العوافي يا وطن

الحُصن الأخير
إعداد: إلهام نصر تابت

يستجيب الجيش للأزمات المتلاحقة بأداء يتوقف عنده المسؤولون الأجانب بتقدير عالٍ ودهشة كبيرة، ومواقفهم في هذا السياق تتكرر كلما زاروا لبنان. داخليًا، واضح وجلي أنّ الجيش يمثل بالنسبة إلى المواطنين نقطة الضوء الوحيدة في النفق المظلم.

هذا الواقع الواضح الجلي يلقي على عاتق الجيش مسؤوليات مضاعفة لم يتهرّب في أي لحظة من تحمّلها. لكن على الرغم من ذلك، وربما لذلك، هو مضطر إلى دفع أثمان إضافية: محاولات متكررة لتطويقه ومحاصرته وتطويعه، وجعله على صورة المؤسسات المتحللة ومثالها، ومن دون أي اعتبار للثمن الذي يترتب على الوطن إذا تمّ لهم ما يريدون.

إنّها نتيجة الاهتراء والفساد والعجز في مختلف مفاصل هذا الوطن المنكوب. إنّها نتيجة ثقافة المصالح الخاصة والجشع اللامحدود. يصعُب على من أوصلوا البلد إلى ما نحن فيه أن يصدقوا أنّ في هذه الجمهورية البائسة مسؤولًا على غير صورتهم ومن خارج منظومتهم. لا بل يخشى هؤلاء نظافة الكف والمناقبية وحس المسؤولية الوطنية والاستعداد اللامتناهي للتضحية من أجل الوطن. هذه المصطلحات الغريبة عن قواميسهم هي القوت اليومي الذي يتزوده العسكريون، وهي أيضًا سبب المأساة التي يعيشها الشرفاء وسط معمعة الخراب على المستويات كلها.

كيف يحافظ الجيش على تماسكه وصموده وسط كل ما يجري؟

يتمسّك الجيش بإرث من المناقبية بنته دماء الشهداء على مر السنين. يستل من هذا الإرث أدوات المواجهة، ويبتكر وسائل للصمود. وتناضل قيادته بشراسة وشجاعة ضد كل محاولات استهدافه مدركة أنّ الجيش هو الحصن الأخير للوطن، وهي لن تسمح بانهياره.

وبينما يعلو ضجيج التكهنات والتحليلات حول طموحات سياسية لقائده، تُثبت الوقائع أنّ الهم الوحيد للعماد جوزاف عون هو الحفاظ على المؤسسة العسكرية، لتظل الحصن الذي يحمي الاستقرار في ظل الانقسامات والتناقضات التي تفتك بالوطن غير عابئة بما يحيط بكيانه من أخطار.

هَم العماد جوزاف عون هو أن تستطيع المؤسسة العسكرية الصمود والنهوض بحملها الثقيل، فتحافظ على استقرار باتت عناصر انفجاره في كل حي وشارع وسوبر ماركت بسبب ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية. التقارير الواردة إلى القيادة في هذا السياق مخيفة، وهي تحاول تنبيه المعنيين، لكن «الرعيان بوادي والقطعان بوادي»...

لا هم في اليرزة يتقدم على الهم الوطني، ولا طموح يتقدم على الوفاء بقسم ممهور بالدم، ولا حلم يتقدم على العمل لانتشال الوطن من هذا الدرك الرهيب.

في اليرزة عمل يبدأ قبل الفجر ولا ينتهي مع تقدّم الليل. عمل هدفه الحفاظ على قوة الصمود لدى العسكريين بعد أن باتت أبسط ضروريات الحياة ترفًا لا يتسع له راتب. اجتماعات متواصلة، واتصالات مكثفة بالسفراء والملحقين العسكريين وسواهم لتأمين المساعدة وتوفير أبسط المتطلبات للعسكريين. نعم هذا ما وصلنا إليه علمًا أنّ القيادة لم تترك وسيلة إلا واعتمدتها: أقصى درجات التقشف والتدبير، تخطيط يستبق الأمور، يرتقب الآتي ويتحسب لمواجهته بما أمكن. يساعف العسكريون عتادهم ليظل قيد الخدمة، يبتكرون حلولًا لمشكلات مستعصية في سلاحهم وآلياتهم، يصنعون كماماتهم والمعقمات التي يستعملونها والصابون الذي يغتسلون به، حتى الأراضي البور استصلحوها وزرعوها... لكن كل ذلك ما عاد كافيًا.

في ظل العجز الكامل في الدولة المنهوبة تسعى قيادة الجيش إلى الحصول على مساعدات تعين العسكريين على اجتياز الفترة العصيبة ليتمكنوا من النهوض بمسؤولياتهم. الأمن الاجتماعي للعسكريين من أبسط مقومات صمودهم في مواجهة الكم الهائل من المهمات والضغوط والمسؤوليات على امتداد الوطن وأزماته.

ما عاد خافيًا على أحد، الجيش بات مضطرًا لقبول المساعدات وليس العسكرية منها فحسب، وإنما أيضًا الغذائية. هذا ما يقلق قيادة الجيش، وهذا ما تسعى لمعالجته بالممكن، لتبقى قادرة على حماية الوطن من انفجار يقضي على ما تبقى من أمل في نهوضه. إذًا، فليطمئن الساعون إلى مناصب ومكاسب في هذا الوطن البائس، قيادة الجيش ليست في موضع المنافسة مع أحد إلا في مجال العمل لمصلحة لبنان.