من التاريخ

الخليفة المهدي
إعداد: العقيد الركن أنطوان الفتى

وأثر ثورته في تاريخ السودان الحديث

 

تركت الثورة المهديّة أثرًا بالغًا في التاريخ الحديث للسودان. وهذه الثورة التي نشبت في العام 1881 ودامت 17 عامًا، عرفت باسم قائدها الخليفة المهدي. فمن هو هذا الخليفة، وما هي أسباب ثورته؟    

 

الخليفة محمد أحمد  بن عبدالله المهدي
ولد محمد أحمد بن عبدالله في 12 آب 1844 في جزيرة لبب شمال السودان. تحدّر من أسرة احترفت صناعة المراكب، وهاجرت في العام 1850 إلى الجنوب هربًا من ضرائب الحكم التركي، وبحثًا عن الأخشاب التي شحّت في منطقة سكنها. وقد استقرّت في نهاية الأمر في منطقة كرري شمال مدينة أم درمان حيث استعادت نشاطها في صناعة المراكب.
تميّزت شخصية محمد أحمد المهدي بالعناد والتصميم، والاندفاع. كما تميّز مظهره الخارجي بالقوة والجاذبية. فقد كان قوي البنية ذا ابتسامة عذبة، أسلوبه في الحديث سلس، لدرجة أنه كان يسلب عقول من يسمعون خطبه، وكان صوفيًا زاهدًا يحبه الناس.
منذ نعومة أظافره، أظهر محمد أحمد شغفًا مبكرًا ونبوغًا في تلقّي العلم والتبحّر في علوم الزهد والتصوّف، وشجّعه على ذلك شقيقاه. التحق بخلوات عديدة، منها خلوة الشيخ الفقيه الهاشمي، فحفظ القرآن الكريم وهو في سن مبكرة, ومن ثم انتقل إلى خلوة الشيخ الأمين الصويلحي حيث أصاب قدرًا من العلوم الشرعية. كذلك التحق بالطريقة السمانية وتتلمذ على الشيخ محمد شريف نور الدائم في العام 1871، وانصرف إلى حياة الزهد في جزيرة «أبا»، حيث تزوج فاطمة ابنة عمّه، وأسس مسجدًا وخلوة لتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم الفقه والعلوم الإسلامية. وقد اشتهر بين سكان المنطقة بالاستقامة والورع، فتوافدت إليه القبائل العربية الإسلامية من منطقة النيل الأبيض، كقبائل دغيم وكنانة والكواهلة والهبانية والحسانية.
بدأ المهدي بإظهار امتعاضه من الأحوال في السودان من حيث الفساد المتفشي في الحكم، ومظاهر البعد عن الدين، والمجاهرة بالمعاصي في المجتمع، ودعا الناس إلى الزهد والتمسك بالدين والبعد عن الرذيلة. فذاع صيته واجتمع حوله عدد من الأتباع، وصار كهفه في جزيرة «أبا» مزارًا لطالبي الوعظ والبركات.
اعتقد المهدي أن الله عز وجل كلّفه، عبر أوامر إلهيّة ورؤية نبويّة أتته في المنام، القيام بالثورة المهديّة. ففي العام 1881 أصدر منشوره الشهير «منشور الدعوة» الذي شرح فيه دعوته وتكليفه بالقيام بالثورة. وفي شهر حزيران من السنة نفسها، أمّ دارته في جزيرة «أبا» أصحابه من الفقهاء والأعيان ورجال الدين وتمّت مبايعته إمامًا مهديًّا.

 

أسباب قيام الثورة المهديّة
 هناك العديد من الأسباب التي عجلت في قيام الثورة المهديّة في السودان، وأبرزها:
- أعمال العنف التي صاحبت الحكم التركي، ومنها أعمال القتل والتخريب التي قام بها الحاكم محمد بك الدفتردار ضدّ العديد من القبائل.
- الضرائب الباهظة التي أنهكت كاهل المواطن السوداني، وقد استخدمت القوّة في تحصيل هذه الضرائب، مما ولّد حالة من السخط وسط المجموعات السودانية ضد الحكم التركي.
- محاولة الحكومة التركيّة القضاء على تجارة الرقيق، الأمر الذى أدى إلى توجيه ضربة موجعة إلى مورد الثروة الأساسي الذي قام عليه الاقتصاد المنزلي والزراعي في السودان في تلك الفترة.
- سياسة الخداع التي انتهجتها الحكومة التركية تجاه القبائل العربية، مما أثار حفيظتها ونقمتها على سياسة التفريق المعتمدة.

 

جيش المهديّة
تكوّن جيش المهديّة من القبائل العربية الإسلاميّة من منطقة النيل الأبيض وكردفان التي أيّدت دعوة الخليفة المهدي وبايعته، وأهمها قبائل دغيم وكنانة والكواهلة والهبانية والحسانية.
شكّل «الربع» الوحدة القتالية الأساسية المتكاملة في جيش المهديّة. وكان تعداد أفراده غير ثابت، لكنّه لا يقلّ عن ثمانمائة مقاتل، وقد يصل العدد إلى بضعة آلاف، مثل «ربع الملازميّة» في مدينة أم درمان، والذي يعتبر من أكثر الوحدات تنظيمًا (ما بين 800 و1200 مقاتل).
يتكون الربع من الوحدات القتالية الآتي ذكرها: الحرّابة، البنادقة، الخيّالة، والفرق الخاصة (الجهاديّة والملازميّة).

 

• الحرّابة:
هم حمَلة السلاح الأبيض وقوة الاقتحام الرئيسة، ويتم تقسيمهم على الرايات حسب القبائل أو فروع القبائل، أما تعداد الرايات فيتفاوت بحسب مقدرة كل أمير على حشد الرجال.
يقود الراية أمير، ويتم تقسيمها عندما تكون كبيرة إلى مئات، حيث يقود كل منها «مئة رأس». وتقسّم المئات إلى «مقدميّات»، على رأس كل منها مقدّم، وتتكون «المقدميّة» من 25 رجلاً. أمّا سلاح مقاتلي الراية فهو عبارة عن سيف وحربة طويلة وأربعة حراب قصيرة لكل منهم.

 

• البنادقة:
يُعتبرون قوة النيران الرئيسة، تقسيمهم مشابه لتقسيم الحرّابة، ويعتمد تسليحهم على بنادق الرمنغتون.

 

• الخيّالة:
غالبية الخيّالة من عرب «البقارة»، وقد اعتمد الخليفة المهدي على استيراد الخيول من منطقة دارفور، وخصّص عددًا من الفرسان لكل «ربع»، أوكل إليهم مهمة الاستطلاع البعيد والعمليات التصادمية أثناء المعارك.
ولكي يكون المقاتل خيّالًا، كان عليه أن يتمتع بالشجاعة وبالقدرة المادية لشراء فرس، لذلك لم يكن عدد الخيّالة ثابتًا. يتسلّح الفارس بحربة طويلة وسيف يتقلّده على جنبه الأيسر، وإذا كان في مهمة استطلاعية، يتمّ تسليحه ببندقية وسبعة أحزمة ذخيرة، أما هندام الفرسان فهو العمائم الحمراء والحزام الأحمر.

 

• الفرق الخاصة:
تضم هذه الفرق الجهادية والملازمية وتشبه إلى حدّ كبير قوات الإنكشارية في السلطنة العثمانية، وهي أشبه بالقوات البوليسيّة منها بالقوات العسكرية. وقد عدّل تنظيم الملازمية بحيث أصبح قسم منها قوة ضاربة، وشكّل الحرس الخاص القسم الآخر. ومثلما كانت الإنكشارية الدعامة الأساسية لقيام الدولة العثمانية والعامل الأساسي في سقوطها بعد ذلك، كانت القوات الجهادية أيضًا العامل الأهم في تثبيت دعائم المهديّة وفي جمع الضرائب لمصلحتها، لكنها كانت أيضًا سبب انهيارها من الداخل.


• قوات الملازمية:
كانت قوات الملازمية الحرس الخاص للخليفة عبدالله وقد أوكل أمر تلك القوات إلى ابنه عثمان شيخ الدين. وعندما ارتفعت أعداد عناصرها بصورة كبيرة، أنشئ لهم بيت مال خاص ومخزن خاص لأسلحتهم، لضمان ولائهم. ويشار هنا إلى أن قوات الملازمية كانت تضم أبناء القبائل الخالصة الولاء للخليفة عبدالله، وهي بذلك تختلف اختلافًا كبيرًا عن الرايات التي كانت كل واحدة منها تتبع لقبيلة محددة.
مع تزايد شأن قوات الملازمية، عمل الخليفة عبد الله على جعل قسم منها قوة ضاربة وسريعة ورئيسة في الجيش، وفصل عنها حرسه الخاص الذي أصبح تحت قيادته المباشرة.
 وقد تكوّن هذا الحرس من ألفي مقاتل مسلّحين بالبنادق ومقسمين إلى ربعين.
الربع الأول هو «ربع الإمداد»، وسلاحه بنادق الرمنغتون، أما الربع الثاني فقد ضمّ:
- الخشخشان: يحملون بنادق صيد الأفيال وكانت تسمى ربع مدفع، ويلبسون صدرية فوق الجبة.
- المشمراتية: هم مقاتلون طوال القامة يمتازون بضخامة الجسم، ويتم اختيارهم بدقة، ويتجمعون في رايتين مسلّحتين بالحراب الطويلة، ويلبسون الجبة وقد رفعت سراويلهم إلى ما فوق الركبة، ولا يلبسون عمة بل طاقية ضخمة ذات قرنين.
- البلطجية: سميت كذلك لأنّ سلاح أفرادها هو بلطة ضخمة. وهي تتألف من عدة مقدميّات.
 
 

التكتيك العسكري وكيفية استثماره في المعارك
اتصف التكتيك العسكري الذي اتبعه المهدي بالمرونة والتكيف مع ظروف المعركة وعناصرها (المحيط، العدو، قوات الصديق...). ففي حين اعتمد التكتيك الهجومي والالتحام السريع القائم على عنصر المفاجأة في معاركه الأولى، انتقل إلى تكتيك من نوع آخر وهو «تقنيّة الحصار» في معاركه اللاحقة. من هنا سنأتي على ذكر معركتين تظهران بشكل واضح كيفية استفادته من الظروف لتحقيق الانتصار.
 

معركة «قدير» 9 كانون الأول 1881
قُدّر عدد قوات المهدي في هذه المعركة بحوالى 8000 مقاتل، سار بهم من جزيرة «أبا» (المقر الاساسي للجيش المهدي) باتجاه منطقة «قدير». وعندما وصلته معلومات استخباراتية عن تحرّك القوات الحكومية (كانت السودان كما مصر تحت حكم الخديوي اسماعيل) إلى المنطقة نفسها، كمن في غابة تشكل ممرًّا إلزاميًّا لهذه القوات، ونشر جيشه على شكل مربّع يتوسطه المشاة، فيما الخيّالة على الجوانب. وباعتماد المفاجأة والسرعة والالتحام السريع، قدّر له النصر. وعلى الرغم من أنّ قوات الخصم كانت مجهّزة بالأسلحة النارية، إلّا أنّها لم تتمكّن من استعمالها.
 

حصار مدينة الخرطوم وسقوطها (26 كانون الثاني 1885)
ضرب المهدي حصارًا شديدًا على الخرطوم لمدة ستة أيام، ومن ثلاث جهات، وقد اعتمد على قوات الجهاديّة والأسلحة النارية التي غنمها من القوات الحكومية. وعلى الرغم من التحصينات التي كانت تحمي المدينة (خنادق مائية وأسلاك حديدية مسنّنة) واستبسال الجنود (حوالى 20 ألف)، الذين حاربوا بقوة وشجاعة، سقطت الخرطوم بسبب الحصار المحكم الذي منع وصول المؤن. وفي فجر 26 كانون الثاني، شنت قوات المهدي، المقدّرة بـ40 ألف مقاتل، هجومًا من جهة النيل الأبيض وتمكنت من اختراق الدفاعات وفتح ثغرة صغيرة عبرت من خلالها إلى مقر قائد الحامية وقتلته.
 

نهاية الثورة المهديّة
في صبيحة 2 أيلول 1898 وقعت معركة بين الجيش المهدي والقوات البريطانية تساندها قوات مصرية، وذلك في مدينة كرري شمال أم درمان عاصمة الدولة المهديّة. كان قوام القوات المهديّة حوالى 60 الف جندى، وتعداد الجيش الإنكليزي - المصري حوالى 6 آلاف جندي مسلّحين بالمدافع الرشاشة الأوتوماتكيية الحديثة، تدعمهم البواخر الحربية. بدأت المعركة في الساعة السادسة صباحًا وشن جيش المهديّة هجومًا شاملًا على القوات المحتلّة من دون أن يتمكّن أي جندي سوداني من الوصول إلى معسكر القوى المعادية بسبب كثافة النيران. في تمام الساعة الثامنة صباحًا أي بعد ساعتين من بداية المعركة، أمر القائد الإنكليزي كتشنر بوقف إطلاق النار بعد سقوط أكثر من 18 ألف قتيل من أنصار المهدي، إضافة إلى أكثر من 30 الف جريح. انتهت المعركة بانسحاب جيش المهديّة إلى غرب السودان ودخول كتشنر أم درمان عاصمة الدولة المهديّة.


أثر الثورة المهديّة في تاريخ السودان
على الرغم من أنّ الثورة المهديّة التي استمرت حوالى سبع عشرة سنة قد تمّ سحقها، إلاّ أن تأثيرها على التاريخ الحديث للسودان بدا واضحًا في عدة مجالات.
على الصعيد العسكري، يعتبر الإمام المهدي المؤسس الأول لتنظيم عسكري في السودان شبيه بأكبر الجيوش التي عرفتها تلك الحقبة وأهمّها. فقد نقل القتال من عملٍ قبلي فوضوي لا يراعي أبسط القواعد العسكرية، إلى عمل يخوضه جيش نظامي، مدرّب، مقسّم إلى أسلحة ووحدات، على رأس كل منها قائد يرعى شؤونها ويلاحق أمورها التدريبية والقتالية واللوجستية، ويسهر على انضباطها.
على الصعيد السياسي، ورغم انتظام المجتمع القبلي السوداني في ممالك وسلاطين منذ التاريخ القديم، ظلّت هذه النظم ضمن حدود القبيلة وفروعها وضمن بقعة جغرافية محدودة. ومع انطلاق الدعوة المهديّة، توحّدت معظم القبائل العربية أو الأفريقية الإسلاميّة في شمال السودان وغربه ووسطه، وفي كردفان ودارفور، تحت قيادة المهدي، فأصبحت حركته السياسية نواة مشــروع دولــة ذات مقوّمــات سياسيـة واجتماعيّــة واقتصاديّــة وعسكريّــة.


المصادر والمراجع:
- حسن أحمد إبراهيم، تاريخ السودان الحديث، دار النشر التربوي، الخرطوم، ط1، 1987م.
- ب. م هولت، دولة المهديّة في السودان، ترجمة جميل عبيد، دار الفكر العربي، بيروت، 1978م.
- موسى المبارك الحسن، تاريخ دارفور السياسي، دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر، الخرطوم.
- بابكر أحمد موسى، التركية والمهديّة في السودان، دار الثقافة للطباعة والنشر، الخرطوم.
- ابراهيم شحاته حسن، إمارة الاسلام المهديّة في السودان، دار القومية العربية للثقافة والنشر، الخرطوم.
- نعوم شقير، جغرافيا وتاريخ السودان، دار عزة للطباعة والنشر، الخرطوم.