحداث والضغوطات، وبالتالي لتكرار ردات الفعل نفسها، يصبح بإمكان الدماغ أن يتأقلم مع امكانياته البيولوجية المتاحة، وفي مقدّمتها عجز الذاكرة عن دقة الربط بين الصور والمشاعر والتوقعات، ويتمكن بالتالي من تسجيل قناعات خاصة تصرف الفكر عن القلق تجاه المجهول، وتجعله يركز على شؤون اللحظة الحاضرة وما يتخللها من واقع ملموس. وهذا بالطبع يقود مع الوقت الى تنمية الفكر الايجابي.

 

المعركة مع السلبيات

اذا ما أخذنا بالاعتبار أن رحلة الاطمئنان تبدأ بملامسة الواقع عبر الفكر الإيجابي، يمكننا القول بأن هذه الرحلة قد تبكر أو تتأخر بحسب معطيات الفرد الإدراكية، وسرعة استيعابه لأبعادها. وهذا بالطبع يقرّره الوقت الذي تحتاج إليه العقول الشابة لإنهاء الصراع مع السلبيات، وفي مقدمتها القلق والخوف من المستقبل.
فالعقول الشابة التي تحتاج إلى الوقت لتتعرّف إلى حقيقة الفوارق الزمنية لجهة قياس المشاعر وما ينجم عنها من توقعات، تبقى متأرجحة بين السعادة الأمنية النابعة من لحظات المتعة، وبين اضطرابات القلق وسواه من المشاعر النابعة من الرهبة تجاه المستقبل. ولهذا الواقع ما يبرّره، فالدراسة المشار إليها، تؤكد أن الشبان تنقصهم قوة الملاحظة المستمدة من صور الذكريات. كما أن سيطرة قلقهم الدائم، تمنعهم من ملاحظة الوجه الإيجابي للأمور التي تغذي هذا القلق، وتؤمن تجاوزه وصولاً إلى الاطمئنان المنشود. على كل، فاختصاصيو علم النفس متفقون على أن الصراع المرحلي مع الأفكار السلبية، وخصوصاً القلق، هو جزء طبيعي من آلية النمو الفطرية.
فالعقل الشاب الذي يجذبه كل ما هو جديد وغير مألوف، هو عقل مغامر يسعى إلى اكتشاف المجهول رغم ما ينطوي عليه من خطورة، لأهداف تتعلق بالبقاء. والدافع الفطري الذي يجذب الشباب إلى المغامرة، هو نفسه الذي يسلحهم بالحذر والتوتر والقلق، لمواجهة مخاطر هذه المغامرة. من هنا معركتهم المرحلية مع السلبيات والتي غالباً ما تنتهي بالتأقلم مع ثوابت الحياة وقوانينها.


كيف ينخفض الشعور بالخطر؟

الأبحاث التي تطرّقت الى مشاعر المتقدمين بالسن، ممن تجاوزوا الأحاسيس السلبية، أكدت على أن هؤلاء، وخصوصاً ذوي العقل السليم، يكتسبون مع الوقت مناعة ضد الشعور بالقلق والخوف. وهذا يعود إلى إدراكهم المتنامي لضيق فسحة الحياة وقصر المسافة التي تفصلهم عن نهاية الرحلة على الأرض. وهذا ما يجعلهم يجدون السعادة بالتركيز على اللحظة الحاضرة.
فالمتقدم بالسن الذي يكون قد تجاوز مشاكل تأمين السكن والوظيفة وسواها من الحاجات الضرورية، وتمكّن من بناء علاقة عاطفية مستقرة، يفقد تدريجاً الشعور بالحذر ويبدأ بالاستفادة من إيجابيات الحياة التي لم يلاحظها من قبل. من هنا ميل المتقدمين بالسن المتنامي إلى الوعظ والإرشاد، وكأنهم بهذه الطريقة يردمون الهوة التي أبعدتهم في الماضي عن طريق الأمان والاستقرار.
والمعروف أن ذاكرة كبار السن البعيدة تقوى مع تقدّمهم بالعمر، في الوقت الذي تضعف فيه الذاكرة القصيرة نسبياً. وهذا يفسّر استمتاعهم اللافت بالتفاصيل الدقيقة المرافقة للأحداث الماضية. أما استمتاعهم بسرد هذه الذكريات، فينبع حسب رأي الاختصاصيين بالرغبة في التغلّب على العجز الإدراكي المتعلق بعمل الذاكرة لجهة فصل الصور عن المشاعر. لذا فهم يستعينون بالصور المخزنة في وعيهم، والخالية إلى حد ما من الانفعالات، لتصحيح الرؤية الحاضرة والمستقبلية للأمور وجعلها تتلاءم ورغباتهم الخفية.

 

علاقة الذكريات بتطوّر الحدس

يعتقد اختصاصيو علم النفس أن قوة ذاكرة كبار السن البعيدة، تسهم إلى حد كبير في تنمية قوة حدسهم، كما تزوّدهم بالحكمة. وهذا مردّه إلى أن الذاكرة التي تسجل الصور بمنأى عن الانفعالات الحسية، تزوّد أصحابها بمعلومات مجرّدة، تكون بمثابة نبع يغذي الرؤية المستقبلية، أو الحدس، كما تؤمن لكبار السن مناعة في وجه أسوأ المستجدات، ومن هنا تميّز أغلبيتهم بالرصانة والوقار والبعد عن الانفعال، بالإضافة إلى الشعور المتنافي بالاكتفاء.

 

معنى السعادة الحقيقية

على ذكر الشعور بالاكتفاء، لا بد من العودة إلى لب الواقع المتمثل بالتركيز على اللحظة الراهنة، وعلى السعادة النابعة من هذا التركيز بالذات.
فالسعادة التي تتأمن للشباب من خلال تفعيل حوافز الانتاج وتحقيق الأهداف وتنشئة الأطفال، تأخذ عند كبار السن منحى آخر يرتبط بنظرتهم إلى قصر أمد الحياة، والتي سبق وأشرنا إليها. وانطلاقاً من هذه النظرة، يحققون أشكالاً من السعادة المادية والمعنوية.
صحيح أن معظم كبار السن لا يتخلون عن الأهداف والطموحات والآمال، إلا أنهم يبدأون بإعطاء الأولوية لممارسة الهوايات وتبادل اللقاءات الودية ولقاء الأصدقاء، بالإضافة إلى العودة إلى النفس عن طريق استعادة الصفاء الروحاني وتحديد العلاقة بالخالق. وهي أمور تمنح السعادة، ويفتقدها الشباب في لجّة تحديد المصير والبحث عن المستقبل والهوية.

 

هل يتمكن الشباب من ردم هوة فارق الزمن؟

من هذا المنطلق، يطرح السؤال عن مقدرة الشباب المدركين لثوابت الحياة، على ردم الهوة الزمنية بينهم وبين الشيوخ، لتجاوز الشعور بالقلق، وصولاً إلى مرحلة الاستقرار النفسي.
ان اختصاصيي علم النفس الذين يرون أن قلق الشباب هو جزء من طبيعتهم الفطرية، يعتقدون أن تجاوز هذا الشعور لا يتحقق إلا من خلال تجاوز المراحل الحياتية غير المستقرة المستتبعة له. مع ذلك، فهم لا ينكرون أن تفهّم الشباب لحقيقة وضعهم، وبالتالي لمصدر قلقهم قد يساعدهم على اكتساب الثقة بأنفسهم، وبالتالي خوض معركتهم في وجه المصاعب في إطار من الإيجابية والتعقل. ولتحقيق ذلك يوصي الاختصاصيون بالتعرف إلى التالي:
* إن التركيز على معرفة مصدر القلق، يساعد على حلّ الأمور العالقة بوعي وروية.
* إن تحقيق الأهداف المستقبلية لا يلزم بالفرار من ملامسة الواقع. بمعنى أن السعي لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يتم على أرضية واقعية تجنّب المعنيين خوض الصراع مع المجهول.
* الإقرار بأن الإنسان لا يستطيع تحديد معنى السعادة، أو تحقيقها بالمطلق. لذا ينصح بالابتعاد عن الأوهام والتمسك بلحظات السعادة خلال كل مرحلة من العمر على حدة.
* العمل على تنمية الصداقات والعلاقات الحميمة التي تؤمن الدعم النفسي. وينصح بالمشاركة في المناسبات وممارسة الهوايات وتنمية المهارات الشخصية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تنمية المهارات واكتساب العلم يزيد من الثقة بالنفس ما يبعد شبح القلق.
* العمل على تسوية الأمور الحياتية والمشاكل العالقة تدريجاً، الأمر الذي يفسح بالمجال أمام التأقلم الطبيعي مع المستجدات.
* الاستماع إلى ارشادات كبار السن والأخذ بها، لما فيها من عبر مستمدة من التجارب.
* التركيز على واقع اللحظة الراهنة مع السعي لوضع الخطط المستقبلية؛ وينصح بممارسـة العبادات والرياضة الروحانية التي تقوّي التـركيز وتبـعد مشوّشات الفكر.

أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أنه بالرغم من الاختلاف الظاهر بين نظرتي الشباب وكبار السن إلى الحياة والسعادة، فإن جذور قناعاتهما المشتركة تبقى مرتبطة بواقع حياة لا يتغير، وإن تغيرت مراحل العمر.