قصة قصيرة

الخادمة
إعداد: العميد الركن إميل منذر

وصلتْ بسيّارتها إلى مكتب تأمين الخدم قبل الموعد بحوالى الساعة لأنها لم تعد قادرة على الانتظار في البيت أكثر. كفاها ما انتظرته ليصبح لها خادمة مثل التي لصاحبتها الستّ أولغا. أولغا هذه لن تتباهى أمامها بمقتنياتها بعد اليوم. صحيح أن سيّارة صديقتها أحدث طرازاً من سيّارتها، لكن غداً ستقنع زوجها بأن يبدّلها لها بأخرى جديدة. وصحيح أن هاتف أولغا الجوّال غالي الثمن وله مزايا كثيرة، إلا أن هاتفها يفي بالحاجة في الوقت الحاضر. وها هي اليوم تجيء بخادمة ستصحبها غداً إلى السوق ليراها كلّ الناس. لكنْ، هناك شيء واحد يضايقها جدّاً ويحزّ في نفسها كلّما خطر ببالها. إنه اسمها الذي رأت أن موضته قد بطلت. فيا ليت أبويها تركاها من دون اسم حتى تكبر؛ لكانت حينئذٍ اختارت أيّ اسم إلا أنيسة.
هكذا كانت أنيسة تفكّر وهي تنظر إلى الخارج شاردة الذهن. ولمّا التفتت إلى الساعة في معصمها تقطّب جبينها لرؤية العروق في يدها والتشقّق في رؤوس أظافرها. ولكن ما الهمّ؟ غداً تقوم عنها الخادمة بالطهو والجلي ومسح الأرض، وتنصرف هي إلى الاعتناء بأناقتها وجمالها! هذه الفكرة شغلت بالها؛ ففتحت حقيبة يدها، وأخرجت مرآة صغيرة نظرت فيها إلى شعرها المصبوغ بالأشقر وشفتيها المحشوّتين بالسيليكون؛ فتأكّد لها أن يد العطّار، مهما اجتهدت، لا يمكنها أن تصلح ما أفسده الدهر. وهذا الأنف المحدودب، آه منه! كيف ستقنع زوجها بأن يهبها مبلغاً لا يُستهان به من المال لإصلاحه وهو يعمل من الفجر إلى النجر، ويكاد لا يستطيع النهوض بأعباء العائلة!
وإنها لكذلك، دخلت السكرتيرة ووراءها صبيّة ضئيلة الجسم ضعيفة البنية حتى ليخالها الناظر إليها قصبةً يابسة لا حياة فيها. فستانها الطويل العتيق لا يُظهر من جسمها سوى يدَين من جلد رقيق وعظم نافر، ووجه نحيل ممسوح بالشحوب والحزن و... الصمت، وشعر مبعثر بلون حظّها من هذه الحياة.
- خادمتك سيّدتي. قال صاحب المكتب.
- هذه!؟ قالت المرأة بصوت خافت لم يذهب أبعد من شفتيها. ثم سحقت عقب سيجارتها المصبوغ بالأحمر على مهل في المنفضة وهي ترمق الفتاة بنظرة فاحصة من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق. ومن غير أن تقول كلمة نهضت من مقعدها. وتقدّمت بخطى بطيئة. وأمسكت ثوب الفتاة من ناحية الكتف برؤوس أصابعها. وأدارتها في مكانها. ثم رفعت يدها وهزّت رأسها مثل طبيب أيقن أن حالة مريضه لا شفاء منها.
هكذا رأيتهم يفعلون في الريف إذا أرادوا شراء دابّة أو عنزة أو بقرة. إنهم يفحصونها جيّداً ليتيقّنوا من أنها لا تلبط أو تنطح، وأنها تستحقّ ثمنها. لكن السيّدة أنيسة رأت أن لا لزوم لتتأكّد من أن هذه البائسة لا تلبط ولا تنطح قبل أن تشتريها. أرأيتم؟ ما زالت الخادمة في هذه البلاد موفورة الكرامة، وما زالت حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين بألف خير.
نقدت أنيسة الرجلَ المبلغَ المتّفق عليه. وقبل أن تخرج بخادمتها، دخلت فتاة من جنسيّة الخادمة، وشجّعتها بكلمات قالتها لها بلغة بلادها: «أختك تعمل منذ بضعة أشهر في أحد منازل الحيّ الذي يقع بيت هذه السيّدة فيه. ومن المؤكّد أنها ستُسَرّ بك كثيراً». ثم أعطتها العنوان مكتوباً على قصاصة من ورق.
فرحت الخادمة جدّاً بهذا الخبر. وعلّلت النفس برؤية أختها في وقت قريب؛ فانتعشت روحها التي كانت ميتة، وارتسمت البسمة في عينيها الحزينتين. فخرجت خلف السيّدة وهي تشدّ على الورقة تارةً بأصابعها، وتضغطها طوراً على صدرها. وعندما وصلتا إلى السيّارة وقفت الخادمة غير عارفة كيف تصعد؛ فهي لم تركب أيّ ذات عجلات في حياتها إلا مرّتين. المرّة الأولى أجلسوها في صندوق شاحنة صغيرة أقلّتها ورفيقات لها إلى أرض المطار. وفي المرّة الثانية نقلوها بسيّارة فخمة إلى منزل مخدوميها حيث عملت لمدّة شهر واحد قبل أن يعيدوها إلى المكتب. آه! إنها لا تريد أن تتذكّر. في ذلك اليوم ضربها ربّ المنزل ضرباً موجعاً. ثم ضربوها في المكتب وعذّبوها كثيراً، وأمروها أن تنسى أنها بشر. أمروها أن تكون خادمة، أن تكون حشرة لا تعصى أمراً ولا ترفع صوتاً. وما بين الحشرة والإنسان فارق عليها ألاّ تنساه.
في السيّارة سألت أنيسة الخادمة عن اسمها. لكنها لم تجب. كرّرت السؤال فأجابـت: what ,madam عندئذٍ أيقنت أنيسة أن خادمتها لا تعرف العربية. فكّرت طويلاً في صوغ الجملة بالانكليزية، وسألتها من جديد مستعينةً بإشارة يدها: your name? what…is?؛ فابتسمت الخادمة وأجابت:


- my name is chandy.
- what! chandy!... no chandy... sandy.
- no madam. i’m chandy.
- no chandy... sandy understand?    
- yes madam... sandy.    


منذ هذه اللحظة أدركت شاندي أنه عليها نسيان اسمها الذي أطلقه عليها أبواها. شاندي هو اسم تلك البنت التي كانت تلعب على ضفّة النهر في بلادها حيث يأتي الحجّاج بالآلاف في كلّ عام للتبرّك بمياهه المقدّسة. شاندي هي تلك الفتاة التي اغتُصبت عند مشارف القرية وهي تجمع الحطب في يوم ماطر، ثم أجبر أهلُ القرية الشابَّ على الزواج منها دفعاً للعار عنها قبل أن يطلّقها بعد سنتين ويهاجر. شاندي هي تلك الأمّ التي تركت طفلين مع أمّها الأرملة العجوز، وجاءت تعمل في بيوت الناس الغرباء لتجمع بعض المال ثم تعود فترسل ولديها إلى المدرسة، وتشتري لهما ملابس جديدة يفرحان بها.
أما أنيسة فكانت تفكّر في هذه الخادمة التي تعرف الانكليزية أحسن منها، وتعرف لغة قومها، وغداً تتعلّم العربية مثلها. يا لحماقتكِ يا أنيسة! قالت في سرّها. في ساعات اللغات الأجنبية كنتِ تهربين من الصفّ. ثم جهلتِ وتركتِ المدرسة قبل أن تنالي الشهادة المتوسّطة.
هذه الذكريات ما انفكّت تدور في رأس أنيسة، إلى أن وصلت، وأوقفت السيّارة، وترجّلت، وصاحت بالخادمة: هيّا انزلي. أم تريدينني أن أفتح الباب لكِ! لكن شاندي لم تعرف كيف تفتح؛ ففتحت أنيسة وهي تتمتم بغضب: لا أعرف متى سيصبح مثل هذا الشعب من صنف البشر.
- هدى... ريما... سعيد. تعالوا. نادت أنيسة؛ فحضر الأولاد في الحال، وتحلّقوا حول الخادمة ينظرون إليها، ويضحكون لسواد بشرتها وعتق فستانها. أما هي فابتسمت لهم ببراءة.
- وهل تستطيع هذه المسكينة أن تقوم بأيّ عمل! سأل مسعود زوج أنيسة كمَن يسأل نفسه، وأردف: إنها تكاد لضعفها أن تسقط على الأرض.
- لا تبدأ بالشفقة عليها من أوّل يوم. لا ينقصها شيء. إذا كانت تريد أن تعيش وتقبض أجرها، عليها أن تعمل.
- حسناً. أنتِ أردتِ خادمة وليس أنا. إنها لكِ. تصرّفي بها كما تشائين.
- تعالي، الحقي بي. قالت أنيسة، وسارت أمام الخادمة تدلّها على غرف البيت، وتتلو عليها لائحة الممنوعات والمسموحات، والخادمة لا تفهم شيئاً. وانتظرت أن تدلّها السيّدة على غرفتها، لكنها أُصيبت بالخيبة عندما علمت أنها ستنام في المطبخ، وأن مدّ الفراش ممنوع قبل الساعة الحادية عشرة، والنهوض يجب أن يكون قبل الساعة السادسة صباحاً. أما القيلولة فلا مكان لها في قاموس الزمن.
انصرفت شاندي إلى لا مكان. أما أنيسة فسارعت إلى التقاط التلفون وطلب رقم صديقتها أولغا. وعندما أجابت، دعتها إلى زيارتها واحتساء فنجان قهوة معها.
- لا أستطيع اليوم. ربما أتيت غداً صباحاً.
- لا، لا. اتركي كلّ شيء وتعالي. أريد أن أُريكِ شيئاً.
- ما هو؟
- الخادمة. لقد اشتريتها اليوم. قالت وعيناها تلمعان فرحاً.
- ماذا! مبروك، مبروك. وأخيراً حصلتِ عليها... سوف آتي وآكل «الحلْوَينة» بالتأكيد.
وما أقفلت الخطّ حتى بادرها زوجها إذ كان واقفاً يستمع: أقلتِ لصاحبتك إنك اشتريت خادمة! هل الخادمة سلعة تُشترى وتُباع يا امرأة!
- الكلّ يقول هكذا. وأنا أقول مثلما يقولون.
- هذه اللغة هي بنت ثقافة فاسدة تأصّلت فينا منذ زمن بعيد، وما زالت عقولنا المريضة لا تعرف سبيل الخلاص منها إلى اليوم.
- أوه! لا توجع رأسي وتكلّمني فلسفة. قالت بعصبيّة، وابتعدت. فعرف مسعود أن لا جدوى من البحث في هذا الموضوع.
ولم يَطل الوقت بعد ذلك كثيراً حتى أتت أولغا، ودخلت، وسلّمت، وجلست تتجاذب وصديقتها أطراف الحديث الذي دار كلّه حول الخدم وأفضل الوسائل للتعامل معهم. قالت أولغا: بعد طول تجربة وخبرة، أنصحك بألاّ ترحميها. حاسبيها على كلّ غلطة وهفوة. إنهن خبيثات ملعونات. إذا غضضتِ النظر عن الواحدة منهن مرّة، لن تستطيعي إعادة الأمور إلى نصابها من جديد. من أوّل الطريق كوني قاسية معها، ولا تسكتي عنها.
هزّت أنيسة رأسها علامةَ قبول النصيحة. ثم نادت الخادمة بصوت عالٍ؛ فأتت على الفور.
- أعدّي لنا فنجانَي قهوة.


- what?
- coffee يا حمارة coffee!
- yes madam.


وعادت السيّدتان لمتابعة الحديث؛ فقالت أولغا: بعد اليوم لن يكون لكِ عذر في التخلّف عن جلسات القهوة والتبصير ولعب الورق. صاحباتنا يفتقدنك كثيراً في هذه الأيّام.
- وأنا أفتقدهن أيضاً. أعدكِ بألاّ أترك جلسة تفوتني. ولكن...
- لكن ماذا؟
- هذه السيّارة الأثرية، كلما هممتُ بزيارتكن، اكتشفت فيها عطلاً يحول بيني وبينكن.
- آن لكِ أن تغيّريها. غداً نموت، ولن نأخذ معنا شيئاً.
- ليتني أستطيع إقناع زوجي العزيز بذلك. كلّما فاتحته بالموضوع هدّد بنقل الأولاد من المدرسة الخاصّة إلى مدرسة رسمية.
- غريب أمر هذا الرجل! كأنهم أولادك وحدك وليسوا أولاده أيضاً.
وكان أن دخلت شاندي بصينيّة القهوة، ووضعتها على المنضدة. وعندما همّت بسكب القهوة سقط قليل منها خارج الفنجان؛ فصاحت أنيسة بأعلى صوتها: «ماذا فعلتِ يا بلهاء! أين سكبتِ القهوة يا حمارة!». وبالرغم من أنها لم تفهم من الكلام شيئاً، فإن شاندي أيقنت أنها ارتكبت خطأ شنيعاً. وخافت أن تضربها السيّدة وتعيدها إلى المكتب. هناك سيضربونها أكثر. إنها لم تنسَ بعد تلك الصفعات واللطمات الموجعة. لذلك تركت القهوة، وحنت رأسها أمام السيّدة تستعطفها. لكن السيّدة صفعتها: «ابتعدي عني يا حمقاء»؛ فمضت إلى المطبخ تبكي بصمت.
- أحسنتِ صنيعاً. قالت أولغا. هذه الصفعة ستعلّمها أن تنتبه أكثر.
- لا أعرف كيف سأتحمّلها إن كانت ستبقى بهذا الغباء. أجابت أنيسة.
وكان المساء. فأوى الجميع إلى أسرّتهم في الغرف المكيّفة. وارتمت شاندي على فراشها العتيق في المطبخ منهوكة القوى. كانت الحرارة مرتفعة جدّاً. لكن شاندي محظور عليها أن تفتح الباب لاستقبال نسمة هواء. السيّدة أوصتها بإقفاله لئلاّ تدخل الفئران والحشرات. وهكذا أمضت هزيعاً من الليل ساهرة لا تستطيع النوم. ولمّا أثقل النعاس أجفانها وكادت أن تغمض، سمعت من غرفة نوم الأولاد سعالاً حادّاً سرعان ما اشتدّ وأصبح متواصلاً. فقامت ودخلت الغرفة لتجد سعيداً يكاد أن يختنق. أجلسته، ثم سقته كوب ماء فارتاح. إنه بعمر ولديها اللذين لم تعد تعرف كيف ينامان وماذا يأكلان. لكن لا بأس. ها هي تتحمّل التعب والسهر والإهانات من أجلهما، وتعلّل النفس برؤيتهما في يوم قريب. وما كان يمنحها القوّة والقدرة على الصمود هو تلك الورقة التي أعطتها إيّاها ابنة بلدها في المكتب. غداً هو يوم الأحد. ستخرج وتبحث عن أختها حتى تلتقيها وتعانقها، وتقول لها إنها اشتاقت إليها كثيراً.
وكان الأحد يوماً جميلاً أشرقت فيه الشمس باكراً؛ فاستيقظت العائلة، وراح كلّ فرد منها يعدّ ما عليه إعداده للخروج في نزهة بين أحضان الطبيعة. ومثلهم فعلت شاندي. لقد ارتدت الفستان الجديد الوحيد الذي تملكه. وسرّحت شعرها وربطته بشريطة حمراء. وصبغت بالأحمر شفتيها. ثم جاءت تستأذن السيّدة بالخروج.
- ماذا! أتريدين أن تخرجي!
- إنه يوم أحد سيّدتي.
- يوم أحد أو غير أحد. الخروج من البيت ممنوع، أفهمتِ؟ هيّا اذهبي وبدّلي هذا الفستان القبيح، وأزيلي هذه الدهون عن شفتيكِ.
- حاضر مدام.
هكذا أجابت شاندي، وانصرفت من أمام سيّدتها. وأخذت تبدّل ملابسها، وتمسح بظاهر يدها الدموع المنسابة على خدّيها.
وحضر مسعود لسماعه صياح زوجته. وعندما سألها عن سبب صياحها قالت بعصبيّة: خادمتنا العزيزة تريد أن تخرج.
- وما في الأمر! دعيها تخرج.
- أدعها تخرج! هل جُننت؟ وما أدرانا إلى أين تخرج، ومَن تصادف، ومع مَن تتكلّم، وماذا تفعل.
- هي حرّة. أليست بشراً! لتذهبْ إلى حيث تشاء، وتكلّمْ مَن تشاء.
- أجل. وبعد بضعة أسابيع يبدأ بطنها بالانتفاخ. ثم... تلد مسخاً صغيراً أسود يشبهها. أستساعدها غداً في اختيار اسم له بينما أقوم أنا بخدمتها؟
- دعيها تخرج برفقتنا إذاً.
- وأين يجلس ماكس! أتحمله أنت، أم نضعه في صندوق السيّارة؟
- إنكِ تعقّدين الأمور أكثر من اللازم.
- إسمع يا زوجي العزيز. لا تتدخّل في أمور تعنيني أنا. إن شفقتك عليها لتزيدها طمعاً بنا. دعني أتصرّف أنا معها، ولا تملي عليّ ما يجب أن أفعله أو لا أفعله.
- حسناً، دعينا لا نفسد هذا اليوم الجميل بالشجار... هيّا لنخرج.
وخرجوا. وقبل أن ينحدروا إلى المرأب، تذكّرت أنيسة أنهم نسوا الكلب في البيت؛ فقالت مبغوتة: أين ماكس؟ لكن ماكس الذي نسوه لم ينسَ أن اليوم أحد. فما إن خرجت العائلة حتى أسرع إلى الباب الموصد، وأخذ يقفز وينبح حتى فُتح له، فأخذته أنيسة بين يديها، وضمّته إلى صدرها وقبّلته: «يا حبيبي. كيف كنا لنخرج وأنت محبوس هنا!».
- يا ليتكِ تدلّلينني كما تدلّلين ماكس يا عزيزتي. قال مسعود.
- أنت كبرت على مثل هذه الحركات. أما ماكس، ليته يقبرني، فما زال صغيراً.
وقبل أن تخرج، تذكّرت أنيسة أنها لم توصِ الخادمة بغسل الثياب. لذلك نادتها، وعلّمتها كيف تضع المسحوق، وكيف تضبط درجة الحرارة، وتختار طريقة الغسل، وتشغّل الغسّالة. وقبل أن تفتح شاندي فمها بسؤال، أوصتها السيّدة بمسح الأرض، وجلي الصحون، وإزالة الغبار. ثم خرجت على عجل، وأقفلت الباب بالمفتاح.
في ذلك اليوم بكت شاندي كثيراً. وانتظرت على الشرفة طويلاً لعلّ أختها تمرّ على الطريق فتراها وتناديها وتكلّمها ولو من بعيد. آه! ها هي أختها بفستان جديد تسير بين رفيقات لها تحدّثهن ويحدّثنها. لا شكّ في أنهن ماضيات إلى السوق حيث سيأكلن ويشربن ويمرحن. إذ ذاك خفق قلب شاندي بشدّة بين ضلوعها. رفعت يدها ووقفت على رؤوس أصابع قدميها، ونادت: «آشنا، آشنا. أنا هنا يا أختي». لقد نادت أكثر من مرّة. وفي كلّ مرّة كانت ترفع صوتها أكثر. لكن آشنا مضت وتوارت خلف الأبنية، ولم تسمع. عندئذٍ هبطت شاندي على الأرض في مكانها، وبكت بكاء مرّاً.
مالت شمس ذلك اليوم إلى المغيب، وراحت تسحب وشاحها الورديّ عن التلال والسفوح شيئاً فشيئاً. وعادت العائلة إلى المنزل. ولمّا أدخل مسعود المفتاح في القفل ورأى الباب موصداً، تقطّب جبينه، ونظر إلى زوجته، لكنه لم ينبس ببنت شَفة. وعندما دخلوا وجدوا شاندي جالسة على الأرض مكوّمة على نفسها ترتجف. ولمّا سألها مسعود عمّا بها، رفعت بصرها إليه وأخذت تبكي أكثر كأنها تستعطفه وترجوه أن يردّ غضب زوجته عنها.
- قولي ما بكِ يا ساندي. قال مسعود. فوقفت ومشت باتّجاه الحمّام؛ فتبعتها أنيسة لتُصعَق برؤية زرّ تشغيل غسّالتها الجديدة منزوعاً من مكانه.
- يا إلهي! صاحت أنيسة. ماذا فعلتِ يا غبيّة! ماذا فعلتِ يا عديمة الفهم! لم ننتهِ من دفع أقساطها بعد.
هكذا كانت أنيسة تصرخ وتشدّ الخادمة من شعرها وتصفعها وتركلها بقدمها، وشاندي تبكي ولا ترفع يداً تتّقي الضربات بها لأنها أحسّت بذنب عليها أن تكفّر عنه.
وتبع مسعود زوجته على عجل. وكفّ يدها عن الخادمة التي انسلّت من بينهما وابتعدت.
- حرام عليكِ يا امرأة. كنتِ تضربينها من غير وعي. قال مسعود.
- أريد أن أكسر رأسها وأقبرها أيضاً... غبيّة. لا تضع يدها على شيء ويبقى سالماً من الأذى.
- الحقّ عليكِ أنتِ.
- عليّ أنا! كيف تقول مثل هذا الكلام على مسمعها!
- هذه امرأة لا تعرف شيئاً، وأنتِ لم تعلّميها. إذا كنتِ تعتقدين أنها استعملت غسّالة أوتوماتيكية أو micro wave أو أيّ أداة من أدوات هذه الحضارة اللعينة من قبل، فأنتِ مخطئة. هذه الخادمة آتية من بلاد يعمل الملايين من أبنائها طيلة النهار لقاء صحن طعام ورغيف خبز. هذه المرأة التي ضربتِها لأنها كسرت زرّ تشغيل الغسّالة، تغسل الثياب في النهر، وتستحمّ كما كلّ الناس في قريتها بمياه النهر، وتطبخ الطعام على موقد الحطب، و...
- كفى، كفى. إنك تشفق عليها وهي لا تستحقّ الشفقة.
- أتعرفين ماذا فعلتْ بلوح الشوكولا الذي أعطيتها إيّاه بالأمس؟
- وأعطيتها شوكولا أيضاً!
- أخذته بتردّد. وراحت تقلّبه بين يديها وتنظر إليه غير عارفة كيف تفتحه.
- آخ منك، آخ. بتصرّفاتك هذه تكبّر رأسها، وتجعلني أفشل معها.
ومرّت الأيّام وتوالت الشهور. وتعلّمت شاندي العربية كما تعلّمت أشياء كثيرة لم تكن تعرفها من قبل. لكن بقي محظوراً عليها الخروج من هذا البيت السجن. لقد صارت تكره يوم الأحد، لأنها في مثل هذا اليوم من كلّ أسبوع كانت تخرج إلى الشرفة العالية، وتبصر أختها مارّة على الطريق بصحبة رفيقاتها، وتناديها من غير أن تسمع أو تلتفت. لكنها في مثل هذا اليوم، في المقابل، كانت تستطيع أن تخلو إلى نفسها، وتفكّر في ولدَيها وأمّها العجوز، وتبكي من غير أن يسمعها أحد أو يراها أحد.
واستمرّت شاندي تعمل بصبر وجلَد، حتى كان يوم طفح فيه الكيل، وقصمت القشّة ظهر البعير. في ذلك اليوم خرج مسعود باكراً إلى عمله. وذهب الأولاد إلى المدرسة. وغادرت أنيسة للانضمام إلى جلسة نسائية صباحية عند صديقتها أولغا؛ فأدارت شاندي التلفاز. وأخذت تقلّب الأقنية إلى أن سمعت نبأ انقبض له قلبها. ثم شاهدت صوراً مروّعة لقرى برمّتها ضربها الزلزال وقلبها رأساً على عقب قبل أن تجتاحها أمواج التسونامي، وتجرف الأحياء والأموات إلى أعماق المحيط. وعندما أيقنت أن قريتها الساحلية تقع في المنطقة المنكوبة، سقطت على ركبتَيها، وراحت تلطم رأسها بكلتا يديها وتبكي.
وعادت أنيسة بعد ساعات إلى البيت؛ فرأت الخادمة بحال يُرثى لها. ولمّا سألتها عمّا بها، أكبّت شاندي على يديها تقبّلهما وترجوها أن تسمح لها بالاتّصال ببلدها هذه المرّة.
- أتعرفين كم هي كلفة الاتّصال ببلدك؟
- إحسميها من أجري. احسمي أجر الشهر كلّه، لكن دعيني أتّصل أرجوك. هؤلاء أهلي، ولداي، أمّي وأقربائي. يا إلهي! مَن يدري ماذا حلّ بهم!
- أتعتقدين أن شبكة الاتّصالات ما زالت سالمة حتى تتّصلي!
- إذاً دعيني أذهب إلى السفارة فأسأل هناك.
- غداً آخذك أنا. الطقس اليوم عاصف، وسيّارتي لا أستطيع أن أقودها في مثل هذا الطقس.
- دعيني أذهب لوحدي. سأتدبّر أمري.
- لوحدك لا.
- أطرديني؛ فأنا لم أعد أستطيع أن أصبر أكثر وأحمل أكثر. لم أعد أريد أن أعمل في هذا البيت. يا ليتني أموت لأرتاح من هذه الحياة.
- أتجرؤين على رفع صوتك بوجهي يا حقيرة! حسناً. سأردّك غداً إلى المكتب؛ فأنا أيضاً لم أعد أريدك عندي.
المكتب... كلمة وقعت كالصاعقة على رأس شاندي. لا، لن تعود إلى هناك. الليلة ستهرب، وتبحث عن أختها آشنا، وتذهب وإيّاها عند الصباح إلى السفارة. لذلك، وعندما أسدل الليل ستائره في تلك الليلة الماطرة وخلد الجميع إلى النوم، أعدّت العدّة. وخرجت إلى الشرفة. وأقفلت الباب بهدوء خلفها.
إنقضى الليل، والمطر لم ينقطع والعاصفة لم تستكن. وعندما لاحت بشائر الفجر، كان عند أسفل البناء العالي جمهرة من الناس تحلّقوا حول جثّة هامدة، إلى جانبها شرشف مقطوع من آخر ما زال مربوطًا بحديد الشرفة والريح تضربه بكلّ اتّجاه.